صفحات الرأي

فرانز فانون: أضواء جديدة على جدليات المستعمِر والمستعمَر

 

 

ليس حدثاً ثقافياً وفكرياً مألوفاً أن تُنشر كتابات جديدة للمفكر والمناضل المارتينيكي/الجزائري فرانز فانون (1925 ـ 1961)، خاصة إذا كانت تلقي المزيد من الأضواء على أفكاره في الثورة والتحرير والاستعمار والاغتراب والتحليل النفسي والزَنْوَجة. وهذا المجلد الضخم، 688 صفحة، والذي صدر مؤخراً في باريس عن دار النشر لاديكوفرت، يعيد إلى المناقشة أعمال فانون الرئيسية الكلاسيكية ـ «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء»، «معذبو الأرض»، و»استعمار يحتضر» ـ ليس في أبعادها المختلفة التي باتت من ركائز الدراسات ما بعد الاستعمارية، فحسب؛ بل كذلك في ضوء التوترات الراهنة بين «الغرب» و»الشرق»، حول مسائل الإسلام والإرهاب والهجرة وما يُسمى «صدام الحضارات».

ولقد سال حبر كثير في دراسة وشرح وتأويل عمل فانون، وليس في الأمر كبير غرابة، إذْ أن فانون كان ذهناً استثنائياً لامعاً، وكان الثائر/الفيلسوف/الشاعر الذي أتقن اقتيادنا إلى الظاهرة وما يعتمل داخلها من وقائع ورموز وأساطير، وما تثيره وتستثيره من وعي ولا وعي، من أمل ويأس، من عافية أو اعتلال؛ ثمّ… ما يتوجّب القيام به لكي لا تتوقف الظاهرة عند سكونية ما، أياً كانت. وإذا كانت هذه حال معظم الرؤيويين الذين يستَبِقون عصرهم، ويتكررون في عصور لاحقة بسبب من هذه الدينامية الفريدة، فإن فانون حمل على ظهره بعض أثقال التاريخ التي لم يكن الكثير من الرؤيين (في الغرب تحديداً) مضطرين إلى حملها.

ومن جانب آخر، أليست قراءة «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء» و»معذبو الأرض» كافية بذاتها لتوليد حقول شائكة من التأويل والتأويل المضاد، بين حدّين أقصَييَن متكاملين معاصرين: الأول هو التنقيب في ما فعله الاستعمار داخل الجمجمة، والثاني هو التنقيب عن صورة العالم كما ينبغي أن تكون بعد إخراج الاعتلال الاستعماري من الجمجمة؟ ولماذا لا يكون فانون هو المعاصر الدائم، إذا كانت حاجة البشرية إلى عمليات التنقيب تلك ما تزال قائمة، بل وملحّة، في فلسطين وسوريا والعراق وأفغانستان… وعشرات الأسماء الأخرى من جغرافية الاستيطان والاستبداد والمذاهب المتصارعة والاحتلالات، وما يقترن بها من تشوهات مادية وروحية وثقافية ووطنية؟

لقد اعتبر فانون أن الاغتراب تجربة فردية أولاً، وتجربة جمعية ثانياً حين تمتد إلى تبديد وتعطيل ثقافات عاشت آلاف السنين في نفوس أبنائها. وحيوية الثقافة، وبالتالي قدرتها على مقاومة الإفناء، مرهونة أساساً بشرط معرفة أبنائها لماهية ذواتهم وماهية هويتهم. ويصبح ذلك مستحيلاً حين يتمّ إحلال أساطير الدونية الثقافية (التي يصنعها ويروّج لها المستعمِر) محلّ الوعي الجمعي عند أبناء البلد الأصليين. وهنا «لاتكون العنصرية رفضاً لجسد ابن البلد ونفسه فحسب، بل تنقلب إلى حكم عليه بعقدة الذنب الأبدية». ويختصر فانون بلوى المستعمَر في المعادلة التالية: «إنه يضرب بجذوره عميقاً في كَوْن يُراد له أن يُستأصل منه. وهكذا لا يتبقى أمام الأسود سوى قَدَر واحد: أن يتحوّل إلى أبيض». والمأساة أنّ هذا بالضبط ما يدفعه إلى الاختلال واستهلاك الذات.

الزنجي مستعبَد بعقدة الدونية، والأبيض مستعبَد بعقدة الفوقية، وكلاهما يسلك وفقاً للأنماط العصابية الناجمة عن هذا الاستعباد. لكن الأسود لا يكفّ عن بذل الجهود للفرار من ذاته وذاتيته ولتدمير وجوده الملوّن عن طريق ترحيله إلى مختلف أشكال التبييض (وبينها التعلّق ببياض حليب الأم)، لأنّ الأمل الوحيد في الشفاء النفسي وارتقاء الموقع الاجتماعي هو ترحيل الذات إلى البياض واحتقار السواد. وما لم يواجه المستعمَر ذاته مباشرة، فإنه لن يستطيع التعرّف على ثقافته لأن الماضي قد أعيدت كتابته و»تبييضه» بالمعنى الحرفي للكلمة، وبما يخدم توطيد سلطة المستعمِر على المستعمَر، واستغلال الأول للثاني.

ويستند فانون إلى هيغل في التحذير من أن الأسود هو مفتاح العلاج النفسي للأبيض، والعكس صحيح إذا تمّ بلوغ مرحلة محددة من الاعتراف المتبادل؛ الأمر الذي يظل بعيداً عن التحقق في سياق معادلة الاستعباد وسيادة العقدتين المركزيتين: الدونية والفوقية. ومن منظور ابن البلد، تبدأ العافية النفسية من مرحلة تجريد القاهر من صورته المبهمة، وكشف الأواليات الحقيقية التي تسيّر مجتمع «البياض». وهنا أعرب فانون عن يقين مطلق بأن كلّ الثورات المناهضة للهيمنة الاستعمارية والعنصرية سوف تتكفل بتحرير الأسود والأبيض سوياً، فتبرهن للأبيض أنه كان «صانع الوهم وضحيته» في آن معاً.

التعبير عن الذات لا يبدأ قبل مواجهة الذات، وفي رؤيته لهذا الطور التحريري توقف فانون عند ثلاث مراحل، هي بمثابة رؤى ثاقبة في الجدل الحقيقي لمعادلة المستعمرِ/المستعمَر:

1 ـ الاستعمار ينتهك جميع الحقوق الإنسانية الأساسية، والهيمنة العنصرية تسمّم كل التعبيرات الذاتية والاجتماعية، وتجعل أخطار الإبادة أو الشتات حقائق قائمة. والتنميطات التمييزية القائمة على أساس الفوقية/الدونية، والتي لا بدّ أن تسبقها مرحلة تدمير اللغة الأمّ لأبناء البلد، تقوم بزرع صورة القاهر في المستويات الأعمق من الثقافة الأصلية، وتمحق بذلك جميع الموضوعات والتعبيرات الوطنية، في الأدب والفن والمخيّلة. وهكذا يجري تشويه الوعي واللاوعي على حدّ سواء، ويجري إخماد الصوت وقطع الرؤيا. وبهذا المعنى يصبح من المشروع القول إن ظهور شخص مثل فانون، وتشخيصه لأواليات العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر، وتعبيره عن حاجة الثاني إلى سلسلة علاجات سياسية واجتماعية وثقافية للتطهّر من الأمراض التي أصابه بها الثاني؛ كان، في حدّ ذاته، «معجزة» شاذة وخروجاً طارئاً عن القواعد العامة التي حكمت الثقافات الوطنية وتحكّمت بها في ظلّ النظام الاستعماري.

2 ـ المستعمَر يتيقّظ على الحاجة إلى الثورة وتثمين الذات، وهذه مرحلة خصبة يتطامن فيها الماضي لكي يلهب الحاضر ويعيد تأطيره. وفي هذه المرحلة تنبثق أكثرُ أفكار فانون إشكاليةً (وغموضاً في الواقع)، وأكثرها تعريضاً للتأثيم وسوء أو إساءة الفهم: فكرة العنف ـ أو «العنف المضاد»، تحديداً ـ كسلوك تطهيري لا مناص منه لكي يعبر المستعمَر هذه المرحلة.

3 ـ عند طرد المستعمِر («المستوطن»، لأنّ فانون إجمالاً يعني بهما المدلول ذاته)، يتوجب على أبناء البلد إعادة تأكيد الشخصية الوطنية وإحياء ثقافتهم الأصلية، الأمر الذي يشكل في نظره الخطوة الحاسمة الأكثر حساسية وإلحاحاً، بالنظر إلى أنّ تأسيس قاعدة ثقافية متينة هو الأساس الأول لضمان مسير الأمم نحو مؤسسات ديمقراطية، بصرف النظر عن التعثّر الطويل الذي قد ينجم جرّاء هيمنة أنظمة وطنية استبدادية ودكتاتورية. قد يحلّ طاغية محلّ آخر، وحزب استبدادي محلّ حزب نصف استبدادي، ولا يضمن توقّف هذه الدائرة القاتلة سوى التوازن الثقافي الوطني التعددي. ولكن التحرّر أبعد ما يكون عن الاكتمال في هذه المرحلة الثالثة! ذلك لأن سيرورة التطهير تتواصل ضمن سياقات عديدة بينها سياق العنف، الذي يسحب أوالياته إلى الدولة ما بعد الاستعمارية، أي إلى السلطات الوطنية التي تتولى الحكم بعد الاستقلال.

ويقع على «الأمم ما بعد الاستعمارية» عبء هائل ثقيل وطويل الأمد، هو تحويل ما بات الآن «هوية ثورية» إلى «هوية ديمقراطية واشتراكية» تشجّع تعددية التمثيل والانفتاح، وتحافظ في الآن ذاته على «الكرامة الثقافية». ويرى العديد من الباحثين أن هذا المفهوم ظلّ غامضاً حتى النهاية، وإن كان فانون (الذي توفي عن 36 سنة فقط) قد أبدى الكثير من التشكك النقدي في الولادات الاستقلالية أواخر الخمسينات، وفي أفريقيا بصفة خاصة.

ولنعد الآن إلى مسألة العنف، التي لا ريب في أنها لم تكن واضحة تماماً في مشروع فانون العام، وكانت تمتزج عنده بمفهوم «استخدام القوة» أحياناً، و»الكفاح المسلح» أو «الانتفاضة الجماهيرية» أحياناً أخرى؛ وفي «معذبو الأرض» ذهب إلى حدّ الحديث عن «عنف مسالم». ذلك كله لا يبرر نغمة اللوم الشديد التي تردّ في مئات الدراسات الغربية حول فانون، وحتى بين بعض المتعاطفين معه أيضاً، والتي نادراً ما تقيم علاقة بين «عنف» و»عنف مضاد»؛ أي، ببساطة، بين ظاهرة أولى تستولد وتستدعي سواها من ظواهر موازية، مناظرة، ومضادة. وفي كل حال، ولكي نستخدم العبارة البليغة للباحثة الأمريكية ليندا ميتزغر: «العنف هو السمة الجوهرية في كل استعمار عرفه التاريخ، ولم يكن فانون هو الذي اخترعه».

وفي مسألة العنف أيضاً، لا بدّ من وقفة عند مقولة فانون الشهيرة حول الحاجة إلى «التطهر» Catharsis أو «التطهير» عبر العنف، وهي حاجة ترتدي عنده الطابع الجمعي أكثر من الفردي، تماماً كما هي حال معظم المفاهيم في مشروعه. وهي تتقاطع مع مفهوم معقّد اخر هو «صورة العالم» كما تتباين وتتناقض بين المستعمِر والمستعمَر. ولأنه اعتبر القهر ظاهرة كليّة وتعمل بالتالي كمظهر ثقافي أيضاً، فقد شدّد على وجوب فهمها باستخدام كلّ المصطلحات اللازمة لوصف التجربة الإنسانية الكلية. وفي تفصيل كهذا تدخل رؤية فانون للأدوار التي تلعبها الأسطورة، والتصوّف، والقراءة الشعائرية للتكوين، والمجهول، و… الشعر بصفة خاصة: «إنني أسير على مسامير بيضاء. وألواح الماء تهدد روحي الملقاة في النار. وأنني بالغ الحذر إذ أقف وجهاً لوجه مع هذه الشعائر. السحر الأسود! وماذا عن حفلات الجنس الجماعي، وسبوت الساحرات، والاحتفالات الوثنية؟ السحر الأسود، الذهنية البدائية، أنسنة الجماد، الإيروسية الحيوانية، نعم .. كل هذا يفيض من حولي، وكله قرين الشعوب التي لم تنخرط في ركب الحضارة. أو، لمن يشاء، هذه هي الإنسانية في أدنى درجاتها ولكن، نعم … نحن زنوج، متخلفون، بسطاء، أحرار في سلوكنا. ذلك لأن الجسد في يقيننا ليس مناهضاً لما تسمّونه الذهن. نحن في قلب العالم، وعاش زواج الإنسان من الأرض!»؛ كتب في «بشرة سوداء».

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى