صفحات الثقافة

فِدريكُوغارسّيا لُورْكَا في الذكرى 117 لميلاده: الشَّاعِرُالغَرناطِي الغَائِب… الحَاضِر أبَداً/ محمّد محمّد الخطّابي

 

 

في مدينة فوينطي باكيروس القريبة من غرناطة، وبالضبط في مسقط رأس الشّاعرالغرناطي فدريكو غارسيا لوركا، وهو المنزل الذي أصبح اليوم متحفاً له، ولكافة أعماله الإبداعية على اختلافها، انطلقت خلال شهر حزيران/يونيو المنصرم الاحتفالات بالذكرى 117 لميلاد الشاعر الإسباني- الأندلسي (1898- 1936) الذي يعتبره النقاد الإسبان وغير الإسبان من أكثر الشّعراء شعبيةً، ومن أوسعهم شهرةً، ومن أكبرهم تأثيراً في الأدب الإسباني في القرن العشرين.

كتاب جدديد في ذكرى ميلاده

لقد تمّ الاحتفال بهذه المناسبة بتنظيم عدّة أنشطة وتظاهرات ثقافية بمشاركة عدّة شعراء، وأدباء، ونقاد إسبان في مقدّمتهم الكاتب والناقد والمؤرّخ البريطاني المُؤسبن المتخصّص في حياة وتاريخ وشعر لوركا إيّان جيبسون. كما تمّ بهذه المناسبة عرض بعض المخطوطات الشّعرية الأصلية القديمة للوركا، وبعض صوره ورسوماته ورسائله وآثاره ومخلّفاته، حيث قدّم الباحث البريطاني بهذه المناسبة كتاباً جديداً عن الشّاعر الأندلسي الذائع الصّيت تحت عنوان: «فيديريكو غارسيا لوركا.. وثائق وتكريمات» من تأليف الباحث الإسباني رفائيل إنغلادا، الذي كتب إيّان جيبسون نفسُه تقديماً ضافياً لكتابه الجديد الصّادر بهذه المناسبة برعاية «مؤسّسة فدريكو غارسيا لوركا الثقافية»، التي كانت قد أخذت على عاتقها عهداً بالعمل على تشجيع الدراسات، وحثّ البحوث التي من شأنها أن تعمل على التعريف، ونشر وذيوع أعمال وإبداعات الشاعر وحياته، ويركّز التكريم الذي خصّص لهذا الشاعر هذه المرّة بالإضافة إلى تسليط الاضواء الكاشفة على أعماله الشعرية والمسرحية على معالجة جانب الالتزام عنده الذي تفتّق في المجالات الاجتماعية، والإنسانية، والسياسية في شعره.

خوسّيه تورّينتي المسؤول عن الثقافة في مندوبية المدينة الصغيرة التي رأى فيها لوركا النور لاوّل مرّة، فوينتي باكيروس قال من جهته عن هذا الكتاب: «يعتبر كتاب رفائيل إنغلادا الأخير عن لوركا مرجعاً أساسيّاً لا غنىً عنه للدارسين المتعطشين لمعرفة حياة لوركا الذي لم يكن شاعراً رائعاً وحسب، بل كان كذلك مؤلفاً مسرحيّاً بارعاً، ملتزما بقضايا عصره في مختلف مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية كذلك.

ويشير صاحب الكتاب الجديد في مقدّمة مؤلَّفه: «سيجد القارئ في هذا الكتاب الذي يؤرّخ لحياة لفدريكو غارسيا لوركا في الفترة المتراوحة بين (1616- 1936) شاعراً إنسانيّاً عميقَ الإحساس بكل ما يجري ويدور حوله من أحداث، سيجد القارئ كذلك شهادات حيّة كتبت بواسطة العديد من الأصدقاء الذين عايشوا لوركا، من المهتمّين بالأدب وغير المهتمّين، الذين مثلما تقاسموا معه لحظات البؤس والمعاناة والشّقاء، فإنهم شاطروه كذلك في هنيهات نجاحه ومجده وشهرته الواسعة التي حققها في زمن وجيز، بفضل أعماله الشعرية والمسرحية التي كانت تُسحر قرّاء كتبه ودواوينه، وتُبهر مشاهدي مسرحياته على حدّ سواء. يعتبر هذا الكتاب انعكاسا عميقا، ورجع صدىً واضحا للشّاعر لوركا حيال الزّمان الذي عاش فيه، سواء في غرناطة أو في مدريد أو في مختلف بلدان ومناطق العالم الأخرى التي زارها وأقام فيها.

لوركا في نيويورك

«شاعر في نيويورك» هو عنوان الديوان الشهير الذي كتبه فيديريكوغارسيا لوركا خلال وجوده في جامعة «كولومبيا الأمريكية» في نيويورك (1929-1930) ثم خلال سفره إلى كوبا بعد ذلك، وقد نشر هذا الديوان لأوّل مرّة عام 1940، أيّ 4 سنوات بعد مصرع الشاعر. وكان لوركا قد غادر إسبانيا 1929 ليلقي بعض المحاضرات في كوبا ونيويورك، وإن كان سبب هذه الرّحلة في العمق كان هو هروبه وابتعاده عن جوّ المهاترات والمشاحنات والبغضاء الذي أصبح سائداً في الوسط الدراسي في مدريد، حيث أصيب لوركا جرّاء ذلك بكآبة شديدة، وحزن عميق، وقد كان للمجتمع الأمريكي تأثير بليغ على الشاعر، الذي أحسّ بنفور كبير من الرأسمالية والتصنيع المبالغ فيه، كما أنه شعر باشمئزاز بليغ من المعاملة التي كان يوسم بها الأمريكان البيض الأقليّة من السّود، لقد كان هذا الديوان صرخة مدويّة ضد الرّعب، للتنديد بالظلم والتمييز العنصري في هذا المجتمع الغارق في التصنيع، والاغتراب القاتل للجنس البشري، والمناشدة بضرورة احترام البُعد الإنساني للبشر، وَصَوْن حقوق الإنسان، وسيادة الحرية والعدالة والحبّ والجمال، وربّما هذا ما حدا بالنقّاد إلى اعتبار هذا الديوان من أهمّ الأعمال الشعرية التي ظهرت وواكبت عصرَ التحوّل الاقتصادي والتطوّر الاجتماعي والنموّ الديموغرافي بطريقة لم تعرفها البشرية من قبل.

المخطوط الأوّل والأصلي الوحيد لهذا الديوان يتألّف من 96 صفحة مكتوبة على الآلة الراقنة، بالإضافة إلى 26 صفحة مكتوبة بخطّ اليد، لقد هاجر هذا المخطوط مع الأديب والناشر الإسباني خوسّيه بيرغامين (الذي كان لوركا قد سلّمه إيّاه لنشره) إلى فرنسا في المقام الأوّل، ثمّ في مرحلة أخرى إلى المكسيك، (حيث نشرت الطبعة الأولى منه عام 1940 في كل من المكسيك والولايات المتحدة الأمريكية، وقد ترجمه آنذاك إلى اللغة الإنكليزية رولف هومفريس، وظلّ المخطوط في النّصف الثاني من القرن العشرين متخفيّا ينتقل من يد إلى يد حتى وقع عام 1999 في يد الممثلة الإسبانية مانويلا ساهافيدرا وفي عام 2003 أمكن لـ»مؤسّسة غارسيا لوركا» استعادة هذا المخطوط بعد اقتنائه في أحد المزادات العلنية، ثم اشترته أخيراً وزارة الثقافة الإسبانية عام 2007، من القصائد التي يتضمّنها الديوان: «السّماء الحيّة»، و»البانوراما العمياء لنيويورك’»، و»الموت»، و»غنائية الحمام»، (التي أصبحت في ما بعد تحمل اسم قصيدة الحمائم الحالكة)، و»قصيدة الثور والياسمين»، (التي أصبحت في ما بعد تحمل عنوان «قصيدة الحلم في الهواء الطلق»، و»أرض وقمر»، وسواها، وبعض هذه القصائد مدرجة كذلك في كتاب لوركا الذي يحمل عنوان: «ديوان تماريت»، (كذا)، أيّ باستعمال كلمة (ديوان ) كما تنطق وتستعمل في اللغة العربية إلى اليوم.

مصرع لوركا والشّاعر ألبرتي

رفائيل ألبرتي الشّاعرالأندلسي القادسي كان قد كشف النقاب قبيل رحيله عام 1999 عن تفاصيل مصرع لوركا، وكيف أنّه واجه الموت بشجاعة وصلابة، يقول في هذا الخصوص: «إنّ طبيبا إسبانيا يدعى فرانسيسكو فيغا دياث، كان شاهد عيان في مقتل الشاعر لوركا، قد حكى قصّة بهذا الشأن ردّدها له سائق التاكسي الذي قاد لوركا، إلى جانب معتقل آخر وثلاثة من العساكر الذين ينتمون إلى الحرس المدني. إنّ الطريقة التي قتل بها لوركا كانت حتى الآن لغزاً محيّراً، وقد أعطيت تفسيرات مختلفة حول هذا الأمر، وحسب فرانسيسكو فيغا دياث فإنّ سائق التاكسي كان قد زاره في عيادته في 13 أغسطس/آب 1936. الأحداث وقعت في الليل، وقد تعرّف سائق التاكسي على واحد من الذين تمّ القبض عليهما وهو الشاعر الغرناطي بواسطة الكشّافات التي أوقدها الحرّاس للقيام بعملية الاغتيال، وكان غارسيا لوركا قد سافر من مدريد إلى مسقط رأسه غرناطة إذ ـ حسب الشّاعر ألبرتي – كان لوركا يعتقد أنّه في أرضه سيكون في مأمن من الخطر. وأضاف: «أنّ لوركا كان يغشاه خوف الأطفال، وكان يعتقد أنّه في غرناطة لن يحدث له شيء «فركب القطارَ إليها، إلاّ أن الموت فاجأه هناك، فكلٌّ منا يحمل موته معه». ولقد سمع سائق التاكسي الشّاعر لوركا يقول لقتلته: ماذا فعلت حتى تعاملوني هكذا..؟ ثم ألقى الحراس بعد ذلك بلوركا والشخص الذي كان معه – كان مسنّاً وأعرج ـ داخل حفرة منخفضة، فعمل الشاعر على مساعدة زميله على الوقوف ممّا زاد في حنق الحرّاس، حيث ضربه أحدهم بمؤخّرة سلاحه وشجّ به أمّ رأسه، ثم بدأ القتلة يشتمون الشاعر ويرمونه بأحطّ النعوت، وطفقوا بعد ذلك في إطلاق النار عليه على الفور. وأكّد السّائق أنّ اثنين من مصارعي الثيران، وعشرة من الأشخاص الآخرين قد قتلوا كذلك في تلك الليلة نفسها.

وتشير الكاتبة والناقدة المكسيكية إيرما فوينتيس معلقة على ذلك: «إنّ الشّعراء مثل الأبطال والأنهار يطبعون شعوبهم بطابعهم ويجعلون شعبهم يختلف عن الشعوب الأخرى، فالشّعراء يتركون في العالم ضوءاً مشعّاً متعدّد الألوان، يجعلون الرّجال يجتمعون ويتوحّدون، رغم تباين أجناسهم وثقافاتهم، والخلافات الإيديولوجية، والسياسية والمشاحنات والمشاكسات التي قد تنشب بينهم، وقد تصل حدّ الحروب والمواجهة. فكلّ شاعر من هؤلاء بغضّ النظر عن الزمن الذي يولد فيه، يصبح بمثابة «معزف» كوني متعدّد الأوتار، وإن اختلفت أنغامه فهو يعزف لحنا واحداً يعظمه كل موجود حيّ في أيّ صقع من أصقاع العالم»، وتضيف الناقدة: «وعليه فإنّ فقدان أيّ شاعر لدى أيّ أمّة هو حدث تراجيدي يمسّ الإنسانية جمعاء، وليس رقعته الجغرافية وحسب، هذا على الرّغم من وجود شعراء آخرين كبار، وأمّا إذا اغتيل شاعر فانّ الشعور بالمأساة يتفاقم ويزيد ويكون أفدح».

بالقرب من الوادي الكبير

من ذا الذي يمكنه أن يعوّضنا ما ضاع مع الشاعر، بدأ غارسيا لوركا قرض الشّعر في العشرين من عمره واستمرّ في الكتابة حتى يوم اغتياله عام 1936 وقد خلف لنا عشرات من القصائد مبثوثة في العديد من دواوينه، مثل «كتاب الأشعار»، و»قصائد غنائية»، و»القصائد الأولى»، و»أغاني الغجر الشعبية»، و»شاعر في نيويورك»، و»بكائية عن إغناسيو سانشيس ميخيّاس» ثم كم من الدواوين كان يمكن أن تضاف إلى هذه القائمة لو استمرت حياته على وتيرتها الطبيعية كيف ستكون أعماله الآن..؟

قال لوركا عندما كان على بضعِ خطواتٍ من نهر الوادي الكبير :

أصواتُ الموت دقّت، بالقُرب من الوادي الكبير

أصواتٌ قديمةٌ طوّقت، صوتَ القرنفل الرّجولي

ثلاث دقات دموية أصابته، ومات على جنب

على الرغم من شغفه بالمسرح، فانه في حياته الأخيرة لم يتوقف عن نظم أشعاررقيقة مؤثّرة وحزينة، كانت الأندلس من أبرز علامات هذه الأشعار، ولقد كان لوركا مجدّداً وفريداً وطائراً غرّيداً في الشّعر، كان من الطليعيّين إلى جانب بيكاسو في عالم الصور والتشكيل والرّسم حتى أصبح من أعظم شعراء القرن العشرين .

لوركا وهاجس الموت

هذا المبدع الذي أحسّ بقرب نهايته كانت له مقدرة هائلة على التغنّي بالجمال وتجسيم الألم والمعاناة :

ما هو مآل الشّعراء، والأشياء الناعسة؟

التي لا يذكرها أحد، آه يا شمس الأموال؟

أيّها الماء الزّلال، والقمر الجديد

يا قلوب الأطفال وأرواح الأحجار السذابية

إنني أشعر اليوم في قلبي ارتجاج النجوم الغامض

وكلّ الورود ناصعة البياض كحسرتي

على أوراق أحزانه، فوق لجج هموم بحره منذ الصّغر، وإلى تلك المرثية التي كتبها عن أحد أصدقائه من مصارعي الثيران كان لوركا دائمَ الحديث عن الموت في شعره:

فليمت قلبي وهو يغنّي في هدوء، عن السّماء الجريحة الزّرقاء

ويقول مجيباً عن سؤال الصّغار :

امتلأ قلبي الحريري بالأضواء، والنواقيس الضائعة

والزنابق والنّحل، سأذهب بعيداً بعيداً

ما وراء تلك الجبال، ما وراء تلك البحار

قريبا من النجوم.

ثم نجده يطلب ما لم يمنحه إيّاه الزّمن حيث يقول في قصيدة أخرى :

خليلي أريد أن أموت، بريئاً على سريري

الفولاذي إذا أمكن، ذي الملاءات الهولندية

ولم تتحقق له هذه الأمنية، فقد مات لوركا مقتولا مُجندلاً برصاص أعداء الشّعر، وأعداء الإبداع وأعداء الحياة .

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى