مراجعات كتب

كتاب جماعي يخرج عن الأطر الكلاسيكية لفهم علاقة المتلقي بالحدث اليومي في «بلاغة الجمهور» العربي في «الفيسبوك» ووسائط التواصل الاجتماعي الأخرى

 

فاء ذياب

التطور والتغير الذي حدث في المجتمع العربي عموماً، دفع الكثير من الباحثين لإيجاد بدائل جديدة في الدرس النقدي والبلاغي، تتوافق مع هذا التغير والاهتمام بالمتلقي والمخاطَب، أكثر من النص نفسه، وربما هذا ما أدى إلى الالتفات إلى الدراسات الثقافية عموماً، والنقد الثقافي على وجه الخصوص، ليحلّ بديلاً عن النقد الأدبي، مثلما نادى بذلك العديد من النقاد العرب. الأمر نفسه ينطبق على الدرس البلاغي الذي أصابه الجمود وعدم التجدّد منذ بدايات البلاغة العربية وحتى مدة قصيرة جداً، وهو ما دفع الكثير من البلاغيين العرب للبحث عن البدائل التي تُمكّن من تجديد هذا الدرس من خلال الالتفات إلى المتلقين، لكن ليس من خلال الاستعارة أو التشبيه أو المجاز، بل من خلال قراءة البلاغة بأوجه مغايرة، منها بلاغة الإقناع، وبلاغة الحرية، وغيرهما وصولاً إلى بلاغة الجمهور، وهو ما أقدم عليه الباحثان د. صلاح حسن حاوي ود. عبد الوهاب صديقي، في محاولتهما لجمع أربعة عشر بحثاً تتناول بلاغة الجمهور بمفاصلها الكثيرة، خصوصاً على مستوى وسائط التواصل الاجتماعي، مثل الفيسبوك، والتويتر، واليوتيوب، فضلاً عن الأدب والفنون.

ويرى الباحثان في مقدمتهما للكتاب، أنه في العصر الحديث برزت محاولات تطويرية جادة ومهمة في البلاغة العربية نشأت، بفعل حاجة المجتمع، وضرورات حركة التنوير في الفكر العربي، إذ نجد خليل إدّه اليسوعي الذي يسوّغ كتابته في البحث النظري البلاغي وأمين الخولي في (مناهج التجديد) و(فن القول)، والمفكر التنويري سلامة موسى في (البلاغة العصرية واللغة العربية)، ومصطفى ناصف في كتابه المهم (دنيا من المجاز)، فهذه الأعمال سعت إلى ربط البلاغة بالمجتمع. كما أن هناك محاولات تجديدية لبلاغيين آخرين، أمثال أحمد الشايب وتقسيمه الثنائي البديل عن التقسيم الثلاثي التقليدي للبلاغة، وفق الوقت الراهن يسعى الباحث المغربي محمد العمري إلى العناية بجزء لم يلق العناية اللازمة به في البلاغة العربية، وهو الجزء التداولي/ الإقناعي. وهذه كلّها محاولات وكتابات مهمة، لكنّها تمنح القليل من اهتمامها لتحليل الخطابات اليومية، ولم تجد خطابات الحياة العادية مكانًا لها في قاعات الدرس الأكاديمي.

ويبدو أنّ الباحث البلاغي عماد عبد اللطيف اختار العناية بخطابات الحياة اليومية معبراً للاستقلال بمنطقة بحث جديدة تحتاجها تلك الحياة، ويحتاجها الإنسان العربي في فهم الخطابات أو إنتاجها عبر العناية بـ(استجابات المخاطَب) والخروج من هيمنة بلاغة المتكلم. فقد شرع في بحثه الرائد عام 2005 في تقديم تنظير وافٍ لمشروعه البلاغي الذي أطلق عليه (بلاغة المخاطَب)، بوصفه توجهًا «يتجاوز مشكلات التوجهات القائمة والمتمثلة بشكل أساسي في عدم اكتراثها بالخطابات البلاغية في الحياة اليومية، أو تحوّلها إلى ممارسة سلطوية تعزز من سيطرة المتكلم وهيمنته على المخاطب».

ومن خلال قراءة هذا الكتاب، فإن ناشره يرى أنه ينتمي إلى الدرس البلاغي المعاصر، الذي لم يتوقف عند حدود دراسة التشبيه، والاستعارة، والمجاز، والصور البلاغية الأخرى، ولا عند دراسة كيفية إمداد المتكلّم بعدّته البلاغية؛ ليتمكن من الإقناع والتأثير، كذلك لم يكتفِ هذا الدرس بقراءة الخطابات النخبوية، بل راح يفكر في ميادين جديدة للعمل، ويبتكر مفاهيم، ومنهجيات تُضاف إلى ما قدّمه التراث البلاغي الزاخر؛ في توجهاته البلاغية الثلاثة: الأدبية، والدينية، والإنشائية… لقد دفع عصر استجابات الجماهير العلوم الإنسانية إلى أن تهتم بأنواع غير تقليدية من مادة البحث؛ هي خطابات الجماهير. وكانت بلاغة الجمهور استجابة علمية لخصوصية التواصل الإنساني في هذا العصر الجديد.

وبالعودة للباحثين، فإنه بفعل ما يتصف به هذا التوجّه البلاغي من العناية بدراسة الاستجابات الجماهيرية والعناية بخطاباتهم اللغوية وغير اللغوية، ولبروز ظاهرة (الجماهير الغفيرة)، والانتقال من الاهتمام بخطاب الفرد إلى خطاب الجمهور؛ منح عمادُ عبد اللطيف هذا التوجّه اسمًا آخر متولّدًا من بنيته ومحقِّقًا غايته البلاغية؛ وهذا ما يظهر في كتابه (لماذا يصفق المصريون؟) الصادر عام 2009، فبلاغة الجمهور اقتراح توجّهٍ يمثّل جزءًا من مشروع عماد عبد اللطيف في تطوير وانفتاح الدرس البلاغي العربي، وقد تشكّل مشروعه من خمسة مسارات: اقتراح بلاغة الجمهور، والنظر في المادة البلاغية المدروسة؛ بهدف الانفتاح على خطابات الحياة اليومية، ومراجعة مناهج التحليل البلاغي، من خلال ترسيخ المقاربة النقدية للخطابات البلاغية. وإعادة النظر في وظيفة علم البلاغة، وتركيز الاهتمام بالوظائف الحياتية للبلاغة. وإعادة تعريف جمهور علم البلاغة، والدفاع عن أن القارئ العام لا بد أن يشكل شريحة من جمهور البلاغة بالإضافة إلى الباحثين والمتخصصين، وأخيراً مراجعة جذور علم البلاغة، واستكشاف بلاغات مهمّشة وإلقاء الضوء عليها؛ وهي دراسات يمكن أن نطلق عليها المراجعة الأركيلوجية.

وفي هذا الكتاب، أصبحنا أمام معاينة دور الجمهور في الأنواع والخطابات الأدبية أو السياسية أو الدينية. وصار الاقتراح أن يعالج (بلاغة الجمهور) من حيث المفاهيم والجانب النظري في هذا التوجّه البلاغي، ومن ثم معاينة التطبيقات المشتغلة عليه.

قسّم كتاب (بلاغة الجمهور) إلى قسمين رئيسين وعدة محاور، كان القسم الأول منه تنظيرياً، ضمّ ست دراسات: (في علاقة البلاغة العامة بالبلاغات الخاصة: بلاغة الجمهور عند عماد عبد اللطيف)، للدكتور إدريس جبري، ويسعى فيه إلى كشف الأسس النظرية لهذا التوجّه المعرفي الذي يسميه (البلاغة المناضلة) وحيثياته المعرفية، والوقوف عند ظروف نشأة هذه البلاغة الخاصة. (في مفهوم بلاغة الجمهور) للأستاذ سعيد بكار، الذي يرى أنّ التوجه الذي يقترحه عماد عبد اللطيف ينطلق من فرضية أن الخطابات الرائجة في المجتمع تعتمد استراتيجيات عديدة لإقناع الجمهور، ودفعه إلى تبني مواقف معينة، فهو منتمٍ لمدرسة المحلّلين النقديين للخطاب عبر الالتزام السياسي نحو الجمهور، وفحص بكّار في دراسته تعريف بلاغة الجمهور، وموضوعها، وأهدافها، وأصولها الفلسفية والمعرفية، ومجالات اشتغالها. (بلاغة الجمهور ونظريات التواصل: نظرية التلقي نموذج التلاقي والاختلاف)، وهي دراسة لأحد محرري الكتاب الدكتور صلاح حسن حاوي، الهدف من هذه الدراسة فض الاشتباك الدلالي مع نظرية التلقي ونظريات التواصل الأخرى مثل (نظرية ياكبسون، والتداولية) والوقوف عند مناطق التلاقي والاختلاف بين هذه النظريات وبلاغة الجمهور، مع التركيز على نظرية التلقي في أربعة محاور (الأولى أسباب نشأة هذين التوجّهين، الثانية، ماهية المخاطَب/ المتلقي، الثالثة وظيفته، الرابعة الخطاب المقروء بين بلاغة الجمهور ونظرية التلقي). (بلاغة الجمهور: مفاهيم وقضايا)، وهي دراسة نظرية أخرى لأحد محرري الكتاب، الدكتور عبد الوهاب صدّيقي، وتنشغل بالمفاهيم المرتبطة ببلاغة الجمهور، ومجالات اشتغالها، بعد عرض تصوّر عن (بلاغة الجمهور وسماتها والنصوص التي تعمل على دراستها)، ثم توقّف عند آفاق هذا التوجّه في الجامعات العربية. (منهجيات دراسة الجمهور: دراسة مقارنة)، وهي دراسة نظرية ثانية للدكتور عماد عبد اللطيف يناقش فيها منهجيات دراسة الجمهور ومن ثم يعقد مقارنة مع بلاغة المخاطَب واهتمامها بالجمهور والنظريات الأخرى المعنية بالجمهور مثل نظريات القراءة ونقد استجابة القارئ ودراسات التواصل؛ من حيث نوعية الاستجابة، ومادتها، وفضائها، وكذلك المقارنة مع نظريات البلاغة الكلاسيكية، والمعاصرة، الغربية والعربية.

أما القسم الثاني من الكتاب، فيتكون من ثلاثة محاور: الأول: بلاغة الجمهور والخطاب الديني، وفيه دراستان: (بلاغة الجمهور في تلقي الخطاب الديني: تلقي الفتوى إنموذجًا) للباحثة الجزائرية (حامدة تقابت)، وتقف هذه الدراسة عند تلقي الجمهور الجزائري لفتوى الفقيه عبر الفضاء الافتراضي، متوقفةً عند تحليل الخطاب بين المشايخ» مصدر الفتوى» ومقدم البرنامج ثم استجابة الجمهور. و(بلاغة جمهور الخطاب الديني في الفضاء الافتراضي)، للباحث ضياء الدين محمد، ويفحص تلقي الجمهور لخطاب الدعاة عبر تويتر، وتختص الدراسة برصد وتحليل استجابات جمهور الخطاب الديني في الفضاء الافتراضي، بوصفها جزءًا من مساهمات بلاغة الجمهور في معالجة مدونات بلاغية جديدة؛ بهدف معرفة الخصائص البلاغية لهذه الاستجابات، وفهم علاقات التفاعل بين المتكلم والمخاطب في الفضاء الافتراضي.

وضم المحور الثاني (بلاغة الجمهور والخطاب السياسي) ثلاث دراسات: (يسقط… يسقط! بلاغة الجمهور بوصفها ممارسة حجاجية: الهجمات الشخصية ضد مبارك نموذجًا) للباحث الدكتور أحمد عبد الحميد عمر، ويقترح الباحث منظوراً حجاجياً لإغناء بلاغة الجمهور، وقد ركز فيه على أطروحات روث أموسي في تحليل الخطاب بلاغيًا وحجاجيًا، منفتحاً على منظور التداولية الجدلية مع فان إيمرين وروب كروتندرست في تصورهما للمغالطة بوصفها خرقا لآليات النقاش النقدي، وقد اتخذ الباحث من خطاب الجماهير الثائرة على الرئيس مبارك متنا للتحليل، دارسًا آلياته الحجاجية والتداولية. و(بلاغة المقاومة: الجمهور وخصائص الاستجابة النقدية البليغة لمؤسسة الحكم) للكاتبة بسمة عبد العزيز من مصر، وتعتمد دراستها على خطب عبد الفتاح السيسي، وجاءت المادة المدروسة من الفضاء الافتراضي/ الفيسبوك، لتقف عند خصائص استجابات الجماهير للخطاب السياسي فيه. و(بلاغة الجمهور بين الفكاهة والعنف اللفظي)، للدكتور بهاء الدين أبو الحسن مزيد، وتتناول هذه الدراسة تعليقات الجمهور في الصحف الإلكترونية من منظور تداولية يهتم بالبعد التفاعلي في اللغة. وتحاول التعرف على استجابات القرّاء في الصحف الإلكترونية وتطوير قدرة الجمهور على إنتاج استجابات بلاغية إيجابية، و(بلاغة الجمهور والخطاب السياسي المغربي المعاصر في الفضاء الرقمي)، وهي المشاركة البحثية الثانية للدكتور عبد الوهاب صدّيقي في هذا الكتاب الجماعي، وتقف الدراسة عند استجابات الجمهور المغربي، واستراتيجيات تلقيه للخطابات السياسية لعبد الإله بنكيران رئيس الحكومة المغربية.

فيما جاء المحور الثالث من القسم التطبيقي (بلاغة الرواية والسرد) بدراستين: (السيرة الهلالية والتلقي الشعبي دراسة في أشكال الاستجابات الجماهيرية) للدكتور خالد أبو الليل، الذي يرى في هذه الدراسة أنّ للجمهور الحق والقدرة على التغيير، والتدخل بإبداء رأيه فيما يعتقد أنه يحتاج إلى ذلك. وقد اتخذ نصوصا شعبية من السيرة الهلالية متنا للاشتغال. و(السُّلْطَةُ الخَادِعَةُ… والوَعي الزَّائِف: جمهور الرواية… رواية الجمهور) للدكتور ممدوح النابي الذي يناقش في هذه الدراسة رواج الرواية عبر الوسائط الرقمي، وثنائية الأدب الرفيع والأدب الظل، وكيفية استعادة جمهور الرواية عبر السوشيال ميديا ( وسائط التواصل الاجتماعي)، مركزًا على القيم التسويقية عبر الانترنيت والصحف الإلكترونية، وقراءة التعليقات على الروايات عبر المشاهدة أو القراءة.

بلاغة الجمهور: مفاهيم وتطبيقات

تحرير وتقديم: د. صلاح حسن حاوي ود. عبد الوهاب صديقي

دار شهريار، العراق- البصرة، 2007

646 صفحة.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى