صفحات الناس

ما تبقى من سوريا/ كلاريسا فيرد

 

 

 

تظن أنك ستموت، وتشعر بأن ثقبا انفتح لك في بطنك. هذه الثواني القليلة، ما أن تسمع الطائرات في السماء والى أن تلقي بقنابلها، تجمدك ـ وانت تعرف بان لا أمل لك في أن تعرف اين ستقع الضربة. «طائرات روسية»، يقول حارسنا، ابو يوسف، ويسارع إلى الانحناء. ضجيج كبير يُسمع، وبعد بضع ثوان تأتي أصوات أخرى: صافرات سيارات الاسعاف، صرخات الم، استجداءات للنجدة وبكاء يمزق نياط القلب. هذه الاصوات من بلدة أريحا التي تحت سيطرة الثوار بقيت معي منذئذ، ومعها مشاهد المباني المدمرة، المستشفى المنهار والاطفال بملابسهم الملطخة بالدماء. هكذا يبدو اليوم شمال سوريا، بعد خمس سنوات من الحرب الاهلية.

ستة أشهر استغرق التخطيط لهذه الرحلة، بسبب المخاطر الكبيرة التي تنطوي عليها. إلى جانب المنتجة سلمى عبدالعزيز والمصور السوري بلا عبد الكريم أقمت في سوريا نحو اسبوع، في منطقة يكاد لا يصلها صحافي غربي، كي أوثق الحياة في الدولة.

سافرنا داخل سوريا بتمويه، خوفا على أمننا. واضطررنا معظم الوقت، عبدالعزيز وانا، لان نضع النقاب على رأسينا ـ كي لا تكتشف هويتانا.

بعد اقل من 24 ساعة من وصولنا إلى الدولة، وجدنا أنفسنا في وسط غارة جوية. الغارات ضد المناطق التي تحت سيطرة الثوار ضد حكم الرئيس بشار الاسد لا تتوقف ـ ومنذ دخل الروس إلى المعركة، اشتدت أكثر فأكثر. تدعي روسيا بانها لا تهاجم إلا الإرهابيين ـ أي، مقاتلي داعش ورجال جبهة النصرة المرتبطين بالقاعدة ـ ولكننا شهدنا قصفا على سوق الفاكهة. اناس عاديون، كانوا يتجادلون قبل لحظة من ذلك في اسعار البرتقال، وفي اللحظة التالية لم يعودوا على قيد الحياة. «في كل يوم أواجه من جديد معضلة هل ابعث ابنتي إلى المدرسة»، تروي لي امرأة شابة في معرة النعمان، بلدة خربت تماما تقريبا في القصف الجوي الاخير. «في كل مرة تخرج فيها من البيت، هناك احتمال إلا تعود».

كانت الرحلة إلى داخل حلب خطيرة على نحو خاص. فجنود الاسد يطوقون الثوار في القسم الشرقي من المدينة، و 320 الف نسمة يتواجدون في الحصار. كانت هذه المدينة الاكبر في سوريا، مركزا اقتصاديا وثقافيا يعج بالحياة، اما الان فثمة طريق واحد فقط يؤدي اليها، حيث يحاصرها القناصون من كل صوب. «طريق الموت» يسمونه هنا.

«الاول كان حفيدي»، تروي سعاد ابنة السبعين، التي تجلس في شقتها في حي سكري، وتعد على اصابعها الضحايا في عائلتها. «بعد ذلك كان ابن عمي، اني، ابن ابنتي، ابني الوسط واحد ابنائي، وبعد هذا ابني الثالث وابنه ـ كلهم قتلوا في الجبهة». إلى جانبها يجلس احد احفادها، يحتسي القهوة السوداء ويستمع. بنطاله يشهد على أنه هو ايضا يشارك في القتال. واتساءل ماذا يحصل لسعاد إذا ما مات هو ايضا، فتجيب: «سأبقى هنا، إلى يوم موتي».

عندما نلتقي د. فارس الجندي، انتبه على الفور للحلقات السوداء حول عينيه. وجهه قاتم ـ وجه شخص لم يعد يعرف ما يفكر به، ما يشعر به. ليس عنده وقت كثير للجلوس معنا، فهو واحد من قلة جراحين بقوا في المستشفى الوحيد الذي نجا في معرة النعمان. يروي فيقول: «اعالج مئة شخص في اليوم. ليس لدينا ما يكفي من الادوية، والمياه أقذر من أن تستخدم في العمليات الجراحية». ورغم النفي، يقول، النظام السوري يهاجم المستشفيات عن قصد وبشكل تهكمي. فهم يريدون ان يدمروا كل الخدمات الطبية بحيث يضطر من تبقى من سكان إلى الفرار.

قبل لحظة من مغادرتنا سوريا، نصل إلى كرم زيتون مجاور للحدود التركية. المشهد رائع في جماله ـ مسافة عالمين كاملين عن الخراب الذي كنا نشهده قبل ساعات من ذلك. والتناقضات والتضاربات في هذه البلاد تتركنا بدوار شديد. سوريا هي الجحيم ـ ولكني عندما أقف في الشمس الدافئة وانظر إلى شجرة الزيتون الخضراء المذهبة هذه، أرى الجنة. وقف النار ثابت منذ بضعة ايام، ولكن احدا لا يؤمن بانه سيصمد.

في لحظة الوداع نمنح حراسنا أكياسا مليئة بالشوكلاتة. يشكرنا ابو يوسف ويعطي كل واحد منا قصاصة ورق مطوية. «عديني إلا تقرأي هذه إلى أن تصلي إلى الديار»، يقول لي. رحلتان جويتان و 72 ساعة بعد ذلك، افتح الرسالة. «آمل ان تكوني فهمت ما نمر به»، كُتب هناك. «رجاء، اروي للعالم الحقيقة عن سوريا».

يديعوت 17/3/2016

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى