صفحات الرأي

مثقف الحائط المنبطح/ ماءالعينين سيدي بويه

 

 

■ المثقف العام أو العمومي هو أقرب إلى الشعبوية التي من بين معانيها التفكير اللاعقلاني، الخفة، التسرع والاستعجال، التبسيط والانفعال، الخلط بين الممكن والواقع، كل هذه الخصائص المميزة له يجعلها متوارية خلف قلعة سرعان ما تتجلى حصونها مدرجة بقولة بيانية للجاحظ «الكل خصمك في ما تكتب ؟» إذن تخلص مما تكتب.

ولكن المثقف الشعبوي يجد حرجا في التخلص مما كتب أو قال، لذلك تجده يحرص على إعادته في كل مناسبة أو حتى بدونها، خاصة عندما يتلبس دور السياسي أو الفاعل المدني تتمظهر عليه تلك اللبوس السابقة بشكل لن تحرجه، بل غالبا ما تقف عائقا أمام من يعتبرونه محاورا أو جهة مسؤولة لها حق الحوار أو الأمر، أو عندما يعلن أنه عالم معرفة بين العلوم والآداب والفلسفات، فتجده يكتب في كل شيء، أو لا ينسى الكتابة وادعاء التخصص في شتى ميادين المعرفة، ويعتقد أن له الحق في العودة إلى زمن الفتنة وتعيين من كان معه الحق، أو الانسحاب من مناظرات الكلاميين، فينتف من كلام السجستاني من «الملل والنحل» نسجوا فهلهلوا، ومشطوا ففلفلوا، ظنوا ما لا يكون ولا يمكن ولا يستطاع . هذا حين انتصر للشريعة، كما لا ينسى أن يكفر الفلاسفة إذا ظن أنه هو من استنتج بمنطقه الرياضي أن العلاقة بين العلة والمعلول ليست تلازمية لأن برهان الرياضيات ليس هو برهان الإلهيات.

ثم قد يرحل إلى القرن الرابع الهجري، فيظن أن قولة ابن مسكويه «الإنسان أشكل عليه الإنسان» تنطبق على حاله وما رماه به الدهر من عقم في الشباب وكأن حافظ إبراهيم يغنيه. لأن ما حدث له بدأ منذ أغرق جنكيز خان نهر دجلة والفرات بكتب الحضارة العربية – الإسلامية، فغرق الفلك والكيمياء والفيزياء والرياضيات، بينما عاش البيان والفصاحة، وهذا ما انطبع على عقله فأضحى بيانيا وليس عقلانيا، مثل اليونان وحضارة الغرب التي أعطت للبصر ولعالم الحس – حاسة البصر- وللشاهد والرؤية قيمة، منذ أفلاطون إلى ديكارت الذي كان سببا في تخصص المعرفة، بدءا من شجرته التي جعل جذورها الميتافيزيقا المبادئ الأولى للمعرفة، وجذعها الفيزياء وفروعها: الميكانيكا ـ الطب ـ الأخلاق .

ولم يمسك مثقفنا منها إلا الأخلاق، فاختصرها في أن السعادة توجد في إرضاء القلب وليس في البدن، كما شاع عن أبيقور، أو في العقل أو عالم المثل، حين وجدها أفلاطون في مدينته الفاضلة، لذلك جعل من لحظة الوجود لحظة فناء يحيا فيها البدن لتحقيق اللذة التي تعذبها الروح المريدة للمجاهدة في مراتب زهد تصرفها عن ملذات الحياة، وبالتالي فاسوأ ثنائية عصفت بوجوديته هي الجسد- النفس .

تلك الأخلاق تورمت منها أزمة وعيه التي شطبت بدورها على أفكاره، فأملت عليه التخصص في كل شيء، في الفن هو فنان وعلم النفس، عالم نفس وفي علم الاجتماع هو سوسيولوجي وفي التاريخ أفضل مؤرخ، ينبش عن ظواهر كينونته وبلده في أغرب النظريات العلمية ومناهجها التي أفلست حتى في دراسة الأشياء، فيمسخ كل ما فيه من إنسانية إلى شيء أو موضوع فقط ليزهوّ بدراسة مجتمعه.

وغالبا ما يبرر مثقفنا الشعبوي، أن حضارتنا أخلاقية تقوم على التستر والحجاب والفناء والتصوف والمريد والشيخ المفقود، أو يعتقد أننا عشنا سباعيتين كما قال علي حرب سباعية النهضة والتقدم والتفكر، وسباعية التخلف والتراجع واللامفكر فيه، أي أنه يمسك العصا من طرف وينسى الوجه المشرق في وجودنا، فيؤلف أخلاقا ومجتمعا وتحفظا، يتأسس على قطع الجسد وتقديس القائل وأحكام، كُفر نصر حامد أبوزيد، عندما اعتبرها عقلية وتاريخية أي أنها لا تتجاوز نطاق عصره، ما يقتضى استبدالها بما يتوافق مع عصر السيارة والطائرة والبنوك والأسهم الاقتصادية ورفض الآخر، وإنكار الإنسانية عن غيره، ويجعل من ابن رشد عدوه لسبب يتيم أنه اعتقد «بأن من خلق العقل في الإنسان أبدا لن يخلق في كونه وطبيعته ما يتعارض معه» .

إن مثقفنا اليوم يتميز بكونه «رخوا» ومنبطحا وساذجا ثم خائفا لن يجيب أبدا عن أسئلة مجتمعه ولا ثقافته أو حضارته، ففي الوقت الذي تحاول باحثة جامعية بما أوتيت من قوة إبراز أن في البحر طحالب ونباتات فلاحية يمكن أن تفيد عالم الطب والفلاحة الأرضية إذا ما حاولنا حزها في مساحات على جنبات الشواطئ، ننصدم في جهة أخرى من عالمنا بمدعي العلم في الدين يفند نظرية كوبرنيكوس، فحسب رأيه لو أن الأرض تدور حول الشمس وحول نفسها لتوقفت الطائرة بمن كان مسافرا من دبي إلى جاكرتا وجاءت إليه من دون أن يتحرك. ولو أن كوبرنيكوس حي يرزق في يومنا هذا لطالب هذا المتدين بفصد رأسه عن جسمه وحرقه، فلابد من حلاج لكل عصر.

٭ كاتب مغربي

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى