صفحات الثقافة

مسؤولية الضحايا/ ممدوح عدوان

 

 

هناك قصة، وربما مقالة، رائعة ليوسف إدريس عن المدرب في السيرك الذي افترسه النمر، وهي حادثة حقيقية حدثت في مصر، التقطها يوسف إدريس وكتبها بطريقته الجميلة، وفيها يقول للمدرب الذي افترسه النمر: إن النمر كان يخافك حين تنزل إلى الحلبة بسوطك وهيبتك ونظرتك الصارمة، ولكنك في ذلك اليوم الذي حدثت فيه الحادثة كنت تفكر في العيال، وتحسب الحسابات التي تجعلك تتحول إلى إنسان خائف على مورد رزقه، ولقد رأى النمر بغريزته ذلك الخوف في عينيك، وهذا ما جعله يتجرأ على مهاجمتك.

وفي الأرياف كانوا يوصون المتنقل في مناطق غير مأهولة ألا يخاف، أو يظهر خوفه، لأن هذا الخوف سيغري الوحوش بمهاجمته، كأن لهذا الخوف رائحة مهيجة، إنها تثير غريزة العدوان عند الأطراف الأخرى. قد تمر قرب كلب فيهر عليك بصوت عادي أو استفزازي، فإذا تابعت سيرك على نحو طبيعي، فإنه قلما يهاجمك، ولكنك إن ركضت أمامه، فإنك تدعوه إلى مطاردتك ومهاجمتك.

للخوف إذاً ما يشبه الرائحة المشجعة للآخر، وله مظهره المشجع للخضم أيضاً، وهذا الخوف لا يكتفي بتشجيع الحيوانات، بل إنه يشجع غريزة العدوان عند البشر أيضاً.

وأوضح مثال على ذلك هو المرأة.

فلنتصور امرأة تسير وحدها في الليل، فلأن المرأة مصنفة على أنها عنصر ضعيف فإن هذا يثير شهوة الكثيرين للفتك بها مادياً أو جنسياً، وإذا كانت تسير وهي تتلفت مذعورة فإنها تبعث أنياب الآخرين على الظهور. فلتكن امرأة توحي بشيء من الاعتداد بالنفس، فإن هذا يضعف الشهية في الاعتداء عليها، بل إن الكثيرين قد ينفرون منها أو يتجنبونها.

إن مشهد امرأة تسير وحدها في الليل لا يشجع الجميع (الذكور) دوماً على اعتراضها أو مضايقتها، ولكن بعض الحركات التي تبدر عنها قد تشعر كثيرين بأنها ممكنة فيتحول شكلها إلى فريسة .

هل يمكن أن يكون كل مواطن هكذا؟ بمقدار ما يبدي من ضعف وخوف فإنه يثير من الشهوات في الاعتداء والتسلط عليه، وبمقدار ما يبدي من استعداد للمقاومة فإنه يضعف شهية الآخرين من السلبطة عليه؟

الإنسان الذي غرست أنظمة القمع الخوف عريقاُ في نفسه يشجع كل من حوله على التطاول عليه، كما أنه يعرف هو نفسه كيف يستغل الفرصة للتطاول على الآخرين حين يرى تلك الفرصة سانحة.

ولهذا فإن الطغيان يريد غرس هذه الرهبة الدائمة لكي يضمن استقراره، وحين يكون لأصغر ممثل في السلطة هيبته فإن هذا يعني أن النظام مستقر، ولن يزعجه أحد بالمطالبة بالحقوق. إن الجميع يتحولون إلى قطيع مذعور منتظر بسلبية مطلقة، ينتظر أن تمن عليه السلطة بالإنجازات، بل إنه يصبح أكثر ميلاً للإرضاء والمحاباة.

هذا قد ينقلنا إلى مسألة المواطنة وحقوقها، وربما إلى فهم الآلية الديمقراطية التي نسعى للعيش فيها. فحين تسكت عن حقك الواضح، بسبب الخوف غالباً، فإنك لن تتوقع من الآخر أن يحترم لك هذا الحق، سيتصرف في المرة القادمة  وكأن التطاول على حقوقك من المسلمات.

وهنا نعود مرة أخرى إلى الخوف، فهذا الخوف هو الذي يغري السلطة وأطرافها بالتصرف من دون إقامة أي اعتبار لوجودك، بل إنك تثير شهية الاعتداء والتطاول عليك يومياً.

وهكذا يتطاول عليك عنصر المخابرات والشرطي والموظف والآذن وأقرباؤهم وأنسباؤهم، والمدّعون بهذه الوظيفة أو بتلك القرابة.

ولكنك إذ تدافع عن حقك، حتى لو لم تحصل عليه، أو تستطيع حمايته في النهاية، فإنك تجعل الطرف الآخر يتصرف بحسابات أكثر دقة، وفيها اعتبار لك واحترام.

ولو انك وقفت تدافع عن حقك بقوة لتقلصت شهوات المتسلبطين كثيراً، فالمتسلبط يعتمد على إشاعة الخوف، وليس على توليده في كل مرة، ليس مستعداً لأن يخوض معركة في كل مرة يريد فيها أن يتسلبط.

وهذا يعني أن المجتمع الديمقراطي يجب أن يقوم على أساس وجود مواطنين لا يتهاونون في حقوقهم، وأن السلبطة والاستبداد يتماديان عند وجود مواطنين يسكتون عن حقوقهم أو يخافون من المطالبة بها، لأن السلطة أيضاً لا يريحها أن تضطر لخوض معركة مع مواطنيها كلما تهاونت أو تساهلت في التعامل معهم أو كلما أرادت أن تقوم بفعل مناقض لمصلحة الشعب.

ونصل هنا إلى العلاقة التبادلية بين الخوف والحق، فحين تقف بقوة دفاعاً عن حقك فإنك لا تعتمد على قوتك وحدها، بل تعتمد على عرف أو قانون يمكن الرجوع عند الحاجة إليه لكي ينصفك.

ولكن إذا رجعت إلى هذه المرجعية العرفية أو القانونية ولم تستطع أن تحميك، أو لم تحاول ذلك، بل ربما ساندت المتطاول عليك، فإن هذا سيكون درساً للآخرين يجعلهم يتهاونون في الدفاع عن حقوقهم لكي لا «يتورطوا» مثل ورطتك.

ولكن قد يحدث ألا يتلقى المواطنون «الدرس»، فيعلنون تضامنهم مع الحق المهدور.

هكذا، ولهذا، تحدث الثورات، يقوم الناس كلهم لمناصرة القضية، التي قد لا تعني الأمر نفسه لكل منهم شخصياً، كما يحدث حين يخرج سجين من التعذيب جثة هامدة، وحين يتكرر ذلك.

إن الذي حوّل الوحوش الضارية إلى مخلوقات مسلية في السيرك، وجعل الفيلة تقف على رؤوسها، والأسود تقفز كالبهلوانات، قد اكتشف أنه يستطيع ان يجري التحويل ذاته على الإنسان، فحوّله إلى مخلوق مسلوب الإرادة. ولكنه بالطاعة ذاتها وبالأساليب ذاتها صنع الجلادين والقتلة واللصوص والانتهازيين والمرتشين والمفسدين والقوادين.

من «حيونة الإنسان»، 2003

——————————–

الشاعر/ المؤسسة

حين رحل الشاعر السوري (1941 ـ 2004)، كان لتوّه قد تحوّل إلى مؤسسة إبداعية وثقافية متكاملة، لا تنتج الشعر الرفيع فقط، بل المسرح والرواية والمقالة والدراما التلفزيونية والترجمة… في آن معاً؟ وبذلك تصحّ التساؤلات التالية: هل كان مشهد الحداثة الشعرية السورية، على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين، سيكتسب تلك النكهة الخاصّة والمعطيات المنفردة، لو أنّ لم ينشر مجموعاته المبكّرة والطليعية: «تلويحة الأيدي المتعبة»، 1970؛ و«الدماء تدقّ النوافذ»، و«أقبل الزمن المستحيل»، 1974؛ و«أمّي تطارد قاتلها» و«يألفونك فانفر»، 1977؟

ومَن سوى عدوان، في تساؤل ثان، كان سيشاطر الراحل الثاني، سعد الله ونوس، عبء الارتقاء بالمسرح السوري الحديث والمعاصر، وزجّه في قلب ورشة مذهلة تطرح الأسئلة الضرورية والجوهرية وغير المألوفة، من جهة؛ وتمارس التطوير في كتابة النصّ وتنفيذ العرض وتحريض التنظير النقدي، من جهة ثانية؟ لم يكن هذا ممكناً من دون ونوس، في «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» و»الفيل يا ملك الزمان»؛ ولكنه أيضاً لم يكن ممكناً من دون عدوان، في «محاكمة الرجل الذي لم يحارب» و«ليل العبيد» و«كيف تركت السيف».

وبمعنى الوظيفة الاجتماعية والمعرفية والسياسية للإنتاج الثقافي، في تساؤل ثالث، هل كان اتصال القارئ العربي بالإبداع العالمي سيكون على الحال ذاتها، في غياب الترجمات النوعية التي أنجزها عدوان: «تقرير إلى غريكو» السيرة الذاتية والفكرية للروائي اليوناني نيكوس كازنتزاكيس؟ أو سفر «الإلياذة»؟ أو ذُرى هيرمان هيسه: «الرحلة إلى الشرق»، و«سيد هارتا» و«دميان»؟ أو أوديســـــة الشاعر الكاريبي ديريك ولكوت، «عودة أوليس»؟ أو مقالات أوكتافيو باث، «الشعر ونهايات القرن»؟ أو دراسة كيث وايتلام الشجاعة، «تلفيق إسرائيل التوراتية»؟

صدرت للراحل «الأعمال الشعرية» في مجلدين و1600 صفحة، و»الأعمال المسرحية الكاملة» في ثلاثة مجلدات وأكثر من 1800 صفحة؛ بالإضافة إلى روايته الضخمة «أعدائي»، التي تعتبر واحدة من أهمّ أعمال الرواية العربية المعاصرة؛ كما جُمعت مقالات عدوان المتفرقة حول الشعر، بين مقالة وشهادة ومشاركة في استفتاء، في كتاب بعنوان «هواجس الشعر». موضوعات تلك المقالات تدور حول هواجس الشعر عموماً (النشيد والإنشاد في أصل الشعر، طفولة الشاعر والشعر، الوزن والإيقاع، القول والمعنى، شعرية النثر…)؛ والوجه الآخر للتطور الشعري (في ضوء اعتبارات قديمة ومستجدة، مثل الاستماع والإلقاء والطباعة والمعلوماتية، وما إذا كان الشعر مقروءاً أم منطوقاً أم مرئياً)؛ واسئلة من نوع: هل مات الشعر؟ لماذا يجب أن يموت الشعر؟ وكيف يمكن توصيف أزمة الشعر

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى