صفحات الثقافة

نص يأكل البقية/ أمير تاج السر

 

 

بداية الأسبوع الماضي، رحل الكاتب الألماني العظيم غونتر غراس، عن عمر تجاوز التسعين، مما أهله لامتصاص كثير من التجارب المهمة، من أحداث بالقطع عاصرها، والعمل على كتابة ألمانيا بكل خسائرها وانتصاراتها، في نصوص تعتبر جزءا هاما من الذاكرة الجماعية، وركنا حيويا في متحف الإبداع العالمي. وكما أردد دائما، فإن الأدب الحقيقي المرتبط بحياة الشعوب، أصدق من التاريخ، الذي ربما تكتبه أقلام غير مؤهلة، أو أقلام استؤجرت لكتابته، بعكس الأدب الذي تكتبه المخيلات المبدعة، والبصائر المتقدة، والاستشراف الذي يطال مستقبل الحياة أيضا، وهناك نصوص عدة بقيت تمنح الأمل، بينما اندثر التاريخ الذي عاصر كتابتها، ولم يكن منصفا.

حين سمعت بوفاة غونتر غراس، تبادر إلى ذهني على الفور، نصه الكبير المؤثر، والحيوي «طبل الصفيح» الذي قرأته منذ سنوات، وما زال طعمه موجودا في حلق تذوقي إلى الآن، إنه من النصوص التي يجتمع فيها كل شيء، حيث نجد المجتمع كاملا، نجد الخير والشر، نجد الحياة بمسارها الطبيعي الذي من المفترض أن يكون، وبمسار آخر منحرف أيضا، وعبر شخصيات حية، نقرأ كل ذلك، ونشاهده، ونمتلكه أيضا، وقطعا نتأثر به في الكتابة.

وبالرغم من أن غراس أنتج نصوصا عديدة، سواء أن كانت رواية أو شعرا، مثل: «سنوات الكلاب» و»تقشير البصلة»، وغيرها، إلا أن نص «طبل الصفيح» يظل هو الأكثر سطوة، والذي يتبادر إلى الذهن بسرعة غريبة، حين يذكر اسم كاتبه.

هذا بالتأكيد، لا يقلل من أهمية النصوص الأخرى للكاتب، ولكنها ظاهرة موجودة عند كل الكتاب تقريبا، تماما كظاهرة الابن الأكثر إشعاعا داخل أسرة كل أبنائها مشعون. فينتج عن ذلك، أن يذكر الابن المشع تلقائيا حين تذكر الأسرة.

أعتقد أن الكاتب الحقيقي، أي ذلك الكاتب الذي يجتهد في مشروعه، ويكون أسلوبه الخاص في النهاية، تصبح عنده الكتابة حدثا حياتيا عاديا، تماما مثل الأكل والشرب، والسير في الطرقات والتسوق، والسلام ورد السلام، هو انتهى من عصر الصياغات المترددة الأولى، وانتقل إلى عصر الصياغات الراسخة عنده، وبالتالي فإن تأرجح المستوى الكتابي غير وارد كثيرا، وإن حدث أي تأرجح، فهو غالبا في كيفية معالجة الفكرة، أعني طريقة تناولها، وليس أسلوب كتابتها، كذلك فإن بعض الأفكار لا تعجب كثيرا من القراء، فيلجأون إلى تعميم عدم ارتياحهم منها، وسط قراء آخرين. لذلك فإن سطوة النص الواحد، لا تخضع لشخصية النص فقط لأنها شخصية شبيهة بشخصيات النصوص الأخرى كما قلت، وإنما شيء لا يمكن تفسيره على الإطلاق. هناك نص لمع بشدة وسط نصوص لامعة، أو نص لمع وسط نصوص معتمة، أو نص وحيد لكاتب، لمع وسط نصوص لآخرين من نفس جيله، كتبوا بطريقة أفضل.

عند ماريو فارغاس يوسا، دائما ما تذكر رواية: «مديح الخالة» تلك الرواية القديمة، بالرغم من أنه كتب نصوصا أخرى غنية، مثل «شيطنات الطفلة الخبيثة» و»حفلة التيس» وغيرها. عند ماركيز، بالطبع «مئة عام من العزلة» النص الذي يعرفه طوب الأرض، من شدة لمعانه، وشخصيا أجد رواية «الحب في زمن الكوليرا» أكثر إغواء للقراءة من رواية العزلة، لكني لا أستطيع أن أفرض تذوقي الشخصي. عند همينغواي «العجوز والبحر» وتولستوي «الحرب والسلام» وعند النيجيري تشينوا أشيبي، بالطبع «الأشياء تتداعى» أحد النصوص المؤثرة قطعا في الأدب الأفريقي عامة، لما احتوته من جرأة في منازلة الأساطير، وجرها صاغرة، إلى خيالات الكتابة، ولأشيبي نصوص أخرى بديعة أيضا، وتحمل الهم الأفريقي نفسه، بطريقة أو بأخرى، لكنها قطعا ليست «الأشياء تتداعى» المحفوظة في ذهنية القراء، ولا أظن أنها ستتزحزح يوما، وأذكر عند وفاته، أن كل من كتب عنه، وهم بالآلاف، ذكروا بلا أي تردد، رواية «الأشياء تتداعى».

لو جئنا إلى النصوص التي تتبادر إلى الذهن حين يذكر أدباء معينون، بالنسبة للكتابة العربية، لعثرنا أيضا على النص اللامع، الإبن المشع داخل عائلته، ويلغي بقية أفراد العائلة أو يهمش أدوارها: «الثلاثية» عن العظيم نجيب محفوظ، «يوميات نائب في الأرياف» عند توفيق الحكيم، «قنديل أم هاشم»، عند الرائع يحي حقي، «موسم الهجرة إلى الشمال» عند الطيب صالح، «الزيني بركات» عند الغيطاني، وحتى بالنسبة للكتاب من الأجيال الجديدة، نجد هذه الخاصية موجودة، ولا أحد يستطيع إنكارها، ويحدث أن يواجه الكاتب بصفة يومية أشخاصا انساقوا وراء لمعان إحدى رواياته، وقرأوها أو قرأوا عنها كلاما كثيرا، وجاءوا يصبونه على أذنيه، ويكون الكاتب مؤكدا قد مل من نصه اللامع ذلك، وأنتج نصوصا أرقى ولا أحد يلتفت إلى جديده، إلا بمشقة، أو بضغط منه، حين يوجه قارئا ما، نحو نصه الجديد.

وسط هذه الفرضيات التي ذكرتها، يوجد كتاب، لم يلمع لهم نص واحد وسط نصوصهم الكثيرة التي كتبوها، وظلوا هكذا كتابا، شبه معروفين أو غير معروفين إلا في محيط ضيق وسط أصدقاء، وبالتالي تظل نصوصهم جميعها متساوية في العتمة، وإن انزاحت العتمة قليلا، فعن النصوص كلها أو معظمها وليس نصا واحدا، يحتلب الأضواء، ودائما ما أفاجأ حين يرسل لي أحدهم رواية ما، ويقول إنها روايته الخامسة عشرة أو العشرين، ولا أكون سمعت بأي رواية من رواياته، أو ألتقي بكاتب في بلد ما، وأعرف أن له عالم، وقراء، وترجمت بعض أعماله إلى نصوص أخرى، ولا أكون سمعت عن نص واحد له. إذن الكتابة في مجملها، مساحات شاسعة من المتناقضات، وكل كاتب يشير إلى متناقضاته داخلها ويمضي، ولو لجأنا إلى تفسير منطقي، يجعل ذلك النص واسع القراءة، ولامعا، ويطفئ أخيه المولود من نفس الرحم، لما وجدنا تفسيرا. والأفضل بالطبع أن نقرأ فقط، بلا أسئلة ولا أجوبة.

 

كاتب سوداني

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى