صفحات العالم

نَعْيُ الذات والنقدُ الزيتي/ أحمد بيضون

 

 

فيما يتعدّى عواقبها البيئية والصحّية (وهي فادحة)، وجّهت أزْمةُ النفايات التي استحكمت في صيف العام الماضي ولا تزال تجرّ ذيولها إلى الآن ضربة شديدة إلى معنويّات اللبنانيين. فتحت هذه الأزمة في الأنا الجماعية اللبنانية جرحاً نرجسيّاً فاغراً وزلزلت صورة اللبنانيين الغالبة على مخيّلتهم عن مجتمعهم وبلادهم.وهي قد تجاوزت لهذه الجهة أزماتٍ أخرى سبقتها ثم رافقتها من قبيل أزمة الطاقة والأزمة المتفاقمة التي تأسّست على وقع اللجوء السوري ناهيك بتخبّط المؤسّسات الدستورية في شلل متباين الدرجات، متنوّع الصيغ، وهو متّصل بالحرب السورية أيضاً وبدخول حزب الله المسلّح في هذه الحرب وما انطوى عليه هذا الدخول من استفزاز لقطاعات عريضة من طوائف كبيرة ولهيئات سياسية ترى في هذه الحرب رأياً آخر ولها من النظام الأسدي موقفٌ آخر… إلخ. ولا نذكر الآن ما هو أبعد عهداً: من بطالة مستشرية وهجرة متعثّرة ومن تضخّم باتَ خرافيّاً بالقياس إلى دخولٍ لا تتبع حركته ومن انحطاط في نظام التعليم وتجميد لحركة السياحة، إلخ…

تجاوزت أزمة النفايات، في وقعها المعنوي، هذا كلّه على فداحته وشدّة وقعه. والسبب، على الأرجح، رمزيّة النفايات والنفور الذي يستثيره مثولها بمناظرها وروائحها، حيث يجب ألاّ تكون من العاصمة خصوصاً ومن محيطها. وذاك أن هذا المثول للنفايات يُشعر بنوعٍ من العجز الأقصى ومن انعدام الحيلة يشبه، في حالة الفرد المريض أو الموغل في الشيخوخة، عجز الإنسان عن ضبط فضلاته الطبيعية وعن تدبّر الخلاص منها، وبقاؤها، عوض ذلك، في ثيابه لصيقةً بجسمه. ذاك هو الشعور الساحق الذي استولى على المجتمع اللبناني وهو يعاين عجز السلطة العامّة، بسبب ما سبق من تشظّيها وفسادها المديدين، عن أداء مهمّةٍ مغرقة في أوّليتها وبديهيتها ولكنها موضوع لحاجةٍ جدّ ماسّة هي الحاجة إلى تدبّر ما ينتجه هذا المجتمع من نفاياتٍ كلّ يوم.

ولا ريب أن هذه الصفة الخاصّة لأزمة النفايات هي ما منح الحراك الشعبي الذي انطلق منها قوّة واتساعاً استثنائيين، لجهة الحشد والتعاطف العامّ، فتجاوز ما كان مأمولاً في مناخ الاستقطاب السياسي ذي الصفة الطائفية ووضع على محكّ رفضٍ شعبيّ يتعذّر تجاهله جملة القوى الضالعة في ذاك الاستقطاب. وقد ردّ هذا الحراك إلى اللبنانيين، طالما لبث صامداً، ثقة عامّة بالنفس بعثها الاعتزاز بطاقة الاحتجاج الشعبي: الشبابي على الأخص. ولكن الحراك الذي واجهه قمعٌ أطلقه وحدّ منه في آن ذعر السلطة المتهالكة، شهد صعوداً وهبوطاً معتادين لمثله وتكاثراً للجهات المؤطّرة معتاداً أيضاً. هذا التكاثر أورث تنافساً ثم تورّطاً سوّغه التنافس والرغبة في توكيد التميّز والأسبقية ومعهما الحيرة أمام السؤال المتعلّق بما يجب أن يلي في مسالك وخطوات سيئة العاقبة. ولم يلبث سوء العاقبة هذا أن تجسّم في واقعة فرضت نفسها بغتةً على الحراك برمّته: وهي أن مواصلته بصيغته الرئيسة، وهي صيغة التظاهر الدالّة على صفته الشعبية، قد أصبحت متعذّرة… وهذا على الرغم من الشعور الواسع بقصور الخطّة التي وضعتها الحكومة لتدارك كارثة النفايات. وكانت الكارثة قد ازدادت فداحة في الخريف عمّا كانته في الصيف.

واقعة تعطّل الحراك هذه لم تزدها بعض الطفرات اللاحقة التي اجتهدت في إنعاشه إلاّ وضوحاً. فكان منها أن أعادت فتح الجرح النرجسي الذي كان الحراك نفسه قد باشر لأْمَه. وقد كان منتظراً أن يلقى الحراك من الذين واكبوا تفاصيله وكانوا منه في مواقع تتيح الرصد والمتابعة الحسّيين عناية بعيدة عن عصبية «الحملة» وشخصنة «القيادة» باستخلاص صورته وديناميته بما في ذلك قواه وأطواره ودواعي تعطّله. هذه العناية لا يمكن القول إنّ المطالبين بها قد بذلوها. والحراك مستحقّ هذه العناية النقدية لمكانته المميّزة بما هو مرقبٌ متحرّك لتشكّل قوى جديدة تستشعر اختناق المجتمع بسياسات طوائفه ولتلمّس موائل هذه القوى وآفاق نموّها وتضامنها ولتلمّس حدودها أيضاً وما تواجهه من مقاومة مختلفة المصادر والأشكال. كان من شأن هذه العناية أيضاً أن تحدث ما يحدثه الفهم والاستيعاب من تصريف لمشاعر الخيبة بما هي انفعال عقيم، بل مدمّر وتحويلٍ لها إلى اعتراضٍ يستبقي الانفعال ولكنه يدرجه في تصوّر عملي…

وأمّا ما هو منتشر اليوم فعلاً فهو غلبة الميل إلى اليأس ونفض اليد وما يواكب ذلك من تمتمة عدمية فاقعة البدائية والتهافت. فأهونُ ما نسمعه (بل ما نقوله أيضاً بين حينٍ وآخر) أن النظام السياسي متداعٍ، فضلاً عن اعتلاله الأصلي يوم كان في حال التماسك، وأن المجتمع نفسه خَرِبٌ باتت تَستبعد تكاوينُه المريضة بالتبعية والفساد أيّ تماسك فيه على مصالح البلاد العمومية… وأن الوضع في المحيط موصدُ الأفق أو منذرٌ بويلات لبنانية لا تنتظر إلا من يطلقها… وأن البلاد نفسها بما هي وحدةٌ سياسية قد تكون تقترب من نهاية شوطها التاريخي…

يجب الاعتراف بأن طوفان التشاؤم هذا ناجمٌ من طوفان شؤمٍ فعلي. فلا دليل على أن في الشعور العامّ بالحالة العامّة ميلاً إلى المبالغة في تقدير سوئها… لا دليل على أن هذا الميل إلى نعي الذات لا موضوع له. ولكن لا دليل أيضاً على أن اللبنانيين، ما داموا هم أصحاب الشأن، لا يسعهم فعل شيء للإمساك بهذا أو بذاك من مقاليد مصيرهم الكثيرة. ومن زوايا مغايرة لزاوية النظام السياسي ولأجهزة الطوائف السياسية، يبدو المجتمع اللبناني مزدحماً بقوىً حيّة لا يني يصدّر بعضاً من أفضل أفواجها. على الأخصّ، يبدو عالم الثقافة زاخراً بالجديد: بالسينما وبالمسرح الشابين إجمالاً وبمعارض وإصدارات شتى وبنشاط غامر للمنابر ولمراكز الأبحاث وبمنشآت للتعليم العالي لا تني تتكاثر. حتى الصحافة التي يقال إنّها تختنق شهدت وتشهد نشوء مواقع كثيرة على الشبكة تعادل أو تفوق حجماً ما هو مهدّد بالزوال من جرائد ورقية يرجّح أن تستبقي هي الأخرى مواقع لها على الشبكة. لا جرم أن في هذا كلّه ما هو غثّ وما هو سمين: أن التعليم العالي يتهاوى مستواه – وهذا مثلٌ – فيما تتكاثر منشآته… وأن في الإصدارات وفي الندوات ما لا يقدّم ولا يؤخّر، إلخ. غير أننا، مع ذلك، لا ننفكّ نكتشف أو نواكب مبدعين يتكاثرون أيضاً في كلّ مجال ومنشآتٍ يدافع عنها مستوى خرّيجيها أو نوعيّة منتجاتها… ليس لهذا كلّه شأن مباشر بما يواجهه لبنان من أزمة عامّة متشعّبة. ولكن هذا كلّه يثمر قوىً يعوّل عليها في العمل العامّ إذا استطاعت نفاذاً إليه. وهي تقع هنا وهناك أو بين حين وآخر على منافذ جزئية. تعطّل الحراك الشعبي أمس. حلّت معركة الانتخابات البلدية اليوم، وهي فرصةٌ أخرى مختلفة لاستنفار القوى ولتعارفها.

يبقى أن تجاربنا تبدَّد، على نحوٍ ما، حين لا تخضع للمراجعة النقدية التي تستحقّ. تبقى جثثها في دواخلنا تستحثّ النعي الذاتي. والنعي الذاتيّ مزدهرٌ اليوم ولا يلجم الميلَ إليه نقدٌ ذاتيّ متوجّب. عوض النقد الذاتي يوجَدُ شيءٌ يَسَعُنا أن نُسَمّيه «النقد الزَيْتي»… ومُؤَدّاه أن ناقدَ ذاتِه يَرُوحُ يَزْلَق فوقَ الوقائع من واقعةٍ إلى أخرى معتبراً كَسْرَ عُنُقِه هنا أو هناك أقَلَّ خَطَراً من الصراحة.

مارسنا «النقد الزيتيّ» بصدد الحرب اللبنانية، قبل الحراك الأخير بزمن طويل. هذا حديثٌ آخر قد أعود إليه في فرصةٍ تسنح.

كاتب لبناني

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى