محمد تركي الربيعومراجعات كتب

هل من حاضنة «ريفية» أو «قبلية» للراديكالية الإسلامية؟/ محمد تركي الربيعو

 

 

أخذ العديد من الجماعات الإسلامية مع سنوات التسعينيات، يظهر نشاطاً وتواجداً مكثفاً في بعض الأحياء والعشوائيات غير الرسمية داخل مدن الشرق الأوسط (القاهرة، الجزائر، إسطنبول)، أو داخل بعض المناطق الريفية التي كانت شيئاً فشيئاً تتحول بحكم تمدد شبكات الطــرقات والتنمية إلى مناطق شبه حضرية.

وقد فرض هذا الواقع الجديد، خطاباً سياسياً وإعلامياً وحتى أكاديميا، بات يميل إلى وصف المناطق السابقة (الأحياء العشوائية، الأرياف) على أنها مناطق خاصة، تتسم بالثقافة المحافظة والميل للعنف. وهو ما أخذ يعني بداية ظهور سرديات حول الظاهرة الراديكالية الدينية داخل مدن الشرق الأوسط، تربط بشكل بديهي بين النزعة الإسلامية والوسط المعيشي للمهمشين الحضريين أو الريفيين، وتصف هذه العلاقة بأنها علاقة طبيعية، ناتجة عن توافق الذهنية الدينية لأبناء المناطق السابقة، التي تتسم بـ(التخلف، والجهل) مع الرؤية الإسلامية «المتشددة» للدين.

هذا الربط أدى إلى أن تتشكل حالة من الاستسلام، داخل العديد من الأوساط الأكاديمية والإعلامية، للفكرة التي تربط بين الإيكولوجيا (البيئة) الفقيرة والريفية مع التطرف الديني في العالم الإسلامي، ولعل ما ساهم في شيوع هذه الفكرة مجتمعياً في عالمنا العربي، هو الدور التي أخذت تلعبه العديد من الأفلام المصرية، التي حظيت بانتشار أوسع مع منتصف التسعينيات، من خلال الفضائيات وأشرطة الفيديو، كما في فيلم عادل إمام «الإرهابي»، وبعدها مع أفلام الجيل الجديد مثل «دم الغزال» (2004) إذ أن غياب القانون والسلطة في إحدى الحارات في منطقة إمبابة، تحوِّل طبالاً (الممثل المصري أحمد السقا) إلى زعيم يقود مجموعة من الجهاديين داخل حي عشوائي.

هذا الطرح أو الربط بين بيئة الجماعات المهمشة والأيديولوجية الدينية الراديكالية، حظي في السنوات القليلة الماضية بإعادة نظر من قبل بعض السوسيولوجين والأنثربولوجيين المنشغلين بدراسة أثنوغرافيا الشرق الأوسط، من خلال تأكيدهم على أن العلاقة بين الراديكالية الإسلامية والأوساط الاجتماعية السابقة ليست علاقة عضوية، بل هي علاقة أكثر تعقيداً، وتعود لعدد من المتغيرات الاجتماعية والتعليمية والسياسية. وكمثال عن هذه الدراسات يمكن أن نشير هنا إلى الدراسة الرائدة للسوسيولوجي الأمريكي/الإيراني آصف بيات «هل من أيكولوجيا حضرية للإسلام الثوري» 2007 (نشرت لاحقاً في كتاب الحياة سياسة: كيف يغير بسطاء الناس الشرق الأوسط). إذ بيّن بيات أن تحول بعض المناطق العشوائية إلى مناطق لتمركز الجهاديين المحليين، لا يعود إلى وجود بيئة حاضنة لهذه التيارات داخل هذه الأحياء، بل يعود أيضاً للطبيعة غير الرسمية لهذه الأحياء (لا توجد أسماء شوارع، ولا أرقام للمنازل، وليس هناك تسجيل رسمي أو خرائط) وهو ما يضمن ملجأ أكثر أمناً، مقارنة بالأحياء الرسمية التي تخضع لرقابة أوسع من قبل أجهزة الدولة.

كما أن انخراط العديد من شباب الأحياء الهامشية في الجمعيات الإسلامية، لم يكن بسبب وجود ميول دينية واستعدادات ذهنية لدى أبناء هذه المناطق تجاه الحركات الإسلامية، بل كان يعود في مرات عديدة ـ وفقاً لبيات- إلى كون هذه الروابط الدينية، أخذت توفر فرص عمل جديدة لهؤلاء الشباب. ولعل ما يدعم الوجهة السابقة حول عدم وجود علاقة بديهية أو طبيعية بين المناطق الفقيرة والإسلاميين، هو ما بينته دراسة أخرى لآصف بيات «أعوام الربيع العربي» (2015) التي أظهرت كيف أن معظم الاحتجاجات التي شهدتها مصر في فترة الرئيس الإخواني محمد مرسي، جاءت من المناطق الفقيرة في القاهرة والإسكندرية والمنيا، أو من مناطق الريف المصري (أسوان)، وهي المناطق التي لطالما اتُّهِمت في السابق بكونها مناطق أو جيوب نفوذ للإسلاميين داخل الحيز الحضري. وهو ما يعني أن التحالف الذي كان سائداً بين هذه المناطق والجماعات الإسلامية لم يكن تحالفاً حتمياً، بل كان يخضع أيضاً لحالات من عدم اليقين والبراغماتية التي تتماشى مع مصالح أبناء هذه المناطق. لكن رغم أهمية الطرح السابق، إلا أنه بقي مع ذلك مشغولاً بالكشف عن المجتمع الحضري السياسي في الشرق الأوسط، وأسباب تحول بعض الأحياء داخل الفضاء الحضري إلى أحياء يغلب على روحها الطابع الإسلامي، دون أن يبدي اهتماماً موازياً بدراسة الريف وتحولاته، على مستوى التدين، كما لو أن الريف لم يعرف أي تحولات تذكر في هذا الجانب، أو أنه بعيد عن التأثر بالتحولات التي شهدها الحقل الديني في الشرق الوسط خلال المئة سنة الأخيرة. وهو ما عنى إعادة ترديد، الرؤية الانقسامية التي تتحدث عن دين ريفي (غير متحضر) مقابل دين مديني (متحضر). وقد عادت هذه السردية لتؤكد على رؤيتها من جديد، بعد اندلاع الانتفاضات العربية (كما في حالة سوريا مثلاً)، من خلال الحديث عن دور بعض المناطق شبه الحضرية، أو ذات الخلفية الريفية، في خلق جماعات سلفية ريفية مقاتلة (وكأنه تشكل طبيعي)، دون أن تولي هذه الرؤية أي دور يذكر لظروف الحرب أو لفترة ما قبل الحرب، أو تتساءل عن أسباب وزمن تحول هذه المناطق إلى مراكز سلفية، أو تولي اهتماماً أكبر لدور الوسطاء المحليين الدينين الجدد، أو الشبكات الدينية الإقليمية، والجماعات والدول الداعمة، في إعادة خلق أو صناعة الإسلام المحلي داخل بعض المناطق لصالح «عصبيات حربية» مقاتلة، أخذت تستفيد من كل الظروف السابقة في سبيل فرض رؤيتها على المجتمع المحلي، وكأنها حالة طبيعية، أو باعتبارها انعكاساً للرؤية المجتمعية المحلية. ورغم أنه لا يمكن نفي وجود نشاط سلفي في بعض المناطق ذات الخلفية الريفية، قبل اندلاع الانتفاضة السورية، إلا أن التضخم الذي شهدته لاحقاً على مستوى دورها، لا نستطيع أن نفسره بكونه يدل على أن الثورة السورية هي ثورة ريفية بالأساس، وبالتالي كان من الطبيعي أن تكون المجموعات القتالية التي تشكلت في هذه المناطق هي مجموعة ذات طابع «إسلامي حربي»، أو سلفي جهادي بحكم الخلفية الريفية لأبنائها. وهو ما يعني رؤية تساوي بين الريف والسلفية، دون أي محاولة تذكر لدراسة أسباب تحول بعض المناطق إلى مناطق نشاط للسلفية، وما هي العوامل التي ساعدتها لاحقاً في فترة الحرب على توسيع قاعدتها وشبكاتها.

الأمر ذاته بات ينطبق على بعض المناطق القبلية في مصر (كما في حالة سيناء)، التي باتت تشهد نشاطاً جهادياً محلياً، يبدو للوهلة الأولى وكأنه يحمل أجندات جماعات قتالية عالمية «داعش»، مع أن بعض المعطيات حول المقاتلين وعلاقات القرابة بينهم تؤكد على الطابع المحلي لهذه المجموعات، وأن العلاقة التي تربطها بالتنظيمات الجهادية العالمية هي علاقة أقرب ما تكون للزبونية منها للارتباط التنظيمي. ولذلك في ظل هذه المجموعات السلفية المحلية، عدنا للتساؤلات السابقة نفسها، حول علاقة الأرياف والقبائل بالمجموعات القتالية الإسلامية؟ وهل أن هذه التكون هو معطى بديهي، ونتيجة لذهنية أبناء هذه المناطق؟ أم أنه يعود كذلك لعدد من التفاعلات الدينية والتعليمية، ولدور الناشطين الدينيين الجدد في الثمانينيات والتسعينيات داخل هذه الأوساط المحلية؟ الذي أدى إلى ظهور نزعات أو إعادة خلق الإسلامي المحلي السابق لصالح إسلام ذي نزعة سلفية. ولعل البحث في الأسئلة السابقة هو ما كان محط اهتمام أستاذ علم الاجتماع في كلية الآداب في القاهرة سعيد المصري، في الكراس الذي أصدره عن سلسلة مراصد بعنوان «الشرع يحكم في البادية: دراسة لعملية أسلمة المجتمع البدوي في مصر» مكتبة الإسكندرية. إذ يرى سعيد أن هناك دلائل على وجود عملية أسلمة مكثفة جرت داخل مؤسسات المجتمعات البدوية، في ثلاث نقاط حدودية في مصر: وهي سيناء شرقاً، ومطروح غرباً، وحلايب وشلاتين جنوباً. وبدلاً من تفسير هذه النزعة الإسلاموية عبر ربطها بالقيم البدوية القائمة على «العنف» و»التخلف»، يقترح علينا المصري أن نفهم أسباب وطبيعة هذا التغير، الذي حدث داخل بعض القبائل البدوية مثل قبائل «أولاد علي» في سيدي مطروح عبر تسليط الضوء على نشأة، وتكوين، وفعالية القوى التي ساهمت في إحداث هذا التحول. فقد كانت الحركة السنوسية أقدم حركة إصلاحية دينية فاعلة بين قبائل أولاد علي، إذ يعود تاريخهم إلى عام 1841، عندما رحلوا من الحجاز، وأسسوا بعد ذلك مركزاً تعليمياً منافساً للأزهر في واحة جغبوب في الصحراء العربية في مصر. وقد كانت الزوايا السنوسية بالنسبة لقبائل أولاد علي بمثابة مراكز دينية لتعليم القراءة والكتابة، والتوسط في فض النزاعات، كما أنها كانت تمد العائلات والزعامات القبلية بالدلائل الشرعية التي تعزز ما يتوصلون إليه من أعراف. وبالتالي استطاع السنوسيون من فترة تأسيسهم حتى منتصف السبعينيات من القرن الماضي، أن يشكلوا الحقل الديني المحيط بأولاد علي، وينفردوا في إدارة هذا الحقل. غير أن هذه الوضعية أخذت تشهد تغييراً – وفقاً للباحث- وكانت بداية التأثير الديني للمهاجرين مرتبطة بنمط التعليم الأزهري من ناحية، كما كان للفورة التعليمية التي شهدتها مناطق قبائل أولاد علي دور مهم في رواج التوجهات الدينية الجديدة في المجتمع البدوي في مطروح، من خلال إتاحة فرص واسعة للشباب البدوي المتعلم للاطلاع على المعرفة الإسلامية من مصادر جديدة تتجاوز الرؤية التقليدية، كما أمكن تداول الكتب والمطبوعات الدينية وكذلك أشرطة الكاسيت. وقد ساهمت هذه التطورات السابقة في تكوين وسطاء محليين دينيين من الشباب البدوي المتأسلم، بالإضافة إلى بعض الإسلاميين من المهاجرين، كمشاركين في إعادة تشكيل الحقل الديني داخل مدينة مرسي مطروح، حيث تقطن قبائل أولاد علي. وانطلاقاً من مسجد الفتح الذي شكل القلعة الأساسية للنخب الإسلامية الجديدة، حاول هؤلاء الشباب في البداية هدم بعض الأضرحة، ومنع الناس من زياراتها، لكن لم ينجحوا في ذلك، مع ذلك فقد نجحوا جزئياً في منع الزيارات والمشاركة في الموالد الصوفية، مستغلين تراجع نشاط الزوايا الصوفية، وشيوع أنماط جديد من الثقافة الاستهلاكية المتعلقة بالبهجة والمتعة، بالإضافة إلى تدني الحالة المعيشية للسكان، وبالتالي تعذر المشاركة في هذه الموالد بشكل فعلي، من خلال تقديم الأضاحي، الأمر الذي استغله الإسلاميون للحد من احتفالات المولد. كما تكثّف حضور الإسلاميين في الأعراس والمناسبات الأخرى، ومن ناحية أخرى استطاعوا من خلال خدمة دعم قروض المشاريع الصغيرة من تحييد دور الدولة، وتدعيم حضورهم داخل الوسط القبلي. هذا الأمر ساهم في أن تلعب هذه الجماعات دوراً أوسع في حل وفض النزاعات بين أبناء هذه القبائل، وكذلك في تنامي صعود دور للحركة السلفية على مسرح الحياة اليومية داخل قبائل أولاد علي. وهو ما يؤكد على أن السلطة الرمزية التي أخذ يتمتع بها السلفيون لا تعود إلى الطبيعة الذهنية لهذه الجماعات، وإنما إلى الدور الذي لعبوه عبر شبكاتهم التعليمية والاقتصادية والدعوية، في خلق هذا الحضور وتدعيم وجوده.

٭ كاتب سوري

القدس العربي»

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى