صفحات الثقافة

البشر لم يعودوا ملائكة/ محمد رشّو

 

 

بيوض الشر

لا تقل لي ماذا فعلت أو ستفعل. تحمّلْني كحياة. جامِعْني كفاسق، واهجرني لأبقى أتألم من الحب. اكذبْ كصادق، ودعني أبلغ نشوتي كما في الأغاني. أَنهِكْ جسدي لينام. أشتمْ اسمي كي لا يغفو. أنكرْ دمي وخُنِّي لأعرفكَ. تكلّمْ في الظلام لأراك. أنزفْ في المنام لأعرف أنكَ لم تمت. حنَّ عليَّ كغريب ولا تدعني أحنُّ على غريب. لا تكن طيّبا وتتذكرني حين تخاف، ولا تختبئ خوفاً مني. أنا هنا وفمي في مدينة أخرى يغنّي لعيدٍ في مدينة ثالثة. أنا هنا وعينايَ في الجبال تلاحق نمراً يلاحق ظبياً سيقع بطلقة غفران. كنْ شجرة فاسدة يلتقي تحتها رجل في حلم امرأة مع امرأةٍ أخرى في حلم رجلٍ آخر. كنْ حرباً حيث مشيتَ، لتنتشي بذور الخطيئة، وحيث نمت تفقس بيوض الشر. كنْ ضيفاً، واسألني: هل دقة الكاميرا 8 بيكسيل حقيقية، وهل يكفيكِ شحن بطارية السامسونغ ليومين؟ هل جيرانكِ جيدون؟ هل ماستريخت بعيدة من هنا؟ تعال لأعرّفك على من يسكن هنا: زوجان غير كلاسيكيين. متقاربان في العمر والملامح. لديهما سرير أطفال بطبقتين. العلوية تخصّ مَن كان يسوق دراجته في الطريق. والسفلية لابنهما المتوحد الذي يتمدد عليها. صديقان في هدنة طويلة الأمد. هدنة بعينين أشدّ حقدا من تنزيلات شتاء 2011. بفمٍ ممصوص يتكلم عن جردة حساب سريعة للحرب. عن الشاي، ليمضي النهار سالماً، قبل أن ينتبه الملاكُ الى أنه يلعب بما بين فخذيه.

* * *

حبكة فيلم قديم

أفكر في سرقة حبكة فيلم قديم عن رجلٍ، بشرته غامقة، ملامحه غائمة، ويعمل في مشرحة. رجل يحمل المريض كسجّادة، أو ككيس بطاطا ويضعه في الميزان، ويسجّل. وحين يموت يزنه أيضاً ويسجّل. يمرّ على المرضى في القسم الأعلى. على المحفوظين في البرّادات في الأسفل. يضع سمّاعات الأذنين. نتتبعه من الخلف لنراه وهو يصفّر مرتدياً جاكيتاً من الجلد. في السيارة يفكر في شتاء آخر طويل. في الطريق يتخيل كائناً له فم ملاك وعين شيطان. ويظل يهز رأسه ويحسب حتى يوقن أن 21 غراماً تماماً، ما يخسره أحدنا حين يموت. يكون قد وصل الى البيت ليركن سيارة الرينو الزرقاء في محلّها في الكاراج، بالدقة التي يركنها كل يوم. كنت سأسرق الحبكة تماماً لولا أنني لمحتُ امرأة في الثلاثين كانت في ذلك الوقت كلّه تفكر في الطمأنينة التي يمكن أن ننالها بتجنّبها الحياة. كانت المرأة قد خرجت من حبكة فيلم آخر، وجاءت لتقف حيث كان يقف الرجل. ثم رفعت خرقة قميص، عليه بقعة دم قديم وقالت له: أليس لك قلب؟!

* * *

التجربة والمغفرة

عام التحاقي بالجيش، لم أعد واثقاً بالطبيعة البشرية. فليتكلم من يشاء. ولثلاثة أيام. وليستشهد بمحمد وماركس ويسوع. فلن أصدّق أيّ شيء. ولن أرى هؤلاء أفضل من الذين يتبعونهم. لكن مع القسوة كنت قد اكتسبتُ مرحاً غريباً. أنظر بعين الشيطان، وأرى الخيط الأسود الدقيق بين كوميديا التجربة والمغفرة التي يدير بها الله مخلوقاته، وتراجيديا التعاسة البيضاء غير المقنعة التي يحاول بها البشر اثبات أنهم لا يزالون ملائكة.

* * *

المستوصف العسكري

في المستوصف العسكري كانت لدينا خزانة أدوية. تفرغ كل شهر من محتوياتها التي كنا نتسلمها من مخصصات الفوج مرةً كل ثلاثة أشهر. كنا فورا نعبّئ منها حقيبة كاملة للعميد، وأخرى لنائبه، ثم يتوافد الضباط لنزوّدهم المرهم الشافي والمسكّنات وحبوب الالتهاب والأربطة الضاغطة. أما الجنود فكنا نعطيهم حبّتين بناء على وصفة يجلبها لهم الرقباء من مصياف أو حماه، بعد أن يضاعفوا سعرها. كانت لدينا في المستوصف سيارة إسعاف قديمة نسمّيها «الصحية». ما إن أشتبه بإصابة أول مريض بالتهاب الزائدة الدودية، وأقرر نقله إلى المشفى العسكري، حتى تتعطل “الصحية”. بينما كنا نهبط بها مرةً من الجرادة نحو أم الطيور في الثانية بعد منتصف الليل، رأيت دولاباً منها يسبقنا على الطريق بعشرة أمتار. أما في العودة من حماه فلم ينفكّ دولابها، بل كربج المحرّك، لتظل “الصحية” شهرين في ورشة التصليح. أما المريض في تلك الليلة فأصبح على ما يرام. كنت مصيباً في التشخيص. فقد انفجرت زائدته الدودية فيما كنا نركّب دولاب “الصحية”، ليقضي نحو أسبوعين في المشفى. وهذا كان مسراً له، لأنه حصل على استراحة طبية لمدة شهر. في الصباح التالي لحادثة “الصحية” تلك، حضر إلى المستوصف مجنّد بكتف مخلوعة، بعدما أجبره النقيب على إجراء التمرين الثابت عشرين مرة، على الرغم من أن لديه إعفاء صحياً. كان يرتدي شالاً قطنياً أبيض، ويبتسم وهو يتقدم نحوي بكتف مائلة سأتذكرها طويلاً. عرّفني عليه رقيبنا وكان رقيباً أيضاً. أعطيته أربع حبّات مسكّنة، مع إحالة على المشفى وإعفاء آخر من الرياضة المجهدة. وهذا ما لن يحصل، ليعود بعد ثلاثة أيام بكتف مخلوعة، فأعطيه إعفاء آخر مزّقه النقيب مرة أخرى وقال له: خر… عليك وع الدكتور الذي هو، أنا، ولا أحد سوايَ.

* * *

شرف العميد العسكري

كنت جالساً على كرسي بلاستيكي قرب مشتل النعناع الصغير أمام المستوصف أقرأ قصة “توافه الحياة”، وأسجّل على الهامش ملاحظة لتشيخوف: “العبقرية هي معرفة الحياة”. كنت وصلتُ إلى حيث يقول الطفل لعشيق أمه: “إن بابا يقول: أنتم الأطفال تعساء، أنتم تعساء، وأنا تعيس وماما تعيسة”، حين جاء العميد في سيارة اللاندروڤر وقفز منها مسرعاً إلى الداخل. كان يعاني من ألم حادّ في الخاصرة اليمنى. بالرغم من أنني طبيب أسنان، كنت أعمل طبيباً عاماً. أشخّص وأسعف وأستقبل ما لا يقل عن ستين مريضاً في اليوم. تمكنتُ في عام من أن أصل إلى الدرجة التي حملت العميد على الاستنجاد بي: حكيم بدّي أموت؛ ناسياً ارتباكي طوال الأسبوع الأول، وأنا أنفخ الاجاصة المطاطية لجهاز الضغط فكرت، وأنا أجسّ خاصرته، أن الألم ما يجعلنا نتمسك بعشبة. ضغطتُ بأصابعي، فانحنى وأغمض عينيه. عرفتُ ما لم أكن أخطئ فيه: حصاة في الكلية. ناولته الباكتريم فورت وديكلوفيناك الصوديوم. لكنه ظلّ ينظر إليَّ. فقلت على الفور: ولا بد من صورة شعاعية. خلال ساعة قادنا سائقه لنكون في المشفى العسكري بحماه. نصعد ونهبط ونمشي في الممرات من دون أن نجد طبيباً في قسم الإسعاف، لتمر ساعة كاملة، نقف بعدها بجانب الطبيب المناوب في قسم الجهاز البولي. يشير الطبيب بقلم إلى كتلة بيضاء في الحالب الأيمن مؤكداً دقة تشخيصي وصواب ما ذهبت إليه.

* * *

تلك الليلة سُرقت بارودة العميد

كان العميد يتحرك كمعتوه. البارودة شرف العسكري. وأن تُسرَق بارودته شخصيا، فتلك إهانة لا تُحتمل. حققوا مع الحرس في تلك الليلة. مع العساكر الستة الذين يخدمونه. ثلاثة منهم كانوا متفرغين في بيوتهم، مقابل 12 ألف سورية في الشهر يدفعونها للعميد ويذهبون إلى أهاليهم. هؤلاء تمّ استدعاؤهم أيضا. اجتمع العميد مع كل ضباطه وصفوف ضباطه، وقال: البارودة لازم ترجع، والله لني…. أم… الحيوان. كانت الأمور تسير من دون جدوى، وذات يوم ونحن في المستوصف، جاء إلينا واصطحب معه مساعد المستوصف، وكان من مصياف، والمساعد قد أخبره عن وجود مزار الشيخ أبو طاقة، حيث جدار فيه فتحة، والأهالي يؤمنون أن الأبرياء يمرون من الفتحة من دون استعصاء. أما المذنبون فيعلقون ولا يستطيعون أن يخرجوا، والمسألة مجرّبة. يمرّ البريء مثلما تنسلّ الشعرة من العجين، كما قال المساعد. الزناة والقتلة والسارقون والكذّابون يعلقون في الطاقة، ولو كان الواحد منهم نحيلا كالأصبع. انطلقت سيارة العميد وبجانبه المساعد دليلاً، وخلفهما انطلقت سيارة أخرى يسوقها ملازم أول، وكان في الخلف عشرة جنود مقيّدين. جنود بائسون يجلسون باستكانة كحيوانات وديعة. ثم تسلم الأمن العسكري في حماه الملف، فاعتقلوا واحداً وعشرين شخصاً وقادوهم إلى السجن ليدخلوا في متاهات الاعتراف بذنب لم يرتكبوه لتكتمل حبكة العدم المظلم، ويُسترَدّ الشرف. بعدها اختفوا ولم يكن أحد يأتي على ذكرهم، كأنهم لم يكونوا في يوم ما.

* * *

كابوس حرستا

ها أنا أغوص في الكوابيس. لم تكن كوابيس كما تكون عادة. لم يعضني كلب أو ذئب، لم أمت، لم أُقتل، لم أقع من جرف. لم أكن أرى ميتاً أو جنّياً له وجه إنسان وقدما ماعز، أو شياطين أو مسوخاً بأذرع كثيرة وعين واحدة في منتصف الجبهة. كنت أرى الخراء، أكوام من الخراء، أدخل مرحاضاً يشبه التواليت في مدرسة الخدمات الطبية بحرستا حيث قضيتُ ثلاثة أشهر في  دورة الأغرار. أرى ست مغاسل. في كل مغسلة خراء، وفي مغاسل مغلقة مسدودة تماما. أغلق أنفي بيدي وأفتح الماء، ثم أرى بعض الحنفيات معطلة، وأظل أدور بين المغسلة والأخرى حتى أستيقظ. أظل ربع ساعة في السرير، لا أحس بسوى طعم الصدأ في فمي، ثم أجرّ نفسي نحو الباب أجلس عند مشتل النعناع، أقطف أوراقاً وأدعكها بيدي، وأعود الى الداخل لأُخرج ليمونة من البرّاد وأقطعها شرائح وآكلها مع الملح، كي أستردّ مزاجاً أستطيع أن أكمل يومي به من دون أن أتقيأ. في تلك الليالي لم أجد عزاء سوى مع تشيخوف. كنت أنهيتُ مجلدات تشيخوف الأربعة، ترجمة أبو بكر يوسف، إصدار دار رادوغا، ذات اللونين الأخضر والأصفر المائل الى الذهبي. أجترّ مقدماتها مرة أخرى، كي لا أنام وأرى تلك الكوابيس.

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى