صفحات الثقافة

فوبيا الورقة العذراء/ خيري منصور

 

 

ليس إسقاطا جنسويا إطلاق صفة العذراء على الورقة البيضاء، بل هو تعبير عن الصّمت المتوتر الذي يرشح من بياض الورقة، لمجرد أن يلامسها القلم، فهناك من يعانون من القلق ذاته في كل مرّة يشرعون فيها بالكتابة مقابل آخرين لديهم من فائض الوهم ما يحسدون عليه، وهو أن البياض في أي مكان من هذا الكون هو بانتظار أن يسّودوه، حتى لو كان ذلك مجرد إفساد للصّمت، ومن اعترفوا بفوبيا الورقة البيضاء وما تثيره لديهم من فزع خشية من التكرار أو كتابة ما هو دون الصّمت، لم يكن ذلك الاعتراف مجرد دفاع عن بكارة تقبل التكرار، فهم يدركون أن النهر لا يقطع مرّتين، وحين عرض الراحل صلاح عبد الصبور مقايضة شعرية يعطي فيها كل ما أعطته الدنيا من التجريب والمهارة لقاء يوم واحد من البكارة، كان يعي صعوبة الاجتراح، وكانه يردد صدى ما قاله عنترة : هل غادر الشعراء من مُتردّم، أن هيبة بياض الورقة أو حتى الشاشة وما ترشحة عذريتها من صمت يبحث عمن يترجمه بخيانة وليس بأمانة تجعل الأصابع ترتعش قليلاً، أو تتردد قبل أن تلامس الصلصال السّاخن كي تنحت من اللغة تكوينات، وحين تَقُول الترجمة بخيانة وليس بأمانة فنحن نعني البعد عن الترجمة الحرفية وتحول المنتج المترجم إلى إبداع آخر، من طراز ما فعله نيرفال في ترجمة جيته أو فتزجرالد في ترجمة الخيام أو جان روسو في ترجمة إدغار ألن بو، حيث كانت خيانات المترجمين نبيلة ومشروعة.

الصّمت الأبيض الذي يغمر الورقة العذراء هو نَصّ عميق لكنه متلألئ، بحيث يبدو مجرد سطوح صقيلة تأسر الشمس في قوس قزح صغير قد لا يزيد عن عبارة واحدة، لكنها تقطير لما تكثف في أفكار لا حصر لها، وبمعنى آخر هو رحيق الغابة لا الغابة ذاتها، فالنحل الدؤوب الذي يقطع أميالاً من أجل قليل من الشّهد يحتسي بشبق بري دموع الزهور ثم يحررها من ملوحتها لتصبح أعذب ما في هذا الكون. لقد استعمل الكلام عدة ألفيات، بحيث بات جديده أشبه بوعد مستحيل، فالكلام أيضا يمكن وصفه بالمستعمل لكثرة ما وقعت الحوافر على الحوافر، من هنا تأتي تلك الفوبيا المزمنة إزاء ورقة بيضاء تقبل أن تكون مجرد ساحة لأسراب من النّمل، أو قدما مربعاً واحداً يتسع لغابة. وهذا ما عبر عنه الشاعر الصيني لوتشي حين قال إن الشاعر يأسر العالم في ورقة، وهو أيضا كان يعني رحيق الغابة وليس الغابة كلّها.

التقطير بمعناه الفيزيائي مرادف للتَّقتير بمعناه الإبداعي، لهذا لم تقرأ عبارة النفري الخالدة عن اتساع الرؤيا وضيق العبارة كما تستحق أن تقرأ، لأنها ذات وجهين، فالعبارة أيضا تتسع وتترهل إذا ضاقت الرؤيا، لهذا حصل الخلط بين الكم والكيف وأصبح هناك من يزهو بأنه ألف خمسين كتابا، من دون أن يدرك أنها مجرد أصداء وظلال لأصوات وإضاءات سبقتها، وأنها ككل الأشباه تذكرنا فقط بغياب الأصول، فالنسخة المقلدة، سواء كانت لكتاب أو سلعة هي نقيض الأصل وليست شبيهة على الاطلاق.

والورقة العذراء أو البيضاء عرضة أيضا للاغتصاب، لأنها لو امتلكت أي مقدرة للدفاع عن عذريتها لفعلت، لكنها لجأت إلى أسلوب آخر في الانتقام، هو افتضاح رداءة ما كتب عليها.

* * *

قد تبدو هذه التداعيات خارج المدار أو الإقليم الذي كرسته ثقافة مصابة بالأنيميا، أو فقر الدّم لأنها تفرط في تعاطي غذاء يسدّ الرّمق وقد يشعر من يتناوله بالتخمة لكنها تخمة كاذبة، ولو شئنا أن نتحدث عن كاربوهيدرات الثقافة لما انتهينا، من هنا كان المتنبي سباقا إلى التمييز بين الشّحم والورم، وبين بروز النواجذ للابتسامة أو للافتراس!

أهم ما في الورقة العذراء أو البيضاء قبل المجازفة بلمسها هو امتلاؤها بالممكنات، فهي تقبل أن تكون مسكنا لقصيدة خالدة كـ»الأرض اليباب» أو فصل في «الجحيم»، كما تقبل أن تكون منفى تتشرد فيه مفردات لا تلتئم بأي نسق أو سياق، إنها محايدة تماماً كالشاشات، وهذا هو سر ضعفها وقوتها معاً، فمن يتعاملون مع الممكنات يدركون كم هي خسائرهم عندما يكتفون بالعبارة مما تساقط من الشجرة، لهذا لا يشعر المبدع الأصيل بأي إشباع لجوعه وحنينه إلى ما يشتهي التعبير عنه، ويرى نصوصه كلها ناقصة، لأنه كما يقول البير كامو في مقدمة كتابه وجه الحياة له نبع واحد يغذيه على امتداد العمر وليس مجرد قرد ماهر في القفز بين الأشجار، بحيث تكون حصليته من كل حديقة زهرة أو من كل كتاب قرأه عبارة!

لقد أدى غياب القلق من ممكنات الورقة البيضاء إلى الاستخفاف بكل شيء، فالتنطع الآن قاعدة وليس استثناء والورم وباء وليس مجرد حالات فردية طارئة. أما الأكثر جرأة على تسويد البياض، سواء كان لورقة أو حتى لثلج سقط للتو ولم يتعكر فهم من رأوا في الماعز معلماً ومثالاً، لأنه يرضع لبعض الوقت ثم يتفرغ للإرضاع. وبمعنى أكثر مباشرة، يقرأون قليلاً في بواكير العمر ثم يتفرغون لإفراز الحبر لا الحليب ولا غرابة عندئذ أن تكون الحصيلة هي إرضاع دمية من مطاط، ثم انتظار نموها ونطقها، إن ثقافة تدنى فيها السّقف حتى أوشك أن يلامس القاع هي مجرد إشباع كاذب لرغبات مزمنة، لكن من خلال عادات علنية تستمد شرعيتها وقبولها من وفرة الذين يتعاطونها!

 

كاتب أردني

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى