صفحات الرأي

كتاب “باحثات” الـ15: مقاومة التهميش

 

منى فياض

عندما حاولت البدء بقراءة كتاب “باحثات” الأخير”: التهميش في المجتمعات العربية”، وقفت أمام صفحاته الخمسمئة ونيف حائرة! أمام هذا الكم  والتنوع في الابحاث والشهادات والكتابات: من أين أبدأ؟ أي خيط رابط سأجده لأكتب عنه؟

كانت أفضل وسيلة للقيام بذلك اعتماد أسلوب الكتاب وموضوعه: البدء من الهوامش التي شدتني إما بالصدفة أو عن قصد. وهكذا كان.

بعد ان اطلعت بسرعة على ما كتب عن الطاولة المستديرة للباحثات انفسهن حول الموضوع والتي شاركت فيها، لفتني فيما ابحث عنوان شهادة فاديا حطيط “الكتابة سبيل للوجود” ربما لأن هذا العنوان بالذات يعبّر عما أعتقده عن الكتابة، انا الكاتبة الملتصق “وجودها” بالكتابة، ثم هي بدأت بإهداء ما كتبته لأخيها الكبير والمتوفي باكراً. وهكذا تابعت معها كيف يختلط التهميش بنمط وجود اجتماعي ووجودي لكي ينتج ابداعاً عبر الكتابة التي وحدها يمكن ان تكون البديل من الثروة والمكانة وان تكون الحل للضيق او العجز او الغضب فتقهر التهميش.

وهنا يأتي بحث آمال قرامي عن تونس قبيل الثورة حيث حاولت عبرالتدوين والمدونين على الشبكات والمواقع الالكترونية وعبر التعبير الفني بواسطة موسيقى الراب تتبع دينامية مقاومة التهميش والقمع اللذين مارسهما النظام السابق في عملية إقصاء أعلى نسبة من التركيبة الديموغرافية للسكان. تتبعت الباحثة ردود فعلهم على إقصائهم عن المجال الافتراضي وهي الوسيلة الأهم، اذا لم نقل الوحيدة، التي كانت متاحة أمامهم للتعبير عن غضبهم وتمردهم على السلطة القاهرة التي مارسها النظام المستبد على المجتمع ككل وعلى الأسرة، وعلى أي تعبير أو مشاركة سياسية؛ فعندما كنت أزور تونس لمناسبات مختلفة في التسعينات ومطلع الألفية الثالثة، وفي نقاشاتي مع المدافعين في لبنان عن النظام السابق الذي برع في إخفاء قمعه عبر اتباع بعض الوصفات الغربية “لإثبات ممارسة الديموقراطية” مثل مشاركة النساء في البرلمان والقضاء على الأمية… كنت أقول: طالعوا الصحف، لا وجود للصحافة في تونس، لا وجود للسياسة. إن آخر صفحة في أي صحيفة لبنانية فيها من الغنى والتنوع و”السياسة” اكثر بكثير من أول صفحة في جريدة تونسية “رسمية” لا تنشرسوى أخبار الرئيس وصوره وصور زوجته.

في هذا الوقت كان الجيل الشاب ينهمك في بناء شبكة تواصله، وفي وتمكين وجوده والتعبير عن الغضب والتمرد اللذين يعتمران في القلوب والعقول مبرهنين ان “السلبية” التي كانوا يوصمون بها هي قصور في قراءة الواقع والاكتفاء بتكرار كليشيهات جاهزة ظلت تعاين الواقع العربي من “خرم إبرتها”. فكان بعض المدونين ينقلون ما يعاينونه في الواقع من تجاوزات سرعان ما طاولت الميدان السياسي بالرغم من محاولات قمع وتضييق النظام على هذه الوسيلة أيضاً وبالرغم العراقيل التي كان يضعها في وجه المدوّنين. تتابع الباحثة ايضاً في الجزء الآخر من بحثها دور موسيقى الراب التي نجحت في الانتشار بسرعة  لما تتضمنه من انتقاد لاذع للأوضاع الاجتماعية كما انها تعرض احلام الاجيال الجديدة وتطلعاتها. وهي عبرت عن مشاعر اليأس وخيبة الامل من الحكومة بسبب غياب العدالة الاجتماعية واستشراء الفساد وانعدام تكافؤ الفرص وازدواج المعايير عند اصحاب القرار.  وهكذا نجد ان الشباب استخدموا تهميشهم للتغلب على التهميش.

أما البحث الأخير الذي أود الاشارة اليه هنا فهو البحث الأول في المحور الثاني “التفلّت من بنى سلطوية مهيمنة”، للباحثتين نادرة شلهوب وسهاد الناشف وهو بعنوان “أن تموت في القدس”. هو بحث لافت وخسارة ان المؤتمر الأخير الذي أقامته مؤسسة الدراسات الفلسطينية في السابع من الشهر الجاري وتتبع وضع القدس في الخطابات العربية والاسلامية والعالمية لم يتطرق إلى مثل هذه المواضيع الانتروبولوجية التي تعاين القمع الذي تمارسه سلطات الاحتلال على الفلسطيني في حياته وفي مماته.

فالموت هو أيضاً مناسبة يحوّلها الاحتلال الى وسيلة فعّالة لزيادة السيطرة والتحكم بحياة الأحياء و”بلا حياة” الأموات اذا أمكن القول. فالانتقام ممن يستشهدون في عملياتهم ضد الاحتلال يتم عبر احتكار جسد الشهيد وتأكيد سيطرتهم عليه عبر تحويله الى مؤسسة الطب العدلي لتشريحه واختراع العراقيل لتأخير دفنه. ففي القدس وفي سياق الموت يَسِم المحتل رموز خطابه وممارسته الاستعمارية على جسد الفلسطيني الميّت كما الحيّ وفي المقابل يقوم الخطاب الفلسطيني الوطني بنحت مقاومته على جسد الميّت بأدوات الحيّ .

اسرائيل تستخدم جسد الميّت الفلسطيني لتحافظ على فاعليتها السياسية ولكي تثير الفوضى السياسية – الاجتماعية لدى الفلسطينيين. لكن الفلسطينيين في المقابل يقاومون الفضاء – الزمان الذي فرضه الاحتلال (بوضع العراقيل البيروقراطية المعقّدة وجدار الفصل واقامة الحواجز والحاجة الى تصاريح لكل حركة…) بإنتاج فضاء – زمان بديل عبر استعمال عملية الانتقال بين المناطق الفلسطينية المبتورة والمقطّعة عن بعضها البعض كما هو الحال بين رام الله والقدس كوسيلة للتعبير عن التحدي وإرادة توحيد المجتمع الفلسطيني ومقاومة تقطيع أوصال المجتمع الذي فرضته اسرائيل بتفكيكها الفضاء – الزمان. يصبح الموت الوسيلة الوحيدة لتحقيق حق العودة وهذا ما ورد في رواية ميسون التي شعرت أنها ولدت ابنها مرّة أخرى عبر نجاحها في نقله من رام الله من اجل دفنه في القدس ولو عبر الاحتيال على الحاجز والادعاء انه لا يزال على قيد الحياة.

ومن هنا أهمية الرمزية في فيلم ايليا سليمان يد إلهية الذي عبّر عنها في ختام الفيلم برقصة على طريقة الكونغ فو وما شابه من الرياضات والطرق الروحية الآسيوية والتي تسمح للجسد بالتغلب على قوانين الجاذبية وعلى قوانين الحياة والموت. البطلة تصدّ الرصاصات بمجرد مدّ كفّ يدها وتسقطها عبر التفافات جسدها الاقرب الى السحر. فيقف المحتل عاجزاً عن التقاط هذا الجسد المتمرّد المقاوم والسيطرة عليه و”إماتته”.

انتصار رمزي – مستقبلي لجسد ووجود منتهكين حتى الآن.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى