صفحات العالم

تبنّي الطروحات الظلامية أفضل خدمة تقدم لنظام دمشق!


نقولا زيدان

لم تكن حادثة اغتصاب رجال أمن تونسيين لفتاة عادية حدثاً طاغياً لكنه كشف إلى أي حد يصل الفساد المستشري في أجهزة أمن السلطة التونسية الجديدة وانها ليست بتاتاً افضل من تلك التي أطاحت بها وحلت محلها وان الحد الفاصل بين حقوق الانسان والمواطن وتسلط رجال الأمن وعبثيتهم هش ضئيل قابل للاختراق، تعززه الروح الظلامية وعقلية محاكم التفتيش البالية المعششة في السلطة الجديدة غير القادرة فعلياً على ان تشكل البديل الثوري الذي تطمح إليه الجماهير التونسية بل شعوب البلدان التي شهدت أحداث الربيع العربي وتداعياتها.

بدت الحادثة استثنائية ومعيبة أول الأمر إلا أنها ما لبثت أن طرحت على بساط البحث والنقاش المزداد حدة وتصاعداً في النبرة صدقية السلطة الجديدة التي جاءت إلى الحكم بعد الاطاحة بزين العابدين بن علي (14 يناير 2011) والتي عرفت بثورة الياسمين؛ وفي وقائع الحادثة ان ثلاثة من اعوان الأمن (agents) استوقفوا شاباً وفتاة في الليل في أحد أهم شوارع تونس العاصمة وفي سيارتهما الخاصة وهما في وضع غرامي، ورغماً من محاولة الشاب اقناع رجال الأمن ان الفتاة خطيبته، إلا أنهم قاموا بتوقيفها واقتيادها الى مكان معزول حيث تناوبوا على اغتصابها. أمام الوقائع الدامغة اضطرت وزارة الداخلية التونسية لتوقيف هؤلاء والتحقيق معهم. الا ان افادات المعتدين جاءت سيئة للغاية عندما حاولوا تبرير فعلتهم بالقول ان وضعية الفتاة أثناء توقيفها كانت مثيرة وانهم ظنوها عاهرة وكأنهم بذلك يبررون اقدامهم على اغتصابها. وسرعان ما أدت ملابسات الحادثة الى تفجير تداعيات وأبعاد اتخذت طابع أزمة سياسية حادة بين الحزب الحاكم (حزب النهضة) وحلفائه من جهة والمعارضة الديموقراطية من جهة اخرى. فقد طرحت في الحال مسألتان هامتان: الأولى رؤية النظام الحاكم الجديد للمرأة التونسية ودورها في المجتمع وحقوقها، والثانية، مسألة الحريات الشخصية والعامة.

وكانت هاتان المسألتان قد تعرضتا في السابق لنقاشات حامية طاولت جميع الأوساط السياسية والنقابية. فبالرغم من ان حزب النهضة الاسلامي يضم في صفوفه بعض المتنورين الذين سبق لهم أن تعرضوا للتنكيل والاعتقال أيام حكم بن علي البائد، فإنّ هؤلاء هم أنفسهم راحوا يسيرون في خط انحداري فيقدمون التنازلات حيال تصاعد الطروحات السلفية وممارساتها المعادية للديموقراطية مثل انزال علم الاستقلال التونسي عن مبنى الجامعة الأم واستبداله بعلم سلفي دخيل، وتكرار الاعتداءات على محطات التلفزة الخاصة المعروفة باتجاهها العلماني وكذلك بعض الصحف والمجلات الميالة للاتجاه الديموقراطي نفسه. وبالمقابل ايضاً بدأت اصوات سلفية متشددة تطرح مشكلة السفور والحجاب والسلوك العام للمرأة التونسية فتنادي بضرورة الزامها بسلوك معين كأن تلتزم منزلها وتنصرف لانجاب الاولاد وتربيتهم الخ.. ورفضهم مزاولتها أية وظيفة عامة أو مهنة حرة. وقد فاقم الوضع حدة لجوء السلطة الجديدة الى قمع بعض التظاهرات المطلبية السلمية بقوة السلاح ووحشية بالغة ما ذكر التونسيين بممارسات العهد البائد الدموية.

اتجاهان في حركة الربيع العربي علينا الاقرار بهما ولا فائدة ولا طائل من تجاهل هذا الواقع وإنكاره، بل علينا التعاطي معه كأمر مفروغ منه وواقع معاش على قاعدة الحؤول دون أية نكسة أوحركة مضادة تطيح بكل ما هو ايجابي في ما حققناه وأنجزناه. الأول هو الاتجاه الاسلامي والثاني هو الاتجاه الديموقراطي. إلا أن هذا لا يعني أن الاتجاه الاسلامي لا يختزن في أحشائه وثناياه عناصر ديموقراطية وقوى لها تجربتها الخاصة في النضال الديموقراطي كما بالمقابل فإن الاتجاه الديموقراطي نفسه يضم في صفوفه عناصر وقوى ذات اتجاهات اسلامية. فالفصل بينهما لا يمكن أن يتم بشكل قاطع صارم ونهائي، فثمة تداخل في العلاقة بين الاتجاهين علينا إدراكه ومعرفته والاهتمام به والتركيز عليه وبلورته وذلك لتخطي المصاعب والمشكلات المطروحة. فالسلفيون المتشددون يضغطون بمطالبهم ومنطقهم القسري الالزامي على سائر القوى التي فجّرت الربيع العربي وبالأخص الاسلاميين المعتدلين منهم كالتمسك بحرفية النصوص الشرعية والتقاليد المتزمتة للسلف الصالح والتي لم تعد تتوافق في بعض جوانبها مع التطور العلمي وروح العصر وتزدهر بين هؤلاء روح معاداة كل ما هو أجنبي أو مختلف (Enophobie)، كما يشكل هؤلاء تربة خصبة للارهاب والعنف. تماماً كما هي الحالة بالنسبة للراديكاليين اليساريين واليسار المغامر. ويجدر بنا البحث عن نقطة ما متوسطة، وحكومات وفاق وطني لدرء خطر أولئك وهؤلاء.

وتبدو مسألة المرأة العربية مادة دسمة يحتدم حولها النقاش، فمن الخطأ بمكان الاصغاء والانجرار والخضوع للمنطق المنادي بإعادة المرأة الى منزلها وضرورة التزامها به وانغلاقها فيه واقتصار دورها الاجتماعي على انجاب الأولاد وتربيتهم فحسب، ذلك أن حوالى مائتي سنة تفصلنا عن عصر النهضة عندما شكلت مصر موئلاً

وملاذاً لها منذ أن ركب رفاعة الطهطاوي البحر الى فرنسا لمتابعة دراسته الجامعية. لقد كان قاسم أمين سباقاً في نصرة المرأة العربية ونزولها الى ميادين العمل وقد كانت روز اليوسف وملك حفني ناصف ونازك الملائكة وسهير السعدني ووداد سكاكيني ونوال السعداوي وغيرهن الكثيرات بمستوى عال في مجال الفكر والأدب والحياة العقلية.

إن أفضل خدمة نقدمها الآن للنظام الأسدي في دمشق هي تبنينا طروحات ظلامية من هذا القبيل وقد تفوق في عدائها للثورة السورية.. وايذائها لها تورط حزب الله الجدي والفعلي نفسه في المعارك الدائرة هناك. فلا نحيدن قط عن أهداف الثورة في الحرية والديموقراطية، فما فجّر عداؤنا للنظام الدموي الاسدي ادعاءاته العلمانية وهو الغارق حتى اذنيه في المذهبية وتشكيله واجهة للنظام الظلامي الايراني وتلاعبهما معاً بالطوائف اللبنانية، بل بالدرجة الأولى نهجه الفردي الديكتاتوري، وطبيعته المعادية للديموقراطية وحقوق الانسان. ان حقوق المرأة وكرامتها ودورها الطليعي المنتج في المجتمعات العربية لا يمكن أن تنفصل عن معركة التحرر وانتصار الديموقراطية، فهي تحتل مكان القلب في هذه المعركة، معركة حقوق الانسان. إن هذا هو الطريق الصواب للثورة العربية وما من طريق آخر. هذه دروس تعلمناها من الثورة الفرنسية العظمى (1789) والثورات الصينية والجزائرية والفيتنامية. ودور المرأة المقاتلة والطليعي أثناء احتدام المعارك هو بالأهمية ذاتها وإياها في مرحلة البناء والنهوض بعد التحرير.

الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى