صفحات الثقافة

جبهة النصرة” و”بلاك بلوك”: توأم العصر

 

رشا الأطرش

 جيكا” حيّ. يرتدي قناع “غاي فوكس” تيمناً ببطل فيلم V for Vendetta، وينزل إلى الشارع متشحاً بالسواد. يقاتل بالمولوتوف، بلا زعيم ولا تراتبية. ها هو قد عاد لقب الناشط جابر صلاح جابر، الذي توفي إثر مواجهات مع الشرطة المصرية في القاهرة قبل ثلاثة أشهر. “جيكا” الثاني يتقمّصه، ومعه الوجه – الرمز لمجموعة قراصنة “أنونيموس” الإلكترونيين. “جيكا” الحيّ يعِد بمائة مثله، بألف، لا يخلفونه، بل يتوالدون من قِناعه. عاطل عن العمل منذ سنتين، ويريد أن يكون في “كل مكان فيه ظلم للناس”. قال لصحافي غربي إن “الأخوان المسلمين خانوا الثورة… وأداؤهم الحكومي ضعيف”، وإن كان لا يرى الاستقرار السياسي ضروة للنمو الاقتصادي. ناقشه ما شئت، لكنه في الميدان، وله رفاق شهداء.

هكذا بُعث “جيكا” في مجموعة “بلاك بلوك” المصرية. يركل الحياة بكل قوته، يهيم بها ويحقد عليها في آن واحد، وليس للدِّين شأن في أجندته النضالية، بل ربما العكس هو الصحيح. وعلى صفحة “فايسبوك” ذات اللوغو الأسود والشعار القائل بالإنكليزية “استعدوا للجحيم… الفوضى لمناهضة الظلم”، يدعو إلى أوسع مشاركة في “يوم تجميل وتنظيف البلد”، كنساً لقاذورات الشوارع وطلاءً لأرصفتها، ودائماً بالقناع والأوشحة والقبعات، مموّهة أهل “الكتلة السوداء“.

وفي مكان ما في سوريا، شاب سوري، أو غير سوري، يرى في “الشيخ أسامة بن لادن” رمزاً، لا بحر قادراً على ابتلاع قامته بعدما تجاوز شخصه. بالنسبة إلى هذا الشاب، تأسيس إمارة إسلامية بعد إسقاط بشار الأسد، قضية عُمْره العابرة للحدود، وفداها عُمْره. عضو “جبهة النصرة” هذا، مجاهد منضبط ومنظّم، لكن نظامه لا جنسية له، ولا لهجة محددة، ولا والِدَين. أخوته في دِينه. قد يكون من عائلة برجوازية، أو تربّى في الشارع، لا فرق. وعلى رغم الفروقات بين أهدافه وإيمانات “جيكا”، يصحّ أن يكون… توأمه، في عصر الثورة المعلوماتية، والعلوم الجينية، والفنون كسّارة القوالب، والجيوش التي تخوض حروبها بـ”أفاتار” ألعاب الفيديو.

جيكا” وفتى “النصرة” صنوان لحراك اليوم وهنا، وإن فضّل كثيرون تكتيك حركة “كفاية” وعلمانية كتائب سورية صغيرة مناهضة لبشار الأسد.

كلام كثير قيل عن الأناركية العائدة من بوابة “الربيع العربي”، في صفوف “بلاك بلوك” ومثيلاتها. هي المجموعة المحيّرة حدّ أنها اتّهمت بالنقيضين: التبعية لفلول حسني مبارك، بعدما هاجم شبانها مقرات “الأخوان”، وبأن شبابها مدسوسون من الحكومة لإفقاد المعارضة مصداقيتها. وكتب عن عودة مذهب الفوضوية، وأصول هبّة “بلاك بلوك” الأوروبية، في سبعينات القرن الماضي وتسعيناته، ضد القوى النووية وتقييد الإجهاض وسياسيات العولمة.

وفي المقابل، صعد كلام أكثر عن ثورات عربية رفعت قشرة الاستبداد والعسكرتاريا، لتتكشّف قصارى “نصرة” الإسلام السياسي، كثمن متوجب على مجتمعات متخلّفة، حتى عن ركب الحداثة التي صار العالم في ما بعدها. والحال، إن حتى بعض أكثر الثوار السوريين ليبرالية ويسارية (على قلّة حظوظهم في الظهور الإعلامي والتسلّح)، لم يستمرئوا إدراج “النصرة” في قائمة الإرهاب الأميركية. فعلى رغم كل شيء، “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة“.

وبين الأناركية والإسلام السياسي/الجهادي… يبدو التحليل منقوصاً، قديماً، ناحياً إلى الفرز والتجزئة، وإن صحّ أكثره. بعض التأمل قد يظهّر “بلاك بلوك” و”جبهة النصرة”، على تنافرهما، في هولوغرام راهني واحد، منبثق عن الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، كما الكثير من مجموعات الثورات أشباههما (تنظيم القاعدة يجنّد عناصره عبر الشبكة العنكبوتية منذ أكثر من عقد، وبلاك بلوك تستخدمها لتنسيق تحركاتها). السَّير بفعل “الموجة”. لا أحد “يدفع” أحداً أو يقوده. عمل يغوي بآخر، فينضم فاعلون أكثر منهم تابعين، جالبين معهم رزمهم من أفكار وملابس وبُنى اجتماعية وثقافية وطبقية. الشكل أو المبنى قوام المدرسة القديمة، لكنها الآن البنية أو المنظومة، والمروحة عريضة من العبث إلى التنوع. هو الإحساس بكَونية ما، عابرة للحدود والجماعات، روابطها كبرى وصغرى، من أوروبا إلى مصر، ومن أفغانستان إلى سوريا. لا سلطة مركزية، بل فروع لا جذر ملموساً لها. المحلي يوازي العام قيمةً، والخاص مرآة لفكرة إنسانية قد تُجفل جذريتها البعض، وقد تسحر البعض الآخر. لا احتكار للحقيقة. الكل على حق بقدر شعور الفرد بأنه على حق. هو قيام “الإبداع”، رومانسية وتطرّفاً، وأحياناً انتهاكات. “إبداع” يحوّل تديّناً تقليدياً إلى عقيدة للقتال/القتل. أو يتلبّس زيّاً من فيلم ملهِم ليطابق مبادئ طوباوية. الإبداع عنصر السيطرة، أكثر بكثير من الموارد الاقتصادية والأطر الحزبية والدستورية.

ما عادت الموديلات السياسية والنضالية المعروفة تسري. وهذا ما يحتّم تفكيراً آخر في الحدث العربي الراهن، يكون ابن يومه وساعته ومتغيراته، أسوة بزاوية تقييم ما عادت ترفاً ذهنياً: الناس يعيدون صياغة علاقاتهم بذواتهم وببعضهم البعض وبصورة الدولة والسلطة.

هو أوان التجارب اليومية وتراكمها في السياسة وفي الشارع. والدليل؟ خبا سريعاً رد “الإخوان” في مصر على “بلاك بلوك”، باستصدار ترخيص حكومي لـ “وايت بلوك إسلامي” له مقرات في بنايات… وإن حُمّلت بياناته على مواقع إلكترونية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى