صفحات العالم

القصة الحقيقيّة (والمفزعة) لغشّ فولكسفاغن/ نهلة الشهال

 

 

في 18 أيلول (سبتمبر)، أعلنت «وكالة حماية البيئة الأميركية» أن شركة السيارات الألمانـيـــة فـــولكسفــاغــن، وضعت في بعض سياراتها أجهزة إلكترونية «معدلة» لقياس التلوّث، آلات ملعوب بها لتعطي نتائج غير مطابقة للواقع حينما تُفحَص انبعاثات أوكسيد الآزوت الملوِّث الذي تنفثه هذه السيارات العاملة على الديزل. هذه فضيحة طبعاً، لكن مكمن «المفزِع» ليس هنا!

اهتزّ عرش الشركة العملاقة، فخر الصناعة الألمانية. يتجاوز عدد السيارات المزوّرة 11 مليوناً، منها نصف مليون في أميركا و9 ملايين في أوروبا. وقد بدأت الشركة تستعيدها وتعرض تعويضات على مقتنيها في الولايات المتحدة: ألف دولار نقداً وتقديمات، ومعها ألفا دولار خفْضاً لقيمة شراء سيارات جديدة من الشركة، بدلاً منها. فالمالكون احتجّوا ليس على التلوّث أساساً، وإنما على تسبّب هذه الفضيحة بخفض قيمة سياراتهم، ولأن هدف الشركة من وراء هذه «البادرة التجارية اللطيفة» الحفاظ على مستوى البيع ذاته في أميركا، حيث اقتناء سيارة من ماركة أوروبية علامة على التميّز. أي أن التعامل على هذا الصعيد، من جانب الشركة والمستهلكين معاً، ينحصر في البيزنس البحت. حسناً، هذا المنطق فضيحة في حدّ ذاته، لكن مكمن «المفزِع» ليس هنا!

وفي الوقت نفسه، ومصادفة، قرر الاتحاد الأوروبي تغيير المعدلات المسموح بها للتلويث بسيارات الديزل، ورفعها باتجاه مراعاة مستوى التلوث «الفعلي» أثناء قيادة السيارة في الطريق، وليس ذاك النظري المحدّد في المختبر. والوجهة معدة منذ 2010، لكن صدور القرار الآن بدا وكأنه يقصد التخفيف من نتائج المشكلة على الشركة. أما التبرير حيال اعتراضات البيئيين، ففضيحة إضافية: هناك 12 مليون عامل في هذا القطاع في أوروبا، ويجب تيسير أموره حتى لا تحدث انهيارات فيه. وهو المنطق نفسه الذي يجعل الصناعيين ومِن خلفهم السلطات في بلدانهم ومعها روابط رجال الأعمال، يحاولون الالتفاف على موضوع الحدّ من التلوث إجمالاً، والدخول في مفاوضات قاسية اليوم لمنـــاسبة القمــة العالمية للمناخ التي ستعقد الشهـــر المقبل في باريس. والغاية تجنّب اتخاذ قرارات مضرّة «بهم»، حتى لو كان ذلك يعني أن الكرة الأرضية تتعرض لخراب متسارع وقاتل، جارٍ فعلاً، وقد يكون مُبـــيداً (يقول أحد الشعارات البيئية تحضيراً لتلك القمة: «ذلك تماماً ما حدث للديناصورات في السابق!»). فيظهر بقصر نظر غريب سبق لنا معاينته عند انكشاف مشكلة ثقب الأوزون، أن الربح أهم من مصير الطبيعة والإنسان. لكن مكمن «المفزِع» ليس هنا!

وهناك أيضاً سؤال يتعلق بعدم اكتشاف الاحتيال إلا اليوم، بينما هو ممارَس منذ ســت سنوات على الأقل (السيارات مصنّعة بيـــن 2009 و2015). وتبرر ذلك «وكالة حماية البيــــئة الأميركية»، وهي وكالة فيديرالية تابعــة للحكومة، بأن موازنتها خفّضت بنسبة 21 في المئة منذ 2010، ما أدى إلى إغلاق العديد من برامجها، ومنها برنامج «روفر» الذي كان مخصصاً تحديداً لهذا الجانب. وهي عادت بعد الاكتشاف الأول، فأعلنت أن هناك احتيالاً مشابهاً يخصّ سيارات أفخم، تنتجها الشركة الألمانية وتعمل بالبنزين هذه المرة، كسيارات أودي وبورش. انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون من هذه تمثل تسعة أضعاف المسموح به في الولايات المتحدة، بينما هي 40 ضعفاً في السيارات الأولى الشعبية! لكن الأوروبيين يتبرمون ويقولون أن المقياس الأميركي أكثر تشدداً في هذا المجال مما هو متّبع لديهم (والاحتيال في آلات القياس يبدو أنه صمّم لغايـة تجاوز هذه «العقبة» خصوصاً، والتمكّن من النفاذ الى السوق الأميركية). وهذه كلّها أيضاً فضائح لعلّها صغيرة وتهون بالمقارنة مع سواها. وعلى أية حال، فمكمن «المفزع» ليس هنا.

… ما المفزِع إذاً؟

السبب الذي يقف خلف الاحتيال! هناك طبعاً غلبة منطق الربحية على كل شيء، وهناك هدف غزو السوق الأميركية، وهناك الأسباب الأخرى، وفوقها كلّ ما شئتم. لكن رواية أخرى راحت تظهر، تحكي عن خوف المهندسين من مصارحة مارتن وينثركورن، المدير العام السابق للشركة الذي أجبر على الاستقالة في 21 من الشهر الفائت. الرجل كان تباهى بأن شركته تتعهد خفض الانبعاثات الملوِّثة بنسبة 30 في المئة حتى 2015. كان ذلك في 2012، وهو تسلّم إدارتها في 2007، خلفاً لمدير آخر كان هو أيضا «ديكتاتوراً». الوعد مستحيل التحقيق تقنياً وفق المهندسين والخبراء. لكن أحداً لم يجرؤ على معاندة الرجل. واليوم، تبحث لجنة تحقيق داخلية عن المذنبين والمتواطئين مع التزوير لمعاقبتهم.

وليست المسألة أن ذلك المدير كان شرس الطباع شديد الغضب، كما كان سلفه وسلف سلفه، وكانوا جميعاً لا يطيقون النقد، بل هناك «مركزية» صارمة في الإدارة تجعل المعارضة والرأي المخالف غير واردين. حفّز هذا طبعاً استدعاء المعلومات القديمة عن كيفية تأسيس هذه الشركة، ومعنى اسمها («سيارة الشعب»)، وعن رعايتها من جانب هتلر، وعن السيارة الاقتصادية والزهيدة الثمن التي كُلفت إنتاجها (تلك المسماة «الخنفسة»). ينزلق الموضوع ها هنا الى الأيديولوجيا! فلو تركنا المزاح جانباً، فالمفردات التي تخص الخوف والخضوع تشبه فعلاً ما يجري في الواقع السياسي المستبد، حيث يبرر أدولف أيخمان، رئيس الغستابو النازية، أثناء محاكمته، أنه نفّذ الأوامر الصادرة إليه وكان مجرد موظف منضبط، «حصاناً من الأحصنة التي تجر العربة، لا أملك أن أذهب شمالاً ولا يميناً خارج ما يريده السائق»… ويبرر وزراء ومسؤولون من فترة حكم صدام حسين في العراق، أنهم كانوا موقِنين من سوء قرار اجتياح الكويت مثلاً، لكن أحداً لم يجرؤ على مصارحته بذلك.

الأدهى، أن سلسلة الأكاذيب والمواراة تصــبح مطلقة لا متناهية، بحيث يجري عمداً إخـــفاء الحقائق عن المستبّد، إرضاء لشعوره وتطابقاً مع الصورة التي كوّنها عن نفسه وعـــن العالم. وكثيراً ما فوجئ هؤلاء مثلاً بأن النـــاس لا يحبونهم، أو بأن إمكـــانات أنظمتهم الاقتصـــادية أو العسكرية ليست أبــداً كما يتصـوّرونها. بل هناك وقائع تُخفى أو تُبدَّل، تخفيفاً منها حين لا تلائم، أو تضخيماً لها لو جاءت مطابقة لهوى الزعيم. فإذا كــان الضرر من وراء هذه الأنماط ينحصر في حالة فولكسفاغن ببعض الخسارة، أو حتى باضطراب المجموعة وتأذي مصالحها، فهو في أسّه وأصله يتسبّب بمصائب مهولة.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى