صفحات الثقافة

فاطمة ناعوت في حواراتها المتخيلة/ شادي لويس

 

 

يرد المرحوم، برنارد شو، على الهاتف من العالم الآخر، ويخبرها بأنه قد سمع عن قضيتها : “نعم، وصلتنى بعضُ أخبار عما يحدث عندكم فى مصر العريقة بعد ثورتين كبيرتين نادتا بالحريات والعدالة، لكنهما أسفرتا عن نكوص إلى القرون الوسطى…”، هكذا تصف فاطمة ناعوت الوضع المصري، في مقالها الأخير بجريدة المصري اليوم: “ماذا قال لي برنارد شو ؟”. لا تكتفي ناعوت بالحديث  على لسان الموتى ، فهي قد صرحت في السابق، تعليقا على تأييد الحكم بسجن الروائي أحمد ناجي، بتهمة “خدش الحياء”، بأن: “مصر تعيش أسود عصور رجعيتها وظلامها حين تسمح بسجن أدبائها.”

لكن هل يعنى ذلك أن ناعوت قد راجعت تأييدها المطلق للنظام الحاكم، والسيسي على وجه الخصوص، الذي وصلت معه مصر إلي أحلك عصورها ؟  في حوارها الأول بعد تثبيت حكم السجن عليها بتهمة ازدراء الأديان الأسبوع الماضي، أكدت ناعوت على أنها لمست جدية الرئيس في ما يخص “الحراك التنويري”، وأنه في آخر لقاءاتها الثلاثة به قد أوصاها : ” أنتم ضمير هذا الوطن، انطلقوا واشيعوا الثقافة والتنوير، وأنا في ظهركم”. تلقي ناعوت باللوم على جهتين، أولا أجهزة الدولة التي لا تساعد الرئيس، ” فالسيسي في وادٍ…ومؤسسات الدولة في وادٍ آخر”، وثانيا المثقفين بسبب عدم وقوفهم صفا واحدا أمام المتأسلمين والجهلاء، ولانعزالهم في أبراج عاجية، بحسب تعبيرها.

ناعوت، كما غيرها من التنويريين الجدد، تستلهم معركة أصولية تاريخية بين النور والظلمة، بين الأقلية التي تحمل مشاعل الثقافة وبين العامة من الجهلاء، تستشهد ناعوت في مقالاتها، أكثر من مرة، بمقولة “شو” الأثيرة لديها: ” أثنان بالمئة من الناس يفكرون، وثلاثة بالمئة من الناس يعتقدون أنهم يفكرون، وخمس وتسعين بالمئة من الناس يفضلون الموت على التفكير”. تشير ناعوت مراراً وتكراراً، لانتسابها لسقراط، ولاستعدادها لتجرع سم السجن، احتراما للدولة والقانون كسلفها ، وأنها تدفع أثمان التنوير الباهظة مثلها مثل: محفوظ وفرج فودة والحلاج والسهروردي وابن رشد والمقفع. ترى ناعوت، كمعظم انصار التنوير الجديد، أن الخلاص في الباليه والأوبرا والشعر، وتتخذ موقفاً تقدمياً من قضايا الأقليات الدينية والنساء، وحقوق الحيوان والتي بسببها عوقبت بثلاث سنوات في السجن. لكنها أيضا، مثل الكثيرين من أنصار تيارها، لا ترى غضاضة في تجاهل المذابح والأختفاء القسري والاعتقالات وأحكام الإعدام بالجملة  والتعذيب حتى الموت لمعارضي النظام أو العامة ، بل ولا تدع مناسبة تمر دون الإعلان عن تأييدها المطلق للرئيس السيسي ونظام الثلاثين من يونيو.

تبدو ناعوت، بالفعل صادقة في قناعاتها، رغم تناقضاتها البادية، فذلك الإيمان الأصولي بمعركة الخير والشر الأزلية ، بين الفرقة الناجية من المفكرين والأغلبية الساحقة من العامة التي تفضل الموت على التفكير، هي معركة مصيرية بالتعريف، تستدعي تنازلات أخلاقية  مؤلمة، وموائمة للأوليات وإعادة ترتيبها. لا تثق ناعوت بالعامة، ففي تصريح وراء آخر، تؤكد أن الشعب، المتواكل مرة “كطفل معوق”، والكسول مرة أخرى، والجاهل مرات، “محتاج يتربى..كويس”. لا تثق ناعوت أيضا في مؤسسات الدولة، ولا المثقفين المتشرذمين والقابعين في أبراجهم، وتكيل النقد للمحكمة الدستورية العاجزة عن حماية الدستور، وللدستور نفسه”الذي لا يعول عليه” والذي طالبت بألغائه طالما لا ينفذ. إذا، أين تجد ناعوت نصيرا في معركتها الوجودية ، ورسالتها المقدسة ؟ لا تقود تلك الصورة الملحمية، إلا لنبؤة مسيحانية عن المخلص، فلم يكن أمام ناعوت وفريق من المثقفين المصريين سوى إسقاط كل أحلامهم وكوابيسهم النبوية على السيسي، المنقذ، الذي جاء لتربية الشعب وجهاله، ولو قسرا.

ترفض ناعوت أن توجه لوماً للمخلص، أو أعتباره مسؤولا ولو بشكل سياسي ، وهو رأس السلطة التنفيذية بسلطات شبة مطلقة ، عما لحق بها من ظلم وتنكيل، وتصرح تارة برفضها عفواً رئاسياً، وتارة أخرى ترفض أن تطالب الرئيس بالدفع لألغاء قانون ازدراء الأديان أو تعديله. وفي مقالتها الأخيرة، بجريدة المصري اليوم، الأسبوع الماضي، بعنوان “لقاء الرئيس الذي لم أحضره”، والذي تقر فيه بأنه اللقاء الأخير  بين الرئيس والمثقفين، هو الوحيد الذي لم تدعى له منذ وصول السيسي للحكم، ربما بسبب قضيتها، تتخيل ناعوت حواراً بينها وبين السيسي، لا يحمل لوماً ولا عتاباً، بل فقط دعوة للتعليم، أي “تربيه الشعب”، تشكر ناعوت الرئيس في النهاية لتوجيهه “للبرلمان بسن قانون يحمي الدستور ويحمينا من تغول الغلاة.”

يبقى السؤال هنا هل لنا أن نتضامن مع ناعوت وقضيتها ؟ بالطبع، يظل التضامن غير المشروط  في قضايا حرية التعبير والأعتقاد ، واجباً بغضب النظر عن مواقف أصحابها السياسية والأخلاقية، وشخوصهم. لكن ناعوت تستدعي أكثر من التضامن، ففي تيهها الدون كيشوتي، وحواراتها المتخيلة مع الموتى والخالدين ، شو وماعت وإيزيس ، و مع الرئيس الذي لا يبتغي مقابلتها، تبدو ناعوت وتيارها التنويري أليق بالشفقة أكثر من أي شيء آخر.

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى