صفحات الحوار

كوليت بهنا: ليس الآخر جديداً أو طارئاً

 

حاورتها: ديمة ونوس

ليس البقاء في سوريا مجرّد بطولة. إنه قدرة هائلة على التحمّل ومقاومة الإنهاك وربما الجنون. وأيضاً هو رغبة في المشاهدة وفي إبقاء الذاكرة حيّة. السوريون الذين بقوا طوعاً أو قسراً، خلقوا هناك حياة جديدة، بإيقاعات يجهلها سوريّو الخارج. يعيشون في مكان لا نعرف معالمه جيداً. أو أنه لا يزال في ذاكرتنا، ذلك المكان الذي تركناه. ذاكرتهم البصرية والسمعية ليست ذاكرتنا كلّنا. همومهم ليست كهمومنا، وأحلامهم كذلك. الكاتبة والصحافية كوليت بهنا، ما تزال في دمشق. تكتب لنا من هناك عما تشاهده وتسمعه وتحسّ به. تكتب بلا أي عتب أو لوم. وروحها الساخرة، تخفّف من وطأة المأساة ومن مرارة العيش وسط كل ذلك الدمار. عن إصرارها على البقاء في دمشق وعن حياتها هناك، كان لـ”المدن” هذا اللقاء معها.  

–                    أنت من القلائل الذين لم يخرجوا من سوريا. أقصد القلائل المهتمّين بالشأن العام أو العاملين في المجال الإبداعي. ما الذي يدفعك للبقاء؟

لم أفكر بالمغادرة كي أطرح على نفسي مثل هذا السؤال. ربما معاناة الناس ومقدرتهم على تحمّل كل هذه الأهوال منحتني رصيداً من القدرة على التحمل والصبر يكفيني حتى نهاية العمر. لكن لا أخفي أن أهم سبب للبقاء هو طبيعتي (الفضولية) ومهنتي. أنا كاتبة. كيف سأغادر وأفوّت علي هذه الفرصة التاريخية لرؤية تحوّلات حياتنا. من سيحكيها لي بكل هذه الدقة التي أراها فيها من قرب؟ من سيقصّ علي كل التفاصيل اليومية التي أعيشها بطزاجتها وحرارتها وصدقها؟ بقائي يحمي علاقتي مع ذاتي، أنني لم أمضِ تاركة من حولي. لا أريد أن أبكيهم من بعد. أنا هنا لأتلمّس دموعهم وأمسحها بيدي وأؤازرهم قدر الامكان. اليوم، لدي مشاعر مختلطة وصعبة. لست قادرة بعد على اتخاذ مثل هذا القرار الصعب. وفي الوقت ذاته أحتاج إلى تجديد روحي والتنفس. كنت أنتظر، وتبيّن أن هذا الانتظار بات مثل “انتظار غودو”. ستطول الأمور ونشقى أكثر. لا إحساس بأن الغد سيكون أفضل. قد أخرج، وقد أبقى مع الشقاء إلى الأبد. لا قرار حاسماً بعد. الأمر يشبه خيطاً من النايلون يحزّ على العنق.

–                    عملتِ في الصحافة والأدب والدراما، هل توقفتِ عن العمل خلال السنوات الثلاث الماضية؟ هل تكتبين؟

لم أتوقف عن الكتابة للصحافة كوسيلة عيش حالياً. أما الكتابة الإبداعية عما يحدث فالأمر مؤجل وقد يخرج ما أخزّنه في الذاكرة ضمن مشروع أدبي أو بصري. لا أدري، لم أعد أخطط لأكثر من ساعتين. في الكتابة للتلفزيون خضت تجربة مهمة في بداية الأحداث وكتبت مسلسل “فوق السقف” ويحكي عن الأحداث بشفافية في بداياتها السلمية، لكنه للأسف أوقف في حلقاته الأولى. سأكتب الدراما من جديد حين يتوفّر لي مناخ حرّ للكتابة بمصداقية، لا أستطيع أن أكتب أعمالاً من نوع “بانادول”.

–                    هل ما زال باكراً الخوض في أعمال إبداعية عن الثورة السورية؟

لا ليس باكرا أبداً.. نحن نمضي في السنة الرابعة. لكن لم يقع بين يدي أي عمل أدبي بعد، وأتمنّى أن يتمكن أحدهم أو إحداهن من تقديم مثل هذا العمل المفترض أن يشكل علامة فارقة. قرأت عن بعض الكتب المهمة لأصدقاء ولم أتمكن من اقتنائها لأسباب. أيضاً في الدراما خرجت أعمال درامية تلفزيونية، بعضها رديء ومتعجّل وسطحي، وبعضها الآخر لا يخلو من الجرأة. أنا أغبطهم لأنهم استطاعوا الكتابة والتعبير نسبياً عما يحدث، لكنها ليست بالأعمال التي أتمنى أن نراها وأتفهم طبيعة المرحلة والمعوقات. أيضاً هناك أفلام سينمائية وثائقية وأخرى درامية، تابعت بعضها وهو جيد ويستحق الشكر لطبيعة العمل الوثائقي ومخاطره في مثل هذه الظروف الدموية. وأعتقد أن الوثائقي سيكون البطل للسنوات المقبلة. أتشوق أن أكتب أنا أو آخرون أعمالاً تحكي عنا بشكل أعمق. الكتابة في أي مجال إبداعي كانت دوماً كالمضي في حقل ألغام، لكن الألغام باتت أكثر عدداً اليوم وانشطرت لألغام مختلفة أكثر وحشية ومقدرة على الفتك.

–                    يستهلك “الفايسبوك” وقتاً طويلاً منك، هل هو الضجر أم أنه وسيلة للتواصل مع الخارج وتجنّب الإحساس بالوحدة؟

لا أنا عموماً لست من الناس الذين يشعرون بالضجر. خاصة في هذه الأيام حيث تتحرك الحياة حولك بسرعة وإثارة شديدتين ولا تترك لك فرصة لالتقاط أنفاسك. وعليه أتابع الفايسبوك لساعتين أو ثلاث في اليوم لأنه أحدى وسائل تكنولوجيا التواصل التي تساعد في مواكبة الحدث لحظة بلحظة. الفايسبوك بلا أدنى شك أحد أبطال المرحلة والكلمة لها تأثيرها. أحب التواصل عبره بكل تأكيد كمنبر واسع الانتشار. لأنه قدّمني للناس بشفافية، وشكّل لي في هذه السنوات الثلاث التي مضت نافذة التواصل الأقرب مع الأصدقاء الذين غادروا، واكتسبت صداقات جديدة ومدهشة ما كان لي أن أعرفها لولا الفايسبوك. بعضهم داخل دمشق أو في مدن سورية أو عربية أو أجنبية. أتوقف عند اكتشاف عوالم الصداقات في المدن السورية الأخرى تحديداً لروعتها. كيف كنت سأتعرّف على هذه النماذج من الحيوات الغنية في دير الزور أو حمص أو اللاذقية أو غيرها. هذه النافذة الزرقاء المسمّاة فايسبوك كسرت بيننا المسافات، تعرفنا على بلدنا وأبناء بلدنا من جديد لحظة بلحظة. نعيش معاً دفء اللحظة أو مرارتها أو عنفها وتطرفها. الفايسبوك اختراع عبقري له سلبياته بالتأكيد لكن ببعض التعقّل والضبط كأي اختراع في الحياة يمكن أن تكون إيجابياته أكثر بكثير.

–                     تغلب على كتاباتك لكنة ساخرة تخفف من المأساة، (لا أقصد هنا الاستخفاف بالمأساة ولكن التخفّف من عبئها)، هل هي محاولة لمقاومة بشاعة ما يحدث؟

أنا كائن ساخر بالجينات. اكتشفت أن سخريتي بدأت من الطفولة حين عثرت على دفتر علامات نهاية السنة وأنا في الصف الثالث الابتدائي وفوجئت أن المعلمة وجّهت ملاحظة لأهلي تصفني فيها بأني (مجتهدة.. مهذبة.. موهوبة.. لكن حبذا لو أخفف من السخرية). هذه المعلمة “الحربوقة”، من دون أن تدري، كانت ستقتل بداخلي هذه الموهبة ولا أتذكر ما هي السخرية التي كنت أمارسها ضدّها أو مع التلاميذ وأنا في الصف الثالث فقط! اليوم أشكر السماء التي منحتني هذه الموهبة فأنا أستمتع بها أولاً وحين لا أعثر على ما يمكنني السخرية منه أسخر من نفسي ولطالما فعلت. السخرية كما يقال أعلى درجات الفلسفة. رؤية خاصة لحياة البشر الشقية. كيف يمكننا أن نتحمل كل هذه الأعباء من دون سخرية منها؟ أحب الضحك المرّ الذي تولده السخرية. بالتأكيد هي ليست استهزاء على الإطلاق، وليست عشوائية ولها ضوابط، حيث من المعيب السخرية من شكل الإنسان أو لونه أو عرقه. اليوم كل ما يحدث حولنا يزيد جرعة السخرية، تنشط هذه الشيطانة في ظروف كهذه. هي كما وصفتها أنت، قد تساعد في تخفيف عبء أو مقاومة بشاعة ما يحدث كابتسامة عابرة مبللة بالدمع. المدهش أني اكتشفت بمساعدة الفايسبوك عدداً كبيراً من الزملاء والزميلات “السخّيرة” الجدد والمدهشين، وأفكّر أن نؤسّس نقابة أو ربما تنسيقية السخّيرة تحت شعار “اسخر عليها.. تنجلي”.

من أعمال الفنان السوري وسام الجزائري

–                    هل تشتاقين لحياتك قبل الثورة؟

قبل فترة وجيزة فقدت كل ملفاتي على الكومبيوتر بغلطة غير مقصودة أثناء “الفرمتة”. ملفات عمل تعود زمنياً 15 عاماً على الأقل. كان يمكن لمثل هذا الأمر أن يجعلني ألكم الشاب الذي ارتكب هذا الخطأ لو كنا في وقت مضى. لكني فوجئت أنني تعاملت مع الأمر بهدوء وكأن الأمر مقدّر أن تمحى ذاكرتي الحاسوبية وقلت لنفسي (حسناً.. سأنسى كل ما كتبته وأبدأ من جديد). اليوم وكأني أتعامل مع الحياة بالطريقة ذاتها. أنا لا أشتاق لأي شيء مضى قبل ثلاث سنوات. أشعر أني بدأت الآن. أفكر بالغد أكثر من الأمس. أفكر بالخلاص الذي علي/نا البحث عنه من أجل غد أكثر اطمئناناً، ولم يعد يعنيني الأمس البعيد. اليوم رغم كل الحزن والوجع أشعر أن له قيمة ويمنحني مشاعر مختلفة. لا أحن ولا أشتاق إلى شيء.

–                    هل تشعرين ببعض الغبن ممن خرج من سوريا؟ بغضّ النظر إن كان مضطراً للرحيل أم لا؟

لست قاضياً لأحاكم الناس. من خرج لظروف قاهرة هو حر. ومن بقي رغم ظروفه القاهرة أيضاً هو حرّ. لا أحب الإدانة، لكني أحمل بعض العتب لمن خرج وهو قادر أن يعود لبعض الأماكن ليكون مع الناس ولم يفعل.

–                     كيف تغيرت دمشق بالنسبة إليك خلال السنوات الثلاث الماضية؟

لم تتغير دمشق كثيراً، حتى وإن تغيرت بعض المظاهر فيها. هذه المظاهر مؤقتة، تزول بزوال السبب. أما روح المدينة فهي على حالها، تكابر بصمت كعادتها.

–                    البقاء في الداخل يجبر الناس على التعامل مع الآخر، إن من خلال استدعاءات أمنية أو عند الحواجز؟ كيف تتعاملين مع الآخر؟ هل البقاء “أنسن” هذه العلاقة؟

ليس الآخر جديداً أو طارئاً. كل ما في الأمر أن انقساماً جذرياً قد حدث وبات كل طرف يعتبر الآخر آخراً. قد يطول الأمر ويفرض التعايش الحذر نفسه بين هذين “الآخرَين”. قد ترينهما في الشارع، وفي البيت حيث انقسم البيت السوري الواحد إلى “آخرَين”. في النهاية المشكلة لا تختصر في أفراد.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى