صفحات الثقافة

عباس بيضون

لا أعرف ماذا سيخسر الفن إن أهمل إنسان موهبته لكني أعرف أن الفنان لا يترك فنه. يمكن للفن أن يتلف صاحبه، يمكنه أن يؤدي به إلى التهلكة، يمكنه أن يتحول بحد ذاته إلى سجن، أو إلى عبث. يمكنه أن يكون حواراً مع العدم. يمكنه أن يتحول إلى سم وإلى مخدر، مع ذلك لا يترك الفنان فنه فالفن إذا جاز القول إدمان. عقار لا بد من ان نتجرعه والا تردينا والا أهلكنا الدوار. ككل عقار لا يحمل الفن لصاحبه سوى ملء الوقت. ككل عقار يمنح وهماً للنفس، وهما للجسد بالامتلاء والفيض والسمو. الفن إدمان لا يستطيع صاحبه ان يمتنع عنه بثمن التشنج وثمن البؤس وثمن الانطفاء. انه إدمان وهذا يعنى انه اعتصار للنفس، اعتصار مؤلم في حينه، مؤلم لأن نزف للذات، مؤلم لأنه برق خلّب، مؤلم لأنه يجعلنا نقع في شرك أنفسنا، مؤلم لأننا نشعر بفحيح العدم من خلاله، مع ذلك يدهشني أن أرى صاحب موهبة يهملها، لا أستغرب إن رأيتها تستنزفه فهذه نهاية الإدمان. لا أستغرب ان رأيتها تتلفه، إن رأيتها تستغرقه وتستغرق حياته وتبعده عن الحياة وعن الناس. لا استهجن ذلك فهذه نهاية الإدمان. المدمنون وحيدون ويبقون نصب أنفسهم في النهاية، وإذا كان الفن إدمانا فهو يقودنا إلى هذه الوحدة الحافية. لا أستغرب إن رأيت فنانا يذوي من الفن لكني أستغرب إذا رأيت صاحب موهبة يكسل عن ممارسة موهبته. ان رأيت صاحب موهبة لا يستجيب لندائها، ولا يمنح نفسه وربما جسده لها ولنارها. مع ذلك نرى أمثال هؤلاء، نرى كيف تتحول الموهبة المعطلة وغير الفاعلة إلى هراء وإلى حذلقة وإلى طحن وقت. أعرف رسامين لا أشك في مواهبهم لكنهم لا يرسمون. أراهم فلا أعرف ان كنت أرثي لهم او أغتبط، فلست من عابدي الفن، أراه فقط رقا لا نستطيع النجاة، أراه توهما لا نزال ندمنه ونتركه يأكل ويقتات منا. لست من عابدي الفن وأنا لا أرني لأحد أفلت منه، لا أرثي لمن جاء إلى هذا العالم بلا موهبة فهذا هو العالم وهذه هي الحياة، ولسنا محكومين بالفن إذ لا أعرف ماذا يخسره العالم إن وجد ما لا يضفي إليه لحنا او لوحة او فيلما او بيت شعر او مشهداً. لا أعرف ماذا يخسره العالم إذا كانت موسيقاه أقل وإذا كان نحته أقل وإذا كانت آدابه أضأل واذا زاد شعره او نقص. لا أعرف ماذا يخسره العالم لكني أعرف ماذا يخسر الشخص إن هو تخلى عن موهبته. سيخسر طمأنينته ويخسر سلامه ويخسر روحه. هذه خسارة محققة ولا يعني ذلك انه كان سيربح، لو مارس موهبته، شيئاً، لكن كان سيخسر هذا الشعور بالامتلاء. هذا الإدمان الخصب، هذا الشعور بالفيض. أعلم أن الموهبة المهملة ترتد على صاحبها وتسمم وجوده.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى