جاد الكريم الجباعيصفحات الرأيعبدالله تركمانيميشيل كيلوياسين الحاج صالح

36 عاماً على رحيل ياسين الحافظ: مجموعة مقالات

 

 

 

ياسين الحافظ في الحاضر (1930 ـ 1987)

يجف العشب ويخضوضر كل عام منذ ما يقارب العقود الاربعة على التراب الذي يحتضن جثمان ياسين الحافظ، ويبقى الرجل حاضراً في وعي مجايليه وبمن تلاهم من خلال قضايا وإشكالات طرحها وما زالت تطرح نفسها على المثقفين العرب، الحادبين على قضايا شعوبهم وأمتهم من موقع الالتزام بها والسعي لبلورة حلول حضارية لها تتصل بالحداثة والعصر.

سيرة ياسين الحافظ الفكرية مثال على الشجاعة والنزاهة والواقعية. فهو غادر الشيوعية الستالينية من دون ان يغادر الماركسية، وانتمى الى القومية العربية من دون ان يرجم الدولة القطرية.. لا أعرف إذا كان الحافظ قد تعرف إلى كتابات إرنست غلنر، ولعله سبقه الى فكرة ان الدولة تصنع الامة بما تؤطره من وعي معقلن ومخطط يرسم الحدود بين الاسطورة والواقع.

ولعل الراحل الباقي كان من ابرز المثقفين العرب الملتزمين الذين عالجوا الواقع العربي بعد هزيمة حزيران 1967، وركز على معادلة ان العدو هزمنا ليس لأنه قوي بل لأننا ضعفاء. وانطلق الى التدقيق في واقعنا المعاش بقسوة شديدة ولكن بحرص وبواقعية لا ينتميان الى عالم التبسيط والاختزال والشعارات.

غادر ياسين الحافظ حزب «البعث» في أواسط الستينيات ليؤسس «حزب العمال الثوري العربي»، وتحمل قسطه من القمع والاضطهاد والتشهير. وعندما نشبت الحرب الأهلية في لبنان، نصح رفاقه بقوة بعدم الانخراط فيها. واعتبرها حرباً طائفية بين «فلقتي الأمة»، مثلت «انتكاسة للتقاليد المسيحية العربية في الديموقراطية والحداثة.. ونكوصاً للقوى القومية واليسارية والفصائل الفلسطينية المسلحة.. التي عادت في وعيها الى ما قبل الوطني…» إنه نقد متقدم سبق كافة محاولات النقد الذاتي الانتقائي، الذي مارسته القوى التي انخرطت في الحرب.

يقول عنه الباحث المغربي عبد الاله بلقزيز انه «ينتمي الى سلالة المعلمين الكبار».. ولعل أدق ما ينطبق على ياسين الحافظ انه «مثقف عضوي» بامتياز.

(س.ر)

المستقبل

 

 

 

 

ياسين الحافظ وعبد الله العروي/ ياسين الحاج صالح

ياسين الحافظ الذي مزج بين كونه مثقفاً طليعياً رفيع المستوى في أيامه وبين انخراطه المباشر في النضال السياسي هو الذي جعل عبدالله العروي مقروءاً ومعروفاً على نطاق واسع نسبياً في سوريا ولبنان. لكن المفكر المغربي الذي قرأناه من ترجمات كان أكثر من غير راضٍ عنها لم يكد يذكر ياسين الحافظ في أعماله الفكرية. هذا مستغرب. يفترض المرء أن المُنظِّر الذي زكى «الماركسية الموضوعية» دليلاً يسهِّل على المثقف والمناضل السياسي و«المجتمع العربي» استيعاب الليبرالية من دون المرور بمرحلة ليبرالية، يجد في مثقف مرموق صافي الذهن مثل ياسين الحافظ ماركسيّه الموضوعي المناسب، هو الذي لم يضرب مثالاً واحداً على هذا الماركسي الموضوعي.

العروي قلما يكون مقنعاً حين يتكلم على أن تاريخانيته وماركسيته الموضوعية تشدان عزائم الثوريين، فكيف يسكت حين يجد مثالاً مقنعاً: ثوري حقيقي متقدم على مجايليه في المشرق (مثلما العروي ذاته متقدم على مجايليه)؟ وكيف تفوت منظراً سياسياً تجربة عملية مهمة، ناجزة بصورة ما بفعل الوفاة المبكرة لصاحبها، بينما هو، المنظر، في عزّه؟ لا نستطيع مواصلة الكلام على «الماركسية الموضوعية» وعلى «التاريخانية» كدعوتين نظريتين مستبقليتين، بينما لدينا جهد سياسي عملي يستهدي بأفكار ممثلهما النظري، أليس كذلك؟ لم يكتب المفكر المغربي مقالاً يراجع فيه دعواه على ضوء تجربة ياسين الحافظ، أو يجد في تجربة المثقف والمناضل السوري سنداً لأفكاره.

كيف نفهم الأمر؟ في رأيي أن هناك سوء تفاهم مزدوج وراء هذا الواقع المستغرب. ليس لأن ياسين الحافظ ذلك «الماركسي الموضوعي» الذي لا يرضيه، مثلما لم ترضه ترجمات مشرقية لكتبه، تجاهل العروي تجربته، بل لأن العروي، وهذا غير خافٍ في «الإيديولوجية العربية المعاصرة»، كان يزدري ماركسيه الموضوعي، بينما هو يزكيه. «الماركسي الموضوعي» داعية ومعبئ، يمكن تقبله والتسامح معه، لكن خالقه بالذات لا يحترمه. وهو، أعني «الماركسي الموضوعي»، يلخص ويكثف و«ينقل الوعي» ممن يملكون النظرية ويحيطون بمسار التاريخ إلى من لديهم الحافز للخروج من تقليديتهم. السمة الجوهرية لماركسي عبدالله العروي الموضوعي أنه، خلافاً لعبدالله العروي نفسه، غير مبدع، إنه وكيل و«مخلوق»، «انتلجنسي»، وإن لم يكن تقليدياً غارقاً في تقليديته.

ياسين الحافظ ليس كذلك. ليس داعية ولا «مخلوقاً»، ولا وكيلاً لدعوة سابقة على عمله. كان مثقفاً شجاعاً فكرياً، منفتح التفكير على التجربة المتغيرة إلى قدر كان فضيحة لمجايليه الموالين لماركسية نصية جامدة. ومعلوم أنه نال من ذلك اتهامات بالعمالة للسي آي أيه من البكداشية السورية التي كان يكن لها أعظم احتقار. ووجد صنف من اليسار السوري مناسباً أن يطلق عليه لقب «مستر يس»، في إيحاء أبله بارتباط ما بشيء أميركي أو بريطاني.

لكن سوء التفاهم مزدوج، كما سبقت الإشارة. العروي وجد ماركسياً نقدياً غير تقليدي، من دون أن يكون مخلوقه الموضوعي، فلم يتعرف عليه؛ والحافظ تأثر كثيراً بتاريخانية العروي إلى درجة تشارف الخروج من السياسة. كيف ذلك؟

يولي العروي في أسس تفكره الأولوية لمحور التاريخ على محور المجتمع، وللتحليل التاريخي على التحليل الاجتماعي. هذا مترتب على نقطة انطلاقه الأساسية، «التأخر التاريخي»، الذي من المعلوم أنه، خلافاً للتخلف، يحيل إلى أبعاد ثقافية وسياسية أكثر منها اقتصادية. لكن إنكار استقلالية الحاضر، على ما يفعل العروي، ويتأثر به ياسين الحافظ، يؤدي حتماً إلى إنكار استقلالية السياسة، واستحالة السياسة العملية تالياً. نقد ياسين الحافظ للسياسوية في «التجربة التاريخية الفيتنامية» لا يحيل إلى دفاع عن استقلال السياسة بمفهوم موسع لحقلها يشمل، لِنقل، قضايا الايديولوجية والدين والتشريع وعلاقات الجنسين، لا يحيل أيضاً إلى تحديد اقتصادي ميكانيكي للسياسة كان الرجل انتقده بشدة في مجمل عمله، واصفاً إياه بحق بالاقتصادوية. نقده للسياسوية يحيل بالأحرى إلى عمق هو الوعي (وإن محمولاً على «المجتمع») وحداثة الوعي وتاريخانيته ولا تقليديته.

اليوم نسمي هذا الطرح بالثقافوية، وبعد أكثر من ثلاثة عقود ونصف من وفاة ياسين الحافظ أظهرت الثقافوية العلمانية انحيازات يمينية ونخبوبة متعالية على عموم السكان، بينما هي تجد نفسها في بيتها في الطوابق العليا من المجتمع أو قريباً منها. بعض تلامذة الحافظ يجسدون «التجربة» المناسبة في هذا الشأن. في زمنه، كان هذا الطرح يوسع مساحة ما يمكن وما ينبغي التفكير فيه في مواجهة نزعة اقتصادية طقسية، لكن ما كان مهرطقاً يومها، وياسين الحافظ وصف صوته بأنه كان هرطوقياً ويتيماً بين تقليديي الفكر القومي العربي في وقت مبكر من ستينات القرن العشرين، لم يعد كذلك بحال. انقلب إلى أرثوذكسية تجتر الكلام نفسه، وإن هنأت نفسها على «الهرطقة».

الحاضر الذي تقوم التاريخانية على إنكاره هو المجتمع، السكان والطبقات والطوائف والأجيال والهويات الجنسية والأرياف والمدن والضواحي…، وهو الجغرافية والديمغرافية والاقتصاد والسياسة والسوسيولوجيا (التي يزدريها العروي) والجغرافية السياسية، و…التاريخ. يجري إنكار هذا كله لمصلحة تصور خطي للتاريخ، مختزل إلى تاريخانية. لكن التاريخانية (أو التاريخوية) من التاريخ مثل الاقتصادوية من الاقتصاد والسياسوية من السياسة والثقافوية من الثقافة: تحويل التاريخ إلى مبدأ تفسيري كلي، الأمر الذي يمتنع مع اعتبار التاريخ تاريخاً، ويوجب رد التاريخ إلى «المقصد» أو «الغاية» السارية فيه: تحقق الحرية على طريقة هيغل، أو ملكوت الإنسانية في الشيوعية الأخيرة على طريقة ماركس، أو نهضة آخر هذه الأمة بما نهض به أولها، في تاريخانية مقلوبة على طريقة السلفيين الإسلاميين.

لكن، لم لا يكون العروي نفسه «تجربتنا» في الحكم على التاريخانية بعد ياسين حافظ؟ الرجل لا يزال يزكي التاريخانية على ما قال في «السنة والإصلاح» قبل سنوات قليلة. لكن اقترح أن لا نصدقه في ذلك. في تاريخانيته اليوم تاريخ أكثر بكثير مما كان فيها في الكتابات التي تأثر بها ياسين الحافظ. تاريخانيته اليوم ليست آلية تفسير اختزالية مثل الاقتصادوية، بل هي إحاطة واسعة جداً بالتاريخ، ابتعدت أكثر وأكثر عن أن تكون إيديولوجية ملهمة للعمل السياسي، على ما يظهر في «مفهوم التاريخ».

على ما يظهر أيضاً «من ديوان السياسة». حال الرجل المنشغل بتفاصيل الاجتماع المعاصر في بلده (وليس في العالم العربي ككل) يُكذّب مقاله، على ما قال هو نفسه عن ابن حزم في «مفهوم العقل». ما يشكل استمراراً لتاريخانية العروي الباكرة هو الثقافوية اليوم، وليس مفاهيمه الخمسة، وما بعدها. الثقافوية آلية تفسير مثالية منهجياً، ويمينية سياسياً واجتماعياً، في كل حال.

لو بقي ياسين الحافظ حياً، وهذا ممكن جداً فهو من مواليد 1930، أكان سيكون ثقافوياً؟ لا نملك أجابة موثوقة. لكن أميل إلى الرد بالنفي. في الثقافوية سياسة نخبوية ومحافظة، أستبعد أن ديموقراطياً نزيهاً، وذي حس سياسي ثاقب، مثل ياسين الحافظ، يمكن أن يقع فيها. في الثقافوية أيضاً انكفاء عن معاينة الواقع المتغير لمصلحة التأملات الانطباعية والمجردة، وهو ما يتناقض مع ميل متمرد حقيقي مثل ياسين الحافظ. في الثقافوية أخيراً نزع تشاؤمي مجاهد، وياسين الحافظ كان أكثر انخراطاً في العمل وأقرب إلى ما هو متحرك وحي في مجتمعه من أن تغريه دعاوى الانقراض، أو الأسف الميلودرامي على عالم يأفل.

المستقبل

 

 

 

تقدّم الشعب وعجز النخب/ ميشال كيلو

هناك مفارقة فاقعة تسم اليوم أوضاع المعارضة السورية في صعيديها الرسمي (المجلس الوطني والائتلاف) والشعبي (الأحزاب والتجمعات والتيارات… إلخ)، تتجلى في تخلق السياسة وتقدمها كفاعلية مجتمعية عامة، وتراجعها إلى حد التلاشي كفاعلية حزبية ومنظمة.

وكنا قد طرحنا للمرة الأولى في نهاية سبعينات القرن الماضي مقولة ترى أن السياسة إما أن تكون فاعلية مجتمعية مباشرة وعامة، فاعلة وضاربة، أو أنها لا تكون سياسة بالمعنى الذي يلبي مصالح الشعب، وتنحط إلى ألاعيب لا سيئ يمنعها أن تكون برنامجية وخططية – تستخدم أساليب سياسوية تجسدها غالباً مهاترات شخصية وحزازات كيدية تنتهي الى تكتكات مفصولة عن أي عمق استراتيجي يتصل بمصالح أي مكون من مكونات المجتمع والدولة. هذه المقولة أملاها في حينه عجز المعارضة السورية، الحزبية بصورة حصرية، عن إحراز أي تقدم في علاقاتها مع المجتمع، ولم تحقق أي تغيير في أبنيتها وطرق عملها يجعل منها جهات ديموقراطية حقاً، تتحاشى الغرق في مسائل ثانوية تمليها انتماءات دنيا احتجز قدرتها على التأثير في المجال العام وممارسة دور فاعل فيه. في وضع كهذا، يقوم على سيطرة النظام المطلقة على المجال والشأن العامين، كان من الطبيعي أن تنشأ الثورة بمعزل عن الأحزاب، وأن لا تلعب هذه أي دور قيادي في الإعداد لها أو توجيه مسارها، أو أن تمد يدها لإنقاذها من الأفخاخ التي نصبها النظام لها بعد نشوبها، وعلى رأسها خطته لتحويلها من ثورة حرية إلى اقتتال طائفي متعسكر، يتسع بلا انقطاع وينقلب إلى حرب أهلية.

ما كانت الثورة لتقوم لو لم يبدأ المجتمع بممارسة السياسة كشأن عام وفاعلية مباشرة وعامة، انخرطت فيها معظم شرائحه، بمجرد أن أتيحت لها ثغرة تنفذ منها إلى الشارع، كان قد فتحها لها القطاع الحديث من الطبقة الوسطى والفئات البينية، كالشباب وأصحاب المهن الحرة والمثقفين، ومعظم من ينتسب إلى مجتمع سوريا المدني من تشكيلات مجتمعية متنوعة. تقدم المجتمع المدني إلى الساحة العامة، تحمله قطاعات هائلة الاتساع من المجتمع الأهلي في البلدات وأحياء المدن الكبرى، والمدن الصغيرة والقرى ومدن- الصفيح. وقد اندمج القطاعان المجتمعيان الحديث والتقليدي في مسيرة واحدة شعارها استرداد الحرية وبناء دولة ديموقراطية مدنية تسودها العدالة والمساواة والكرامة.

عندما التحقت المعارضة المنظمة، أي الحزبية، بالحراك، فإن التحاقها عبر عن نفسه في سعيها إلى السيطرة عليه وتوجيهه، مستغلة ضعف خبرة المجتمع المدني بالسياسة العملية والخططية، وتعرضه للسحق على يد النظام، وخلو مكانه لاحقاً كقائد وموجه للتمرد المجتمعي الكبير. هذا الرهان السياسي، الذي قام على فكرة ترى أن الفراغ يكفي بحد ذاته لاستدعائها للحلول محل القيادة المغيبة ولتمكينها من ممارسة دور قيادي لا ينافسها عليه أحد، ما دام ثمة حاجة إلى خطط تحل الوعي والتنظيم محل العفوية، لم يحقق النجاح المأمول، ولم يغادر خططاً سياسية رسمت لحالة مغايرة كان قد أملاها على «لينين» وضع مختلف للثورة، قام على إعداد الحزب كتنظيم مؤهل لقيادتها بعد نجاحه في تحويلها من انتفاضة عفوية إلى ثورة جماهيرية ومنظمة، تغير موازين القوى السائدة لصالح الحزب الطليعي والجماهير التي تزداد التصاقاً به وانقياداً لخططه، والتي يحاصر بمعونتها «قلعة» السلطة من الخارج إلى أن يسقطها من الداخل، بقوة تحالف يضم أغلبية شعبية وازنة، يتكون أساساً من العمال والفلاحين والانتليجنسيا. لم تعرف سوريا حزباً طليعياً واسع الوجود بين العمال والفلاحين، ولم يكن هناك فارق جدي بين انتفاضة الشعب والثورة، ولم يتبلور في سياق الحراك حلف عمال وفلاحين يقوده حزب ثوري، وانقسمت الانتلجنسيا حيال ما وقع في البلاد، ولم تكن قدرات المجتمع المدني التنظيمية وخبراته الميدانية عفوية، بل شهدت أساليب تنظيمية متطورة تكفلت بإدامة زخم الحراك الشعبي السلمي طيلة أشهر عديدة، رغم ما ظهر فيه من شعبوية أفاد النظام منها في إبقاء زمام المبادرة السياسية في يده، مما ضمن نجاحه في جعل مواقفها العملية ومطالبها مجرد ردود أفعال على سياساته وخططه، تعينت تدريجياً في ضوء مشكلات قاتلة أثارها ضدها، أهمها المشكلة الطائفية، التي استخدمها لفصل المجتمع الأهلي عن المدني، لعزل الثاني عن الأول وما ضمه من كتلة بشرية هائلة تحركت في كل مكان بوحي من مطالبه وشعاراته، وفي إطار برنامج الحرية الذي رفع لواءه، ولإلحاق هذه الكتلة بقيادات مذهبية معادية للديموقراطية، مذهبية ومؤمنة بالعنف، بينما كان القمع يتكفل بإبادة نشطاء المجتمع المدني، وبسحب بساط الجماهير من تحت أقدام الأحزاب في الوقت نفسه، وكانت ممارسات النظام في التعامل مع الحراك بمختلف أصنافه وتلاوينه تعود إلى أسلوبها القديم، الذي قام على عزلها عن بعضها والاستفراد بكل واحدة منها بعيداً عن غيرها، والتلاعب بما يظهر أو يزرع بينها من خلافات وتناقضات وصدوع، والتحكم بتوجهاتها من خلال تبايناتها المحتملة أو الحقيقية، وحصرها تنظيمياً وسياسياً ضمن حدود ضيقة لا تسمح لها بممارسة فاعليات تغييرية، سواء داخل صفوفها أم خارجها.

بعد صحوة قصيرة، بدا معها وكأن الحراك الثوري سيحرر الأحزاب من احتجازها، وسيلهمهما قراءة مختلفة للواقع واحتمالاته، أشد غنى وثراء وإبداعاً من قراءاتها التقليدية البرانية والباردة، تبين أن كوابح أحزابنا أقوى من قدراتها الذاتية، وأنها عاجزة عن تجديد خطابها وممارساتها، وبلورة دور مغاير لأي دور سبق لها أن عرفته في مختلف مراحل نضالاتها السرية والعلنية. بدل أن تتقدم وتتحول إلى قائد للحراك والثورة، ظلت أحزابنا محمولة عليهما كقشة يحملها نهر صاخب، ولأن حامل الحراك الرئيس وقائده: المجتمع المدني، كان يتراجع تحت ضغط النظام، في حين كانت قطاعات واسعة من المجتمع الأهلي تعود إلى ايديولوجيتها التقليدية، المذهبية الطابع، وتنخرط في عسكرة فرضها النظام عليها بالمدفع والدبابة والطائرة، وبجرعات عنف مفرط مارسه ضد مواطنات ومواطني الأرياف والبلدات والمدن، وجعل السلاح وسيلة المواطن الوحيدة للدفاع عن نفسه، مع ما ترتب على فوضاه من تقويض لمكان ودور السياسة من الصراع ضد سلطة صار القتل سياستها الوحيدة.

مثلت الثورة فعلاً حاسماً حقق الشعب بواسطته قفزة نوعية في وعي وممارسة السياسة، إلا أنه افتقر إلى خطة عملية واستباقية تعطيه زمام المبادرة، وتجعله الطرف الفاعل في وضع معقد ومتشعب فرضه النظام عليه، اقتصرت مواقفه منه على ردود أفعال غاب عنها الترابط الايجابي الذي تنتجه عادة المبادرة السياسية. في هذه النقطة، كان يمكن للأحزاب سد الفجوة الهائلة بين الحراك العملي وحوامله النظرية، واحتلال موقع طليعي يضعها على رأس الثورة، إلا أنها لم تدرك هذه الضرورة، أو أن عوامل متنوعة بينها ضعفها التنظيمي والعددي، وتخلفها الفكري والنظري، وشكها في قدرة الثورة على الاستمرار والانتصار، وخوفها من النظام، وعسكرة الحراك، وانقساماتها وخلافاتها لم تتح لها القيام بها، مع أن تحقيقها كان سيخرج الثورة من عنق الزجاجة الذي وجدت نفسها محشورة فيه، وربما كان سيمكنها من تقصير فترة الصراع وبلوغ أهدافها.

سحق النظام الذين قاوموا بالثورة وقادوها، وعجزت الأحزاب عن تقديم خطة سياسية ضاربة لها، بينما لم يتمكن صناعها من التعبير عن مضامينها النظرية والعملية بسبب ما تعرضوا له من سحق عنيف ومتواصل خلال المرحلة الأولى والمبكرة من حراكهم، وغرق حاملها الرئيس في صراع اكتسب أكثر فأكثر سمات طائفية متعسكرة، استنزفت قدراته، تحت ضغط نظام أراد له بلوغ حال كهذه، عززت نزعاته الانفعالية على حساب نزعاته العقلانية الضامرة والمحدودة، وساقته إلى خسارات متعاقبة رغم عظم تضحياته وما أبداه من مقاومة.

كان الواقع يتطلب إيجاد مخرج من هذا المأزق، كي تبقى الثورة وتنتصر. في هذه الفترة بالذات، تشكل «المجلس الوطني السوري»، فإذا به يقفز عن الإشكالية الداخلية برمتها، وينتهج خطاً سياسياً وضع الحراك المجتمعي تحت حيثية الخارج، وربط مصير سوريا به، وبما يمكن أن يتمخض عن سياساته من حلول ونتائج لمعضلتها، لاعتقاده أن ما وقع في ليبيا سيتكرر فيها أيضاً، وأن الخارج سيتدخل حتماً في حدثها وسيحسمه لصالح شعبها. هذا الأنزياح بدل طبيعة الثورة وشوه مسارها. ثم، بعد عام ونيف تأسس «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية»، فدعي بعد تأسيسه بأيام قليلة قرابة ستمائة مقاتل ومنشق إلى تشكيل مجلس عسكري أعلى وتسمية رئاسة أركان للجيش السوري الحر. لكن الائتلاف لم يدع إلى المشاركة في تشكيل قيادة عسكرية لجيش هو مرجعيته السياسية، فكان لما حدث معنى مرعباً، أقلع الائتلاف معه عن تمثيل الشعب السوري، بينما وضع مصير الجيش الحر في يد القوى العربية والأجنبية التي «أعادت هيكلته». ذلك كان النتيجة الحتمية لسياسة وضع المسألة السورية بين يدي الخارج وقواه، التي سرعان ما أحلت صراعاتها محل ثورته، وتصفية حساباتها محل حريته، وحولت مقاومته السلمية ثم المسلحة ضد النظام إلى حرب بالواسطة صار أداتها بين أميركا وروسيا وإيران وإسرائيل وتركيا وبعض بلدان الخليج… إلخ، شارك فيها مرتزقة متنوعو الجنسية والمذاهب، فحولوها بدورهم إلى حرب مذهبية لا يربطها رابط بثورة الشعب السوري: ضحيتها الرئيسة إن لم يكن الوحيدة.

… واليوم، تدخل الصراعات الخارجية في طور جديد، بينما تبرز مجدداً الحاجة إلى بناء دور سوري مستقل نسبياً بالطبع – في الصراع، يعيد اليه رهانه الأصلي كصراع في سبيل الحرية، ويكبح تحوله إلى حرب ستكون جد طويلة، في حال تواصل عجز الثورة عن إخراج نفسها بصورة نسبية طبعاً – من تشابكات لم تكن، وليست اليوم أيضاً، في مصلحتها، ظلت عاجزة عن التكور على ذاتها، وسمحت بجرها إلى حرب ضد الإرهاب لا سيطرة لها على مجرياتها، يقال صراحة إنها ستكون وقودها البري.

يطرح الظرف الراهن على المعارضين اختبار جدارة هو فرصتهم الجديدة، التي يتيحها لهم إصرار شعبهم على نيل حريته، ودورهم في صراع يتخطى بلادهم، يصعب حسمه من دون مشاركتهم، التي يمكن الإفادة من حاجة العالم اليها لإصلاح أوضاعهم وإخراجها من النفق الذي دفعها اليه قصور نخبهم، وتعدد قياداتهم وتناقض قواهم، ووضع قضيتهم بين أيدي خارج حولها وحولهم إلى أداة يستخدمها منذ نيف وعامين في صراعات لا شأن لهم بها.

كان ياسين الحافظ، ومثله الياس مرقص، يعلقان أهمية كبيرة على «عفوية» الشعب، ويعتقدان أنها يمكن ان تعبر عن نفسها عبر صيغ أرقى من وعي النخب، إن كان زائفاً، وأن تقدم له فرص بلورة وعي مطابق بوسعه تطوير انتفاضة «عفوية» إلى ثورة حدد مراحلها وقواها وما يمكن أن تمر فيه من محطات، ومآلها؛ وعي يلتقط خيط الحراك المجتمعي لحظة انفجار تناقضه مع النظام السياسي والاجتماعي، ويشده إلى نهايته الظافرة: انتصار الثورة.

قدم ياسين الحافظ في مقالات ودراسات عديدة نقده للـ«تنظيمات» التي تفتقر إلى مثل هذا الوعي المطابق، والتي يبدو أننا لم نعرف غيرها في عالمنا العربي بعامة وسوريا بصورة خاصة. وقال إن تحول السياسة الى فاعلية مجتمعية هو بحد ذاته ثورة. وحين وقع ما كان سيضع خبرته الثورية وعلمه النقدي في خدمته، وتحولت السياسة الى فاعلية مجتمعية مباشرة منذ آذار عام 2011، تبين أن طرف المعادلة الثاني: نخبنا السياسية والثقافية، ظل أسير عجز مزمن قتل روح المبادرة لديه، فلم يقدم أو حتى يتلمس ما كان مطلوباً منه لتحويل انتفاضة شعبية تتواصل منذ قرابة أربعة أعوام إلى ثورة ظافرة، وتفرّج عليها بسلبية وهي تغرق في الفوضى!

المستقبل

 

 

عن ياسين الحافظ الشابّ وزمانه «الثوري»/ كرم نشار

لم أنشأ في بيت سوري يساري، ولا أذكر أني سمعت باسم «ياسين الحافظ» أثناء تفتّح وعيي المبكّر. في المدرسة، خلال عِقد التسعينات، وباستثناء منظّري القومية العربية أمثال ساطع الحصري وزكي الأرسوزي، كنا نتعلم عن أدباء العرب لا عن مفكّريهم. أما في المنزل، فكانت أحاديث الكبار السياسية والفكرية لا تتطرّق إلى اليساريين إلا لتُحمّلهم مسؤولية ما آلت إليه أوضاع البلاد، وهم في ذلك السياق مجموع البعثيّين والناصريّين والشيوعيّين بمختلف فروعهم وأشكالهم. كان ذلك نقداً ليبرالياً محافظاً، قائماً على حنين شائع في بعض الأوساط المدينية السورية لمرحلة ما قبل البعث (1947-1963) ولزعمائها من «صانعي الجلاء»، ورَفَدَته في ذلك الحين مذكّرات تاريخية قديمة وجديدة لخالد العظم ونصوح بابيل وأسعد الكوراني وعبد السلام العجيلي، وأعمال تلفزيونية شيّقة من قبيل «خان الحرير» و«حمام القيشاني» 1 .

لم أسمع بياسين الحافظ إلا بعد ذلك بسنوات، عندما وَجَدَ كتابه الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة طريقه إلى بيتنا، ربما في السنة الثالثة أو الرابعة لتولّي بشار الأسد مقاليد السلطة في سوريا، ووقتها لم أستطع أن أًكمل إلا بضع صفحات. كانت نسائم «ربيع دمشق» قد فتحت أبواب منزلنا الحلبي أمام العديد من المناضلين والمثقفين المعارضين للنظام من ذوي الجذور الماركسية، وكنت بدأت أتبيّن مدى الفقر الفكري والتاريخي لسردية الحنين إلى زعماء الاستقلال الليبرالية… لكن على الرغم من ذلك بدا لي كلام الحافظ عن «الحركة التقدمية» و«القوى الرجعية والإمبريالية» و«الثورة العربية» أشبه بدروس القومية الاشتراكية البائسة. كان كلاماً ثقيلاً على الرغم من مضمونه النقدي.

لكن بدا بعد ذلك وكأن اسم ياسين الحافظ في كل مكان! دراستي الجامعية دفعت بي في اتجاه الاهتمام بتاريخ الفكر العربي الحديث، وبِتّ أكتشف باستمرار المزيد من الكتّاب والمثقفين السوريين واللبنانيين المتأثرين بالحافظ من أبناء جيله والأجيال اللاحقة. كان الرجل في الثامنة والعشرين عندما نشر مقالته الأولى في عام 1958، وتوفي عام 1978 وهو ما يزال في الثامنة والأربعين، بعد معاناة مع مرض السرطان. لكنه خلال هذين العقدين من الزمن، وبالشراكة مع صديقه ومحاوِره الفكري الأقدم إلياس مرقص، ترك أثراً هاماً على كل من جورج طرابيشي وميشيل كيلو ووضاح شرارة وجاد الكريم الجباعي وجوزيف سماحة وحازم صاغية، على سبيل المثال لا الحصر. كذلك سيدرّس صادق جلال العظم سيرة الحافظ الذاتية في الجامعات الأميركية، وسيتحدث برهان غليون عن أهمية وأسبقية طروحات الحافظ ومرقص النقدية. أما من الجيل الأصغر عمراً فسيورد كلّ من ياسين الحاج صالح وحسام عيتاني اسم ياسين الحافظ كصاحب أثر تأسيسي على وعيهم السياسي والفكري 2 .

من المستحيل إذاً التأريخ للفكر المشرقي العلماني المعاصر، بجذوره القومية والشيوعية العائدة إلى ثلاثينيات القرن الماضي وتلاوينه الحالية، ماركسية وليبرالية وما-بعد-قومية، دون التوقّف مطولاً عند ياسين الحافظ. تلك كانت النتيجة التي وصلت إليها، ربما متأخراً، والتي دفعتني مجدّداً إلى كتابات ذلك الرجل المشهور والمجهول في آن معاً، وبالتحديد إلى سيرته الذاتية التي كتبها قبل وفاته في مدينة بيروت بوقت قليل. لكني سرعان ما اكتشفت أن تلك السيرة، وهي في أسلوبها ومضمونها تستحق أن تكون واحدة من كلاسيكيات المكتبة السورية والعربية المشرقية، لا تصلح لأن تكون نقطة البداية لفهم الحافظ تاريخياً؛ لأنها ككل السير الذاتية، ولا سيما تلك العائدة لمفكر أو كاتب، لا تؤرخ لحياة الحافظ كما عاشها بالفعل، متلمساً طريقه لحظة بلحظة ومتفاعلاً مع سياقه التاريخي المتغير، بل كما نظر إليها هو وكما قيّمها في نهاية حياته. أن نقع تحت سحر سيرة الحافظ الذاتية يعني أن نُقرّ للحافظ الناضج بأن حياته كانت كناية عن رحلة انتقال تدريجي من ظلام المعتقد الأيديولوجي إلى نور العقل النقدي، وهذا يعني أن نستبطن مفاهيمه الليبرالية الحداثية التي انتهى هو إليها، فنساويها نحن أيضاً بـ«العقل» وننفي عنها الطابع الأيديولوجي. قد لا يكون في ذلك غضاضة للمثقف المعياري المعني بالدفاع عن الليبرالية الحداثية كمذهب فكري وأخلاقي وسياسي أمثل، أما المؤرخ الفكري فعليه أن يجتهد ليكون خارج معايير بطل قصته، وأن يبقى شَكُوكاً في أي سردية غائية كبرى يرسمها هذا الأخير لحياته. ليس ذلك بغرض «الحياد»، فهذا محال، بل من أجل فهم تاريخي أكثر تركيباً ونقداً.

لذا عزَمتُ أن أبدأ بدلاً من ذلك بكتابات ياسين الحافظ الأولى، أي بكتابه الأول حول بعض قضايا الثورة العربية الصادر عن دار الطليعة نهاية 1965، والذي جمع فيه الحافظ مقالات ودراسات كان قد نشرها سابقاً في أعوام 1958 و1962 و1964، بالإضافة إلى بعض الأوراق الجديدة. لم يكن الحافظ في ذلك الوقت قد قرأ كتاب عبد الله العروي الأيديولوجيا العربية المعاصرة، ولا ذاق مرارة نكسة حزيران 1967، وهذان حدثان مفصليان في حياته، لكنه كان قد عاش تجربة سياسية حافلة في خضم تلك «الحركة التقدمية» التي غيرت وجه المشرق العربي إلى الأبد خلال خمسينات وستينات القرن الماضي 3 . الشاب المنحدر من مدينة دير الزور، شمال شرق سوريا، كان قد بدأ حياته بعثياً في أواخر الأربعينيات عندما كان في الثانوية، ثم انتقل إلى ’الحزب الشيوعي‘ أثناء دراسته في كلية الحقوق في دمشق، ثم ترك هذا الأخير أيضاً، لينتهي به المطاف على هامش الحياة الحزبية في سوريا. بقي قومياً عربياً، وبقي ماركسياً أيضاً، لكن فهمه لكل من هذين «المذهبين»، ربما تحديداً لأنه أراد الجمع بينهما، بات مختلفاً عما شاع في صفوف حزبيّي وعقائدي ذلك الزمان. تلك كانت نقطة البداية لمشروعه السياسي والثقافي النقدي.

*****

لكننا لن نستطيع فهم نقدية الحافظ تاريخياً والانخراط في نقدها هي الأخرى دون أن نحيط أولاً بضدها المباشر، أي بياسين الحافظ كابن لزمانه، حامل في لغته ومضمانيه وحتى في نقده لروح ذلك الزمان «الثوري» بمسلّماته وأحلامه وتناقضاته. ويعني هذا بدوره أننا، قبل أن نغوص في البنية الداخلية لأفكار الحافظ المتمايزة، وفي نقده المزدوج للفكر البعثي والستاليني العربي، لا بد أن نتساءل عن الظروف التاريخية التي دفعت الحافظ كما الكثيرين من أبناء جيله إلى اعتناق تلك الأفكار القومية اليسارية أساساً، والتي ستبدو للكثيرين منهم فيما بعد كسجن حديدي واجب التحطيم. دون تلك الخطوة الأولى، وفي زمن نشهد فيه الموت السريري للأحزاب القومية والشيوعية في المنطقة، فإن نقدنا إما أن يقتصر على نوع من ردّ الأفكار إلى شخصيات بعينها (وهذا شائع في معرض السخرية من منظّري حزب البعث) أو ينساق وراء تعالٍ ثقافوي يُحيل خيارات جيل أو مجتمع كامل إلى الطفولة والتخلف (وهذا شائع في معرض الحديث عن عبد الناصر وشعبيته الهائلة)، وفي كلا الحالتين نحن نتهكم على التاريخ دون أن نفكّكه، لأن نقدنا لا يسبقه حد أدنى من «التفهم» (empathy).

إذاً… ماذا كانت تلك الظروف التاريخية التي شكّلت أُسُس وعي الحافظ وأبناء جيله؟ ياسين الحافظ الناضج يُحيلنا في سيرته الذاتية إلى عائلته ومجتمعه المحلي، أما الشاب الثلاثيني ذو الروح الثورية فهو، على النقيض تماماً، يرى أن لحظته التاريخية لا ترتبط أولاً بمجتمعه المحلي، أو بسوريا، أو بالأمة العربية، أو حتى بصعود المعسكر الاشتراكي. الحدث التاريخي الأهم بالنسبة لياسين الحافظ الشابّ هو انهيار الإمبرطوريات الأوربية الاستعمارية في أعقاب الحرب العالمية الثانية وانطلاق حركات التحرّر الوطني في العالم كله. هذا الحدث الكوني يظهر في كل مقالات الحافظ الأولى كمرجعية موضوعية ومعيارية تأسيسية، والحافظ يقول عنه بشكل واضح أنه «الظاهرة الأكثر أهمية في التطورات السياسية الدولية بعد الحرب العالمية الثانية» 4 .

وإن كان هذا الحدث لا يستطيع تحريك مشاعر العديدين منا اليوم، فذلك لأننا بتنا على مسافة ما يزيد عن نصف قرن من نهاية العصر الاستعماري القديم، شهدنا خلاله من القمع والبؤس المحلي المُشَرْعَن باسم مقارعة الإمبريالية ما قد يجعل بعضنا يحنّ إلى ذلك الزمن الكوزموبوليتي الغابر، أو يشكّك على الأقل في درجة سوئه. أما جيل ياسين الحافظ فتفتّح وعيه في لحظة كانت الإمبراطوريات البريطانية والفرنسية–وقبلها وبعدها الألمانية والإيطالية والهولندية والبلجيكية والبرتغالية–قد بدأت تترنّح في أفريقيا وآسيا للمرة الأولى منذ قرن أو أكثر. وعلى الرغم من تفاوت تجارب نظم الحكم الاستعماري، بين نموذج وحشي استعبادي كما في حالة الحكم البلجيكي للكونغو وبين نموذج استشاري «غير مباشر» كما في حالة الحكم البريطاني في العراق، يبقى ثابتاً أنه خلال القرن الزمني نفسه الذي خضعت فيه الحياة السياسية في أوربا باطّراد لحكم القانون والرأي العام والأحزاب الجماهيرية، لجأت أوربا في مستعمراتها في أول المطاف وآخره لحكم الاستثناء والقوة العسكرية والنخب البيرقراطية، واستندت إلى جموع المستوطنين البيض أو لأبناء الأقليات الإثنية والدينية 5 . بشّرت أوربا العالم بالحرية والمساواة، وأنكرت في الوقت عينِه على العالم الأسمر تلك المُثُل، ذلك كان التناقض التاريخي الذي أشعل في النهاية حركات التحرر الوطني بين أبناء المستعمرات.

ياسين الحافظ الشاب ينظر إلى حركة القومية العربية من هذا المنظار الكوني التحرري المعادي للاستعمار تحديداً، وهو لذلك يعيب عام 1958 على الأحزاب الشيوعية في المنطقة عدم انخراطها في النضال القومي للجماهير العربية. الخلفية السياسية المباشرة لحكمه هذا كان الموقف الشيوعي البارد تجاه الوحدة بين مصر وسوريا، لكن الحافظ يتجاوز الحدث الآني ليطرح فكرة أشمل وأكثر عمقاً. أن ننظر إلى المسألة القومية فلا نفهمها إلا من خلال التجربة الأوربية، كما يفعل «الستالينيون العرب» حسب مقالة الحافظ الأولى في نيسان 58، يعني أن نتجاهل التجربة التاريخية لأبناء المستعمرات، والتي أعطت حركاتهم القومية طبيعة مختلفة عن القوميات الأوربية. تلك الأخيرة نشأت مع السوق الرأسمالية، وارتبطت بالبرجوازيات الوطنية، ومن ثم اكتسبت طابعاً شوفينياً استعمارياً، أما القومية العربية فقد نشأت «في خضمّ الكفاح العربي العام ضد الاستعمار»، وهي لذلك تحمل طابعاً جماهيرياً ثورياً نبيلاً 6 . بعد ذلك بعدة أشهر، في مقالة ثانية نشرها في مجلة المعرفة الدمشقية، سيُعيد الحافظ التأكيد على أن الكفاح الشعبي ضد الاستعمار هو ما أعطى العروبة طابعها السياسي الحديث والجماهيري، ولأن هذا الكفاح يجري في «مناخ إنساني تقدمي»، فإن القومية العربية ليست تعظيماً مَرَضياً للعنصر العربي، بل على العكس «حركة ذات طابع أممي …. تحمل أعظم المُثُل العليا للإنسانية: الحرية والتقدم والعدالة والسلام لكل الشعوب» 7 .

لم يكن جيل ياسين الحافظ قادراً على توجيه مشاعره القومية نحو سوريا، الوطن الغضّ الذي كان قد نال استقلاله عام 1946. ولم يكن ذلك بالدرجة الأولى نتيجة التأثر المثالي بالأفكار الرومنطيقية لـ ساطع الحصري وزكي الأرسوزي وميشيل عفلق وقسطنطين زريق، كما قد يتراءى للبعض. الأدق هو البدء من الظروف التاريخية الموضوعية التي جعلت تلك الأفكار تبدو منطقية وتحرّرية وجيدة لأبناء ذلك الجيل، وهذا بدوره يُحيلنا إلى حقيقة أن مناهضة الاستعمار كانت الشرط المؤسّس لتفتّح الوعي السياسي المعياري في سوريا لدى غالبية الفئات الاجتماعية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وأن هذا كان يعني بالضرورة رفض الكيان الجديد الذي كانت فرنسا وبريطانيا قد خلقتاه قبل أقل من عقدين من الزمن من ولادة ياسين الحافظ وضمن ظروف مليئة بالمرارة لدى أبناء المدن السورية الداخلية. بكلمات أًخرى، إذا كان التفاعل الجدلي بين الاستعمار الفرنسي والحركة الوطنية المعادية له هو شرط تأسيس المجال السياسي السوري الحديث، فإن هذا التفاعل الجدلي كان يُنتج أيضاً منطق إلغاء أو تجاوز هذا المجال نفسه لصالح أمّة أكثر تاريخيةً ومنطقيةً وطُهراً من فعل التدخل الاستعماري. وعلى الرغم من أن سياسيي الكتلة الوطنية بدأوا بالقبول بالكيان السوري والانخراط في أُطُره السياسية منذ نهاية العشرينات، فإنهم لم يتخلّوا في الوقت عينه عن خطابهم العروبي الوحدوي، ولا انشغلوا بصياغة عقيدة وطنية سورية واضحة. والنتيجة أنهم ظهروا للفئات «الثورية» الجديدة بمظهر التوفيقي المساوِم على قضية الوحدة القومية، لا الدستوري الحريص على المؤسسات السياسية الوطنية 8 .

وفي حقيقة الأمر فإن المشاركة الجماهيرية في السياسة في سوريا، بدءاً من «اللجان الشعبية» التي شكلها عموم الناس في الشهور السابقة لدخول الجيش الفرنسي إلى دمشق عام 1920، وصولاً إلى الإضرابات والمظاهرات في الثلاثينات والأربعينات، كانت ستمهّد أيضاً للثورة الأيديولوجية التي شنّها جيل الصاعد حينها على «الطبقات السائدة» ممن اصطُلح على تسميتهم في أدبيات التاريخ المشرقي بـ«أعيان المدن» 9 . وفي حين أن الخلاف بين هذين الفئتين جرى توصيفه في كثير من الأحيان كصراع بين اليمين واليسار، أو بين الليبرالية والاشتراكية، يبدو لي أن الأدقّ هو اعتباره خلافاً جذرياً حول ماهية «التقدم»؛ خلاف نهل فيه كل طرف من عدة مرجعيات فكرية وثقافية.

فمن ناحية، نظر أعيان المدن عموماً إلى عالمهم من المنظار النهضوي المنبثق عن نهاية القرن التاسع عشر، والذي جمع بين الليبرالية البرجوازية في تعويلها على العلم والعمل والدستورية السياسية، والارستقراطية العثمانية في اهتمامها بالإحسان الأبوي والزعامة المحلية والتهذيب الاجتماعي وقبولها لتمايز الهويات الثقافية المناطقية والطائفية، وأخيراً الإصلاحية الإسلامية في تجديدها الفقهي البراغماتي وتأكيدها في الوقت نفسه على أهمية الدين كمصدر أساسي للأخلاق.

أما النخب الجديدة فمن الإرث الليبرالي الحداثي أخذت، بالإضافة إلى احتفائه بالعلم والعمل، تركيزه على الإنسان المجرد القادر على التحرّر من هوياته ما-قبل-الحداثية (قَبَلية كانت أم طائفية أم مناطقية) وضرورة إخضاع العمل السياسي لسلطة الفكر من جهة ولسلطة الجمهور من جهة أخرى. وأخذت من الإرث الرومنطيقي ثورته على غربة الإنسان في المجتمع الحديث وحنينه إلى مجتمع المساواة والتجانس الثقافي، ومن الماركسية-اللينينية درجة متفاوتة من الوعي الطبقي والفكر السياسي الانقلابي. هذا البنيان الأيديولوجي «الثوري» سيظهر بأشكال مختلفة لدى الأحزاب الجماهيرية الجديدة (بما فيها ’الإخوان المسلمين‘) وسيكتسب في سياق التحرر من الاستعمار بُعداً معنياً بالمساواة بين الأمم والأعراق، لكن القومية العربية ذات الروح الاشتراكية كانت الأكثر قدرة على التعبير عن رغبة ذلك الجيل في تمثّل أوربا والثورة عليها في الوقت عينه، ولأن العِقدين اللاحقين للحرب العالمية الثانية شهدا بالفعل انهيار إمبراطوريات كانت الأجيال السابقة تعتبرها جزءاً من سنن الكون الطبيعية، فقد بلغ التفاؤل القومي التقدمي في ذلك الحين حده الأقصى، وبات كاتب رصين ونقدي كياسين الحافظ قادراً على النظر إلى الوحدة بين سوريا ومصر عام 1958 كجزء من تحول أممي ينتصر لقيم «الحرية والتقدم والعدالة والسلام لكل الشعوب» 10 .

أوبريت الجيل الصاعد المنتج في عام ١٩٦٠ كان بلاشك التعبير الإكثر تكثيفاً للتفاؤل الثوري في تلك الحقبة والإيديولوجيا القومية التقدمية التي وجد الحافظ نفسه مدافعاً عنها وناقداً لها في الوقت نفسه. الروح التعبوية، الجمالية الحداثية، والتحالف الطبقي بين العمال والفلاحين من جهة وبين الجيش والمتعلمين والمثقفين من جهة أخرى كلها تساعد على فهم المرحلة التي تفتح وعي الحافظ خلالها.

*****

لكن الوحدة سرعان ما ستنهار عام 1961، ويبدأ بعدها ما نظر إليه الحافظ على أنه ثورة مضادة يقودها الاستعمار الأميركي الجديد، بالتحالف مع الأنظمة المعادية لعبد الناصر وبالاستناد في سوريا إلى تحالف طبقي جديد، جمع ما تبقى من الإقطاع والبرجوازية الكبرى إلى فئات جديدة من البرجوازية الصغيرة و«اليسار التقليدي الانتهازي». سيهاجم الحافظ أولاً قرار إلغاء قوانين التأميم والإصلاح الزراعي، في مقالة طويلة نشرتها جريدة البعث في تموز عام 1962. سيحاول فيها إقناع قرائه بأن البرجوازية السورية –بغض النظر عن نواياها ونوايا سياسيين من أمثال خالد العظم وعزت طرابلسي– غير قادرة على النهوض بأعباء التنمية الاقتصادية، والتي تتطلب في بلد متخلف مثل سوريا استثمارات ضخمة في البنية التحتية والصناعات الثقيلة 11 . وفي حين أن البرجوازية الأوربية أنجزت ثورات وطنية وحققت نهضة ثقافية واستفادت من الإمبريالية لتدعيم مكاسبها الاقتصادية، فإن نظيرتها السورية على حد تعبير الحافظ «لم تستطع فرض قيادتها وهيبتها على البلاد» و أنتجت «برلمانات هزيلة وعاجزة» وبقيت «لاصقة بأوهام وثقافة القرون الوسطى» 12 . بعد ذلك بعدة شهور، سيهاجم الحافظ في مقالته الأكثر سياسوية في تلك المرحلة «حقد» أكرم الحوراني على عبد الناصر، والذي دفعه إلى الطعن في التزام ذلك الأخير بقضية فلسطين، وفيها سيؤكد الحافظ مجدداً أن القضية الفلسطينية جزء لا يتجزأ من النضال الأشمل ضد الاستعمار، وأن الوسيلة الوحيدة لإنهاء اسرائيل هي الوحدة العربية والنهضة الاقتصادية الاشتراكية، أي تماماً ما يقوم به عبد الناصر. في نفس الوقت، سيشعر الحافظ بالحاجة إلى الكتابة بشكل أعمق وأنقد عن التجربة المصرية، وسيقوم بذلك خلال النصف الثاني من عام 1962. سيُنظر إلى هذه الدراسة فيما بعد كجزء من المعركة ضد عهد الانفصال، لكن النص يشير إلى محاولة الحافظ الجدية الابتعاد عن أي نوع من أنواع الذرائعية وتقديم نقد ماركسي رصين لنظام عبد الناصر كما بدا في ذلك الحين.

هل كانت ثورة أم انقلاب؟ يتساءل الحافظ بخصوص أحداث عام 1952 في مصر، ويُجيب بأن سجلّ المتغيرات منذ ذلك العام وحتى عام 1961 يشير بشكل واضح لا لبس فيه أن ما جرى كان ثورة، بكل ما في الكلمة من أبعاد ومعاني. صحيح أنها كانت ثورة «من فوق»، لكن هذا لا ينفي عنها طابعها الاجتماعي الجذري، «فالثورة ليست ذات قياس محدد أو نموذج معين كما يزعم المذهبيون – الثورة ظاهرة حية». في نفس الوقت، وعلى الرغم من عدائها للاستعمار وإقامتها النظام الجمهوري وانتصارها لطبقة الفلاحين المسحوقة تحت النظام الملكي، تبقى الثورة المصرية ضحية طابعها «الفوقي»، حسب تقييم الحافظ. فهي فشلت في بناء ديمقراطية شعبية حقيقية، بل على العكس لجأت إلى استعمال القمع كوسيلة للنضال إلى حدّ كادت معه أجهزة القمع تصبح فوق قيادة الثورة نفسها. للسبب نفسه، ولأنها لم تستطع تفعيل دور الجماهير في العملية السياسية على حدّ تعبير الحافظ، اضطرت قيادة الثورة إلى مسايرة «القوى الرجعية» ولا سيما على الصعيد الفكري والمعنوي، ووقفت عاجزة أمام نموّ القوى البيرقراطية واتساع نفوذها وامتيازاتها إلى حد كادت معه أن تصبح وريثة الطبقة المستغِلّة. وبالإضافة إلى فوقيتها، بقيت الثورة المصرية ذات طابع تجريبي لأنها افتقرت إلى نظرية ثورية «متفاعلة مع الجماهير الشعبية ومستعينة بالتجارب الاشتراكية الأخرى في العالم». هذه التجريبية انعكست بوضوح على الصعيد الاقتصادي كما على الصعيد الأيديولوجي الفكري، وفتحت باب التحالف الكارثي مع البرجوازية الصغيرة غير المعنية بالديمقراطية أو بالتوجه الإشتراكي الحقيقي 13 .

من الصعب ألا يشعر المرء بانحباس الحافظ ضمن قالب ماركسي شديد الجمود عندما يتحدث مراراً وتكراراً عن تخاذل «البرجوازية الصغيرة» دون أن يؤرخ لهذه الطبقة في السياق المصري أو العربي أولاً. لكن الشاب ابن الثانية والثلاثين كان يحاول من خلال هذا المفهوم الطبقي أن يجد تفسيراً موضوعياً للممارسات السياسية القمعية والانزياحات الفكرية الخطيرة التي كان يشهدها داخل المعسكر التقدمي في ذلك الوقت. وفي حين ننظر اليوم للتاريخ السياسي للتجارب الاشتراكية في القرن العشرين فلا نستطيع الفصل بينها وبين أنظمة الحزب الواحد وظواهر تغوّل الدولة وعبادة الفرد وسحق الحريات السياسية، كان الحافظ في ذلك الزمان يرى أن كل هذا لا يمتّ للاشتراكية بشيء، لأن روح هذه الأخيرة لا يتجسد حقاً إلا من خلال إطلاق حريات الجماهير الكادحة، وهو لذلك سيكتب في ذلك الزمان الطليعي الانقلابي، وقبل الكثيرين من أبناء جيله، دفاعاً حارّاً عن الديمقراطية وضرورة ممارستها الفورية:

«الحقيقة ثورية وأخلاقية دوماً. والديمقراطية هي التي تتيح للحقيقة التفتّح، وإن غرس فكرات الديمقراطية الشعبية لا يتأتى وفق أسلوب مفاجئ، يَسقط من علٍ كمِنحة من الحاكم عندما يقتنع أن الجماهير قد شبّت عن الطوق، فالديمقراطية لا يمكن أن تُؤجَّل أو تُقنّن، ولا توضع على الرفّ اليوم بزعم ممارستها غداً عند النضج، فالنضج السياسي وليد الممارسة الديمقراطية بالدرجة الأولى. الديمقراطية اليوم هي أمر لا بد منه للديمقراطية غداً، لأن ممارسة الديمقراطية على نحو ناضج ومسؤول ومنضبط لا يمكن أن يتهياً إلا بالممارسة الدائمة والمعاناة. فلكي نتعلم السباحة غداً يجب أن نمارسها اليوم» 14 .

في نفس الوقت كان الحافظ يتحسّس مشكلة أخرى، بالإضافة إلى الديكتاتورية والقمع السياسي، في النظام الناصري والتيارات القومية التقدمية بشكل عام: المشكلة هي ابتعاد تلك التيارات عن القيم الحداثية الإنسانية المستندة إلى العلم والعلمانية والفهم الموضوعي للتاريخ القومي، وارتدادها إلى مواقع تصالحية مع «التخلف الثقافي والاجتماعي، الغارق في ظلامات السحر والوهم والغيبيات». لا يقدم الحافظ لنا الكثير من الأمثلة الملموسة في هذا السياق، ولا نعلم إن كان يقصد في نقده هذا عدم التزام النظام الناصري ببرنامج جذري لعلمنة الثقافة والمجتمع المصريين على غرار التجربة الكمالية في تركيا، لكن الثابت أن هذه المشكلة ستؤرقه منذ تلك اللحظة وأنه سيحاول فهمها من خلال الإطار النظري الماركسي. محاولته هذه ستقوده مجدداُ إلى «البرجوازية الصغيرة».

لكن قبل ذلك، سيقرأ الحافظ كتاب فرانز فانون معذبو الأرض بعد أن كان سامي الدروبي وجمال الأتاسي قد ترجماه ونشراه لدى دار الطليعة في بيروت عام 1963، وهذا سيمكّنه من وضع أفكاره في سياق تاريخي مقارن. في العام التالي سينشر دراسة طويلة عن السياسة الاستعمارية في المشرق العربي، سيؤكد فيها على ضرورة تدعيم الأُسُس المبدئية لا الانتهازية لـ«الثورة العربية» وتقوية روابطها مع حركات التحرر الوطني الأخرى في العالم كما مع الدول الاشتراكية. وبعد محاولة أولى في ذلك العام أيضاً لنقد «المفاهيم الفاشية والشوفينية» التي تنزلق البرجوازية الصغيرة العربية إليها من خلال عقيدتها القومية، سيعود الحافظ ليتوسّع في هذا الموضوع نفسه في ورقة أطول لن ينشرها إلا كجزء من كتابه الصادر في أيلول 1965 15 . تلك الورقة لخّصت في عمقها ومقاربتها أهم أفكار الحافظ في تلك المرحلة التأسيسية من حياته، والوقوف عندها سيساعدنا على الانتقال إلى الخلاصات النهائية لهذه المراجعة لكتاب حول بعض قضايا الثورة العربية.

من هي البرجوازية الصغيرة إذاً حسب الحافظ؟ إنها الطبقة الإجتماعية التي دخلت الحياة السياسية في المشرق العربي من خلال الأحزاب الأيديولوجية الحديثة الصاعدة منذ فترة ما بين الحربين العالميتين، والتي انقسمت إلى فئات عربية انضوت تحت لواء الأحزاب والحركات القومية، وفئات غير عربية نشطت في الأحزاب الشيوعية. تلك الأخيرة بقيت خارج النضال الشعبي ضد الاستعمار والتجزئة بسبب حساسياتها الأقلوية من جهة، وانصياعها لسياسات الاتحاد السوفييتي من جهة أخرى. وهذا ساهم في جعل الأحزاب القومية التقدمية تتصدر نضال الجماهير في سبيل نهاية حقيقية للاستعمار، أي في سبيل إنهاء الأنظمة المهادِنة للغرب وتحقيق الوحدة العربية. هذا النضال القومي، يؤكّد الحافظ من جديد، كان ذا طابع ديمقراطي وثوري وتحرري، لا لأنه سّيس عموم الناس فقط بل لأن الرباط القومي هو بالتعريف «تصفية لجميع أنواع العبودية». فعندما ينادي الرجل الأسمر بهويته القومية فذلك لأنه يعادي التسلط الأجنبي أولاً ويريد التحرر من الروابط التقليدية العشائرية والطائفية والإقطاعية ثانياً. وعندها، عندها فقط، سيكون قادراً على التواصل مع العالم. لأنه كما قال فانون «الوعي القومي الذي هو ليس تعصباً قومياً هو الأمر الوحيد الذي يهب لنا بُعداً أممياً… التحرر القومي يكشف عن قيم أممية شاملة، ففي قلب الوعي القومي إنما ينهض الوعي الأممي ويحيا» 16 .

لكن هذه البرجوازية العربية الصغيرة، وبعد أن أصبحت هي الطبقة السائدة، ستنقلب على الطابع الديمقراطي والثوري والتحرري للشعور القومي وستحوله إلى «شكليات عقيمة». وبدلاً من التركيز على تاريخية الأمم وحداثتها وتجسّدها أولاً وأخيراً من خلال حركة الجماهير، ستقوم الأحزاب القومية الممثلة لهذه الطبقة بالانغماس في تمجيد الماضي والغرق في أساطير قبلية غيبية «تحتقر العلم والتجربة الإنسانية». ولأنها، حسب تعبير الحافظ، تحول «الواقعة القومية إلى أيديولوجيا كاملة» فهي ترفض التحليل الطبقي لقضايا المجتمع، وتلجأ إلى ردّ الواقع الفاسد المتخلّف إلى شخصيات فردية أو إلى الجماهير، «متهمةً إياها بالعاطفة والتقلب والجهل والتأخر». وفي الحقيقة فإن الحافظ يرى أن البرجوازية الصغيرة من خلال أيديولوجيتها الغيبية لابد أن تنقلب في المحصلة إلى موقع نخبوي وفاشي. وهو لذلك سيختم مقالته بكلام لا بدّ أن يبدو للكثيرين منا وكأنه توصيف لنخب سورية وعربية في يومنا هذا:

«التاريخ [حسب هذه النظرة] تصنعه النخبة، وهو مجرد تعبير عن إرادتها، لذا فهي بديل للتاريخ وبديل للتطور الموضوعي أيضاً. أما ’العامّة‘ فدورها الوحيد هو أن تكون أداة، مجرّد أداة بين يدي النخبة. النخبة تعلّم العامّة وتثقّفها، وترفع مستواها الأخلاقي، وتحرّرها من سجن الأنانية وسجن المصالح، لأنها تحمّلت مسؤوليتها… ولم يقف بعض مفكّري البرجوازية الصغيرة عند هذه الحدود في تأليه النخبة وتكريس معصوميتها، بل ذهبوا إلى مدى بعيد في إظهار احتقارهم الشامل العميق للجماهير، وهذا لا بدّ أن يدفع إلى انزلاقات دكتاتورية في الموقف من الجماهير الشعبية. إنّ رفض الواقع، عندما لا ينطلق من وجهة نظر اشتراكية طبقية، لا بدّ أن ينتهي إلى ضرب من الفاشي». 17

*****

لكن إلى أي مدى ينجح الحافظ نفسه في الانعتاق من نخبوية البرجوازية الصغيرة هذه؟ أو بكلمات أخرى، إلى أي درجة تستطيع ماركسيته النقدية وفهمه التقدّمي للقضية القومية التأسيس حقاً لالتزام مبدأي بحرية وفاعلية عموم الناس من سكان المستعمرات السابقة غير المنتظمين عموماً في أطر النضال الإشتراكية أو التقدمية الكونية؟ في مكان ما من مقالته الأخيرة تلك سيُصرّ الحافظ على أن أي مقارنة بين النخب المؤدلجة والجماهير ستكشف أن الأخيرة «أقل تعصّباً وجموداً»، وأن «انفتاحها النسبي والتواضع الذي يطبع مواقفها يجعلها أقرب إلى الحقيقة الموضوعية العِيانية من المواقف السكونية القبلية التي يتميز بها الفكر السياسي الإيماني». وفي مقدمة كتابه، سيتحدث الحافظ أيضاً عن أن أي نضال لا تصنعه الجماهير لا يدوم، وهذا يجعل من الضروري الانتقال «من الكواليس الدبلوماسية والغارات الثورية البيرقراطية إلى الشوارع والمتاريس». لكنه في أماكن أخرى، وفي معرض نقاشه لانخراط الجماهير في الحياة السياسية تحديداً، يعود ليتحدث عن أن بناء الديمقراطية الاشتراكية «لا يُغني عن وجود حركة طليعة، ففي بلد متخلّف، حيث الطبقة العاملة لم تنضج أيديولوجياً بعد، وحيث لا تزال ضعيفة عددياً، يصبح وجود حزب اشتراكي ضرورة لا بد منها لقيادة التطور». وبينما لا يملّ الحافظ من تكرار ضرورة تفعيل الحياة الديمقراطية في مصر، فإنه لا يقدم أي وصف أو شرح تفصيلي لشكل الديمقراطية الشعبية المنشودة، بل على العكس يكتفي في النهاية بالتعويل على قيام الرئيس عبدالناصر «بوضع ثقله مع الطبقة العاملة».

نحن هنا أمام تناقض جوهري في فكر ياسين الحافظ الشابّ: تناقض بين، من جهة، اللحظة النضالية الثورية –التي تدفع الحافظ للالتحام بعموم الناس، وللإصرار على رشدهم وجاهزيتهم السياسية في وجه الاستعمار والشيوعية الستالينية والبرجوازية الصغيرة– ومن جهة أخرى الفكر الحداثي، الذي لا يملك إلا أن يؤجّل أو يساوم على الفاعلية السياسية لهؤلاء الناس أنفسهم، وذلك بسبب عدم تطابق وعيهم أو حالهم أو شكل نضالهم مع النموذج الأوربّي المركزي ذي المراحل الواضحة والمنطقية. ماركسية الحافظ نقدية وديمقراطية وواعية بضرورة استنادها إلى الواقع قبل النظرية، لكنها مع ذلك لا تستطيع تخيّل المستقبل العربي إلا من خلال الحاضر الأوربي: تصنيع ثقيل – طبقة عاملة عريضة – وعي سياسي طبقي يستوعب فلسفة الأنوار العلمية ويتجاوزها من خلال المادية التاريخية… لذلك فهو يُدين نخبوية ودكتاتورية البرجوازية الصغيرة من جهة، ومن ثم لا يلبث أن يجد في «عدم نضج» وعي الطبقة العاملة العربية وضآلة عددها سبباً موجباً لوجود حزب طليعي يقود التطوّر. أما بالنسبة للفلاحين، وهم غالبية «الجماهير الكادحة» العربية في الخمسينات، فالحافظ يعبّر هنا أيضاً عن موقف ثنائي يجمع بين التضامن الثوري والتهيّب الحداثي: فللفلاحين، حسب تقييمه، جوانب إيجابية تتجلى في زخمهم وإصرارهم ورغبتهم الحارّة في الانفلات من أسر الواقع، لكنهم في الوقت عينه «عفويون»، «يشدّهم حنين خفيّ نحو التقاليد والعادات والأطر الاجتماعية والاقتصادية الموروثة»، و«ويغلف منطقهم صدى السحر والخرافة» 18 .

قول الحافظ بالحاجة لحزب طليعي للتعويض عن ضعف الطبقة العاملة في الدول المتأخرة صناعياً، وموقفه المزدوج تجاه الفلاحين في تلك الدول، لا بدّ أن يستدعيا في أذهان الكثيرين بعض النقاشات الكلاسيكية في الإرث الماركسي-اللينيني، والتي أثّرت لا شكّ في الحافظ منذ سنوات دراسته الجامعية. لكن الاكتفاء بردّ أفكار الحافظ إلى هذا القالب الأيديولوجي الضيّق يتجاهل أولاً السياق الفكري والثقافي الأشمل الذي جعله –وهو ذو الحسّ النقدي الديمقراطي– يتأثر بهذا الجانب من الماركسية اللينينة، ويتجاهل أيضاً أن تلك الأخيرة بحدّ ذاتها هي جزء من منظومة حداثية فكرية أكبر تستند إلى سرديات التقدّم الأوربي الكبرى. والواقع أن الحافظ لا يقتصر في استناده إلى هذه السرديات على فهمه للوعي الطبقي والعلاقة بين العمّال والفلاحين والشكل المثالي للثورة الاشتراكية، بل أيضاً في فهمه للدولة-الأمة القائمة على التحطيم الكامل للروابط المحلية والعائلية والطائفية، والإخراج الكامل للكنيسة والدين من الحيّز العام، والانتصار الكامل للبرجوازية الرأسمالية الصناعية ذات الهوى الجمهوري على الأرستقراطية الإقطاعية والمصرفية. لذلك، فهو عندما يهاجم البرجوازية الوسطى في سوريا في 1962 يَعيب عليها فشلها في إنجاز ما أنجزته نظيرتها الأوربية أولاً، واستغلالها وانتهازيّتها الطبقية ثانياً، وعندما يهاجم البرجوازية الصغيرة في عامي 1964 و1965، فهو ينتقد عدم جذريتها العلمانية والعلمية في الوقت نفسه الذي يشير فيه إلى نخبويتها. طليعية الحافظ وتهيبه من «السحر والخرافة» لا ينبع إذاً من الماركسية-اللينينة وحدها، بل من البنيان الإيديولوجي الحداثي الأعمق الذي يحوّل الماركسية في المستعمرات (تماماً كما الليبرالية والقومية) إلى أيديولوجيا تنويرية، ذات طابع تحرّري ونخبوي في الوقت عينه، تبشّر بالحرية والمساواة من جهة، وتنكرهما في الوقت عينه على «أبناء القرون الوسطى».

لكن إذا كنت أنا وآخرين من أبناء اللحظة الحالية قادرين على نقد حداثية الحافظ، فذلك لأننا بالدرجة الأولى نعتمد على ما كُتب في نقد الحداثة فلسفياً وتاريخياً خلال نصف القرن الماضي، ولأن حركة الواقع العربي من حولنا تُتيح لنا أيضاً تبيّن الاصطفاف التنويري بجميع ألوانه الأيديولوجية ضد الحركة السياسية الشعبية لعموم الناس. لم يحيا الحافظ في زمن كان المؤرّخون فيه يفكّكون سرديات التقدّم الهيغلية والماركسية والفيبرية الكبرى، ويكشفون مدى مساهمة الإقطاع والكنيسة والدين والهويات المحلية والأيديولوجيات المحافِظة في بناء الحداثة الأوربية، وينقدون الطابع الاستعماري أو الفوقي الذي اكتسبته التجارب التحديثية القومية في أوربا نفسها. أما الواقع العربي في الخمسينات والستينات فلم تكن حركته بالدرجة الأولى محكومة بمواجهة بين حِراك شعبي محافِظ ونُخَب علمانية تنويرية، بل بالصدام بين الأرستقراطية العربية المحافِظة والأحزاب الجماهيرية التقدّمية. حركة الواقع بمعنى آخر لم تكن قد بلورت بعدُ التناقضَ بين العلمانية الحداثية والديمقراطية الشعبية، والحافظ لم يكن مضطراً للاختيار.عندما ننقد حداثة الحافظ إذاً فنحن لا نساجل الرجل الفرد أو نُحاكِم خياراته الفكرية المثالية، بقدر ما نتبيّن من خلاله محدودية الأدوات الفكرية التي توفّرت لجيله من كتّاب ومثقفين في ذلك الوقت، وطبيعة الظرف السياسي وما أنتجه من تحدّيات ونقاط عمياء.

وفي الواقع فإن الفضيلة الأساسية لقراءة كتاب ياسين الحافظ حول بعض قضايا الثورة العربية أنها تجعل المرحلة الفكرية السابقة لسنة 1967 أكثر استعصاءً على النقد الليبرالي السهل. نقدية الحافظ المبكّرة وابتعادُه عن الفهم العقائدي المُعَلّب للقومية العربية والماركسية تجعلنا نأخد هذه الأفكار نفسها على محمل الجدّ، فنتساءل عن قيمتها التحرّرية وأسباب جاذبيتها التاريخية دون أن نتغاضى عن تناقضاتها وأوهامها. ليس هذا بتفصيل أكاديمي كما قد يتراءى للبعض… فأن ننظر لمرحلة تاريخية كاملة فلا نرى فيها إلا شخصيات و أفكاراً رثّة، هذا لا يختلف كثيراً عن أن ننظر للمرحلة ذاتها فنرى أنبياء وقادةً مُلهِمين. نصل في الحالة الثانية إلى صَنَمية فكرية مهترئة، نراها اليوم ماثلة أمامنا في هياكل الأحزاب القومية والشيوعية المتبقّية في المنطقة، بينما في الحالة الأولى نحن قابَ قوسين أو أدنى من نخبوية ثقافوية تستخدم التاريخ في مشروع شامل لتحقير الذات. أن نقرأ ياسين الحافظ الشابّ يعني أن نبدأ بفهم مرحلة الخمسينات والستينات في المشرق العربي بعيداً عن هذَين الخيارين. وربّما لو بحثنا عن شخصيات مماثِلة له في العمق والصدق والاستقلالية من الفترة ذاتها قد ننتهي إلى تاريخ جديد ومختلف للفكر العربي الحديث.

هوامش
1.
↑   انظر خالد العظم، مذكرات خالد العظم (بيروت: الدار المتحدة للنشر، ١٩٧٢)، نصوح بابيل، صحافة وسياسة (لندن: دار رياض الريس، ١٩٨٧)، أسعد الكوراني، ذكريات وخواطر (بيروت: رياض الريس، ١٩٩٩)، عبدالسلام العجيلي، حفنة من الذكريات (دمشق: دار طلاس، ١٩٨٧) وذكريات أيام السياسة (بيروت: رياض الريس، ٢٠٠٠) عرض جزئي مسلسل خان الحرير في أعوام ١٩٩٦ و١٩٩٨ ونالا شهرة واسعة في الأوساط الحلبية وقتها، وعلى الرغم من أن كاتب المسلسل نهاد سيريس ومخرجه هيثم حقي ركزا بالدرجة الأولى على الحركة التقدمية والأحزاب الجماهيرية الصاعدة حينها، فإن المسلسل عزز في الأوساط المحيطة بي حالة الحنين إلى الخمسينات وزعماء الإستقلال، الشيء نفسه ينطبق على الأجزاء الثلاث الأولى لمسلسل حمام القيشاني التي عرضت في أعوام، ١٩٩٤، ١٩٩٧، ١٩٩٨ تباعاً والتي كانت من تأليف دياب عيد وإخراج هاني الروماني
2.
↑   ما من كتاب أو مقالة واحدة تدرس تأثير ياسين الحافظ أو تتعمق في ظاهرة “تلاميذه” لذا فقد اعتمدت في كتابة السطور هذه على حوارات متفرقة تمكنت من أجرائها خلال السنين القليلة الماضية مع جاد الكريم الجباعي، ياسين الحاج صالح، صادق جلال العظم، حازم صاغية، حسام عيتاني، وفاروق مردم بك. قد لايتذكروا جميعاً أحاديثنا عن الحافظ فقد مر على بعضها زمن طويل، لكني أود أن أتوجه بالشكر له جميعاً على معلوماتهم القيمة ومشاركتهم لتجاربهم الشخصية مع الحافظ
3.
↑   انظر، ياسين الحافظ، الأعمال الكاملة (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ٢٠٠٥) ص: ٦٧٩/٤ – ٧٠٩/٤
4.
↑   المصدر السابق، ص: ٢٣٣/١
5.
↑   المصادر الأدبية والتاريخية والنظرية عن الإستعمار تكاد تكون لامتناهية، لكن الأعمال التالية تبقى محورية: جوزف كونراد، قلب الظلام، 1902(العنوان بالإنكليزية Heart of Darkness) أيميه سيزير، دفتر العودة إلى الإرض الأم،١٩٣٩ (العنوان بالفرنسية: Cahier d’un retour au pays natal) فرانز فانون، المعذبون في الإرض، ١٩٦١ (العنوان بالفرنسية Les Damnés de la Terre) ألبير ميمي، المستَعمِر والمُستعمَر، ١٩٦٥ (العنوان بالفرنسية: Portrait du Colonise, Precede du Portrait du Colonisateur) f) بارثا شاترجي، الفكر القومي والعالم المستعمَر، ١٩٨٦ (العنوان بالإنكليزية: Nationalist Thought in the Colonial World) أدوار سعيد، الثقافة والإمبريالية، ١٩٩٣ (العنوان بالإنلكيزية: Culture and Imperialism) هومي بابا، موقع الثقافة، ١٩٩٤ (العنوان بالإنلكيزية: the location of culture)
6.
↑   ياسين الحافظ، ص ١١٠/١
7.
↑   المصدر نفسه، ص ١١٨/١
8.
↑   الدراسة الأعمق والأشمل حتى الآن عن الكتلة الوطنية في سوريا وعقيدتها السياسية خلال فترة مابين الحربين هي ل فيليب خوري، سوريا والإنتداب الفرنسي، (بيروت: مؤسسة الأبجاث العربية، ١٩٩٧
9.
↑   أول من طرح مفهوم أعيان المدن كان المؤرخ ألبرت حوراني في مقالة شهيرة بعنوان “الإصلاح العثماني وسياسة الأعيان” نشرها في عام ١٩٦٨، وفيما بعد تعمق كل من فيليب خوري وماري ويلسن وليندا شيلشر وأخرون في التاريخ السياسي للأعيان في المشرق. أما الكتاب الأهم عن الحراك الشعبي في سوريا خلال حقبة الملك فيصل فهو لجميس غلفين، ولاءات مقسمة، الصادر بالانلكيزية عام ١٩٩٩، والعنوان الأصلي هو: Divided Loyalties): Nationalism and Mass Politics in Syria at the Close of Empire)
10.
↑   اعتمدت في كتابة السطور السابقة على أوراق أكاديمية كتبتها في السابق باللغة الإنلكيزية عن الصدام الجذري بين ثقافة الأعيان وثقافة النخب الجديدة اعتمدت فيها بالدرجة الأولى على الجرائد الصادرة في بيروت خلال حقبة مابين الحربين والتي عكست ذلك الصدام في نطاقه المشرقي الأدبي والفكري والسياسي معاً، بالتحديد: جرائد المعرض لميشيل زكور، النداء لكاظم وتقي الدين الصلح، المكشوف لفؤاد حبيش، الجمهور لميشال أبو شهلا، وبيروت لمحي الدين النصولي
12.
↑   ياسين الحافظ، ص ١٦٢/١
13.
↑   المصدر السابق، ص ١٧٣/١- ٢٣٢/١
14.
↑   المصدر السابق، ص ٢١٨/١
15.
↑   المصدر السابق، ص ١٢٩/١
16.
↑   المصدر السابق، ص ١٣٦/١- ١٣٧/١
17.
↑   المصدر السابق، ص ١٤٨/١
18.
↑   المصدر السابق، ص ٢١٣/١

موقع الجمهورية

 

 

ياسين الحافظ بين اللاعقلانية العربية واللاعقلانية الغربية/ محمود حدّاد

كانت نقطة الحرارة التي جعلتني أقترب من ياسين الحافظ ومن فكره لسنوات قليلة قبل رحيله – وأنا طالب جامعي – أو الجديد الذي وعيته عنه هو إشاراته المستمرة إلى دور العوامل الذاتية المتصلة بالرغبات والإرادات إضافة إلى الظروف الموضوعية في السعي للتغيير العربي المطلوب.

كنت من الجيل الذي وعى السياسة بصفتها انعكاسا فقط للواقع الافتراضي “المتخيل” الذي كنا نراه على الخرائط ونرسمه في أذهاننا ونبالغ في الاعتقاد أنه سيحقق نفسه بنفسه ولوبعد حين. كنا نعتبر أن التجزئة وليدة الاستعمار فحسب وأن الطائفية مجرد قشرة خارجية وأن لا فرق بين ما هو شعبي وما هو شعبوي فكان أن جعلنا نعي أن الأمور ليست بالبساطة التي كنا نرجو ونعتقد. فاستشراف المستقبل شيء والإحساس بمسؤولية المساهمة بتغييره شيء آخر.

وهو لم يعتبر أن السياسة المحضة أو”السياسوية” تستطيع تقديم الحلول لكل مشاكل العالم العربي مثل وقف نسبة الزيادة السكانية غير المتناسبة مع الإمكانات الاقتصادية، وقضايا النقص في الشخصية العربية مثل عدم احترام الوقت، وغياب النظام والتنظيم، وعدم الدقة في العمل، وعدم احترام المجال العام، وغيرها من المسائل والسلوكات الاجتماعية والوظيفية التي لا يعطيها المثقفون العرب عادة الأهمية التي تستحق.

كان تعبير”النقد” أثيراً عنده: نقد الحياة العربية سياسياً ومجتمعياً وثقافياً (مسألة الوعي). ولعله كان سيرحب بنقد بعض طروحاته لو كان بيننا اليوم. إلا أنه من الظلم أن نقارن الوضع العربي الراهن في هذه المجالات الثلاثة بالوضع الذي كان قائما عند وفاته. فلقد تدهورت الأوضاع المؤسفة أصلاً تدهورا بائناً يُذكّر بما كان يسأله قبل وفاته: “هل وصلنا إلى القاع فعلا؟”

مارس ياسين الحافظ النقد السياسي للأوضاع العربية في البداية، خاصة ما يتعلق بما اعتبره الموقف اللاعقلاني لبعض الاتجاهات العربية من سياسة الرئيس عبد الناصر قبل 1967. والداعية إلى عدم الانجرار إلى مواجهة مبكرة وغير محسوبة مع إسرائيل (لكنه لم يقف طويلاً عند الأسباب التي دفعت بعبد الناصر للخروج على عقلانية إستراتيجيته تلك والوقوع في الفخ الذي نُصب له وللحركة العربية في أيار 1967). كما ساهم في النقد الاجتماعي مهاجمًا البورجوازية الصغيرة والبورجوازية الوسطى (الوطنية) السورية – حسب تعابير تلك الحقبة في بداية الستينيات – لدورهما في إفشال الوحدة المصرية – السورية في1961 ولعدم أهليتهما للمساهمة في التنمية الاقتصادية للبلاد.

في المرحلة الثانية- ما زلنا في الستينات – تحدث عن الاشتراكية والنضال في سبيل تحقيقها وكذلك عن صراع قوى التحرر العالمي ضد الهيمنة الغربية وضرورة تشكيل جبهة عالمية موحدة في سبيل التحرر وهي عناوين تبدو مفوّتة اليوم وبحاجة إلى مراجعة جذرية خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وما تكشف عن وضعه الاقتصادي وطرائق إدارته الداخلية قبل انهياره.

في المرحلة الثالثة (السبعينات) كتب ياسين الحافظ “اللاعقلانية في السياسة العربية” عقب حرب 1973 التي أتت بانجاز عسكري نسبي، وبهزيمة سياسية واضحة. كما كتب”التجربة التاريخية الفيتنامية” التي كانت تقويماً نقديا مقارنا مع التجربة التاريخية العربية. والواقع أن هذا الكتاب أثار نقاشاً كثيراً حول قدرة المجتمع الفيتنامي، المتأخر اقتصادياً إنما القريب من الحداثة ثقافةً وايديولوجياً وسياسةً على النصر – كما كتب بنفسه – بينما لم يستطع المجتمع العربي التقليدي والبعيد عن الحداثة في جميع المجالات خاصة الثقافية والايديولوجية والسياسية سوى إعادة إنتاج الهزائم. ولا شك في أن التحليل المنشور ممتع وغني في تعريفنا على البنية الكاملة للتجربة الفيتنامية، إلا أن مرور أكثر من ثلاثة عقود على كتابته تجعلنا نعيد النظر في بعض طروحاته. فالإرادة مهمة كما الإمكانيات المادية. فلا بد من الإشارة إلى أنه كان هنالك عنصر مادي موضوعي غائب يجب التوقف عنده، وهوأن الحركة الوطنية الفيتنامية كانت مدعومة عسكريًا بصورة جدية من حليف جغرافي قريب وكبير هو الصين الشعبية، وكذلك من روسيا السوفياتية التي لم تبخل عليها بكل أنواع الدعم. أما البلاد العربية فلم يكن لديها حليف جغرافي متاخم كما أنها تلقت دعمًا سوفياتيا عسكريًا قد يكون مقبولاً على المستوى الكمي، لكنه كان أقل نوعية من مستوى التسليح الغربي لإسرائيل على العموم إلا في استثناءات قليلة.

نضيف هنا أن “اللاعقلانية الغربية” ترفد اللاعقلانية العربية التي تحدث عنها ياسين الحافظ. وقد يستغرب البعض استخدامي لتعبير “اللاعقلانية الغربية” عن منطقة تعد الأكثر تقدمًا في العالم الحديث والمعاصر. إلا أنني استخدم التعبير قصدًا لأشير إلى عامل رئيس في دعم الغرب – خاصة الغرب الأنغلوساكسوني- المطلق أو شبه المطلق لإسرائيل لم يعطه المثقفون العرب اهتمامهم الكافي. فهم تحدثوا عن الأهمية الإستراتيجية لإسرائيل بصفته قاعدة غربية متقدمة في قلب العالم العربي، وتحدثوا عن أنها ضرورية لضمان تدفق النفط العربي إلى شرايين الاقتصاد الأوروبي والأميركي، وهذان عاملان عقلانيان وإن كانا في غير مصلحتنا.

لكن العامل اللاعقلاني الإضافي الذي ظل مُغيباًا يتمثل في العامل الديني الذي يربط الاتجاه السلفي المسيحي الغربي خاصة في بريطانية والمانيا في البداية ثم في الولايات المتحدة الأميركية بإسرائيل بغض النظر عن أية مصلحة سياسية أو اقتصادية أو إستراتيجية (هناك الكثير من المصادر والكتب الأجنبية والمترجمة التي تغطي هذا الموضوع بتفاصيله). وكانت غالبية المثقفين العرب، خاصة اليساريين منهم، رافضين عمليًا لأي تحليل لا يقتصر على الأسباب السياسية والإستراتيجية، وغير واعين لمدى الـتأثير الأيديولوجي الديني على الدعم الغربي الكامل للكيان الصهيوني.

فهل يعقل أن الغرب المعروف بعلمانيته وديموقراطيته ينحو منحى لاعقلانياً في ما يتعلق بقضية محددة ما؟ الجواب الذي اكتشفناه، بعد تردد فكري ومراقبة عينية طويلة لعقود ليست أقل طولاً من الزمن، أنْ نعم. فإسرائيل قد تكون مصلحة إستراتيجية للغرب، لكنها قبل ذلك وأهم من ذلك، ممثلة لايديولوجيا دينية شعبية سلفية متطرفة يحرص المجتمع الغربي – قبل دوله – على احتضانها على الرغم من الآثار العدائية التي يتركها ذلك على علاقات الغرب بالعالمين العربي والإسلامي على حد سواء. أصبح من المحرمات توجيه أي نقد لإسرائيل”المقدسة” ولسياساتها في الغرب والجهة التي تتجرأ، استثنائيًا، وتفعل ذلك تصبح في حكم المنتهية سياسيًا.

فالسلفية المسيحية موجودة في الغرب كما السلفية الإسلامية موجودة عند العرب والعجم. هذا ما سيجعلنا قادرين أن نفهم غياب أي موقف ناقد لإسرائيل في الكونغرس الأميركي وكيف تكون مطالب تل أبيب واجبة القبول ودائمًا في المؤسسات التمثيلية في واشنطن ولندن وبرلين وحتى باريس. هذا الإجماع الذي لا يجابه بأية معارضة، ولو بسيطة، يجعلنا نشك في الديموقراطية الغربية ذاتها لولا أننا نراها في كل الحقول البعيدة عن مسألة الحفاظ على تفوق إسرائيل الدائم على كل العالم العربي مجتمعًا وليس على الحفاظ عليها فحسب. كما أن هناك علاقة بين الضغوط الهائلة التي يمارسها الغرب على مجتمعاتنا وغياب الديموقراطية التي يدعواليها الغرب نفسه صبح مساء.

في النهاية، لا تكمن أهمية كتابات ياسين الحافظ في القائه الضوء على هذه الفكرة أوتلك، أوتنبيهه لهذا النقص في الفكر السياسي العربي أوذاك، وإنما في منهجيته التي أصرت على التحليل الذي يجمع الظروف الموضوعية والذاتية كي نخرج بوعي “مطابق”- كما كان يؤثر القول- للواقع.

 

استاذ جامعي

النهار

 

خواطر من اوراق ياسين الحافظ : بمناسبة الذكرى السنوية لوفاته 28 تشرين اول 1978/ منير درويش

الكتابة عن ياسين الحافظ لا تنتهي ويجب ألا تنتهي، كما التعريف به واسع ومتعدد الجوانب والمزايا.

يعرفه الياس مرقص ” تعريفاً شخصياً ” ونثني على هذا التعريف ، علاقته به ترجع إلى عام 1953 ، وعلاقتنا به إلى بداية الستينات من خلال ما كتب من مقالات ، ثم تتواصل مع كتابه ” حول بعض قضايا الثورة العربية ” 1965 ” وتستمر حتى وفاته ولا تنتهي بعد الوفاة .

يقول الياس مرقص في تقديمه لكتاب ياسين الأخير ” في المسألة القومية الديمقراطية ” . مع أن إقامتي معه في مدينة واحدة وأحياناً في بيت واحد لم تكن طويلة وعميقة. لكن بيتنا الواحد كان وجداننا ، وعينا ، وعالمنا ، العالم ، الوطن ، الشعب . قلما فكرت أو كتبت إلا بالتعاون معه في استجابة وتجاوب .

ذاكرة حسية تتواصل وتتفاعل مع ياسين وكل من عرفه في دائرة تتخطى حياة الأفراد إلى قضية الوطن الإنسان ومصائرهما في لحظات انتصار سطحي للأمة وهزائم متكررة وعميقة .

نحن أيضاً رسمنا وعينا بالتفاعل والتعاون مع ياسين عايشناه وعشنا معه في المساهمة والمناقشة مع الحزب ، حزب العمال الثوري العربي ومجالسه ومؤتمراته وما صدر عنها وهي كثيرة ، ونشرته المركزية “ الثورة العربية ” أو النشرة القطرية ” الديمقراطي العربي “ ثم في إشكاليات فلسفية وفكرية نتفق معه ونختلف وللكل حق الاختلاف حول ” الثورة القومية الديمقراطية ذات الأفق الاشتراكي ” التي يبدو أنها لن تحسم أللهم إلا بعد زمن طويل .

الوطن عند ياسين وعندنا هو ذلك الفضاء الذي يجمعه ويجمعنا مع أفراد متنوعين في الانتماءات و الأمزجة والسلوك والمصالح لكن الذي يوحدنا شعورنا بالانتماء الشامل للأرض والتي نقف عليها ومنها ننطلق للتجمعات الأصغر التي تحدد معتقداتنا وقومياتنا وكل الإثنيات الأخرى أكثرية كنا أم أقلية .

وطنه سورية ، وأمته العربية ، لم يجد تناقضاً بين وطنيته وقوميته أراد لهما نهجاً علمانياً ديمقراطياً يوحد ، ولا يفرق أو يلغي أو يتجاوز وجود الأقلية إلى جانب الأكثرية طالما كانت عوامل الانتماء للوطن متوفرة ، انطلق أولاً من الاعتراف بالعالم الزمني اعترافاً مبدئياً ونهائياً كما يقول عنه الياس أيضاً ، فهم هذا العالم وفهم ضروراته كشرط لتغييره . اعترافه بالإنسان كفرد له حقوق تناسب إنسانيته وأنسنته ، واعترافه بالمواطن الذي يقاسمه الوطن مهما كان قريباً منه أو بعيداً عنه في انتمائه أو تفكيره هذا المواطن صاحب الحقوق التي يجب أن ينالها كاملة غير منقوصة لأي سبب ، ولا تقبل الاستغلال أو التهميش أو الإقصاء ، يتجاوز بمواطنته هذه انتماءه للتشكيلات الأدنى ، العائلات والعشائر والطوائف دون أن تلغيها ، وينتمي للمجتمع والدولة التي لم تستطع أن تجد مرتكزاتها في المجتمعات العربية وبقيت في إطار إيديولوجيا القرية التي تجد صيغتها المعممة في الشكل الذي رسمه لها الملك حسين ملك الأردن   ( ضيعتنا الأردنية ) .

الحرب اللبنانية ” حرب طائفية قذرة ” هكذا سماها ياسين واختلف حولها مع كل ( التقدميين ) العرب الذين أعطوها تسميات تقدمية أو طبقية أو قومية ، النزعة الطائفية لم تتوقف عند لبنان بل تجاوزتها إلى كل المجتمعات العربية ، تجاهلها السياسيون والمثقفون العرب من مختلف المشارب معتمدين على توحد ظاهري هش لهذه المجتمعات ، أزمة مخفية لكنها فاعلة . يقول ياسين في سيرته ” كنت أجهل أو أتجاهل كواحد من التيار التقدمي المشرقي ، المسألة الطائفية في الوطن العربي أو أبسطها وأنظر إليها نظرة وحيدة الجانب أو بالأحرى أكثروية بشكل ضمني وغير واع ، بيد أن الشكل الحاد للصراع الطائفي اللبناني الناتج عن وجود أقليات وأزمات ما لبث أن فرض علي إعادة التفكير بالمشكلة ليكشف لي عمقها وتعقيداتها وجذورها التاريخية .

في السياسة . سورية لها الفعل البارز في السياسة العربية بسبب اندفاع حركتها المبكر بكل خصوصياتها قومية أو دينية أو طائفية ، وطنية أو تقدمية ، برجوازية ، وأغنياء أو فقراء ، كلها سعت لبناء جنين دولة فيها مؤسسات وأحزاب ومنظمات هدفهم الأول بناء الوطن وتقدمه ونمائه ، فيه يتنافسون يختلفون ويتفقون بل ويتصارعون ثم يعودون للدائرة الأولى إلى الوطن . لكن الاستبداد الذي عاجلهم أسس لنفسه مراكز قوة كي يبقى أجهض هذه المحاولة وأعاد الأمور إلى عصر المماليك من جديد وألغى جنين الدولة

انتقلت سورية من الديمقراطية التي شهدتها منتصف الخمسينات على كل علاتها إلى الاستبداد ، ضحت بديمقراطيتها هذه من أجل الوحدة إيماناً منها بأن الوحدة سبيل ناجع لتعميق الديمقراطية وتعزيزها ، لكن قيادة الوحدة والنخب السياسية التي صنعتها   لم تستوعب هذه الفكرة ، ولم تستوعب أن استمرارها لن يكون إلا بالديمقراطية التي تحقق المساواة بين المواطنين ، وتطلق حرية الأفراد في الرأي والتعبير وحكم المؤسسات وتفصل السلطات ، وليس بالديكتاتورية وحكم الفرد مهما تمتع هذا الفرد بصفات القيادة والنوايا الوطنية الصادقة .

كان ياسين من أوائل الذين قاوموا هذا الاستبداد ليس بسبب ما تعرض له من اعتقال وإهانة فيما بعد مع رفاق له عدة ( فالحقد موجه سيء في السياسة كما قال لينين ) بل لأن هذا الاستبداد كان وبالاً على الأمة وسبب هزائمها . انخرط مع نضال شعبه الذي ذاق عذاب هذا الاستبداد وسبب له الهزائم من هزيمة حزيران 1967 إلى الهزائم الداخلية التي عملت على تفتيت المجتمع ونزع السياسة منه ونهبه ليتناسب مع مقاس الاستبداد ويؤسس لاستمراره . إن هزيمة حزيران لم تكن بسبب ضعف القوة العسكرية العربية أمام العدو الإسرائيلي بل بسبب هزيمة المجتمع وعزل الشعب عن قضاياه ومنعه من التعبير وحرية الرأي وهيمنة الأنظمة التي بقيت إما أميرية أو ملكية أو عسكرية ، هذا واقع الأمة ، وإذا ما ظهر ما يخالف ذلك كما هو حال لبنان ، جرى تطويقه وإجهاضه حتى لا يؤثر في هذا الواقع .

إيمانه بالشعب والوطن والشعب ليس طوباوياً أو شعورياً بل إيماناً عميقاً لأنهم هم الذين يصنعون تاريخهم ومصيرهم ، وكان على النخبة العربية أن تلعب دوراً بارزاً في هذا المجال لكنها تقاعست ، حيث وجد بعضها في خلاصه الفردي طوق النجاة بينما وجد البعض الآخر في الحاكم ولي نعمته فسخر له قلمه بدل أن يسخره للشعب . هذا ليس تخاذلاً أو خيانة أو تجسساً ومؤامرة بل جزء من الوعي العام الذي يضع مصالحه فوق مصلحة الشعب والوطن، من هنا أدان ياسين هذه النخب وقصور وعيها المتدني والمتأخر. ونقدها نقداً موضوعياً لم يكن فيه تجريح أو تسفيه بل محاولة لإحداث صدمة إيقاظ للوعي من تقاعسه وسباته.

الثورات العربية التي أطلقتها الشعوب العربية بعفويتها كشفت ستر هذا التقاعس ، كتل بشرية تنطلق لمواجهة أنظمة الاستبداد وتسقطها ، الأنظمة التي طالما أرعبت هذه النخب وفرضت عليها تصالحاً بحيث جعلت من معارضتها مجرد رفع عتب رغم كثرة تضحياتها ، لذلك بدا وعي الشعب أعلى بكثير بل لنقل أكثر جرأة من نخبها بكل فصائلها

سورية في أزمة وضعتها على حافة الانهيار الشامل ، والنخب السياسية وقواها في الداخل والخارج عاجزة عن مواجهة هذه الأزمة لتتركها للعالم والدول ومبعوثي الأمم والعرب لمعالجتها وهي تتصاعد يوماً بعد يوم لتصل حدود الدمار القصوى .

بعد هزيمة 5 حزيران فكرة الانتحار راودت ياسين ، هكذا قال في سيرته الذاتية . ماذا لو عاش الأزمة السورية ومآسيها ومفرزاتها ، ماذا كان سيراوده وبماذا كان سيفكر؟ .

 

 

 النخب السورية والحرب الأهلية في لبنان (ياسين الحافظ نموذجاً)/ شمس الدين الكيلاني
لم تكن الحالة الديموقراطية اللبنانية في مركز اهتمام النخبة القومية واليسارية السورية أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، ولم تساعدها الأدوات الإيديولوجية التي تمتلكها، في التقدير المناسب لفداحة الخسارة التي يمكن أن تصيب الحياة العربية من جراء ضرب الديموقراطية قي لبنان، فلم تكن الديموقراطية أو استقلال لبنان سوى فرع صغير من اهتمام تلك النخبة بالمسألة الاجتماعية والقومية. كان وحده ياسين الحافظ ومعه قلة من المثقفين السوريين، قد أفرد مساحة من اهتمامه للمعضلات الشائكة التي يمكن أن تترتب عن اختلال التوازنات الطائفية والمذهبية اللبنانية، ومسؤولية ما يسميه الانقسامات الاجتماعية العمودية في إثارة الحرب الأهلية اللبنانية، وهو ما يستدعي تغليب لغة الحوار على لغة الحسم الحربية. فقد وصف الحرب الأهلية اللبنانية بـ«الحرب الطائفية القذرة»، معارضاً بذلك اتجاهات التقدميين السوريين واللبنانيين والعرب، واعتبر إيقاف الحرب على قاعدة الحفاظ على وحدة الدولة اللبنانية واستقلالها من المهمات الأولى لكل ديموقراطي علماني وقومي عربي. وأدرك الحافظ حجم الخسارة التي تصيب الحياة العربية، إن فقدت نافذة الحرية في بيروت، وعبر عن شعوره أمام فاجعة الحرب الأهلية بقوله: «أحسست وأنا ذو الهوى القومي العربي، أنه ليس وطني فقط الذي يحترق، بل بيتي أيضاً، وأن فاجعة لبنان كانت مجانية، كثيرة هي الأسباب الأصلية والمباشرة التي دفعت إلى إحراق لبنان، لكن يُخيل لي أنه لقي هذا المصير لأنه نافذة للديموقراطية، مهما بدت مثلومة وملوثة، كانت لا تزال مفتوحة فيه، هذه النافذة، التي تفد منها رياح الثقافة الحديثة، والتي جعلت من لبنان مختبراً فكرياً للوطن العربي، ومن بيروت عاصمته الثقافية والسياسية، وكانت مُستهدفة بلا شك».

وبنوع من تأنيب الضمير والتكفير عن خطأ الوعي وانحرافه، اعترف أنه» عندما جئت للإقامة بلبنان، كنت كواحد من التيار التقدمي المشرقي، أجهل وأتجاهل في آن المسألة الطائفية في الوطن العربي، أو في أحسن الأحوال، أُبسِّطُها وأنظر إليها نظرة وحيدة الجانب وبالأحرى أكثروية بشكل ضمني وغير واعٍ. بيد أن الشكل الحاد واليومي الذي للصراع السياسي الطائفي اللبناني، الناجم عن وجود أقليات كبيرة وازنة، ما لبث أن فرض عليَّ إعادة التفكير بالمشكلة.. وكشف لي عمق المشكلة وتعقيداتها وجذورها التاريخية». ما لبث أن اتخذ موقفاً متفرداً، مميزاً، يختلف عن مواقف معظم الفصائل الوطنية والتقدمية. بدلاً من المشاركة في الحرب الطائفية أو تبريرها، إدانتها والعمل على وقفها». فذكر ثلاثة عوامل رئيسية دفعته إلى هذا الموقف. أولها: أن القوى القومية والوطنية التي انخرطت في الحرب الأهلية» تفتقر إلى وعي مناسب بمشكلة الأقليات»، وتبتعد في تقويمها لهذه المشكلة عن التحليل التاريخي، كما تُهمِلُ المنظورات الأيديولوجية والسياسية العلمانية والديموقراطية الضرورية لإطلاق عملية دمج الأقليات قومياً، وتكتفي أخيراً، من دون أن تهيئ عملية الدمج، بمحاكمة وإدانة الأقليات من خلال توجسها من الأكثرية. ثانياً: «منظورات تلك القوى في تقييم مسائل الثورة العربية وطبيعة الحركات السياسية لا تزال منظورات سياسوية لا تذهب إلى القاع الأيديولوجي الاجتماعي التاريخي». وتعاني من التناقض بين ثورية سياسيوية تقدمية ومحافظة إيديولوجية، «عاجزة عن تجاوز الواقع الطائفي، ومنزلقة في النهاية إلى ضرب من طائفية ضمنية، أكثروية، مضادة فحسب للطائفية الأقلية». وهي تُنكر على هذه الحرب كونها حرباً طائفية ما دام في صفوفها مسيحيون وطنيون. غير أن حججها بنظر الحافظ تسقط للعديد من الأسباب: طالما أن الأكثرية الساحقة من المسلمين في جانب والأكثرية الساحقة للمسيحيين في الجانب الآخر. والأحزاب المسيحية «تملك شئنا أم أبينا صفة تمثيلية لدى المسيحيين».. فعندما نرى كتل الطوائف المسيحية الأخرى في لبنان تقترب من الموقف الماروني والكتل المسيحية خارج لبنان مأزومة ومتعاطفة إجمالاً مع القوى المسيحية المقاتلة. عند هذا كله يغدو الاكتفاء بوصف الانعزالية وتحويله إلى شتيمة لغواً لا يفيد في طرح مناسب من المشكلة ولا في تصور المخرج».. كما أن الحركة المناهضة للانعزالية المزعومة لا تشكل نقيضاً لها، بل هي مجرد عدو تقليدي.

لم ينظر الحافظ إلى المسألة اللبنانية والصراعات الداخلية اللبنانية من زاوية سياسية تتعلق بالسياسة الخارجية للبلد، أي بمن يصطف مع المقاومة الفلسطينية والنضال ضد العدو الصهيوني، بل تتعلق بالتوازنات الاجتماعية/الطائفية أساساً، وبحذر هذه الطائفة أو تلك من غلبة الطوائف الأخرى على الاجتماع السياسي اللبناني. كتب «في لبنان الطوائفي المبني على توازنات حساسة بسبب التكافؤ العددي بين الطرفين الإسلامي والمسيحي أولاً، وبسبب البسيكولوجيا التاريخية للموارنة ثانياً، وبسبب الشعور بالانفصام، المتفاوت الحدة والعمق بين طرف وآخر، الكامن وراء التصرفات والرؤى لدى كل من الصفين المسيحي والإسلامي ثالثاً؟ في لبنان هذا لم تكن الحرب الطائفية التي شهدنا، صدفة عارضة. بل على عكس، كانت على الدوام احتمالاً مطروحاً، تتزايد فرصه أو تتضاءل تبعاً لحركة التوازنات الطائفية… فعندما يكون بلد ما مؤلفاً من أطرافٍ متعددة تفتقر إلى لحمة قومية، وعندما يسمح توازن معين في نسب القوى لطرف طائفي بالتحرك لتعديل النسب القائمة بنسب أخرى أكثر مؤاتاة له، عندها يصبح الانفجار أمراً شبه محتوم». أما عن الظروف الجديدة التي انبثقت عنها الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، فيقول: «في ظل ميزان القوى الطائفي اللبناني الجديد، الذي جاءت به المنظمات الفلسطينية وحرب تشرين، أدت البسيكولوجيا التاريخية للموارنة إلى توترها التقليدي. هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن الشارع الإسلامي، السني بخاصة، الذي يملأه شعور واضح بالغبن منذ الاستقلال، تحرك في محاولة لإرساء صيغة جديدة، صيغة عدالة طائفية، أو مشاركة طوائفية، تضعه على قدم المساواة مع الشارع الماروني. في هذا المناخ أصبحت الحرب المواجهة شبه حتمية.. الوعي الذي أوصل الشعب اللبناني إلى هذه الحرب القذرة هو عينه الوعي الذي قاد ونظم هذه الحرب وخطط معاركها وعبأ قواها».

ثم يقول في سياق تطلعه إلى مخرج تاريخي: «وإلى أن تستطيع الانتلجنسيا الإسلامية اتخاذ قرارها التاريخي بعقلنة، وبالنتيجة علمنة، المجتمع اللبناني، ستبقى الطوائف بتناقضاتها، بوعيها التقليدي القاصر، بتوازناتها الهشة القلقة، المرتكز المهزوز للكيان اللبناني، المُقسَّم بالقوة أو الكمون وإن لم يكن بالفعل. والواقع أن تحديث وعي النخبة الإسلامية يشكل خطوة مزدوجة في طريق حل مسألة الطوائف: من جهة أن تجاوزها الأيديولوجية التقليدية يهيئ لبناء قاعدة علمانية مشتركة تشكل مصهراً قومياً للمسلمين والمسيحيين، وبهذا تتجاوز التناقض بين وسائلها التقليدية الطائفية وبين أهدافها القومية العصرية. ومن جهة أخرى فإن امتلاك النخبة الإسلامية ناصية أيديولوجية عصرية سيمنح الجماعات الإسلامية لا النضج السياسي والثقافي فحسب، بل أيضاً سيمنحها القوة المادية التي تكفل توحيد وصهر الأقليات في البنيان القومي المندمج المتلاحم العلماني الحديث، وتقضي نهائياً على هذا التقسيم الكامن».

المستقبل
 

36 عاماً على رحيل ياسين الحافظ: السوري المتبصّر بالتجربة اللبنانية/ مصطفى الولي

في الأيام الأخيرة من تشرين الأول (1978)، توقّف قلب المفكر السوري ياسين الحافظ، في بيروت، حيث اقام أواخر سني عمره، بعد صراع مرير مع السرطان. كانت سيرة حياته وترحاله، من دير الزور في أوائل خمسينيات القرن الماضي مروراً ببعض عواصم العالم، وأبرزها باريس، وحتى مستقره الطويل والأخير في بيروت، بمثابة رحلة بحث وتأمل في أحوال البلاد العربية، التي ظل مهموما بقضاياها وبالتحديات التي تواجهها.

ركّز الحافظ في كتاباته على مشكلات الفوات، أو التأخر الثقافي والفكري، ما جعله أحد أهم المثقفين النقديين، ممن غرّدوا خارج السرب السائد، في تلك الفترة.

لعل أهم وأبرز المساهمات الفكرية النقدية، التي قدمها المفكر الراحل، للواقع وللأفكار السائدة، تمثلت في تناوله موضوع «الأقليات» المذهبية والطائفية والاثنية، الذي دخل إليه من باب الحرب الأهلية اللبنانية، وبدرجة أقل، من إطلاله على قضية الأقباط في مصر.

هكذا، شغلت قضية «الأقليات»، في البلدان العربية، اهتمام الحافظ باعتبارها تتصل عضويا بقضية الأمة، والوحدة، بمضمونها الديموقراطي. وفي ذلك فقد اشتغل على مناقشة قضية التكوينات الاجتماعية المتنوعة للبلدان العربية، وكيفية توفير أسس الاندماج، او التعايش، بينها وفقا لقواعد الديموقراطية، كشرط مؤسّس لحل ما بات يعرف بقضية «الأقليات»، وفق منظور واقعي وعملي، اجتماعياً وثقافياً وسياسياً، باعتبار أن الوحدة المجتمعية داخل كل بلد، ذات صلة أكيدة بوحدة الدولة الوطنية، وتاليا باعتبارها ضرورة لقيام وحدة البلدان العربية.

قيل الكثير في الحرب الأهلية اللبنانية وأسبابها الخارجية، «الامبريالية» وإسرائيل، كما ادعت التيارات الوطنية والقومية والإسلامية واليسارية، وكما ادعت بعض القوى الطائفية المسيحية. لكن ما توصل إليه ياسين الحافظ، في هذا الشأن، أنه «عندما يصبح بلدا ما مؤلفاً من أطراف طائفية متعددة تفتقر إلى اللحمة، الوطنية او القومية، وعندما يسمح تغير ما في نسب القوى لطرف طائفي بعينه بالتحرك لتعديل النسب القائمة لصالحه، عندها يصبح الانفجار أمراً شبه محتوم»، لذا فالتفتيش عن طرف خارجي يلقى على ظهره وزر الحرب الطائفية محاولة ماكرة ومفضوحة في آن معا.» وقد بيَن الحافظ أن العنصر غير اللبناني، عربيا أو فلسطينيا أو أجنبيا هو مجرد عنصر خارجي وتابع للعنصر اللبناني، الذي يبقى بوصفه العنصر الأساسي أو المحوري في هذا الاقتتال.

في بحثه عن جذور الحرب الأهلية اللبنانية بحث الحافظ في التاريخ السياسي والاجتماعي والديني للبنان، وفي واقعه الطائفي، رافضا اعتبارها مؤامرة، كما رفض الانحياز فيها الى هذا الجانب أو ذاك. وكان موقفه متفرداً، ومتميزاً، ويختلف عن مواقف القوى الوطنية والقومية السائدة، سيما مع فكرته عن الحرب اللبنانية باعتباره لها «حرباً قذرة».

وإذا كان الراحل ميّز، في تحليله لتطورات الحرب الأهلية، بين موقع هذا الطرف أو ذاك، وسلَط الضوء على خلل الوعي «الأكثري»، في تعامل قواه، الوطنية والتقدمية، مع «الأقليات»، فإنه وصل إلى القول بأن حل هذه المشكلة « يتوقف أيضاً على نضج الأكثرية، ونخبها الفكرية. في هذا الطرح يكون الحافظ وضعنا إزاء استحقاقات تتطلب تجاوز «الأكثرية» مقولة أن حراك «الأقليات» نابع من معطى خارجي، أو أن مصالحها مرتبطة بأجندات الخارج، وأن على « الأقليات»، ونخبها الثقافية، نزع هذا الاعتقاد السائد إلى حد بعيد، ضمنًاً أو تصريحاً، باعتبار ان مشكلاتها هي ذات مشكلات الأكثرية، أي انها تتعلق بالتطور السياسي والاجتماعي للبلد، وبمسألة الانتقال لنظام سياسي يتأسس على الديموقراطية.

في الظروف العربية الراهنة، ها نحن اليوم نعيش تداعيات ومخاطر الانقسامات الطائفية والاثنية، وبدرجات أكبر بكثير من تلك التي عايشها الحافظ وحذر من خطورتها وهو قيد الحياة.

في دير الزور، تلمس ابن «الأرمنية»، كما كان يتعارف عليه أبناء جيله، معنى الأقلية كضحية، في مجتمع تقليدي منطو على نفسه، فكانت أمه ضحية مرتين، باعتبارها امرأة في مجتمع تقليدي يتعامل بدونية مع المرأة، وبوصفها أجنبية (أرمنية ـ مسيحية) من خارج القوم الديري.

وعلى الأرجح فإن ذكرى هذا الاضطهاد المزدوج، الذي عانته أمه، ترك عميق الأثر في تشكل وعيه لمسألة الأقليات، وفهمه لأهمية الديموقراطية، فيما بعد، وقد حصل ذلك في لبنان، الذي حفّز الحافظ، بتركيبته الطائفية المتنوعة، وبصراعاته العبثية، على تجاوز العصبية القومية وعصر الأيديولوجيا.

المستقبل

 

 

 

 

 

ياسين الحافظ وعقلانية السياسة/ جاد الكريم الجباعي

عنون ياسين الحافظ أحد كتبه المهمة بعنوان “اللاعقلانية في السياسة”، وموضوعه نقد السياسات العربية في المرحلة ما بعد الناصرية. وأول ما يلفت نظر القارئ في هذا الكتاب هو النهج النقدي الذي انتهجه كاتبه، حتى لنكاد نخلص منه إلى نتيجة مؤداها أن العقلانية على الصعيد المعرفي هي النقد، نقد الذات ونقد الموضوع الذي هو أيضاً ذات وحياة. وهو ما كان يسميه الياس مرقص “جهاد النفس وجهاد المعرفة”. والنقد هو أبرز خصائص العقل / الفكر الذي لا يني يثبت وينفي إلى ما لا نهاية، الإثبات يحدد مجالاً هو مجال العلم الوضعي الإيجابي، والنفي يحدد مجالاً آخر هو مجال الفكر النظري الذي يتجاوز حدوده باستمرار مستفيداً من معطيات العلم الوضعي الإيجابي وما يوفره من مقدمات موضوعية، وكلاهما، المعطيات والمقدمات نتاجات العمل البشري الواعي والهادف.

العقلانية في الفكر مسعى من أجل الحقيقة، بوصفها مطابقة الفكر لموضوعه واتساق حركته مع حركة الواقع الذي يعيش به وفيه، مسعى من أجل وحدة الفكر والواقع، وإعادة بناء صورته في الذهن، في ضوء التقدم الحاصل، وإنتاج أسس معرفية جديدة للعمل البشري والإنتاج الاجتماعي. والعقلانية في السياسة أيضاً مسعى من أجل مطابقة مفهوم الفرد الاجتماعي ومفهوم المواطن، بوصفه عضواً في المجتمع المدني وعضواً في الدولة بالتلازم الضروري، مسعى من أجل صيرورة الفرد الاجتماعي مواطناً، أي عضواً في المجتمع المدني والدولة في الوقت ذاته. ومن هذا الواقع التجريبي، من هذه الصيرورة ذاتها يتحدد معنى السياسة بكونها الشيء العام المشترك بين جميع الأفراد في مجتمع معين ودولة معينة.

هذا العام المشترك لا يمكن إدراكه وتعرفه إلا متعيناً في مؤسسات مجتمعية وسياسية وثقافية وأيديولوجية، كالتشكيلات والبنى الاجتماعية، ولا سيما الفئات والطبقات، وفي النقابات والاتحادات الحرفية والمهنية والأحزاب السياسية والمؤسسات الثقافية والدينية…إلخ. فالعام لا يوحد وجوداً فعلياً واقعياً إلا في الخاص والفردي. وإلغاء الخاص والفردي هو إلغاء العام والعودة إلى السديمية والاختلاط. ويتحدد معنى الدولة بالتالي، بكونها تعبيراً سياسياً وحقوقياً عن هذا العام المشترك بين الأفراد والفئات الاجتماعية والقوى السياسية والتيارات الفكرية والإيديولوجية، وبكونها تعبيراً عن الكل الاجتماعي الذي تتقوَّم وحدته باختلاف أجزائه وتعارضها.

على هذا الأساس بنى ياسين الحافظ رؤيته للسياسة بوصفها رابطة أو علاقة بين مجموعة من البشر المختلفين والمتشابهين أو المتماثلين في الوقت ذاته، علاقة ترقى بهذه المجموعة من جماعة إلى مجتمع، ومن ملة أو مجموعة ملل، إلى أمة، وترقى بوجودها السياسي من تراتب إكليركي ونظام إكليركي وسلطات أبوية إلى دولة، وترقى بالأفراد من رعايا إلى مواطنين.

السياسة في نظره شأن عام تكتمل به شخصية الفرد الاجتماعية، وشرط ضروري للاندماج القومي، إذ لا يمكن أن يتحقق الاندماج القومي والاجتماعي ما لم يع الأفراد، وما لم تع الجماعات والفئات والأحزاب… أن هذا العام المشترك بين الجميع هو ماهيتهم وجوهرهم وأنه يتجلى في النظام العام، في القانون بصفته المجردة، وفي المنظومة الحقوقية والأخلاقية المتعيِّنة، ويتجلى بالتالي في الدولة. وعندما كان يطلق صفة العقلانية أو اللاعقلانية على السياسة إنما كان ينطلق من هذا الأساس. فالسياسة العقلانية هي التي تنطلق من وحدة المجتمع الديالكتية التناقضية، ومن وحدة الأمة بوصفها كينونة اجتماعية في التاريخ وفي العام، وتنطلق بالتالي من النفع العام والمصلحة الوطنية / القومية المشتركة التي تتقاطع فيها المصالح الخاصة والفردية، وتجد فيها ميدان تحققها الواقعي. فالعام هو الذي يحدد الخاص والفردي، والكل هو الذي يحدد الأجزاء وليس العكس. ومن ثم، فإن السياسات الفئوية طبقية كانت أم حزبية، أم عشائرية أم مذهبية التي تحل الخاص محل العام هي سياسات لا عقلانية؛ وإذ تقوم هذه السياسات على المنفعة الخاصة الجزئية، الفئوية، فإنها لا تلغي المصلحة العامة الوطنية / القومية فقط، بل تلغي ذاتها أيضاً وهذا أساس لا عقلانيتها.

والسياسات اللاعقلانية هذه هي بالضرورة سياسات استبدادية، وأنساق مولدة للعنف “فمن ليس في فكره، وفي روحه، المطلق يحول نسبيَّه إلى مطلق وذلكم هو الاستبداد” (حسب الياس مرقص). ولذلك ميز ياسين الحافظ الدولة العصرية الحديثة المنبثقة عن المجتمع المدني والمفتوحة على الديمقراطية، من الدولة التقليدية التي تقوم فوق المجتمع وتقف إزاءه معارضة تشل تاريخه الداخلي وتعيق نموه وتقدمه. ورأى أن الدولة العربية بقيت، في شتى أشكالها البرلمانية، “الثورية”، الأوتوقراطية، العسكرية، التي ارتدت إطاراً شبه حديث مع الاجتياح الاستعماري، ذات بنية تقليدية من حيث الجوهر. والصفة الأولى المميزة لدولة ذات بنية كهذه ليس فقط كونها فوق المجتمع بل أيضاً كونها توفر اندماجاً بين السلطة وممارسيها.

هذه الدولة، حيث التقليد السياسي العربي ذو الطابع التيوقراطي ما يزال مغروزاً في إيديولوجيا الكتلة الهامدة من الأمة، وبالتالي حيث الشعور بالرعوية إزاء الدولة هو الغالب لدى القسم الأكثر تأخراً من الأمة، وحيث الشعور بالمواطنية لدى القسم الأقل تأخراً منها لم يصل في حدته إلى مستوى عنيد وقتالي (فيتخذ في حالة الرفض طابع عزوف أو انطواء وفي حالة القبول طابع تأييد لا طابع مشاركة)، هذه الدولة تتيح أوسع الفرص لممارسة أقلية ما هيمنة دائمة. والصراعات حول السلطة (وكثيراً ما تعتبر هي السياسة في هذه المجتمعات المتأخرة) داخل هذه الأقلية تسهم أكثر في تعزيز السيطرة الممارسة لإضعافها. هذه الأقلية الأقوى من الشعب والراكبة علية، بإلغائها الحياة السياسية للشعب تعطل بالنتيجة عملية تحديث السياسة وتعرقل دمقرطتها، أي تعرقل عملية تحول الفرد إلى عضو في الدولة. (اللاعقلانية في السياسة ص 16- 17).

هكذا ميز ياسين الحافظ دولة الحق والقانون من الدولة التسلطية، دولة العشيرة أو دولة الطغمة أو دولة الحزب. دولة الحق والقانون تقوم على مبدأ وحدة المجتمع، وتعبر على الكل الاجتماعي، وهي أساس الدولة الديمقراطية التي يستعيد فيها الفرد الطبيعي، صفة الفرد الاجتماعي السياسي، صفة المواطن التي سلبها منه الاستبداد والاستغلال. والدولة التسلطية أو الدولة/ السلطة تلغي المجتمع المدني والشعب، وتغمط الحقوق وتصادر الحريات، إنها دولة الغلبة والقهر، غلبة الجزء على الكل، التي تقوم على مبدأ تذرير المجتمع وتمزيق الشعب وإلغاء حياته السياسية، وتحل الامتيازات محل الحقوق، وتسيّد السلطة محل سيادة القانون، والمصلحة الفئوية الخاصة محل المصلحة الوطنية / القومية العامة. ودولة / سلطة هذه صفاتها هي دولة لا عقلانية بجميع المعايير وسياساتها بالتالي سياسات لا عقلانية.

ليست العقلانية صفة نطلقها على السياسة التي نواليها ونحجبها عن غيرها؛ بل هي، في الوضع العربي الراهن، صفة السياسة القومية أو السياسة الوطنية ذات التوجه القومي والبعد القومي الذي يفتح إمكانية تحول الدولة القطرية إلى دولة وطنية هي جنين الدولة القومية، أو دولة تحمل إمكانات واقعية للاندماج في مشروع قومي ديمقراطي بحكم بنيتها ووظيفتها. ومن هنا فإن السياسات التي تعزز الطابع القطري الانعزالي هي سياسات لا عقلانية، مهما انطوت على تفصيلات أو عناصر عقلانية في هذا المجال أو ذاك. السياسة العقلانية، في رأي ياسين الحافظ ليست صراعاً على السلطة، بل هي فاعلية اجتماعية تهدف إلى توفير الأسس الموضوعية والذاتية (الوعي السياسي) للمشاركة السياسية، أو لاشتراك جميع المواطنين في الدولة بما هي تعبير عن الوجود السياسي للمشاركين فيها، وكلما اتسعت دائرة المشاركة يتعمق الطابع العقلاني للدولة، وتتعين وظيفتها في ضوء هذه المشاركة ذاتها، وهي تحقيق الحرية والمساواة بين المواطنين وكفالة الحقوق وصون الاستقلال. فاستقلال الدولة ينبع من استقلال المشاركين فيها وحريتها تنبع من حريتهم ليس غير.

وفي ضوء معاينته للتأخر العربي العام، قرن ياسين الحافظ دعوته إلى عقلنة الفكر والسياسة بالدعوة إلى تسييس الشعب، وهو الشرط اللازم للمشاركة السياسية الإيجابية الفاعلة والمدخل الضروري لدمقرطة الحياة السياسية بوجه عام والدولة بوجه خاص، فالديمقراطية والتأخر الذي يتظاهر في العزوف عن السياسة والسعي وراء الخلاص الفردي، ضدان متنافيان. ووجه في ضوء ذلك نقداً عميقاً للحركة السياسية التي انخرطت في صراع دام على السلطة، وقصرت نقدها على السطح السياسي، مؤكداً أولوية نقد عمارة المجتمع بكل طبقاتها وتغيير العلاقات والبنى الاجتماعية ما قبل القومية، وما قبل الأموية، لأن المهم والأساسي في نظره ليس استبدال سلطة بسلطة، بل الخروج من أسوار التأخر التاريخي الذي يشل قوى الأمة ويعزز تجزئتها وتبعية أقطارها للقوى الكبرى، ويحول دول اندماجها القومي والاجتماعي. فالسياسة اللاعقلانية ليست تلك التي تتسم بالشعورية والانفعال، وتكون مجرد ردود فعل تلقائية فقط، ولا تلك التي يطغى عليها هذيان الهدف وتغرق في الأيديولوجية فحسب، بل هي السياسات القطرية الانعزالية المتكيفة مع واقع التأخر والتجزئة والتبعية بصورة أساسية. العقلانية في السياسة هي “الواقعية السياسية” التي تستجيب لمطالب العقل بانطلاقها من الواقع إلى الهدف، وليس العكس. فالأهداف القابلة للتحقيق هي ممكنات الواقع فحسب، الواقع منظوراً إليه في حركته الدائمة وتغيره المستمر وقابليته غير النهائية للتحسن. وتغيير الواقع ليس، في التحليل الأخير، سوى توقيع أو وقعنة ممكناته (أي جعلها واقعية)، تحويلها من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل؛ ولذلك كانت معرفة الواقع شرطاً لازماً لتغييره وتحسينه، وكان تغيير الوعي الاجتماعي العام، أي إعادة بناء صورة الواقع في الذهن، هو المهمة الأولى على جدول أعمال القوى الراديكالية. وتغيير الوعي يعني تحديثه وجعله تاريخياً وكونياً ومطابقاً لحاجات الواقع وميول تطوره. وجعل العنصر الإيديولوجي الملازم لكل عمل، ولكل مشروع نهضوي ثوري بوجه خاص، مندرجاً في الواقع. ومن هنا كان ياسين الحافظ يرى “أن السياسة الثورية “والسياسة القومية في البلدان التابعة والمتأخرة تصب في سياق ثوري) فهي إما أن تكون عقلانية تامة أو أن تتحول إلى خبال سكيزوفريني تارة أو لفظية ثورية تارة أخرى. وهي باعتبارها سياسة قلب الواقع، سياسة فعل فيه، مضطرة إلى مواجهة عقبات، اختيار احتمالات، اهتبال فرص، وهذا يفرض عليها أقصى درجات الواقعية التي لا يداخلها وهم ولا أحكام قيمة، خلافاً للسياسة المحافظة أو التطورية… إن التشبث بالمشروع الثوري يمنح السياسة الثورية طابعاً صلباً، عنيداً، في مواقفها المبدئية، إلا أن البحث عن الجدوى، الملاءمة والفائدة، يفرض عليها نبذ الطوباوية والمغامرة في مواقفها التكتيكية؛ وبالتالي يتطلب أن تكون لاصقة بالواقع العيني من جهة، ومتمتعة بأقصى مرونة ممكنة في تحركها لمواجهة هذا الواقع من جهة ثانية، أي أن تأخذ على الدوام ما يسمى بعلاقات القوة، أو موازين القوى (المصدر السابق ص 15). على أن الثورية أو الطابع الثوري للسياسة كما تفهم من كتابات ياسين الحافظ ليست هوى أو رغبة، بل هي في الأساس معرفة ممكنات الواقع واتجاهات حركته، والعمل على تحقيق أحد ممكناته على حساب الممكنات الأخرى، وتلكم هي حركة التاريخ الثورية الواقعية، هي اتساق فكر البشر وعملهم مع حركة الواقع ومنطق التاريخ، وإلأ فإن مكر التاريخ سيقف لهم بالمرصاد. الثورية هي الكشف عن منطق الواقع ومنطق التاريخ، هي عقل الواقع وعقل التاريخ. إن ثمة بوناً شاسعاً بين “الواقعية الثورية” والواقعية التطورية، الاستسلامية الذليلة، التي تلغي دور البشر في صنع التاريخ، وتلغي دور الوعي أو تقلل من أهميته الحاسمة. وثمة بون شاسع كذلك بين ثورية واقعية عقلانية وثورية ذاتية رومانسية لا تميز الممكن من الواجب ولا حكم الوجود من حكم الوجوب. لقد تعين منهج ياسين الحافظ العقلي – الديالكتي في تحليل أوضاع المجتمع العربي: الاجتماعية السياسية والاقتصادية والثقافية والإيديولوجية، وفي كشفه تظاهرات التأخر التاريخي الذي يتكثف في المستوى الإيديولوجي السياسي، ومن هنا الأهمية الحاسمة عنده للوعي القومي الحديث العقلاني العلماني والديمقراطي، التاريخي والكوني، ورهانه على الدور المهم للمثقفين العرب وكتلة الإنتلجنتسيا في عقلنة الفكر والسياسة من أجل عقلنة المجتمع وعلمنته ودمقرطته.

 

وإذا كانت التظاهرات والأوضاع التي نقدها ياسين الحافظ وجسَّد فيها منهجه النقدي ورؤيته لمشروع النهضة القومية قد تغيرت وتطورت، وهذا أمر بديهي، فإن نقده ورؤيته لا يزالان راهنين، فضلاً عن منهجه الديالكتي المفتوح على النمو والتطور. وذلك أولاً، لأن للتغير والتطور، تقداً كانا أم تراجعاً، منطقاً هو الديالكتيك؛ فالظاهرات الاجتماعية السياسية لا تموت فتزول من الوجود، بل تذهب في ظاهرات أخرى، ولذلك لا يمكن فهم ظاهرة ما إلا في سياق تطورها التاريخي. كل ظاهرة لها ماض ولها مستقبل، وهي، أي الظاهرة بكل المعاني التي تنطوي عليها والقوانين التي تحكمها، لحظة كينونية في مجرى الصيرورة الاجتماعية التاريخية. وثانياً، لأن التغير والتطور هما حكم الواقع على المنهج والأفكار والمبادئ، وعلى الرؤية السياسية المنسوجة منها. ومهمة الفكر عامة، والفكر السياسي خاصة، اختبار مبادئه ومقولاته في ضوء التجربة الحية. ولذلك فإن نقد الأوضاع الجديدة لا بد أن يستند إلى نقد الأوضاع والشروط التي أنتجتها، ونقد الفكر الذي نتج منها في الوقت عينه. وإلا فلا يمكن للمعرفة أن تتجاوز حدودها. فللفكر كما للواقع إيقاع ديالكتي أيضاً. وثالثاً، لأن التأخر التاريخي الذي كشف عنه ياسين الحافظ، بمساعدة عبد الله العروي، لا يني يتقدم؛ والتأخر هو المناخ الذي تنمو فيه اللاعقلانية ويعربد في الاستبداد.

لعل ميزة ياسين الحافظ كانت ولا تزال تتجلى في تجسيد أفكاره ومنهجه في تحليلات عينية للواقع العربي، وفي كشفه عن جذور الهزيمة التاريخية الطويلة التي لاحت نذرها مع سقوط المعتزلة، وكشفه حقيقة أن التجزئة العربية القائمة التي وضعت الأمة على منحدر السقوط والانحطاط هي نتاج التأخر التاريخي للشعب العربي والأوضاع الإمبريالية الناجمة عنه؛ وفي محاولته إدراج الفكر النقدي في العمل السياسي الراديكالي، وفي رؤيته لأولوية الثورة الديمقراطية العربية وراهنيتها، وفي إقامته الحد على الإيديولوجية التي تحجب الواقع وتقلب الحقائق رأساً على عقب. إن نقد اللاعقلانية في السياسات العربية في المرحلة ما بعد الناصرية يضع العقلانية مبدأ في الفكر والعمل ويجعل من الحقيقة الواقعية مبدأ ومسعى وغاية. وما دام المشروع القومي الديمقراطي العربي راهناً، سيظل ياسين الحافظ راهناً.

 

 

 

 

نظرة المثقف السوري إلى الحرب اللبنانية: ياسين الحافظ نموذجاً

لم تكن الحالة الديموقراطية اللبنانية في مركز اهتمام النخبة القومية واليسارية السورية أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، ولم تساعدها الأدوات الإيديولوجية التي تمتلكها، في التقدير المناسب لفداحة الخسارة التي يمكن أن تصيب الحياة العربية من جراء ضرب الديموقراطية قي لبنان، فلم تكن الديموقراطية أو استقلال لبنان سوى فرع صغير من اهتمام تلك النخبة بالمسألة الاجتماعية والقومية.

وحده ياسين الحافظ ومعه قلة من المثقفين السوريين، أفرد مساحة من اهتمامه للمعضلات الشائكة التي يمكن أن تترتب عن اختلال التوازنات الطائفية والمذهبية اللبنانية، ومسؤولية ما يسميه الانقسامات الاجتماعية العمودية في إثارة الحرب الأهلية اللبنانية، وهو ما يستدعي تغليب لغة الحوار على لغة الحسم الحربية. فقد وصف الحرب الأهلية اللبنانية بـ «الحرب الطائفية القذرة»، معارضاً بذلك اتجاهات التقدميين السوريين واللبنانيين والعرب، واعتبر إيقاف الحرب على قاعدة الحفاظ على وحدة الدولة اللبنانية واستقلالها من المهمات الأولى لكل ديموقراطي علماني وقومي عربي. وأدرك الحافظ حجم الخسارة التي تصيب الحياة العربية، إن فقدت نافذة الحرية في بيروت، وعبر عن شعوره أمام فاجعة الحرب الأهلية بقوله: «أحسست وأنا ذو الهوى القومي العربي، أنه ليس وطني فقط الذي يحترق، بل بيتي أيضاً، وأن فاجعة لبنان كانت مجانية، كثيرة هي الأسباب الأصلية والمباشرة التي دفعت إلى إحراق لبنان، لكن يُخيل لي أنه لقي هذا المصير لأنه نافذة للديموقراطية، مهما بدت مثلومة وملوثة، كانت لا تزال مفتوحة فيه، هذه النافذة، التي تفد منها رياح الثقافة الحديثة، والتي جعلت من لبنان مختبراً فكرياً للوطن العربي، ومن بيروت عاصمته الثقافية والسياسية، وكانت مُستهدفة بلا شك».

وبنوع من تأنيب الضمير والتكفير عن خطأ الوعي وانحرافه، اعترف أنه «عندما جئت للإقامة بلبنان، كنت كواحد من التيار التقدمي المشرقي، أجهل وأتجاهل في آن المسألة الطائفية في الوطن العربي، أو في أحسن الأحوال، أُبسِّطُها وأنظر إليها نظرة وحيدة الجانب وبالأحرى أكثروية بشكل ضمني وغير واع. بيد أن الشكل الحاد واليومي الذي للصراع السياسي الطائفي اللبناني، الناجم عن وجود أقليات كبيرة وازنة، ما لبث أن فرض عليَّ إعادة التفكير بالمشكلة .. وكشف لي عمق المشكلة وتعقيداتها وجذورها التاريخية». ما لبث أن اتخذ «موقفاً متفرداً، مميزاً، يختلف عن مواقف معظم الفصائل الوطنية والتقدمية. بدلاً من المشاركة في الحرب الطائفية أو تبريرها، إدانتها والعمل على وقفها». فذكر ثلاثة عوامل رئيسية دفعته إلى هذا الموقف. أولها: أن القوى (القومية والوطنية ) التي انخرطت في الحرب الأهلية «تفتقر إلى وعي مناسب بمشكلة الأقليات»، وتبتعد في تقييمها لهذه المشكلة عن التحليل التاريخي، كما تُهمِلُ المنظورات الأيديولوجية والسياسية (العلمانية والديموقراطية) الضرورية لإطلاق عملية دمج الأقليات قومياً، وتكتفي أخيراً، من دون أن تهيئ عملية الدمج، بمحاكمة وإدانة الأقليات من خلال توجسها من الأكثرية. ثانياً: «منظورات تلك القوى في تقييم مسائل الثورة العربية وطبيعة الحركات السياسية لا تزال منظورات سياسوية لا تذهب إلى القاع الأيديولوجي – الاجتماعي – التاريخي». وتعاني من التناقض بين ثورية سياسيوية (تقدمية) ومحافظة إيديولوجية، «عاجزة عن تجاوز الواقع الطائفي، ومنزلقة في النهاية إلى ضرب من طائفية ضمنية، أكثروية، مضادة فحسب للطائفية الأقلية». وهي تُنكر على هذه الحرب كونها حرباً طائفية ما دام في صفوفها (مسيحيون وطنيون). غير أن حججها بنظر الحافظ تسقط للعديد من الأسباب: طالما أن الأكثرية الساحقة من المسلمين في جانب والأكثرية الساحقة للمسيحيين في الجانب الآخر. والأحزاب المسيحية «تملك شئنا أم أبينا صفة تمثيلية لدى المسيحيين».. فعندما نرى كتل الطوائف المسيحية الأخرى في لبنان تقترب من الموقف الماروني والكتل المسيحية خارج لبنان مأزومة ومتعاطفة إجمالاً مع القوى المسيحية المقاتلة. عند هذا كله يغدو الاكتفاء بوصف الانعزالية وتحويله إلى شتيمة لغواً لايفيد في طرح مناسب من المشكلة ولا في تصور المخرج».. كما أن الحركة المناهضة للانعزالية المزعومة لا تشكل نقيضاً لها، بل هي مجرد عدو تقليدي.

لم ينظر الحافظ إلى المسألة اللبنانية والصراعات الداخلية اللبنانية من زاوية سياسية تتعلق بالسياسة الخارجية للبلد، أي بمن يصطف مع المقاومة الفلسطينية والنضال ضد العدو الصهيوني، بل تتعلق بالتوازنات الاجتماعية/الطائفية أساساً، وبحذر هذه الطائفة أو تلك من غلبة الطوائف الأخرى على الاجتماع السياسي اللبناني. كتب «في لبنان الطوائفي المبني على توازنات حساسة بسبب التكافؤ العددي بين الطرفين الإسلامي والمسيحي أولاً، وبسبب البسيكولوجيا التاريخية للموارنة ثانياً، وبسبب الشعور بالانفصام، المتفاوت الحدة والعمق بين طرف وآخر، الكامن وراء التصرفات والرؤى لدى كل من الصفين المسيحي والإسلامي ثالثاً – في لبنان هذا لم تكن الحرب الطائفية التي شهدنا، صدفة عارضة. بل على عكس، كانت على الدوام احتمالاً مطروحاً، تتزايد فرصه أو تتضاءل تبعاً لحركة التوازنات الطائفية… فعندما يكون بلد ما مؤلفاً من أطرافٍ متعددة تفتقر إلى لحمة قومية، وعندما يسمح توازن معين في نسب القوى لطرف طائفي بالتحرك لتعديل النسب القائمة بنسب أخرى أكثر مؤاتاة له، عندها يصبح الانفجار أمراً شبه محتوم». أما عن الظروف الجديدة التي انبثقت عنها الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، فيقول:»في ظل ميزان القوى الطائفي اللبناني الجديد، الذي جاءت به المنظمات الفلسطينية وحرب تشرين، أدت البسيكولوجيا التاريخية للموارنة إلى توترها التقليدي. هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن الشارع الإسلامي، السني بخاصة، الذي يملأه شعور واضح بالغبن منذ الاستقلال، تحرك في محاولة لإرساء صيغة جديدة، صيغة (عدالة طائفية)، أو مشاركة طوائفية، تضعه على قدم المساواة مع الشارع الماروني. في هذا المناخ أصبحت الحرب المواجهة شبه حتمية .. الوعي الذي أوصل الشعب اللبناني إلى هذه الحرب القذرة هو عينه الوعي الذي (قاد) و(نظم) هذه الحرب و(خطط) معاركها و(عبأ) قواها».

ثم يقول في سياق تطلعه إلى مخرج تاريخي: «وإلى أن تستطيع الانتلجنسيا الإسلامية اتخاذ قرارها التاريخي بعقلنة، وبالنتيجة علمنة، المجتمع اللبناني، ستبقى الطوائف بتناقضاتها، بوعيها التقليدي القاصر، بتوازناتها الهشة القلقة، المرتكز المهزوز للكيان اللبناني، المُقسَّم بالقوة أو الكمون وإن لم يكن بالفعل. والواقع أن تحديث وعي النخبة الإسلامية يشكل خطوة مزدوجة في طريق حل مسألة الطوائف: من جهة أن تجاوزها الأيديولوجية التقليدية يهيئ لبناء قاعدة علمانية مشتركة تشكل مصهراً قومياً للمسلمين والمسيحيين، وبهذا تتجاوز التناقض بين وسائلها التقليدية الطائفية وبين أهدافها القومية العصرية. ومن جهة أخرى فإن امتلاك النخبة الإسلامية ناصية أيديولوجية عصرية سيمنح الجماعات الإسلامية لا النضج السياسي والثقافي فحسب، بل أيضاً سيمنحها القوة المادية التي تكفل توحيد وصهر الأقليات في البنيان القومي المندمج المتلاحم العلماني الحديث، وتقضي نهائياً على هذا التقسيم الكامن».

 

 

 

 

ياسين الحافظ متقدّم أربعة عقود/ جوزف باسيل

لو كان ياسين الحافظ حياً، لكان أحد أبرز قادة الانتفاضات الشعبية في بلدان العالم العربي، رحل باكراً – توفى 28 – 10 – 1978 – في سن الكهولة، لكنه وضع منهجاً فكرياً متقدماً آنذاك، وحتى الآن، يرتكز على ثالوث الديموقراطية والعلمانية وحقوق الانسان. وكان هذا الثالوث بعيداً عن طروحات القوى اليسارية بمجملها التي كانت تنبذ الديموقراطية وتخشى العلمانية، كما تخشى الحرية التي تتشدق بها، ولا تعنيها حقوق الانسان الاّ في الشعارات، بل كانت في ما يتعلق بالديموقراطية والعلمانية والحرية تقبع في التقاليد البالية التي تعلن رفضها.

وحده ياسين الحافظ اعلن انتماءه الى قيم الثورة الحقيقية ذات الثالوث المشابه لثالوث الثورة الفرنسية “حرية، مساواة، اخاء”، القيم التي تصنع التقدم والتفوق في الدول المتقدمة والعصرية.

كان مقتنعاً بالعلمانية باشباع معناها وفاعليته، دون التلطي خلف الفاظ تمويهية كالغاء الطائفية السياسية او الدولة المدنية، التي رفعتها الانتفاضات العربية الحالية شعاراً، او المجتمع المدني، للتخفيف من وطأة المجتمع الديني، فكأن الديني يواجه بالمدني! ان هذه العبارات تخشى الاصطدام بالدين وبقوانينه الوضعية المختلفة وبمجتمعه المنغلق، كما تخشى الخروج على الدين، فتتلطى خلف شعارات براقة، لكن جوهرها قاتم، وتموه نفسها بالتلاعب بالالفاظ، مثل: الشريعة هي اهم مبادىء التشريع، نؤيد القوانين الوضعية شرط عدم مخالفة الشرع، الدساتير والقوانين يجب ان تستلهم الشريعة… الى غير ذلك من التلاعب بالالفاظ والهدف واحد وواضح وهو ابقاء الناس خاضعين لمفاهيم كانت متقدمة في عصرها، ولم تعد كذلك، والا انتفى العمران بمفهوم ابن خلدون اي التقدم الاجتماعي والتطور الانساني، وكل ساع الى ذلك انما يخدم مصالحه وليس مصالح الناس ولا الشعوب.

تقدم الحافظ على عصره أربعة عقود، فوعى باكراً اخطاءه السياسية فصححها مقداماً، ووعى انهزام الامة فحاكمها، ودعا قواها السياسية، خصوصاً اليسارية الى نقد ذاتي تقويمي، ووعى تخلف مجتمعه فتصارع معه، وعبر عن ثلاثية الوعي في كتابه “الهزيمة والايديولوجيا المهزومة”.

مذذاك رفع مطالب الشعوب العربية المنتفضة حالياً، في الحرية والديموقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية وحقوق الانسان… ودعا القوى التي تقود المجتمع الى تجاوز خطاب الخمسينيات والستينيات الى افق اوسع، متنكباً دور القائد الطليعي الذي يقود الشعب ولا ينقاد له، رافضاً انقياد قادة اليسار الى المطالب الشعبوية، ما جعله مبتعداً عنها. كان يسارياً حقيقياً في ممارسة العمل السياسي.

دعوته الى العلمانية استند فيها الى اقتناع تام بأن تطور المجتمع العربي لا يتحقق الا باخراجه من سلطة الدين وليس رجال الدين فقط، فاندفع يمارس السياسة بطروحات متقدمة وافكار متطورة ووعي ديموقراطي، جعله مؤمناً بحق الجميع في العيش في وطن وليس مزرعة، وان تكون المواطنة حقيقية وليست شكلية.

والعلمانية تجعل المواطنة حقيقة لمواطن يمارس كل ما تتضمنه الديموقراطية من حريات: ممارسة العمل السياسي، التمتع بالمواطنة الحقة، التمرس بحريات الاعتقاد والتعبير واعلان الرأي السياسي (واشدد على كلمة سياسي لأنها تميز الانسان المعاصر) ومساواة الجميع في المواطنة، فلا يكون هناك مواطنون درجة اولى فثانية، ثم ثالثة. والمساواة لازمة لا بد من توافرها في الديموقراطية المعاصرة، فعندما تنتفي المساواة تنتفي الديموقراطية. وعندما تتشوه الديموقراطية تنتفي المواطنية.

جمع الحافظ الديموقراطية والعلمانية، وجعلهما طريقاً الزامياً الى التقدم والتحرر، حتى فلسطين لا يمكن تحريرها بالسلاح وحده، اذا لم يقترن بتحرير المجتمع – وتحرير المرأة نصف الكينونة الاجتماعية المواطنية – وهما في أي بلد يرفعان منسوب حقوق الانسان الى الدرجات التي تتربع عليها دول متقدمة سبقتنا الى المواطنية. ان الديموقراطية والعلمانية والحرية وحقوق الانسان هي الوسائل السلمية الطبيعية التي نتجاوز بها التخلف الى التقدم والعصرنة، كما تحاول الشعوب العربية.

 

 

ياسين الحافظ تجربة الأمس لليوم/ الفضل شلق

هل كانت مصادفة أن ياسين الحافظ توفي في العام 1979؟ العام الذي حدثت فيه التحوّلات المفصلية في الوطن العربي والعالم الإسلامي: جهيمان العتيبي في مكة، الثورة الإسلامية في إيران؛ احتلال الاتحاد السوفياتي أفغانستان؛ توقيع كامب ديفيد؛ آخر الانقلابات العسكرية في تركيا والتمهيد لتجارب التعبئة الإسلامية التي انتهت بأردوغان وحزب العدالة والتنمية، العام الذي سبق شن الحرب العراقية على إيران، العالم الذي كشّرت فيه الرأسمالية عن أنيابها وبدأت النيوليبرالية الهادفة إلى تصغير حجم الدولة، إلخ…

جاء ياسين الحافظ من الشيوعية إلى البعث في الخمسينيات لكنه بقي ماركسياً. لم يشعر بالاطمئنان الفكري هنا أو هناك. ساهم في المؤتمر القومي السادس للبعث سنة 1963، في الانشقاق وتأسيس «البعث اليساري» الذي تطور في ما بعد إلى «حزب العمال الثوري العربي». بقي قلقاً رغم ما يبدو على كتاباته من تأكّد. كان عندما يكتب كأنه ينحت في الصخر، بعكس رفيق عمره الياس مرقص الذي كان يكتب بقلم سيّال.

كان ياسين يقول دائماً: ليست إسرائيل هي التي تنتصر، بل العرب ينهزمون. أدرك مبكراً معنى الهزيمة. ولم يتوصل إلى هذا الإدراك لولا الانتماء العميق إلى الأمة العربية والإيمان بقضاياها والالتزام النهائي بالعمل لإخراجها ممّا هي فيه.

في هذا الأمر كان كمن يسبح ضد التيار، إذ كانت الانتصاروية المتواكبة مع صعود المقاومة الفلسطينية في الستينيات والسبعينيات هي التي استولت على عقول الناس. عندما كان الآخرون يدعون للكفاح الشعبي المسلح، كان هو ورفاقه يدعون إلى إلزام الدول العربية بالقضية وبناء الجيوش لا الميليشيات لمواجهة إسرائيل، وعندما كان الآخرون يعتبرون قضية فلسطين قضية فلسطينية كان يعتبرها قضية عربية وأن العرب جميعاً ملتزمون بها، ولا يجوز بالتالي اعتبار الدول العربية في حلّ من التزاماتها؛ وعندما طرحت مبادرة رودجرز في 1969 أيّد عبد الناصر في قبولها برغم معارضة كل اليسار الآخر؛ وعندما جاء انقلاب حافظ الأسد فاوض الانقلاب رغم أنه منذ الانشقاق في 1964 عزف وحزبه عن المشاركة في الانقلابات العسكرية.

أدرك مبكراً معنى الدولة وضرورتها. الدول هي التي تحرّر فلسطين بحرب هجومية، وعلى الدول العربية أن لا تتنصل من التزاماتها. المقاومة الشعبية حرب دفاعية، وهي لا تحرّر فلسطين. كان واقعياً في تحليله للدولة، ومطالبه منها، كما لم يكن الآخرون. كان وحدوياً ناصرياً، لكنه أدرك كيانية الأقطار العربية. في العام 1974 دفع القيادة القومية لحزبه من أجل تبني مبدأ الاستقلال الذاتي للأكراد. وعندما نشبت الحرب الأهلية في لبنان نصح رفاقه أن لا ينخرطوا فيها برغم ما كان يقال عن «الامتيازات» المسيحية. كان يعتبر الامتيازات نتيجة التقدم النسبي على المسلمين وليست مؤامرة؛ على كل حال فإن بناء الامتيازات خير من الحرب الأهلية. وكان يرى الحرب الأهلية آتية إلى سوريا، وكان يخاف من ذلك خوفاً عظيماً.

هاجسه الأساسي كان إخراج الأمة من التخلف إلى الحداثة. كان يرى رجعية مفهوم الأمة ما لم يقترن الأمر بالحداثة. ليست الأمة رجعية بطبيعتها ولا الحداثة مستعصية على الأمة بماهيتها. ليست الأمة جوهراً يتجلى بين الحين والآخر ويهبط من السماء ليجعل من المناضلين أشباه مشايخ. وكان يرى مشايخ الماركسية والبعث أسوأ من المشايخ المعمّمين، أو لا يقلّون عنهم انغلاقاً. في سبيل انفتاح الوعي ترجم كتابات عبد الله العروي، واعتبر أن القطيعة مع التراث المعرفي هي المقدمة الحقيقية للحداثة، والحداثة ضرورة من أجل الخروج من الهزيمة، ورأى في الحداثة الفرق بين انتصار الثورة الفيتنامية وهزيمة الثورة العربية.

واقعية الاعتراف بالهزيمة، هزيمة الأمة والمجتمع، هي التي دفعته إلى محاولة بناء جسر بين الأمة والحداثة. فهم أن التخلّف، الذي هو نقيض الحداثة، هو سبب استمرار التبعية للإمبريالية؛ وهو سبب الهيمنة الإيديولوجية والسياسية. لا معنى لحداثة إذا لم نصنعها نحن. رفض حداثة تقليد الغرب، وطالب بحداثة مبنية على العمل والانفتاح والتنمية، ورفض الحداثة الكوزموبوليتية؛ فهذه تساوي بين التناقضات ولا تعترف بتمايزاتها، وتنتهي إلى الإقرار بوجود إسرائيل. اعترف بالهزيمة ورفض التسليم بها.

ركّز على مسألة الوعي، الوعي الحديث، الوعي بالواقع، كي لا تنزلق القوى الثورية في متاهات لا تعرف نهاياتها: علينا أن نفهم ما يؤول إليه كل شعار، بتحليله وتفكيك معانيه حتى لا تنتهي إلى نتائج غير مقصودة. كان «حزب العمال» مضرب المثل، لدى اليساريين الآخرين، بأنه مجموعة مثقفين، بسبب هذا التركيز على مسألة الوعي. كان يتحدث عن الوعي المطابق: دون مطابقة الوعي للظروف الموضوعية ستكون الشعارات مجرد رغبات أكثر منها أدوات عمل وممارسة.

كان وحدوياً يرى في انفصال سوريا عن مصر عام 1961 نكسة كبرى للأمة، وذلك من منظور أن الدولة كيان لا يجوز التلاعب به. الذين ساروا على درب الانفصال في ذلك الحين، يشبهون الإخوان المسلمين اليوم، حين تلاعبوا بالدولة في مصر وتونس لصالح مفهوم الأمة. الدولة كيان شرعي وقانوني، أما الأمة فهي ماهية وانتماء، أو عند البعض مفهوم إيديولوجي. في تقديم الثانية على الأولى إعطاء للرغبات أولوية على الوقائع والظروف الموضوعية. الدولة شرط لما عداها، ولا توضع عليها شروط؛ كما فعل الانفصاليون آنذاك.

يمكننا اليوم الاستفادة من تجربة ياسين الحافظ وأفكاره التي عرضها بشكل منهجي شديد الدقة والمجموعة في خمسة مجلدات، عدا عن المقالات العديدة. الأمة ماهية، وجود ينتمي إليه العربي باللغة والعمل الدؤوب، الدولة كيان ضروري، ولا بد من أخذ الخصوصيات القطرية بالاعتبار، ممّا يدفع إلى تبني الفيدرالية لا المركزية الشديدة التي هي عادة من سمات الاستبداد؛ الحداثة كما يصنعها أبناؤها لا كما يقدمها لهم الغرب كوزموبوليتياً؛ الثورة عمل يبدأ بالوعي أي على الصعيد الثقافي أولاً؛ الحرية بالسعي والإنتاج والتنمية، الالتزام بالقضية لا على أنها فاشلة إذا لم تتحقق اليوم أو غداً، ففي ذلك نوع من الانتهازية؛ الوحدة العربية من دون المفاهيم القومية المأخوذة من حثالة الفكر الغربي.

عاش صاحب قضية. اختطفه الموت في سن مبكرة. كان يقول عندما أقعده المرض: عندما نضجت يدي، سقط قلمي. الرؤية التي جاء بها تستحق منا كل دراسة وعناية في هذه الأيام.

كان منذ أربعين عاماً يحدثنا عن أشياء نراها تحدث الآن

 

 

 

 

 

قراءة متمعنة في كتابات ياسين الحافظ/ الدكتور عبدالله تركماني

تكمن مشروعية التفكير فيما كتب ياسين الحافظ (*) من كون فكره راهن ومعاصر لنا من جهة، وقابل لأن يكون أحد مكوّنات الفكر القومي الديمقراطي العربي في المستقبل من جهة ثانية . فهو يدعونا إلى الارتفاع من مستوى المشاعر القومية العربية إلى بناء الأمة، بما ينطوي عليه ذلك من أساس ديمقراطي لهذا البناء .

لقد أمسك الحافظ بمفهوم التأخر التاريخي للمجتمع العربي، الذي يتجلى سياسيا بغياب الرأي العام وبكونه صاغرا وعزوفا، ويتجلى اقتصاديا بكون الاقتصاد العربي مندلقا نحو الخارج وتابعا، ويتجلى اجتماعيا بسيطرة بنى اجتماعية ما قبل قومية ( طائفية، عشائرية، عائلية، محلية…)، ويتجلى فكريا بسيطرة فكر تقليدي تمتد جذوره إلى العصر الوسيط . لذلك فهو ينتقل من نقد ” السطح السياسي ” إلى نقد ” العمق الاجتماعي ” الذي يصوغ الحيّز السياسي ويفرزه .

كما كانت تجربة الحافظ الفكرية والسياسية استمرارا لأرقى التقاليد الوطنية والقومية الراديكالية لأبرز المفكرين اليساريين السوريين (خاصة سليم خيّاطة ورئيف خوري) وتتويجا لها، بعد أن قام بأكبر عملية نقدية مع أشكال الوعي التحرري العربي الحديث، بتياراته الثلاثـة : الليبرالية والقومية والماركسية، من خلال أداته النظرية الناجعة ” الوعي المطابق ” التي عنت إنتاج وعي عقلاني بالواقع العربي، ومن ثم إنتاج وعي مناسب بحاجات هذا الواقع للتقدم .

ولهذا كان الحافظ رجلا مرفوضا ” لأنه كلما لامس تجربة لغمها بأسئلة عقله الطليق، ولأنّ ساحة السياسة كانت تجربة قدر الرجل، فكانت مأساته في مجتمع لا يعرف من تقاليد السياسة سوى السلطة، سلطة الدولة، الحاكم والزعيم والقائد، ولا تملك مفردة السياسة في بنيته اللاشعورية سوى دلالة فعل (ساسَ) الذي يصبح للبشر والبهائم لغويا (ساسَ القوم، وساسَ الحصان)، بعد اختزال المجتمع وألوانه في صورة الرعية ” (1) .

والحق أنّ خطاب الحافظ قد اكتسب أقصى نضجه وطلاقة تفكيره في السبعينات، بعد أن أكملت التجربة الناصرية دورتها على نفسها، وآلت إلى مصيرها المعروف بعد وفاة جمال عبد الناصر من جهة . وبعد تجربته في باريس التي عمّقت لديه الوعي بمسألة التأخر، والوعي بأهمية النهضة من جهة ثانية . فراح ينتقد السياسة، بوصفها تكثيفا للبنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية . ولو أنه بدأ – بالممارسة – يستخدم أداته النظرية ” الوعي المطابق ” منذ أواخر الخمسينات ، ففي سنة 1958 كتب عدة مقالات تحت عنوان ” خصائص الحركة القومية العربية ” ، حيث بدأ تحليله لهذه الخصائص من خلال تناولها في المستوى الكوني، انطلاقا من ” أنّ الإنسانية تسير في خط تطوري صاعد ومتوازٍ ” ، وفي المستوى التاريخـي ” إنّ مجرى تطور الأمم ليست متماثلة ” .

لقد أنتج الحافظ خطابا نابضا بالحياة مُشْبَعاً بالدلالات السوسيولوجية والثقافية والسياسية والنظرية، فمنح الخطاب السياسي العربي بعدا نهضويا ذا طابع شامل . وبذلك، حرّر الخطاب القومي من البلاغية المترهلة، وأنقذ الماركسية العربية من ضيق العبارة والأفق وتكلّس الصيغ، حين استعاد روحها النقدية، بوصفها سؤالا مُشرَعاً ضد الثبات والسكون والامتثال والعقائدية المنغلقة على نفسها . فمع ياسين الحافظ اكتسب الخطاب العربي مفهوما يتجاوز التبسيطات اليمينية واليسارية حول المسألة القومية، يتجاوز المفهوم اليميني الذي يقوم بعملية تدليس بين الوعي القومي الحديث والوعي التقليدي المفوَّت، والذي أنتج مفهوما فيزيقيا عــن ” الروح الأزلي الخالد “، والذي بدوره غدا أيديولوجيا للتمايز ومعاداة الآخر. ويتجاوز المفهوم الامتثالي الاقتصادوي الذي يغيّب الخصوصية التاريخية لأشكال الانتقال إلى القومية الحديثة . ومن خلال نقده المزدوج هذا، قدم وعيا جديدا بالمسألة القومية، بوصفها عملية تاريخية تخترق الفرد والمجتمع والثقافة، وليست تجميعا كميا لوحدات مُجزّأة .

وعلى أساس هذا الوعي فـ ” القومية هي الحركة التاريخية التي ترفع سديما بشريا إلى كتلة متجانسة، متلاحمة، مندمجة، تستحق اسم الأمة ” (2) . ولعل مصدر إشعاع خطاب الحافظ أنه لم يقارب السياسة والمجتمع في العالم العربي إلا من خلال إشكاليته المركزيـــة ” التأخر” وبالتالي وعي ” النهضة في وجه التأخر” . وفي هذا السياق انتقد الأيديولوجيا المهزومة ” التقليدوية الجديدة ” التي توهمت إمكانية دخول العصر بتجنب الثورة القومية الديمقراطية ” المنظورالنهضوي ” والقفز إلى تبنّي ” المنظور التنموي “، فقال : ” ما من شعب حقق تقدما اقتصاديا دون أن يكون قد حقق تقدما مجتمعيا وثقافيا وسياسيا ” .

لقد كان الحافظ رائدا في التقاط عوامل هزيمة المشروع القومي العربي، حين استعاد الإشكالية المركزية للنهضة عبر سؤال ” التأخر” ، باعتباره ليس تخلفا اقتصاديا يمكن تجاوزه عبر التنمية، وليس مسألة فقدان أصالة الذات التاريخية التي زُلْزِلَتْ موضوعيا أمام التوسع الكولونيالي، بل المسألة تكمن في التأخر كفوات حضاري يشمل كل بنى المجتمع العربي . وبسبب هذه الريادة، التي لم تكن مقصورة عليه وحده بالتأكيد، سوف نتوسع في تناول توصيفاته ومقولاته وتحليلاته : نقد التيار الماركسي (الأحزاب الشيوعية في المشرق العربي) وتعريب الماركسية، أولوية الفكري والسياسي، توصيف المجتمع العربي، التأخّر العربي ، الفوات التاريخي ، الوعي المطابق (التاريخية، الكونية، الحداثة)، الاشتراكية والمنظور التنموي، نقد الحركة الناصرية، الأيديولوجيا المهزومة، نقد التيار القومي، الأُمَّويّة والقومية، التجزئة والوحدة، الدولة الحديثة، العلمانية، الديمقراطية .

I- نقده الأحزاب الشيوعية في المشرق العربي ودعوته إلى ” تعريب ” الماركسية

ميّز ياسين الحافظ بين الأيديولوجيا والمعرفة العلمية حين أدخل أفكار المفكر الفرنسي ألتوسير (Althusser) المجال التداولي للفكر العربي، الأمر الذي ساهم في منح خطابه تفردا وخصوصية منهجية علمية متماسكة، فضحت مدى امتلاء الوعي الماركسي العربي السائد بأوهام الأيديولوجيا . وقد قدم لوحة أولية تقريبية عن سمات وخصائص كل من النظرتين الأيديولوجية والمادية التحليلية (3) :

الفكر المادي التحليلي- التركيبي

النظرة الدوغمائية والأيديولوجية

– الواقع مؤلف من ألوان لا حصر لها .

– الواقع مؤلف من لونين : أبيض وأسـود .

– العقل .

– الفطرة .

– لا انفصال بين الباطن والظاهر .

– انفصال بين الباطن والظاهر .

– الواقع معطى متطور .

– الواقع معطى نهائي .

– التحليل، التركيب، التحديد، التفاصيل .

– الحَدْسُ، التقريب، العموميات .

– يستند على منهج مدقَّق .

– تسندها رؤية ” شلاّفة “، ” مُشَبِّرة “، أي لا تندرج ضمن أي ناظم أو منهج .

– ينطلق من الحقيقة الواقعية .

– تنطلق من المثال، الرغبة، الشعور، المعتقد .

– اكتشاف تدريجي للواقع وجهد مستمر للمطابقة .

– تخمين الواقع مرة واحدة ونهائيا .

– تحليلية .

– تقريرية .

وقد أدت المقابلة بين المنهجين إلى أن يكتشف الحافظ السمات الأساسية للسياسات الصائبة تجاه قضايا المسألة القومية العربية، فحددها بثلاث : الأمّويّة / القومية، وبناء الديمقراطية ، والوعي المطابق بمستوياته الثلاثة ( وعي كوني، وعي حديث ، وعي تاريخي) . ومن الواضح أنه التزم المنهج الماركسي في التحليل ، إلا أنه دعا إلى استخلاص تركيبة ماركسية عربية ، بدونها ” ستبقى الماركسية شيئا برّانيا بالنسبة للعرب لا يتغلغل في ثنايا الذهن العربـي ” . ومن ثم دعا إلى ضرورة صياغة أبحاث ماركسية ملموسة عن الواقع العربي، بما يكفل ” تحوّل الماركسية في المجتمع العربي من شيء برّاني إلى شيء جوّانــي ” ، أي ” من الماركسية إلى الماركسية العربية ، الأمر الذي يعطي هذه النهاجية كل فعاليتها في تحديث الفكر العربي ثم الأيديولوجيا العربية ، بوصفه أحد الأهداف الأكثر أهمية للثورة العربية ” (4) .

ومن المنظور الماركسي الديمقراطي أدان الشيوعية العربية التي خاضت معركة الماركسية السوفياتية ـ الستالينية ضد الليبيرالية ، دون أن تستوعب أنّ نقد الليبيرالية من موقع متخلف عنها، من موقع المجتمع الذي لم يحقق منجزاتها، لن يكون نقدا اشتراكيا بــل ” تأخراكيًا “، وتلك سمة ميزت خطابه الماركسي العربي عن الخطاب الماركسي التقليدي . خاصة وأنّ هذا الخطاب، بعد الحرب العالمية الثانية والانتصار العظيم للاتحاد السوفياتي على النازية، هاله هذا الانتصار ودفعه إلى مزيد من التأقلم مع الخطاب الستاليني، إن لم نقل ” أصبح أكثر إذعانا وتماهيا مع خطاب المركز الذي كان يخوض معركة الستالينية ضد الديمقراطية الغربية البورجوازية واشتقاقاتها ومعادلاتها الليبيرالية، وإذا كانت الستالينية ذات مصلحة في حربها الأيديولوجية ضد الديمقراطية بصيغتها البورجوازية والاشتراكية لأنها تخدم وثنيتها السلطوية البيروقراطية، ولكن أين هي مصلحة الأحزاب الشيوعية في البلدان المتخلفة ذات الأيديولوجيا القروسطية ، الغارقة في سحر الرؤية المُعجبة بعالم لا يزال مكبّلاً بهالة الذاكرة الجماعية .

إنّ بلدان ما قبل الرأسمالية، بل بلدان ما قبل الدولة، المأهولة بسحر أوهام مَيْثِيَّة رفيعة، لم تكن حربها ضد الديمقراطية إلا حربا مجانية عبثية، ليست لها أية علاقة بالوعي التاريخي الماركسي الذي هو نتاج موضوعي لمجتمع العقلانية والديمقراطية والحداثة ” (5) .

كما وجّه الحافظ نقدا للحركة الشيوعية العربية لأنها وضعت هدف ” الوحدة العربية ” على الرفِّ حينا وناوأتها حينا آخر، فأحزاب هذه الحركة استلهمت نظرية ستالين عن نشوء القوميات والأمم، والتي قد تصحُّ على تاريخ نشوء الأمم والقوميات الأوروبية، من خلال التعويل على أولوية السوق الوطنية الواحدة والاقتصاد المشترك، لكنها لا تصحُّ على تاريخ الأمم الأخرى ما قبل الرأسمالية . وعلى هذا فالقومية العربية لم تُولَدْ في السوق البورجوازيـة ، بل ولدت في ” غمار الكفاح المشترك ضد الاستعمار” .

وأخذ الحافظ على الشيوعية العربية، التي كان من المفترض أن تمتلك وعيا كونيا يمثل الخلاصة الأرقى لتطور العقلانية ، أنها كانت في السياق العربي ” امتثالية ووثوقية “، لم تنقد الخصوصية التاريخية لواقعها، لتتمكن من التمفصل في إشكالاته المركزية، ولتنتج وعيا خلاقا لهذه الخصوصية ، من أجل نقدها ومن ثم تجاوزها . ولهذا عجزت عن إنتاج ماركسية مبدعة خلاقة، ملتصقة بزمنها وتاريخها، مثلما فعلت الأنتلجنسيا الفيتنامية والصينية . بل حكمتها تجاه مسألة الوحدة العربية امتثاليتها الدوغمائية نحو النصوص الستالينية من جهة ، وواقع تكوينها الأقلوي من جهة أخرى، فأنتجت مفاهيم تحولت إلى سياج فكري في يد أعداء الوحدة ، لتبرير استمرارية التجزئة، تحت ستار وجود شعب متميز ، تحتويه النظريات العلمية وتعترف بكيانه الإقليمي (6) .

وفي محاولة منه لتحليل أسباب عزلة الأحزاب الشيوعية العربية وجد أنها ” غير نقديـة ” و” سياسوية ” غفلت تماما عن المسألة المركزية في الواقع العربي : التأخر ، وإسقاط واقعة التأخر سيقود ضروريا إلى تشويه الديمقراطية، ومن ثم اختزالها إلى ” إصلاح زراعي” لم يفعل في التجربة العربية ما ينبغي أن يفعله من حيث تحرير الفلاحين من قيم وقيود المجتمع التقليدي القاهرة، مما أدى إلى أن يقف هذا الإصلاح عند حدود ” كولكة الريف ” ، لذلك نعتها بـ ” الماركسية المتأخرة ” .

وانطلاقا من ذلك تساءل الحافظ : لماذا أسقطت الماركسية العربية المؤسسية مقولة التأخر، ولماذا كرّست المنظومات التنموية ؟ (7) :

(أ) ـ لأنها ” كررت ببغائيا مقولات الماركسية السوفياتية ” ، التي تجهل بالطبع المشكلات العيانية العربية من جهة، ومن جهة أخرى لأنّ الماركسية السوفياتية فرضت عليها إشكاليات وهموما لا تمت بصلة إلى الواقع العربي ، إضافة إلى الفهم السطحي للمنظـــور ” التصنيعوي ” السوفياتي الذي أسهم في دفعها لإسقاط واقعة التأخر العربي وتبنّي منظورات تنموية .

(ب) ـ لأنها أسقطت البعد التاريخي للواقع العربي، مما جعلها تضع جانبا مقــــولات ” الاستبداد الشرقي ” الماركسية ، هذه المقولات التي تقدم أدوات وعي مناسب بجوانب الضعف والقصور ، المكوَّنة عبر التاريخ في المجتمع العربي، وتدفع بالتالي إلى التأكيد على المكانة المركزية التي للثورة القومية الديمقراطية في تقدم المجتمع العربي .

(ج) ـ لأنها ” اقتصادوية ” ، وهذا ما جعلها تنكر الأبعاد المجتمعية والأيديولوجية والسياسية التي للتأخر العربي ، فعجزت عن التقاط تأثيراتها السلبية، بل الكابحة، على محاولات التنمية التي شهدها العالم العربي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية .

لقد وجد الحافظ أنّ قصور وتأخر الشيوعية العربية يكمن في أنها لم تتمكن من تجاوز إشكالية المثقف التقليدي والحديث، فكانت تفتقر إلى الحصافة والجذرية في رؤيتها ومواجهتها للواقع التقليدي العربي ، كما أنها افتقرت إلى الجذرية في موقفها من الهيمنة الامبريالية ، وبذلك لم تكن أقل عجزا من النموذجين الآخرين (المغترب عن المجتمع، والمغترب عن العصر)، لأنها لم تتمكن من ” تعريب ” الماركسية ، كما ” فتنمها ” الفيتناميون، و” صيّنها ” الصينيون، فكانت في أيديهم سلاح انعتاق من أسر التأخر، وسلاح تحرر راديكالي من الاستعمار.

ولم يكتفِ الحافظ بتوجيه النقد إلى الشيوعية العربية، بل أبدى طموحه إلى امتلاك الماركسية امتلاكا وطنيا ، وقوميا ، وتاريخيا، وكونيا ، فكانت ترسيمته النظرية عن ” الوعي المطابق ” ، أي المطابق للواقع والمناسب للهدف المرسوم . لذلك اعتبر الماركسية هي الفكر الغربي الوحيد الذي يمكن للمثقف الوطني في ” العالم الثالث ” أن ينتظم في منهجيته النظرية والمعرفية، دون أن توضع هويته الوطنية أمام سؤال (الأنا والآخر) نظرا لما مثلته الماركسية من فكر نقدي انشقاقي على تراث الرأسمالية وأطماعها التوسعية . أي أنها الفكر الغربي الذي يتيح لمثقف البلدان المتأخرة أن يكون وطنيا بحق، بالدرجة ذاتها الذي يكون فيها كونيا، أي عقلانيا وديمقراطيا، إنسانا يعيش ليس بجسده فقط في حاضر العصر ، بل يعيش بعقله مستقبله أيضا، بدون استسلام أو إلحاق واستتباع . وفي سياق محاولته ” تعريب الماركسية ” أعلن انتظامه في منهجية عدد من المفكرين الماركسيين، خاصة غرامشي (Gramsci) ولوكــاش (Lukacs)، إضافة إلى توظيفه عقلانية ماكس فيبر(Weber) الليبيرالية المضادة للماركسية، في خطابه النظري للانتقال من الوعي الامتثالي إلى الوعي النقدي، ومن الوعي الأيديولوجي إلى الوعي المطابق .

كما رأى الحافظ أنّ الماركسية ، بعقلانيتها النقدية وميراثها التنويري، قادرة على تغطية الفجوة التاريخية المتمثلة بانعدام فرص تكوّن طبقة بورجوازية في بلداننا . ذلك أنّ المستوى التاريخي من ” الوعي المطابق ” يعلّم أنّ الاشتراكية لا يمكن أن تُبنى على أرضية ومفاهيم ومناهج تقليدية ووسطوية، بل فقط على أرضية ليبيرالية . وقد أسس هذا الموقف على الأطروحة الماركسية القائلة ” إنّ الأمة يجب عليها أن تستخلص درسا من تاريخ أمة أخرى، لكن عندما يصل مجتمع إلى اكتشاف درب القانون الطبيعي الذي يحكم حركته … لا يمكنه أن يتجاوزه بقفزة ولا أن يلغي بمراسيم مراحل تطوره الطبيعي، بل يمكنه أن يختصر فترة الحمل ويلطّف آلام الولادة ” (8) .

وهنا تحضر المقارنة التاريخية، فكتابات ماركس صيغت في سياق النضال الديمقراطي الألماني، الذي كان متجاوَزا من قبل الفرنسيين والانكليز، وعلى هذا فإنّ النضال القومي الديمقراطي الألماني هو الأقرب في سماته التاريخية إلى النضال القومي الديمقراطي العربي . ثم أنّ نقد الأيديولوجيا الألمانية من قبل ماركس ، تذكّر الديمقراطي العربي بمهمة أساسية، كان وما يزال يضعها جانبا، وهي : أنّ تصفية كل ما هو وسطوي وفائت في الأيديولوجيا العربية شرط لابدَّ منه لتلافي التأخر الذي يسحق الشعب العربي .

لقد كان طموح الحافظ لإدراج الماركسية في البنية التكوينية للثقافة العربية وطموحه إلـى ” تعريبها ” سابقا لتطور منظومته المعرفية ونضجها النظري والمفاهيمي، بل هو نتاج سيرورة تجربته وممارسته الفكرية والسياسية مع حزب البعث، والحزب الشيوعي، ومن ثم اختلافه معهما والبحث عن بديل يتجاوز ممارسته السياسية والحزبية . لهذا بدت له الماركسية، في النصف الأول من الستينات في العالم العربي عامة، وفي مشرقه خاصة ” مُذَلَّةً، مُهَانَةً، مُطَارَدَةً، مَعْزُولَةً، وبكلمة : كانت الماركسية ضحية ” (9) . لذلك وضع لنفسه هدفا تمثّل بكشف التضليل المتستر خلف محاربة الجمود العقائدي الستاليني بغية تحويل الماركسية إلى مجرد ” مستشار أجنبي ” من جهة، ومن جهة أخرى لابدَّ من نقد الممارسة الستالينية للأحزاب الشيوعية . وهذه العملية المزدوجة كانت تقتضي فهما جديدا للماركسية ، صاغه الحافظ بهدف التأسيس لممكنات نظرية ليسار عربي جديد منذ الستينات، وبلور مفاهيمه ومعطياته في السبعينات في ثلاث نقاط رئيسية هي (10) :

(أ) ـ تعريب الماركسية ، لأنّ إشكاليات الواقع العربي لا تجد لها حلا في الموضوعات الماركسية الكلاسيكية، وذلك يعني ” تحقيق اندماجها مع حركة الجماهير العربية خلال الممارسة الثورية ” . بما يقتضيه ذلك من ” نبذ الصيغ المحفوظة ” والمرددة كما هي، و” النقل السطحي الميكانيكي والمقارنات التاريخية ” . فلابدَّ لعملية ” تعريب الماركسية ” من الانفتاح الدائم على الواقع العربي الملموس ، حيث النظرية تُصَحِّحُ وتُطَوِِّرُ نفسها على ضوء معطيات الممارسة، وهذا يعني ” نفي وجود نظرية جاهزة ونهائية ” .

(ب) ـ علمية وعلمانية الماركسية ، إذ أنّ الانطلاق من الواقع، واعتبار الحقيقة دائما ثورية كامنة في بنية وعي الحافظ ، ولذا فهو منذ الستينات يتنبه إلى خصوصيات الواقع العربي (خاصة التخلف الثقافي)، وعليه فإنها تتطلب الجانب العلمي والعلماني من الماركسية للاستجابة لحاجاته للتقدم .. وقد شدد الحافظ على خصوصية المجتمع العربي، بوصفه أشد حاجة لهذه العلمية والعلمانية ” لأنه لم يعش المرحلة الديمقراطية البورجوازية على الصعيد الفكري والثقافي ” . وقد تعمق فهمه لهذه المسألة بعد خيبته بالمشروع القومي التقدمي، وبعد استفادته من تاريخانية المفكر المغربي عبد الله العروي، وبداية إلحاحه على مسألة التأخر، وتهافت التفسير الطبقوي للقوى التي صنعت الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة، ليبدأ السؤال المرير : أي ثورات صنعنا، وأي اشتراكيات بنينا ؟ .

(ج) – ثورية الماركسية ورفض الإصلاحية اليمينية، وهنا يشير إلى تمييز الماركسية بين إصلاحيتين : ثورية ، وهي التي تنتزع من الرجعية قسما من قواها ومواقعها تمهد لتقويض سلطتها. ورجعية، تصبح في خدمة الرجعية عندما لا تزعزع سلطتها ونفوذها.

وهكذا فإنّ ” تعريب الماركسية ” يتحقق عبر عملية اندماجها بإشكاليات الواقع العربي المعاش، وبتواصلها مع حركة الجماهير العربية ومطامحها .

وفي سياق بحثه عن ” تعريب الماركسية ” وجّه عدة ملاحظات نقدية للأحزاب الشيوعية العربية، ومن أهمها (11) :

(أ) ـ أنها بسبب ستالينيتها أدت إلى عزلة الماركسية، وقد ظهرت هذه الستالينية في تاريخ هذه الأحزاب بعدة مظاهر :

1 ـ اعتماد الحلول الجاهزة للواقع من خلال الاعتماد على الموضوعات الماركسية الكلاسيكية .

2 ـ الجمود العقائدي بوصفه ظاهرة انحطاط في الماركسية ، بينما اللينينية تَعْمَدُ إلى تعديل الأهداف خلال الممارسة، وتِبْعًا للواقع الملموس المتطور والمتغيّر.

3 ـ الصيغ المحفوظة غيبا، والمرددة كما هي ، والنقل السطحي الميكانيكي، والمقارنات التاريخية التي تستبدل الرؤية العلمية الصافية برؤية رمادية حَوْلاء، تُؤدي إلى ” عقائدية كُلِّية ” وممارسة الوصاية على الجماهير ، ومن ثم تقود إلى ضربٍ من الطغيان .

4 ـ الانطلاق من وجود نظرية جاهزة ونهائية ما أن تُلامس الواقع العربي حتى تُحدِّد سيره النهائي وتكشف حجب الغيب التي تنتظر هذا الواقع .

(ب) ـ إهمال الأحزاب الشيوعية للجانب العلمي ـ العلماني في الماركسية، مما قادها إلى تجاهل خصوصية المجتمع العربي ، الذي لم يعش المرحلة الديمقراطية البورجوازية على الصعيد الفكري والثقافي .

II- أولوية الفكري والسياسي

كان ذلك ثمرة تطور وعي الحافظ باتجاه امتلاك قانون ” حكم الواقع ” ، كبديل عن قانون ” حكم القيمة ” ، مما أتاح له إنتاج وعي مطابق لواقع المجتمعات المتأخرة التي يسبق فيها الأيديولوجي مجمل العناصر التكوينية لوجودها، وهو بذلك إذ يتفق مع عبد الله العروي وسمير أمين وماكس فيبر ، بأولوية الأيديولوجي في مجتمعات التأخر، مما أتاح له تفكيك المنظومات الساكنة، الإيمانية، التقليدية للماركسيات العربية في صورتها الحزبية المؤسساتية . ومن جهة أخرى ، في صدد حديثه عن مظاهر التأخر في المجتمع العربي، ومقارنته بين التأخر السياسي والأيديولوجي والعسكري ، رأى ” أنّ البنية السياسية أشد تأخرا من سائر بنى المجتمع الأخرى، رغم أنّ التأخر الأيديولوجي يكمن في أساس تأخر السياسي… ” (12) .

III ـ توصيف المجتمع العربي

خلافا للمنطق القومي العربي التقليدي وللمنطق الماركساوي العربي المسفيت ، ينطلق الحافظ من أنّ الأقطار العربية متفاوتة، لا من حيث حجمها ومستوى تطورها الاجتماعي والاقتصادي والحضاري فحسب، بل متباينة أيضا من حيث مكوناتها التاريخية، ومن حيث بنية المجتمع ومدى تلاحمه، ومن حيث عمق الترضيض والحضور الامبرياليين، وبالتالي من حيث إمكانات التقدم ومدى نضوج النزوع الوحدوي . فالعالم العربي فيه ما يمايز وما يماثل، ما ينبذ وما يحفّز، فيه المتأخر جدا والمتأخر والأقل تأخرا (ولكن ليس فيه ما هو متقدم البتة، فالعالم العربي كله عالم مفوّت) وفيه الفقر الذي يقترب من التسول والغنى الذي يذكّر بالأسطورة القارونية ” إنّ هذا الوطن ـ العالم سيجد في الوحدة العربية، لا طرق الحفاظ على وجوده فحسب، بل الأرضية الملائمة لتقدمه ” (13) .

ومن جهة أخرى ، فإننا عندما نتحدث عن طبقات في المجتمع العربي إنما نفعل ذلك على سبيل التقريب، فلم ” يشهد مجتمعنا لا الإقطاعية ولا الرأسمالية في صيغتيهما الأوروبية ، والبنى التقليدية ما قبل البورجوازية والتطور الرأسمالي المحدود والمشوَّه مازالت تحجز الاستقطاب الطبقي . لذا فإنّ ما نسميه طبقات هو ، في الواقع ، بالأحرى فئات اجتماعية متشابكة ومتفاوتة في السُلَّمِ الاجتماعي، تتصارع فيما بينها وتمارس الواحدة إزاء الأخرى اضطهادا ما أو استغلالا ما ” (14) .

ومن الخصوصيات العربية التي ركّز عليها الحافظ هي السياق التاريخي الذي تشكلت فيه الهوية العربية، إذ قال : إنّ العنصر الحاسم كان ثقافيا ” دور الإسلام كحاضنٍ ورحَمٍ لتكون الأمة ” . إضافة إلى خصوصية أخرى هي نمط ” الاستبداد الشرقي ” الذي يشكل امتدادا للمخزون الثقافي الجمعي، الذي يحكم اللاشعور المعرفي للمجتمعات التي تحكم الأيديولوجيا سيرورة تَشَكُّلِها وتطورها، وحيث أنّ الأيديولوجي والسياسي في المجتمعات المحيطية كالمجتمع العربي، ما يزال يلعب دورا وازنا تارة وحاسما تارة أخرى . ولم يكن الحافظ يهدف إلى تأييد هذه الخصوصيات ، بوصفها خاصيات لاصقة بهوية الأمة، بل بوصفها ظواهر لابدَّ من استقرائها، ليكون من الممكن بناء تصوّر قادر على استنباط البدائل الضرورية التي تفرضها حاجات الواقع العربي إلى التقدم .

إنّ هذه الخصوصيات الثقافية التي كانت امتيازا تاريخيا ساعد الأمة في الحفاظ على كينونة وجودها رغم كل التحديات التي واجهتها، فإنها غدت، من منظور تاريخي، عقبة أمام انتقال المجتمع من مرحلة ” الملّة الدينية ” إلى مرحلة ” القومية الحديثة ” .

IV- التأخر و” الفوات ” التاريخي

استخدم الحافظ مصطلح ” التأخر ” بديلا عن مصطلح ” التخلف ” ، لما ينطوي عليه التأخر من معنى نهضوي أبعد من التخلف كمصطلح تقني ـ اقتصادي ، وقد استخدم مصطلح التأخر كمدخل مفهومي أساسي لتوصيف الواقع العربي، فضلا عن إغناء القاموس النظري والسياسي العربي بمصطلحات ذات دلالات عميقة .

وقد ترتب على مفهومه للتأخر العربي صياغة أخرى رائدة لمصطلح ” الفوات ” الذي يشرح معناه بأنه ” خارج تسلسل وتاريخ الأحداث ” ، ويدفع به ليتمفصل في السياق الثقافي والاجتماعي التاريخي العربي ، وذلك بأنّ ” الشعوب التي تعيش حالة الفوات هي التي يشكل وجودها في عصر معيّن ضربا من غلطة تاريخية أو مفارقة تاريخية، باعتبار أنها تعيش في مرحلة تخطتها شعوب أخرى … الشعوب المفوتة هي الماضي ملقى على هامش الراهن أو الحاضر، هي التي تعيش في غير عصرها ” (15) .

لقد اعتبر الحافظ التأخر هو المسألة المركزية في الواقع العربي المعاصر، لذلك انتقـــد ” المنظور التنموي ” الذي توهَّم بإمكانية دخول العصر و ” تَجَنُّبِ الثورة القومية الديمقراطية ” التي دشنت العصر الحديث من خلال قلبها وتصفيتها المجتمع التقليدي القديم، وعبر هذه التصفية أمكنها أن ترسي بنى المجتمع الحديث المجتمعية والأيديولوجية والسياسية وإطلاق قواه الإنتاجية . إنّ هذه المنظورات التنموية هي ” ضرب من محاولة عمل زركشة تحديثية على سطح مجتمع قديم مفوّت ” ، وقد استنتج من تجارب الشعوب المتقدمة أنه ” ما من شعب حقق تقدما اقتصاديا دون أن يكون قد حقق تقدما مجتمعيا وثقافيا وسياسيا ” (16) .

واستنادا إلى استقرائه لتاريخ الفكر السياسي العربي الحديث وجد أنّ جماع السياسة العربية متأخر، فالتأخر كامن في البنية السياسية العربية، ليس في المنطق اليميني فحسب، ولا يقتصر على الأقليات العربية الحاكمة ” لسنا إزاء أخطاء فحسب بل إزاء تأخر، لسنا إزاء سياسات يمينية فقط بل سياسات لا عقلانية، لسنا إزاء تأخر الأقليات المهيمنة فقط ، بل إزاء تأخر البنية السياسية العربية بجماعها . وبكلمة : إنها سياسات قرية في عالم المدن ” (17) . ومن هنا ألحَّ على الحاجة إلى الثورة القومية الديمقراطية التي لا تستدعيها نظرية المراحل، بل تستدعيها لا عقلانية السياسة العربية بجماعها، يمينها ويسارها .

إنّ التأخر العربي العام جعل العقل العربي، حسب ياسين الحافظ، وكأنه ” برميل بلا قعر، لا يجمع ولا يراكم ، مع كل صباح نبدأ تجربة جديدة، وننسى تجربة البارحة، كما لا نفكر باحتمالات الغد . على الدوام نبدأ من جديد وكأننا ولدنا اليوم، أشبه بفئران عاجزة عن اكتشاف أنّ المصيدة تصيد ” (18) .

V- الوعي المطابق

أي تَمَلُّك السياسات العربية الوعي المناسب لحاجات تقدم الأمة العربية وتحررها ووحدتها، وهو لا يمكن أن يتكون إلا على أرضية الحقيقة الواقعية، وليس الحقيقة التي تنطوي عليها النصوص في اكتمالها المنهجي الداخلي الذاتي . وهو ذو ثلاثة مستويات : أولها، وعي كوني . وثانيها ، وعي حديث . وثالثها ، وعي تاريخي . ولم يجد الحافظ حرجا في القول بـ ” إنّ عبد الله العروي، من خلال منهجه التاريخاني، هو الذي أضاء رؤيته للواقع العربي في بعديه الكوني والتاريخي، وبأنه هو صاحب القول من منظور تاريخاني بتكامل الليبيرالية مع الماركسية في سياق تاريخية واقع التأخر العربي ، رغم تناقضهما في السياق التاريخي العربـي ” (19) .

إنّ الوعي الكوني هو فهم الجزء المتقدم من العالم، وخاصة بعد الوحدة التي فرضتها الرأسمالية عليه، انطلاقا من قانون وحدة الجنس البشري عقلا، وتمايزه تاريخيا . وعندها سيتم كشف مدى الفوات التاريخي للخصوصيات المحلية وأشكال تموضعها التقليدية المتأخرة عن العصر ” إنّ وعيا كهذا الذي هو وعي القسم المتقدم من العالم هو الذي يفتح لشعب متأخر الطريق إلى ولوج العصر . فالوعي المحلوي ـ القوماوي لأمة مفوّتة، هو وعي مفوّت، لذا لم يعد كافيا ولا مطابقا لحاجاتها المتمثلة في تحديث بنيانها ورفعها إلى مستوى العصر … والواقع أنّ الليبيرالية والاشتراكية، على ما بينهما من تكامل وتناقض، وبخاصة الماركسية، ماركسية ماركس، هما الأيديولوجيتان الحديثتان اللتان تقدمان مناهج وأدوات وقيما تسهّل امتلاك الوعي الكوني المنشود ” . وحينئذ لابدَّ من الارتقاء من الواقع الأقوامي المفتت إلى الواقع الأمّوي الذي يحقق الاندماج القومي، وينتج وعيا مواطنيا جديدا يستجيب لصورة الأمة /الدولة الحديثة، في صيغة وعي قومي ـ عقلاني ـ ديمقراطي ـ علماني ـ حديث .

أما بالنسبة للمستوى الثاني، أي الوعي الحديث فإنه مستدعى جدليا بالمستوى الأول، فلا يمكن امتلاك وعي مكونن مطابق بدون امتلاك الحداثة أو الوعي الحديث، حيث لا يمكن الامتداد مكانيا في العصر دون الامتداد زمنيا في امتلاك وعي العصر ” في البلدان العربية تجنبت القوى التي تريد نفسها تقدمية التعرض للتقليد ورضيت بحداثة قشرية، توضعت فوق التقليد وعقدت مصالحة مدلَّسة معه، بل ساهمت في بعث التقليد وتجديده، في حين أنّ الحداثة والتقليد نقيضان ولا يتصالحان ، ذلك أنّ الأولى تتمحور حول المستقبل في حين أنّ الثاني يتمحور حول الماضي ” (20) .

وواضح أنه يدعو إلى حداثة مطابقة قادرة على التمفصل في بنية المجتمع العربي للاستجابة إلى حاجات تقدمه، وهي تتجسد في ثلاثة أحداث تاريخية : عصر الأنوار والثورة الفرنسية، والمجتمع الصناعي، والحركة الاشتراكية المسنودة بجملة من المناهج والقيم التي أهمها ” الأمّوية / القومية أي سيادة الأمة، والمواطنوية، والإنسانوية، الواقع أو ربط الكلمة بالواقع، السيطرة على الوقت، والقانون، والفكر العقلاني التحليلي ـ التركيبي، والنفعوية، والدنيوية أو العلمانية ” (21) .

وعلى المستوى التاريخي ” بالطبع الواقع العربي ليس لحظة يتيمة مسطّحة ومسوّرة : له امتداد في المكان هو العالم المعاصر، وله امتداد في الزمان هو التاريخ الذي مازال التقدميون العرب ينكرون بصماته بل ثقله على الحاضر وينكرون بالتالي قانون كل تطور تاريخي : ماضـــي ç حاضر ç مستقبل في المجتمعات التي تحرز تقدمات تاريخية كالمجتمعات العربية، يكاد الماضي والحاضر أن يتمازجا أو يتواحدا ، ومن هنا الأهمية الحاسمة للوعي التاريخي في أي تشخيص للحاضر أو الواقع الراهن . هذا من جهة ، ومن جهة ثانية من الأهمية بمكان ربط الممارسة السياسية بالحقيقة التاريخية، الأمر الذي يتطلب نبذ كل رؤية أيديولوجية أوروبية للتاريخ ” (22) .

وهكذا فإنّ الوعي المطابق لدى ياسين الحافظ هو أولا، عقل وإعقال للواقع، لا يتم الوصول إليه بداهة بل بالتحليل الدقيق للعناصر والمكونات، في حركتها الجدلية الدائمة . وفي التحليل الأخير هو ليس سوى التقاط الواقع في سيرورته التاريخية، في خط تطورها العام . وهو ثانيا، وعي عقلاني ، يعتمد العقل منطلقا ووسيلة، ويستبعد الرؤى المثالية أو الإشراقية. وهو ثالثا، وعي نسبي ، لا يدّعي الحيازة على الحقيقة المطلقة، إنه وعي يقترب من الواقع يلتقط ظاهراته ويحللها ، ومن ثم ينقدها ليصل إلى تكوين تصور مفهومي يعاد اختباره في الممارسة، ويتم تصويبه على أساسها، والمفاهيم لدى الحافظ هي ” توسطات ضرورية تجعل الواقع المتنوع والمعقد جاهزا للوصف والتحليل، وليست أقانيم للعبادة والتقديس، توسطات ضرورية، لكنها ليست الواقع ” (23) .

وهو رابعا، وعي حديث، تكمن أهميته في مجتمع متأخر تشكل الأنماط التقليدية فيه هيمنة وسيادة، ليس على الفئات الرجعية وحسب، بل هي متجذرة أساسا في وعي الكتلة الشعبية الأكثر فقرا، وهذا ما يفاقم تأخرها، ويعيد إنتاج خضوعها للطبقات السائدة من جديد، وهو وعي يجب كسبه باستمرار في معركة دائمة مع الذهنيات والبنى التقليدية، ومع القوى والمؤسسات التي تحرسها من جهة أخرى . وهو خامسا ، وعي نقدي في رؤيته لظواهر الواقع، يؤكد على الصحيح، وينقد ويقوّم المعوج، ويترك الخاطئ ، أي أنه وعي يتجاوز نفسه باستمرار.

وهو سادسا ، وعي تاريخي ، يمكن الحكم عليه بمدى مطابقته لحاجات تقدم الواقع العربـي ، ومدى تمثيله لحركة الضرورة التاريخية، التي تصبح في حال وعيها إحدى صور الحرية، وأحد حدودها . وهو سابعا ، تراكمي لا يمكن اكتسابه دفعة واحدة، بل عبر الاستفادة النقدية من التجارب التاريخية، وعبر تصويبه في علاقته بالممارسة .

VI- الاشتراكية والمنظور التنموي ونقد التجربة الناصرية

لقد كانت قراءة الحافظ للناصرية في كل مراحل نجاحاتها وإخفاقاتها، وهذا ما يفسر حديثه في سيرته الذاتية ” موقفي من الناصرية : دعم ونقد، تَرَجٍّ ويأس ” . فمن جهة، اعتبر النظام الناصري يلعب دورا تقدميا أساسيا في الكفاح العربي العام، حين فتح أمام تطور العرب آفاقا واسعة جديدة، وحوّل القومية العربية إلى قوة تاريخية، وفتح إمكانية عملية لتحقيق الوحدة العربية . ومن جهة ثانية، فإنّ التجربة الناصرية ليست رائدة، فالنظام الناصري ليس النظام الثوري النموذجي، بسبب فقره الأيديولوجي، وافتقاد أهدافه الاشتراكية لدقة الوضوح والتحديد، وبسبب إغراقه في البيروقراطية، وانعدام النفحة الشعبية في أساليب نضاله وأدواته (24) .

كان للتجربة الناصرية حضور متميز في كتابات ياسين الحافظ لعدة اعتبارات من أهمها : أنها شكلّت ممكنا نهضويا عربيا، باعتبار أنّ وعي عبد الناصر كان أكثر انطباقا على حاجات المجتمع العربي من المواقف الأخرى . ففي حين أنّ النزعة القومية العربية المشرقية قد حوّلت الوحدة العربية إلى ” أسطورة سلفية ” مقطوعة أو ضيقة الصلة بسياستها التحررية ، فإنّ السلفية لم يكن لها وزن هام في نزوع عبد الناصر الوحدوي، فهو وريث حركة وطنية مصرية انشغلت بالتجديد والتحديث والتحرر من الاستعمار، ومن هنا فقد استنتج الحافظ ” أنّ النزعة القومية العربية أصبحت أكثر عصرية وأكثر راديكالية عندما صبّت من جديد في المقال الناصري ” (25) .

إنّ التقاط الحافظ للمهمة التاريخية التي كانت مناطة بالناصرية على مستوى المشروع القومي العربي، هو الذي يفسر لنا وعيه وشعوره بأنّ الناصرية فرصة تاريخية استثنائية ضاعت على الأمة العربية، وذلك بالرغم من نقده لتناقضاتها ، خاصة التناقض بين الثورة السياسية والمحافظة الأيديولوجية المجتمعية ” إذ في الوقت الذي كان فيه النظام الناصري يحصد الأخوان المسلمين (ونرمز بهم هنا إلى التيار السلفي كله) سياسيا كان يزرعهم ثقافيا وأيديولوجيا، الأمر الذي ألقى به في سلسلة اختناقات انتهت بضربة 5 يونيو / حزيران القاصمة ” (26) .

ومن خلال واقعيته الثورية، التي تذهب من الواقع إلى الهدف، كان الحافظ سبّاقا في إدراك رغبة الامبريالية الأمريكية وإسرائيل أن تقضيا على الناصرية، رغم ما كان يراه من قصورها . لذلك فإنه ، إبان الحملة الإعلامية المركّزة بعد الانفصال في العام 1961 على موقف عبد الناصر من القضية الفلسطينية، كان سبّاقا إلى معرفة أنّ المقصود لم يكن تحرير فلسطين، بل رأس عبد الناصر ومشروعه الثوري ، فكانت هزيمة يونيو/حزيران تحقيقا لما كان يستشعره في أنّ رأس عبد الناصر هو المطلوب (27) .

ولكنّ الحافظ وجّه نقدا عميقا لأزمة علاقة الناصرية بالديمقراطية، فعندما أعلنت الثورة المصرية الميثاق الوطني في العام 1962 وصّفه الحافظ قائلا ” جاء على شكل أبوي، فكانت علاقة الثورة مع الجماهير علاقة وصاية، أي التزام مصلحة الجماهير والوصاية عليها في نفس الوقت، لم يتح خلق الجماهير الواعية لمصالحها الطبقية، بل خلق الجماهير المتحمسة السديمية … ” (28) . وفي الوقت نفسه انتقد ما يسمى بـ ” الاشتراكية العربية ” ، إذ أنها افتقدت إلى قاعدة ديمقراطية، وبالتالي أصبحت ” تأخراكية ” ، ذلك لأنّ الاشتراكية عندما تُبنى على أرضية وسطوية لا يعود يجمعها نسب بالاشتراكية في صورتها الأصلية، باعتبارها فرع من الديمقراطية والتحقيق الأمثل لها .

وفي هذا السياق فإنّ الحافظ انتقد ” المنظور التنموي ” عندما مسخ مفهوم النهضة إلـــى ” التنمية الاقتصادية ” التي طمست كل أبعاد مسألة التأخر العربي . فالمشكلة ، حسب ياسين الحافظ ، هي مشكلة ( تأخر /حداثة ) ، لا مشكلة ” اقتصادوية ” ( تخلف /تنمية ) ، مشكلة حضارية ( فوات /معاصرة ) وليست إشكالية تراثية ( أصالة /معاصرة ) . وهو يعيد جذور المنظور التنموي إلى قصور وعي دعاته، الذين اعتقدوا بممكنات تجاوز مشكلة التأخر عبر الخيار ” الاقتصادوي ” والتقني، ولكن من خلال الحفاظ على البنى التقليدية ومنظومة القيم المرافقة لها .

VII- هزيمة يونيو/حزيران 1967

يعتبر كتاب الحافظ ” الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة ” من أهم المقاربات العربية للهزيمة، ففي تعليقه على لقاء عدد من ” المثقفين ” تحت سم ” لقاء المفكرين العرب ” ، وتحت شعار” الإعداد لمعركة التحرير” قال : ” لقد عكست مناقشات هذا اللقاء الواقع الفكري المتخلف، السطحي الممزق، الراكد، الذي لم يخترقه العصر ولم يشعر جديا بانسياب الزمن، وبالتالي فإنّ المرء ليكتشف في المناقشات جذور الهزيمة في عقولنا اللاعقلانية وفي ثقافتنا، الهجينة، السطحية والمتيبسة ” (29) .

لقد رأى فيها الحافظ تتويجا لهزائم أجيال الأنتلجنسيا العربية الثلاث، فالجيل الثالث رغم نزوعه الراديكالي لكنه ” كان محافظا على الأصعدة الأيديولوجية والثقافية والاجتماعية، كانت قدرته على تحديث المجتمع العربي، بما في ذلك الاقتصادية، محدودة جدا تارة ومعدومة جدا تارة أخرى، وهذا ما جعل راديكاليته السياسية المستندة إلى بنى مهترئة ومُفَوَّتة، في تصديها للهيمنة الامبريالية وإسرائيل، تأخذ طابع رومانسية ثورية، كانت تتحول مع تأكد العجز والتآكل، كما تجلى في هزيمة حزيران وعقابيلها، إلى تفنيص ثوري . ومن طبيعة الأشياء أن يتحول التفنيص الثوري، بعد ارتطامه بالواقع، إلى استسلام ” (30) .

وفي محاولة منه لوضع اليد على مكمن الخلل، بعيدا عن نظرية المؤامرة التي راجت في العالم العربي، وجد الحافظ أنّ التكنولوجيا الحديثة بدون قاعها التاريخي المعرفي، العقلاني، الثقافي، وتمازج سيرورات هذه العناصر، ليست إلا حديد ” خُردة ” في اليد الجاهلة . فمشكلة العرب هي القطيعة بين تكنولوجيا الأسلحة الحديثة وقاعها الثقافي العقلاني الحديث .

VIII- نقد التيار القومي التقليدي وبلورة قضايا المسألة القومية العربية

رأى ياسين الحافظ أنّ هذا التيار لا تاريخي ، حين لم ير الجذور التاريخية، السابقة للاحتلال الاستعماري، لبعض الكيانات الإقليمية العربية المميزة، ولا مفاعيل الهيمنة الامبريالية وقوانين عملها في العالم العربي . وقد وصّف رؤية هذا التيار على النحو التالـي ” نحن العرب نشكّل أمة واحدة، يجمعنا تاريخ طويل، تربطنا لغة واحدة، نعاني آلاما واحدة، تحرّكنا آمال واحدة، ينتظرنا مصير مشترك، وما التجزئة سوى صنيع الاستعمار . مادام الأمر كذلك، فمن الطبيعي، بل من الحتمي، مهما راوغ القدر، أن يؤطِّرنا، بعد زوال الاستعمار ورواسبه، كيان سياسي واحد ” . وبعد أن أقرَّ بصحة مقدمة هذه الأطروحة، قـال ” إنّ بناء دولة تؤطِّر أمة واحدة يتوقف، مع جملة عوامل أخرى، على وعي هذه الأمة ضرورة وحدتها. فالحتمية الوحدوية إنما تنبع، إذا لم تواجَه بعرقلات أخرى، من وعي أجزاء الأمة ضرورة وفائدة الوحدة، فضلا عن الإرادة ” (31) .

وبسبب قصور وعي التيار القومي التقليدي فقد انتقل العديد من أنصاره إلى ” مواقع إقليميـة ” ، لأنه عاجز عن تصور المسار الوحدوي كصعود شاق ” يتواكب مع الوعي السياسي السائد ومع الأيديولوجيا السائدة، وبالتالي اعتبار الوعي الوحدوي خلاصة وزبدة الوعي العام لمجتمع يعاني شقاء قوميا من جهة، ويواجه ضغوطا ساحقة من قبل الامبريالية من جهة أخرى ” (32) .

ومن منظور تنويري، انتقد الحافظ التيار القومي التقليدي، كما ظهر واضحا في كتابات ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، حيث ” أدانت بلا تحفظ الثورة الفرنسية ورأت بذور التفكير الفرنسي ، الدخيل على العرب والمشوِّه لتفكيرهم، قد سمّم النهضة العربية الحديثة منذ ولادتها، بدخوله مصر مع حملة نابليون بونابرت ” . كما أشار إلى أنّ هذه الأيديولوجيا القومية رفضت الماركسية وأدانتها، انطلاقا من النظر إليها بوصفها ” ذات أصول أوروبية صرفة تمثّل نزعة إنسانية ” (33) .

والقومية، بالنسبة لياسين الحافظ ، ليست أيديولوجيا، كما حاول الفكر القومي التقليدي أن يصوغ أصالتها من خلال ترجمة هذه الأصالة عن الفكر الألماني ” الروح الأزلي الخالد “. وهي ليست تجميعا كميا لوحدات وكيانات مجزأة، بل هي عملية تخترق الفرد لتجعل منه مواطنا، وتخترق المجتمع المُكسَّر عموديا في أنساق سوسيولوجية تعود به إلى نظام القرابة الدموية البدوية، لِتُنَضِّدَهُ في أنساق اجتماعية حديثة . والقومية، أخيرا، تحقيق لذات الأمة، بالدرجة نفسها كتحقيق لذاتية الفرد الحر المسؤول أمام القوانين، إنها تحقيق لمفهوم سيادة الفرد على مصيره، وسيادة الأمة على مصائرها . وعلى هذا فـ ” الأمّويّة ” ، في فكر الحافظ ، ليست شعورا متمحورا حول السيادة القومية إزاء الخارج فقط بل إنها ” شعور ووعي متمحوران حول سيادة الأمة في الداخل، سيادتها على نفسها ” (34) .

إنّ ” الأمّويّة ” ليست، كما يتداولها الخطاب القومي ” رابطة سلبية أو تضامن سلبي تتخذه جماعة بشرية إزاء جماعة بشرية أخرى مغايرة أو معادية، أي ليست شيئا من قبيل نزعة كره الأجنبي، التي لازمت وتلازم الجماعات البشرية التي تعيش مرحلة ما قبل الأموّيّة ” . فإذا كانت ” رابطة الدم ” أو” نظام القرابة ” كانت تسود قبل مرحلة ” الأمّويّة ” ، فإنّ الأمم الحديثة تكونت تاريخيا وحلّت تدريجيا محل نظام القرابة، وأنشأت الدول القومية الحديثة . وهذا النمط من الأمم الحديثة يفرز روح المواطنية، التي تتبدى في صيغة ” الدولة الأمّويّة الديمقراطية العقلانية ومؤسساتها ممثلة للأمة ومصالحها العامة ” . فهي إذن ” وعي المرء وشعوره بأنه عضو في جسد جماعة إنسانية معينة.. بأنه ندّ للآخرين.. متساوٍ في الحقوق والواجبات أمام القانون الذي يعبّر عن إرادة الأمة ” (35) .

لقد قام الحافظ بتقصّي سير تطور الأمة العربية، للتعرف على الخصوصية التاريخية التي ميّزت خط تطورها المميَّز في إطار المقارنة التاريخية بين خطوط السيرورة الكونية، فوجد أنّ العامل الذاتي الثقافي (الإسلام) هو عامل التفاعل والصهر. ففي ظله، كتراث حضاري وثقافة مشتركة وتكوين نفسي مشترك، تبلورت الثقافة المشتركة والتكوين النفسي الحضاري . لكنّ الحركة القومية العربية استيقظت تحت تأثير الفكر الأوروبي، ثم اكتسبت زخما أشد ضد محاولات التتريك أولا ثم ضد اضطهاد السيطرة الاستعمارية ثانيا . وعلى هذا، فإنّ الحركة القومية العربية لم تستيقظ في ” غمار نضال طبقي حاد ” كما جرى في أوروبا .

والبرجوازية العربية لم تتطور إلى الحد الذي تجعل مقتضيات السوق الواحدة تتحول إلى أداة هدم بين الأقطار العربية، ليخلص من ذلك إلى مغايرة أخرى لسياق التطور الأوروبي هي ” أنّ القومية العربية لم تولد في السوق ” ، وبالتالي فإنّ الوعي القومي العربي سبق التطور الاقتصادي العربي (36) .

إنّ الخصوصية الثقافية التي مهرت شكل تكوّن الأمة ووعيها القومي، المتمثلة بالدور الإيجابي للإسلام، غدت ، في المنظور القومي الديمقراطي العلماني لياسين الحافظ ، الجذر الأساسي للفوات التاريخي، بمثابتها ” تعبيرا عن وعي سكوني لمجتمع تقليدي، وعي رؤية دورانية لحركة التاريخ ” (37) .

لقد ربط الحافظ صلة وثيقة بين التقدم والوحدة العربية، فـ ” العالم يغذُّ الخُطى نحو تكوين كتل كبرى من الشعوب، وستبقى ” الشعيبات ” على هامش التاريخ ” . فلا يمكن تصور تنمية ناجحة إلا في تجمعات كبرى ” إنّ الأقطار العربية، الكبيرة منها بخاصة، قد تستطيع، في أحسن الأحوال، تطوير صناعتها القائمة إلى هذا المدى أو ذاك، إلا أنه سيصعب عليها، في ظل التجزئة، أن تتعدى حدود الصناعات التي قامت في أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين . أما الصناعة العصرية التي جاءت نتيجة الثورة الصناعية الثالثة، فمن الصعب جدا، إن لم أقل من المستحيل، أن تقوم في ظل التجزئة ” .

إنّ الأقطار العربية، عندما توضع ضمن مقاييس عالمية، مخالفة لوجهة العصر، لـــذا فـ ” إنّ على أولئك الذين يحبون الصناعة الثقيلة والتصنيع الثقيل أن يحبوا الوحدة العربية التي تعتبر الشرط الأولي واللازم لقيام هذه الصناعة ” (38) .

إنّ المنظور الوحدوي لياسين الحافظ يزن كل تناقضات الواقع العربي، ويستشرف كل سبل الخلاص العربي، أي تلافي التأخر التاريخي المتراكم للشعوب العربية . وفي هذا السياق حدّد الميول الجاذبة في السيرورة الوحدوية بثلاثة ميول : أولها، شعور هؤلاء البشر المنتشرين من الخليج إلى المحيط بأنهم ينتمون إلى أمة واحدة ويجمعهم مصير مشترك، ولا شك أنّ هذا الشعور يتفاوت من حيث عمقه ووضوحه بين قطر وآخر، أو إقليم عربي وآخر، فمثلا ليس من المناسب تجاهل الفجوة التاريخية بين المشرق والمغرب العربيين، التي قامت منذ القرن الثامن الميلادي حين أُنشئت الدول المغاربية المستقلة عن الدولة العباسية ( الأغالبة ، الرستميون ، الأدارسة ، بنو مدرار ) . إلى أن جاء الاستعمار الفرنسي فعمل على ” تعميق وتوسيع هذه الفجوة وصياغة غطاء أيديولوجي لها، مارس تأثيرا راضّا عميقا على صعيد الثقافة في صفوف الأنتلجنسيا المغربية، كما قام بعملية بتر كامل على صعيد الاقتصاد عبر إمكانية إلحاق الطرف المستعمَر بالمركز المستعمِر ” ، وفي الوقت نفسه من المغالطة إنكار وزن الرابطة العربية في المغرب العربي .

وثانيهما، يتمثل في العامل الخارجي، أي مفاعيل الهيمنة الامبريالية وضغوطها ونهبها للشعوب العربية، بما يشحذ النوازع الوحدوية، ويوجه حدها ضد سائر أشكال نفوذها ” إنّ الامبريالية قد جزّأت الوطن العربي وولّدت وحدته من جديد ” . وثالثها، يتمثل في النزوع العربي إلى التقدم، إلى دخول العصر، إلى تأكيد الذات (39) .

أما الميول النابذة للسيرورة الوحدوية فقد حددها الحافظ بخمسة : أولها ، التأخر العربي العام . وثانيها، الهيمنة الامبريالية ومحاولتها ممارسة ضرب من التجميد للاحتمالات الوحدوية السياسية ، فالعداء للوحدة لايحرّك سياسات الدول الامبريالية وحدها، بل ” يحرّك أيضا، وبعداء أشد، سياسات الدول المجاورة للوطن العربـي: إسرائيل، إيران، تركيا، الحبشة… ولعل موقف إسرائيل يشكل الحالة القصوى ” .

وثالثها، واقع التجزئة والمقاومة التي يبديها والذي ” لا يتمثل فقط بمصالح الأشخاص والفئات الراكبة على بنية سياسية ما قائمة، بل يتمثل أيضا، في كيفية أوزن وأشد تأثيرا، في الأيديولوجيا الإقليمية ” . ولأنّ الحافظ يزن كل تناقضات الواقع العربي، فقد قال : ” إنّ العمل في سبيل تصفية الواقع الموضوعي للتجزئة إنما يتطلب منّا أن نأخذ بعين الاعتبار الوزن والجذور التاريخية والجغرافية للتجزئة . وهذا يعني أنّ المشروع الوحدوي، فضلا عن ضرورة مرونته، لكي يمكنه استيعاب تضاريس التجزئة، لا ينبغي أن ينفي على المدى القريب والمتوسط، وبعد توفير الإطار السياسي لوحدة حقة، الأخذ بالاعتبار المصالح الإقليمية التي لا تعرقل سيرورة التذويب الوحدوية … وأن تتوفر هذه السيرورة على ضمان توازن ما في مصالح الأقطار، بحيث تتدرج عملية التذويب مع نمو وعي الشعب بسلامة تخطّي ما هو إقليمي لصالح ما هو قومي ، توازن يشكل التحقيق الأسلم والأبعد نظرا حتى للمصالح القطرية المفهومة فهما صحيحا ” .

ورابعها، يتمثل في الأيديولوجيات الضمنية أو الصريحة للأقليات الدينية والقومية في العالم العربي، وهي مسألة غير ممتنعة، وبخاصة موقف المواطنين العرب المسيحيين أو موقف الفرق الإسلامية غير السنّية ” إنّ التأكيد على علمانية الحركة القومية العربية ودولة الوحدة العربية والنضال لتطبيقها سيفتح أرحب السبل لحلها بدون تأخير وبجدية ” . أما مشكل الأقوام غير العربية ” فينبغي أن يُحل على أساس مصلحة الوحدة العربية والاندماج القومي العربي . وهذه الحلول تصبح ممكنة بقدر ما يدمقرط المجتمع العربي ” .

وخامسها، يتمثل في شخصنة السلطة، التي ” أصبحت تظاهرة غالبة في الميدان السياسي العربي ” ، وهذه الشخصنة في البنية السياسية العربية عززت وتعزز إلى أقصى حد العوامل النابذة الأخرى للسيرورة الوحدوية، ذلك لأنّ السلطة المشخصنة ” لا بدَّ أن تستخدم سائر العوامل والعناصر المؤاتية للتجزئة في سبيل تدعيم مواقعها، بحيث يصبح الوضع أو البنيان الإقليمي مرتكزا وسياجا ومجالا حيويا لها ” . وعليه، بدا لياسين الحافظ أنّ الديمقراطية، التي تشكل نقيضا مطلقا لشخصنة السلطة، تشكل الطريق الأكثر مواتاة وملاءمة إلى الوحدة العربيـة (40) .

كما رصد الحافظ عاملين آخرين يشكلان نقطتي ضعف وثغرتين تجعلان السيرورة الوحدوية أكثر صعوبة : أولهما، افتقار العالم العربي إلى تطور بورجوازي حق . وثانيهما، ضعف دور القطر العربي – المركز، أو القائد للعملية الوحدوية .

VIV- الدولة الحديثة

تندرج ضمن رؤية ياسين الحافظ للثورة القومية الديمقراطية، بما تنطوي عليه من إمكانية امتلاك وعي مناسب بالواقع، ووعي مطابق لحاجات التقدم العربي . وتبدو أهمية هذه الرؤية إذا عرفنا أنّ الدول العربية، منذ مرحلة ما بعد الاستقلال السياسي ، استندت إلى تقليد سياسي ثيوقراطي، أتاح أوسع الفرص لممارسة أقلية ما هيمنة دائمة، كما أتاح المجال للصراع حول السلطة داخل هذه الأقلية . لهذه الأسباب فإنّ دعوته إلى الدولة الحديثة تمثل استجابة لحاجة الواقع العربي إلى تجاوز فواته التاريخي، حيث يبدأ ذلك بتحديث السياسة بـ ” الديمقراطية ” وتحديث الثقافة بـ ” العلمانية ” و ” العقلانية ” . وفي ذلك يقول ” الديمقراطية لا يمكن أن تؤجل أو تقنّن، ولا توضع على الرف اليوم بزعم ممارستها غدا عند النضج، فالنضج السياسي وليد الممارسة الديمقراطية بالدرجة الأولى، فالديمقراطية اليوم هي أمر لا بدَّ منه للديمقراطية غدا، لأنّ ممارسة الديمقراطية على نحو ناضج مسؤول ومنضبط، لا يمكن أن يتهيأ إلا بالممارسة الدائمة، فلكي نتعلم السباحة غدا، يجب أن نمارسها اليوم ” (41) .

وعلى ضوء تجربته في فرنسا، قارن الحافظ بين الفرد في المجتمعين الغربي والعربــي ” في الغرب، كنت أُذهَل عندما أرى قوة الفرد وجرأته وثقته بنفسه أو تحرره الكلي من مختلف أشكال الخوف … لا شك أنّ عوامل عديدة، مجتمعية وأيديولوجية واقتصادية، مهدت لإسقاط الخوف من الغرب، بيد أنّ الإطار الذي صُفّيَ فيه الخوف كان الإطار السياسي، أي الديمقراطية ” (42) .

أما العلمانية، فهي تحضر لدى الحافظ بمثابتها منظومة متكاملة، تستدعي جميع حيّزات التجربة التاريخية للأمة : معرفيا، واجتماعيا، وسياسيا. فهي على المستوى المعرفي معادل للعقلانية ، فهي ” تؤمن بالاكتشاف التدريجي للحقيقة سواء في الطبيعة أم بالمجتمع، بواسطة العقل وحده تحت رقابة التجربة.. وبدون هذه العقلانية ما كان للعلوم أن تتقدم هذا التقدم المذهل، وبالتالي لا يمكن للعلم أن يتقدم في مجتمع يرفض هذه العقلانية … فالعلمنة إذن إحدى التظاهرات الفرعية لعملية عقلنة المجتمع ” (43) . وهنا نلاحظ أنّ التلازم الذي طرحه بين القومية الحديثة والعلمانية، لم يتوقف عند حدود السطح السياسي، والترسيمات المحدودة عن ” فصل الدين عن السياسة ” بل استعاد المنظور المعرفي دوره، بوصفه أساسا جوهريا لبناء الدولة القومية الحديثة .

وهكذا توصّل الحافظ إلى منظومته الفكرية بعد ممارسة النقد للأيديولوجيا على مستويين : (44) : أولهما، نقد الأيديولوجيا التقليدية السائدة في المجتمع، هذه الأيديولوجيا المفوَّتة التي تكرس روح الامتثال والعزوف، وتحول المجتمع إلى كتلة هامدة خارج أسوار العصر وتفاعلاته، هذه الأيديولوجيا هي التي تحدد موقف الإنسان العربي من ( الشغل، المرأة ، الطبيعة ، الوقت … الخ ) وهي التعبير الفكري عن التأخر التاريخي العربي .

وثانيهما ، نقد أيديولوجيا الأنتلجنسيا العربية، إذ رأى أنها أيديولوجيا مستلبة بسبب كونها إما أيديولوجيا سلفية أو أيديولوجيا اغترابية . وفي تناوله لهذا المستوى ميّز الحافظ بين محاولتي نهضة شهدهما العالم العربي : الأولى ، التي قادها محمد علي باشا، والتي حمل جيلها أيديولوجيا ” تقليدية ” . والثانية ، التي مثلتها وقادتها التجربة الناصرية، والتي حمل جيلها أيديولوجيا ” تقليدية جديدة ” ، لم تشكل تجاوزا بالمعنى التاريخي للأيديولوجيا التقليدية .

لقد ميّز الحافظ ثلاثة تيارات رئيسية :

(أ) ـ تيار إسلامي ، تراثي ، سلفي ” يكره الحاضر، ويرى بخوف إلى المستقبل، ويتطلع بشوق وحنين وتقديس إلى الماضي . وبكلمة : إنه يرفض العصر ، العصر الذهبي في المستقبل هو أن نستحضر عصرا مضى من ألف وأربعمائة عام، إنه تيار يعيش بدلالة الماضي ” .

(ب) – تيار قومي أو” قوماوي ” : ” قومي في أهدافه، شبه عصري في نواياه وشبه تقليدي في واقعه، وتلفيقي في منهجه… تحت وطأة العصر وإذلاله أصبح يرنو إلى هذا العصر، ولكنّ ثقل رواسب الماضي يجعل سعيه إلى ولوج العصر أشبه بسعي المهربين، إذ يريد الدخول إلى العصر خلسة عن أعين الماضي أو بمباركة منه ” .

(ج) – ماركسي أو ” ماركساوي ” ، بقي هامشيا ولم يستطع الانغراس في متن الأمة، وذلك نتيجة نهجه الدوغمائي واغترابه كوعي، وافتقاره إلى عمق ثقافي وبعد تاريخي (45) .

وهكذا ، فإنّ ياسين الحافظ أدرك أهمية دور العامل الثقافي في إنتاج وعي الأمة العربية بذاتها، بوصفه وعي مجتمع وليس وعي طبقة، وبالتالي ” الخصوصية ” الثقافية المتمثلة بدور الإسلام الإيجابي في التاريخ العربي، من حيث كونه أمّن سياجا أيديولوجيا للأمة حماها من التبعثر، وإن غدت هذه ” الخصوصية ” ، في منظور الحافظ ، الجذر الأساسي لـ ” الفوات التاريخي ” ، بصفتها تعبيرا عن وعي سكوني لمجتمع تقليدي .

 

(*) – ترك ياسين الحافظ كتابات عديدة من أهمها : دراستان نقديتان”حول تجربة حزب البعث”و”نظام عبد الناصر” نشرهما في كتاب”في الفكر السياسي”في العام 1963، والذي صدر بجزئين مع جمال الأتاسي وعبد الكريم زهور والياس مرقص، وكتابه الأول”حول بعض قضايا الثورة العربية”في العام 1965، وكتابه الثاني”اللاعقلانية في السياسة العربية/ نقد السياسة العربية في المرحلة ما بعد الناصرية”في العام 1975، وكتابه الثالث”التجربة التاريخية الفيتنامية/ تقييم نقدي مقارن مع التجربة التاريخية العربية”ثم كتابه الرابع”الهزيمة والايديولوجيا المهزومة”في العــام 1976، وأخيرا كتابه الخامس”في المسألة القومية الديمقراطية”بعد وفاته في العام 1978.

الهوامش

1- د . عيد، عبد الرزاق : ياسين الحافظ /نقد حداثة التأخر ، الطبعة الأولى – حلب – سورية ، دار الصداقة – 1996 ، ص 22.

2- الحافظ ، ياسين : الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة، الطبعة الثانية – بيروت، دار الطليعة – 1979، ص 203.

3 ـ الحافظ ، ياسين : الهزيمة والايديولوجيا … ، المرجع السابق، ص 262 ـ 263

4 ـ الحافظ ، ياسين : في المسألة القومية الديمقراطية ، بيروت – معهد الإنماء العربي – 1990 ، ص 194.

5 – د . عيد، عبد الرزاق : ياسين الحافظ …، المرجع السابق، ص 53- 54 .

6 ـ الحافظ ، ياسين : حول بعض قضايا الثورة العربية ، الطبعة الأولى – بيروت ، دار الطليعة – 1965 ، ص 16.

7 ـ د . عيد ، عبد الرزاق : ياسين الحافظ … ، المرجع السابق ، ص124 ـ 125.

8 ـ الحافظ ، ياسين : التجربة التاريخية الفيتنامية / تقييم نقدي مقارن مع التجربة التاريخية العربية ، الطبعة الثالثة – دمشق ، دار الصياد – 1997 ، ص 16.

9 – الحافظ ، ياسين : في المسألة القومية… ، المرجع السابق ، ص 262.

10 – الحافظ ، ياسين : حول بعض… ، المرجع السابق ، ص ص 271-279.

11 ـ د . عيد ، عبد الرزاق : ياسين الحافظ … ، المرجع السابق ، ص 118.

12 – الحافظ ، ياسين : الهزيمة والأيديولوجيا … ، المرجع السابق، ص 229

13 ـ الحافظ ، ياسين : في المسألة القومية… ، المرجع السابق، ص 20 .

14 ـ الحافظ ، ياسين : في المسألة القومية… ، المرجع السابق، ص 71.

15 – الحافظ ، ياسين : التجربة التاريخية … ، المرجع السابق ، ص 24 ـ 25.

16 ـ د . عيد ، عبد الرزاق : ياسين الحافظ … ، المرجع السابق ، ص 121 .

17 ـ الحافظ ، ياسين : اللاعقلانية في السياسة العربية / نقد السياسات العربية في المرحلة ما بعد الناصرية ، الطبعة الثانية – دمشق ، دار الحصاد – 1997 ، ص 5 .

18 – الحافظ ، ياسين : الهزيمة والأيديولوجيا … ، المرجع السابق، ص 264.

19 ـ الحافظ ، ياسين : الهزيمة والأيديولوجيا … ، المرجع السابق، ص 49 ـ 50 . حيث ينوّه في فصل ” تاريخ وعي أو سيرة ذاتية أيديولوجية ـ سياسية ” بأنّ العامل الأكثر أهمية في هذه المحطة من تاريخ وعيه الأيديولوجي ـ السياسي كان كتابات العروي، وتحديدا ” الأيديولوجيا العربية المعاصرة ” و” العرب والفكر التاريخي ” .

20 ـ الحافظ ، ياسين : الهزيمة والأيديولوجيا … ، المرجع السابق، ص 255.

21 ـ الحافظ ، ياسين : الهزيمة والأيديولوجيا … ، المرجع السابق، ص 256 .

22 ـ الحافظ ، ياسين : الهزيمة والأيديولوجيا … ، المرجع السابق، ص 257 .

23 ـ د . الجباعي ، أحمد (الأيديولوجيا والوعي المطابق/ مدخل أولي ) ـ عن مجلــة ” الوحدة ” ، المجلس القومي للثقافة العربية ـ الرباط ، العدد (75) ـ ديسمبر/كانون الأول 1990 ، ص 40 ـ 41 .

24 – الحافظ ، ياسين : حول بعض…، المرجع السابق، ص 145-146.

25 ـ الحافظ ، ياسين : الهزيمة والأيديولوجيـا … ، المرجع السابق ، ص ص 83 ـ 85 .

26 – الحافظ ، ياسين : الهزيمة والأيديولوجيا… ، المرجع السابق، ص 32 .

27 – خاطب الحافظ أكرم الحوراني، الذي كان رأس حربة ضد عبد الناصر في تلك الفترة، قائلا : ” الحقد مُوَجِّهٌ سيئ في السياسة ، ليت الأستاذ الحوراني يجعل من عبد الناصر وقودا لتحرير فلسطين ، لكنه يريد أن يجعل من قضية فلسطين وقودا لإحراق عبد الناصر” .

– الحافظ ، ياسين : حول بعض…، المرجع السابق، ص 233 .

28 – الحافظ ، ياسين : حول بعض…، المرجع السابق، ص 142.

29 – الحافظ ، ياسين : الهزيمة والأيديولوجيا … ، المرجع السابق، ص 208 . مع العلم أنّ الكتاب يتألف من ثلاثة أقسام رئيسية : أولها، تاريخ وعي أو سيرة ذاتية ايديولوجية -سياسية لتطور وعي ياسين الحافظ في مختلف المراحل التي مر بها. وثانيها، الهزيمة الكبرى التي عانتها الأمة العربية منذ ” وعد بلفور ” ، ويتضمن تقييما للتجربة الناصرية وتشخيصا لمسيرة التطور العربي ولاحتمالات المستقبل . وثالثها، نقد الهزيمة نقدا معمّقا والانتقال من نقد السياسة إلى نقد ” الايديولوجيا المهزومة ” .

30 – الحافظ ، ياسين : التجربة التاريخية … ، المرجع السابق ، ص 165.

31 – الحافظ ، ياسين : في المسألة القومية … ، المرجع السابق، ص 22.

32 – الحافظ ، ياسين : في المسألة القومية… ، المرجع السابق، ص 74.

33 – الحافظ ، ياسين : التجربة التاريخية … ، المرجع السابق ، ص 163.

34 – الحافظ ، ياسين : اللاعقلانية في … ، المرجع السابق ، ص 168.

35 – الحافظ ، ياسين : الهزيمة والأيديولوجيا … ، المرجع السابق، ص 242-243.

36 – د . عيد ، عبد الرزاق : ياسين الحافظ … ، المرجع السابق ، ص 195-196.

37 – الحافظ ، ياسين : الهزيمة والأيديولوجيا … ، المرجع السابق، ص 24.

38 – الحافظ ، ياسين : في المسألة القومية… ، المرجع السابق، ص 18-19.

39 – الحافظ ، ياسين : في المسألة القومية… ، المرجع السابق، ص ص 26-30.

40 – الحافظ ، ياسين : في المسألة القومية… ، المرجع السابق، ص ص 32 – 39 .

41 – الحافظ ، ياسين : حول بعض…، المرجع السابق، ص 142 .

42- الحافظ ، ياسين : الهزيمة والأيديولوجيا … ، المرجع السابق، ص 37.

43- الحافظ ، ياسين : التجربة التاريخية …، المرجع السابق، ص 23- 24 .

44 – الخطيب ، منير : ( مفهوم الأيديولوجيا في الفكر العربي المعاصر) – عن مجلــة ” الوحدة ” ، المجلس القومي للثقافة العربية- الرباط ، العدد(75)- ديسمبر/ كانون الأول 1990، ص 120- 121 .

45 – الحافظ ، ياسين : الهزيمة والأيديولوجيا … ، المرجع السابق، ص 210 .

 

 

 

 

ياسين الحافظ والإيديولوجية المهزومة في المجتمعات العربية/ منير درويش

سياسات لا عقلانية ، هزائم متلاحقة وإيديولوجية مهزومة . عناوين مركزية في المنظومة الفكرية والسياسية لياسين الحافظ المثقف العربي السوري ( 1930 – 1978 ) والذي توفي قبل 36 عاماً لكنه لا زال حاضراً معنا من خلال هذه المنظومة التي صدرت بعد طبعات عدة في مجلد ضخم تحت اسم ( الأعمال الكاملة ) عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت .

لقد تضمنت منظومة الحافظ مواضيع متعددة ومتنوعة غطت مراحل طويلة وأحداث هامة حدثت في الواقع العربي وفق تسلسل زمني لا حدود له ، وحاولت أن ترسم صورة واضحة وموضوعية لواقع المجتمعات العربية بتجربتها التاريخية وما حملته من انهيارات وسلبيات وهزائم ، كما حاولت أن تفتح أمام المثقفين والسياسيين في البلدان العربية الطريق للانطلاق نحو المستقبل والدعوة لبناء ثقافة تلائم العصر الذي نعيش فيه ونتفاعل معه تنبثق من واقعنا وحاجاتنا والتي عليها يتوقف مستقبل الأوطان والشعوب تقدماً كان أو تراجعاً .

لكن الوعي الزائف والسياسات اللاعقلانية للنخب العربية أجهضت هذه المحاولة كما أجهضت محاولات أخرى بسبب عدم استيعابها وفهمها لتلك التجربة وسعيها لتحويل الانهيارات والهزائم إلى انتصارات وهمية كي تتهرب من مسؤوليتها ، تارة بالادعاء أن هذه الهزائم هي نتيجة مؤامرة دبرها الخارج ضدنا ، ( ادعت بعض الأنظمة التي سمت نفسها تقدمية أن المعارك لم تنجح لأنها لم تستطع أن تسقطها ) ، وتارة أخرى بالقول إنها ليست سوى نكسات مؤقتة يمكن تجاوزها عند تجاوز الأخطاء التي سببتها . وفي كل الأحوال ( هي عقاب الله على ازورارنا عن صرط السلف الصالح ) رغم أننا وكما يقول ياسين ( جوامعنا مكتظة ، كنائسنا مزدحمة ، أطفالنا يتعلمون ما قاله ابن تيمية والسنوسي والإمام علي وبولص الرسول ) ، أكثر مما يتعلمون الحساب والعلوم . في كل الهزائم وهي كثيرة بالطبع يحاول الفكر التقليدي والنخب العربية تزييف الحقائق التي أدت للهزائم يروجون أكاذيب تستر واقع الفوات العربي وتموه الهزائم التي لم تكن إلا سهلة ومذلة .

وفق هذه الأسس بنى الحافظ منظومته التي رسمت خطوطاً عريضة لإستراتيجية فكرية سياسية سعت للخروج من مأزق التأخر الذي تعيشه جموع الأمة على كل الأصعدة .

رغم السنوات الطويلة التي مرت على منظومة الحافظ والتي كان لزوجته سلوى الحافظ ورفاقه في حزب العمال الثوري العربي وأصدقاءه دوراً بارزاً في تعميم هذه المنظومة وحفظها فحظيت ولا زالت تحظى باهتمام المثقفين والسياسيين ، بعضهم يؤيدها ، وبعضهم يختلف معها ولكن الكل يشيد بها بسبب دقة التحليل للحاضر وعمق الرؤية للمستقبل ، جذرها الأساسي هو رصد الفشل في تحقيق حداً أدنى لمشروع نهضوي عربي يهيء لدخول العصر ودور النخب الثقافية والسياسية في هذا الفشل وبالتالي عجزها عن التأسيس لرؤية فكرية سياسية بديلة لما هو سائد تبني لمستقبل الأمة وآفاق تطورها بعد الهزائم والانهيارات التي واجهتها وتواجهها وهذا ما دفع الحافظ لنقد وعي هذه النخب والبنى السياسية “التي لا تعرف كيف تمارس السياسة وتستفيد من الإمكانيات والموارد ، بل تعرف كيف تهدرها أو تنهبها ” حيث أن هذه النخب لم تدرك أن جذر كل الهزائم يكمن في وعيها التقليدي المفوت وأن المجتمع العربي في بناه القائمة هو المهزوم . لقد اتسم نقده لها بالصراحة والوضوح دون مجاملة أو تهاون وحمل هذه النخب المسؤولية الأساسية لاستمرار التأخر وتكريسه رغم احترامه للذات الشخصية . لقد كان نقداً شاملاً تناول إلى جانب النخب ، المجتمع برمته والأنظمة التي أنتجها داعياً إلى قلبه مع قلب الأنظمة الراكبة على ظهره .

في بحثه عن يسار متجدد انتقد بشدة اليسار التقليدي الذي وجد أنه ساهم في خراب الأمة . وهو أي ياسين لم يتهرب من مسؤوليته بالمساهمة في تأسيس هذا اليسار والعمل معه . وفي بحثه عن الفكر القومي الديمقراطي المنفتح ، انتقد الفكر القومي التقليدي الشوفيني الذي أسس لوعي استبدادي شمولي إقصائي ساهم في دعم الأنظمة الاستبدادية ومهد لها الطريق فكرياً وسياسياً ، فبدلاً من تعزيز مفهوم المواطنة وتأسيس فضاء واسع تتشارك فيه مكونات الأمة بأكثريتها وأقلياتها ، عززهذا الفكر النزعات المذهبية والطائفية والعنصرية على حساب مفهوم الأكثرية والأقلية السياسية التي تتجاوز المفهوم المذهبي إلى المفهوم السياسي الديمقراطي الذي يتساوى فيه المواطنون أمام القانون . وفي نقده لوعي النخبة توقف عند وعيها العام الذي اتصف بالمواربة والدعائية والاستبداد ، فهي لا تقبل الرأي الآخر ولا تعترف به ، مع انعدام روح الفضول وطرح الأسئلة ، وميلها لتقديم أجوبة يقينية فقط كون وعيها وعي إ يماني لا يميز بين حكم القيمة وحكم الواقع فضلاً عن مساندتها للأنظمة في إدارتها للسلطة بالقمع والطغيان .

إن أهمية الحديث عن فكر ياسين في المرحلة الحالية ينبع من التدهور الذي تعيشه المجتمعات العربية والانهيارات التي تتعرض لها وعمق التأخر فيها وضرورة وعي هذا التأخر في محاولة لتجاوزه وتوفر بنية فكرية سياسية ديمقراطية تتجاوز الوعي التقليدي السائد الذي توزع وفق الحافظ إلى تيارين ( الأول ، سلفي تراثي يكره الحاضر وينظر بخوف للمستقبل ، والثاني ، قومي في أهدافه وشبه عصري في نواياه وتلفيقي في منهجه ، هذا التيار يكره الماضي ويريد أن ينفلت من الحاضر فيدور في حلقة مفرغة يظنها تقدماً إلى الأمام .. هذين التيارين كان لهما الدور الحاسم في تعزيز التأخر واستمرار الانهيار حيث أنتج الأول الأحزاب الدينية والطائفية . والثاني أنتج الأحزاب القوماوية الشوفينية التي ساندت وعززت الاستبداد وزاودت على الأمة بشعارات الممانعة والمقاومة على مدى عقود من الزمن .

ضمن هذا الواقع لم يكن غريباً أن تنشأ ( الحركات الإرهابية التكفيرية ، ونقصد بها الحركات والمجموعات الدينية والمذهبية بكل أنواعها إسلامية كانت أو غيرها ، لأن القيم الفكرية للغالبية الساحقة من ( الناس ) الذين يطلق عليهم (مواطنون ) تنسجم مع هذه الحالة ،وليس غريباً أن تتحول ثورات الربيع العربي التي انطلقت ضد الاستبداد والظلم والطغيان وضد النهب والفساد من حركات تؤسس لثورات اجتماعية سياسية ناهضة بمشروع الأمة إلى حركات متقاتلة غرقت في مستنقع الطائفية والعنصرية . وتراث من الماضي يعيق كل محاولات التقدم بعد أن أهملت المخزون الكبير من التراث الغني والمهم .

في مثل هذا المجتمع كان طبيعياً أن يصبح التخلف عبارة عن تقييم إستشراقي غربي لمجتمعات معقدة في تركيبتها وعلاقاتها الداخلية ، و هو التعبير السطحي للأزمة العامة لوعي النخبة المفوت والمتأخر ، الإمتثالي والغيبي الذي تخلى عن وظيفته النقدية التي تقييم الواقع وتطرح الأسئلة وتجيب عليها في محاولة لإصلاح هذا الواقع ، أما الذين هربوا من هذا الواقع فقد اختبأوا خلف عباءة الإيديولوجية التي لا يمكن للمرء أن يقدر مدى التشويه والتحوير الذي أنزلته بالوعي ، وكيف حجبت مفاهيم أساسية في الثورة القومية الديمقراطية كمشكلة التكسير المجتمعي وبناه التي تجاهلتها النخب التي حملت هذه الإيديولوجية ومشاكلها ونزعاتها المختلفة ، و كانت إما صامتة أو مكبوتة لكنها في كل الأحوال كان انفجارها محتملاً .

إن المجتمعات العربية تخترقها كل أنواع الصراعات وتعاني الأغلبية فيها من الفقر ، إلا أن مواجهة الفقر لا تأتي إلا على شكل غضب آني ومحدود وليس على شكل صراعات طبقية ، حيث أن الانقسامات والانتماءات العامودية ووزن هذه الانقسامات التي هي في وعي الأفراد والتكوينات أكبر بكثير من الصراعات الطبقية أو المعيشية وهذا ما عجزت عن فهمه النخب الثقافية والسياسية عندما تجاهلت هذه الانقسامات وأهملتها لصالح

( مجتمعات افترضت أنها موحدة لمجرد أنها رغبت أو تخيلت ذلك ). ” إن أبرز الظواهر التي اتسمت بها المجتمعات العربية هي نقص الاندماج القومي الذي جاء نتيجة الركود العربي حيث أشكال التضامن التقليدية القديمة ، وحيث يعيش الناس منعزلين في عصبيات وجماعات ضيقة يحل بينهم نظام القرابة المعيق للتقدم والذي يحل رابطة الدم محل الروابط الثقافية والسياسية ، حتى الأحزاب السياسية لم تتجاوز هذه الروابط ” إن إهمال البنى الثقافية السياسية لهذه الحقيقة ، جعلها تخرج الواقع من رأسها بدل أن تخرج رأسها من الواقع ، فأجهضت مشروع تقدم الأمة وعززت تأخرها .لقد استبدلت الديمقراطية ( باشتراكية ) لا صلة لها بالواقع بنيت على أساس الصراعات الطبقية في مجتمع لم تتكون فيه طبقات لذاتها وتسوده صراعات بدوية ونزعات طائفية أشبه بطبقات مغلقة بوعيها وسلوكها وممارساتها .

لقد تجلت رؤية الحافظ للتأخر في ظاهرات عدة منها مجتمعي ، الموقف من المرأة والعنف الذي تتعرض له .والوقت والعمل . ومنها الثقافي ، الموقف من التراث والليبرالية . أو سياسي ، في مفهوم الوطن والمواطنة وسيادة الشعب والديمقراطية . الدولة ، وكما رآها ، ” هي في عموم الوطن العربي دونية لأنها ، إما فئوية ، ( طغمة ، طائفة ، عشيرة ، عائلة ) وهذا ما يفسر طابعها الاستبدادي لأن مثل هذه الدولة لا يمكن أن تستمر إلا باستخدام القوة . أو ثيوقراطية ، تتميز إلى جانب الطابع الاستبدادي بأنها منغلقة على العصر الحديث ومؤمنة بالمسلمات والغيبيات . الدولة الديمقراطية هي دولة علمانية وعقلانية مؤهلة لتكون عصرية وهي وحدها التي تحل محل الدولة ( المملوكية ) المنسلخة والمفوتة والعاجزة عن إرساء أسس الدولة العصرية الحديثة التي لا يمكن بناؤها إلا بالسياسة والثقافة وعلى أسس الديمقراطية والعلمانية .

إن مصدر التأخر هو في سيادة البنية التقليدية ما قبل الحديثة ونظام القرابة في المجتمع والسلطة والذي يشكل العمود الفقري للمجتمعات العربية وأنظمتها السياسية ،والنزوع العشائري والطائفي والانقسام بين الريف والمدينة ، وبالتالي فإنه لو توفرت بنية فكرية سياسية حديثة كانت كفيلة بأن تلجم هذه الظواهر وتمنح الفرد قوة تحرره وتنمي كرامته وتشحذ قيمه الأخلاقية . من هنا فقد أطلق الحافظ شعار الثورة القومية الديمقراطية كشعار استراتيجي في مواجهة التأخر العربي ونقد الاشتراكيات العربية التي سماها ( تأخراكية ، أي اشتراكية متأخرة ) معلقة في الفراغ دون قاعدة فكرية أو سياسية ، ودون فئة مؤهلة قادرة على استيعابها وحملها . أمام هذا الواقع وجد أن ( حرق المراحل وهم ، وان للتاريخ وزناً لا يمكن القفز عليه أو تجاوزه ) . إن الثورة الوطنية الديمقراطية هي ثورة الآن ، ثورة توحد الشعب وتنشر الحريات وتؤكد سيادة القانون وتحقق العدالة والمساواة و تصبح وسيلة لتسييس الشعب التي حرم منها بسبب طغيان استبداد السياسات العربية التي ألغت التعددية وحرية الرأي والتعبير وصادرت الحريات فيما سمحت ( لداعش وأخواتها ، ونقصد بها كل المجموعات الدينية المتطرفة ، إسلامية كانت أو غيرها ) أن تنمو وتتغلغل في ثنايا المجتمع بأسماء عدة . هذه الديمقراطية هي التي تعطي للإنسان صفته ككائن سياسي يحاور ويجادل ، يتفق ويختلف ، يحتج ويصمت ، يحارب ويسالم … وهي الوسيلة التي يتخاطب بها المجتمع ويتحول الفرد إلى مواطن والبلد إلى وطن . هذه الديمقراطية هي نقيض ثقافي وسياسي ( للديمقراطية الشعبية ) التي تبنتها بعض الأنظمة ، في محاولة لتزييف الديمقراطية لصالح الاستبداد ومحاولة لضبط حركة الشعب عبر منظمات الضبط والضب تعزيزاً لهذا الاستبداد وتبريره .

لقد أخذت القومية حيزاً واسعاً في منظومة الحافظ ، القومية التي عناها هي منظومة علاقات مجتمعية متطورة نسجها تطور تاريخي معين بين أو داخل أعضاء جماعة واحدة . أما القوماوية فهي كل موقف تمايزي عنصري انثنائي أو عدائي تتخذه جماعة ما إزاء أخرى . والقومية هي الحركة التاريخية التي ترفع سديماً بشرياً إلى كتلة متجانسة متلاحمة تستحق اسم أمة .

” قبل القومية كانت العلاقات بين الجماعات الإنسانية قائمة على رابطة الدم أو نظام القرابة ومع تقدم هذه الجماعات أخذ نظام القرابة يتراجع لتنشأ رابطة بين جماعات مستقرة على رقعة معينة من الأرض ، لذا مقولة الوطن مقولة تاريخية أي تكونت تاريخياً وحلت تدريجياً محل نظام القرابة فنشأت الأمم الحديثة التي بدورها نشأت الدولة القومية العقلانية ، هذا التطور لم تشهده المجتمعات العربية حيث التشكيلات التقليدية بقيت تتمتع بثبات ملحوظ ، ووعي أفرادها لم يرقى لتجاوز نظام القرابة وبالتالي فإن هذا النظام شكل العمود الفقري للأنظمة السياسية والسياسات العربية “.

كان الحافظ مثقفاً فاوستياً يحب المعرفة ، مناضلاً لتحقيق الأهداف . استطاع أن يربط بين الوعي والممارسة وبين الثقافة والسياسة ، ساهم مع رفاق له في بلورة مشروعاً سياسياً تمثل بتأسيس حزب العمال الثوري العربي وتسلم رئاسة مكتبه السياسي القومي وحاول من خلاله أن يتجاوز التجارب الحزبية التقليدية ( بيسارها ويمينها ) كما كانت تسمى ، رغم أنه في كل ما كتبه لم يشر بأية إشارة لانتمائه لهذا الحزب ليس تهرباً منها بل لأنه لم يرغب بربط تجربته بأي انتماء يشكل عائقاً أمام انطلاقته الفكرية السياسية ويخصخص هذه الانطلاقة خاصة وأن التجربة الحزبية وصفات الحزب الثوري كما رسمها في مقالة طويلة في عددي الثورة العربية 11 و12 لعام 1972 .لم تكن متوفرة ، الأحزاب التي تشكلت كان همها التنسيب ، شعارها أو نداؤها هو ( أنت الذي تريد أن تدخل هذا البيت لتكون من أهله عليك ترك وجدانك على الباب ) ، الحزب ليس لافتة وهو أكثر من تنظيم ، إنه موقف ، وانحياز للحقيقة وفوق المنفعة ، ليس وصاية على البشر إنه عكس الوصاية ، حزب يخطىء ويصيب ، حزب الذين يختلفون ويتحدون ، الذين يصنعون الأسئلة قبل الإجابة عليها ، الحزب الذي يسقط القداسة عن كل شيء ، عن الفكر والفكرة كما يقول الياس مرقص . لقد أعطى الحافظ للسياسة بعدها المجتمعي العام بمعالجته عمارة المجتمع والغوص في أعماقها بدل السطح السياسي الذي يقتصر على معالجة سلوك السلطة اليومية وسلوك المعارضة ومطالبها ومصالحها ، ” إن الوعي الواقعي العقلاني المطلوب هو رفض كل عمارة المجتمع العربي التقليدي وشبه التقليدي ، بتقليدها وإيديلوجياها ، بطوابقها الاجتماعية والثقافية فضلاً عن ركائزها الاجتماعية ” . فهو يرى أن السياسة في مجتمعاتنا لم تمارس كمجموعة مسؤوليات وواجبات ملقاة على عاتق عضو حر ومسؤول ، يشكل جزءً لا يتجزأ من مجموعة بشرية مجتمعة في مدينة .

لقد توقف ياسين وتوقفنا معه عند جملة من الأسئلة فشل المثقفون العرب ونحن منهم بالإجابة عليها وهي :

كيف نجعل الوعي المطابق برنامجاً للممارسة ؟. ما معنى أن نطالب بالديمقراطية ونمارس الاستبداد سياسياً واجتماعياً ؟ . وما قيمة الدعوة لحرية الرأي والتعبير ونحن نصادر كل رأي مخالف ، ندعو لوحدة المجتمع وفق مفهوم المواطنة وندعم النزعات العائلية والعشائرية والطائفية و الشوفينية القومية ، ندعو لوحدة الأمة ونهمل تعزيز الدولة الوطنية ودورها كمقدمة ضرورية لبناء دولة الوحدة القوية والراسخة ، ندعو لتحرر المرأة ونجعلها ( حرمة ) نقدس العمل ونتعالى عليه نحترم الوقت ونهدره .

ماذا فعلنا لمنظومة الحافظ بعد 36 عاماً ؟ هل أضفنا إليها شيئاً أم تجاهلناها ؟ تقدمت ( داعش وأخواتها ) وتراجعنا تضاعف تأخرنا وتخثر وعينا . ما أراده الحافظ وأردناه تبخر ، التيارات التي صنعت التقدم لا يمكن استعادتها في ظل التقدم الأمريكي الأوربي الهائل والتراجع العربي الرهيب . الوحدة المصرية السورية عام 1958 وقيادتها الناصرية لم تعد مثالاً ، ضحت سورية بديمقراطيتها لصالح الوحدة على أمل أن تكون جسرأ لديمقراطية أوسع ، لكن قيادة الوحدة والنخب التي ساندتها لم تستوعب أن استمرار هذه التجربة رهن بتحقيق الديمقراطية ، وأن الديكتاتورية وبالاً عليها مهما امتلك الفرد من صفات القيادة والنوايا الوطنية الصادقة . قاوم الحافظ الاستبداد وتعرض مع رفاقه للاعتقال والتعذيب وبقي منخرطاً في النضال مع الشعب الذي ذاق ويلات هذا الاستبداد وسبب هزائم الأمة .

الثورات العربية التي أطلقتها الشعوب بعفويتها ، كشفت تقاعس النخب السياسية التي عجزت عن مواكبة هذه الثورات وأظهر هذا العجز صحة كل ما قاله الحافظ عنها . كتل بشرية تنطلق لمواجهة استبداد الأنظمة تسقط بعضها أو تسقط شرعيتها دون حضور لهذه النخب التي تصالحت مع الاستبداد وجعلت معارضتها مجرد رفع عتب سياسي رغم تضحياتها الكبيرة . بلدان عربية بكاملها انهارت أو على وشك الانهيار ، الحرب اللبنانية التي وصفها الحافظ ( بالحرب الطائفية القذرة ) والتي دامت 15 عاماً ستكون نقطة في بحر هذا الانهيار .

المؤامرة الخارجية حاضرة في الوعي العربي مع كل أزمة أو هزيمة يواجهها ‘ التصور المؤامراوي جلب معه المزيد من انحطاط الوعي وحول تحليلاته إلى شطحات زعم أنها ثورية لعبت أشد الأدوار شؤماً في تبرير الهزائم وجعل المجتمعات العربية القائمة في منأى من النقد والتشكيك ، وهذا ما جعل الحافظ وغيره من المثقفين في سعي لقلب الأشكال القديمة . يقول ” عندما تخطينا الإيديولوجية القوماوية وكل رواسبها لم نعد نعتبر نقد المجتمع من المحرمات ، هوت وانقلبت أو تعدلت عمارات إيديولوجية مشيدة في أذهاننا عن الواقع وغدا كثير من الحقائق العامة قاصراً على تفسير هذا الواقع من جهة ومختزلاً نوابضه وحركته من جهة أخرى ” .

ليست مؤامرة تلك التي أنتجت ( داعش وأخواتها ) كما وصفها البعض ، بل نتيجة طبيعية لوعي زائف أنتج بموازاتها أيضاً أنظمة استبدادية على شاكلتها ، وعي متأخر استبدادي مصلحي يضع مصلحة الفرد فوق مصلحة الوطن والأمة ، يبحث في الماضي ويكره المستقبل وعي مذهبي لا وعي وطني .

هذا عرض مبسط وموجز لما تعرض له الحافظ في تحليله لواقع المجتمعات العربية وسياساتها ونقد هذه السياسات نقداً موضوعياً لم يكن فيه تجريح أو تسفيه بل محاولة منه لإحداث صدمة لإيقاظ الوعي من تقاعسه وسباته .

ربما أخطأ الحافظ كما نخطيء نحن و يخطيء أي إنسان آخر لكنه بالتأكيد أصاب كثيراً .

المراجع : ياسين الحافظ – الأعمال الكاملة – إصدار مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت

نشرة الثورة العربية – اللسان المركزي لحزب العمال الثوري العربي – الأعداد كانون ثاني – شباط – آذار لعام 1972 – العدد آذار 1977 – تشرين ثاني 1979 – تشرين ثاني 1980

 

بمناسبة ذكرى وفاته 28 / 10 / 1978

* دمشق سورية

 

الفيس بوك

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى