ابرهيم الزيديصفحات الناس

374 إنساناً ينظرون إلى جروحهم بلا خجل/ ابرهيم الزيدي

 

 

 

إذا كانت صور الموتى تسكن في وجوه الناجين من الموت، فأين تسكن وجوه النازحين، الذين لم يجدوا مكاناً يتسع الخوف الذي اجتاحهم؟ بعضهم حين اسودت أيامهم، حملوا الأبيض من نقودهم، ويمّموا شطر اللاذقية وطرطوس ودمشق، وبعضهم حملوا مسوّدات أحلامهم، وتركوا الدروب تمشي في أقدامهم، ليستقر بهم المقام بالقرب من قرية فخيخة، على شط بحيرة سد الفرات، في محافظة الرقة، حيث يرتفع الجرف عن سطح البحيرة، إلى درجة يتعذر معها الوصول إلى الماء، فكانوا: كالعيس في البيداء يقتلها الظما/ والماء فوق ظهورها محمول.

50 أسرة، غالبيتها من ريف حلب وإدلب، انقسموا مخيمين، أحدهما يضم 20 أسرة، والآخر يضم 30. وفق بيانات مكتب التثقيف الصحي في مدينة الطبقة. ثمة 374 إنساناً، تحولوا إلى رقم عابر، في مسيرة المأساة السورية، وتحولت حياتهم إلى مستنقع، تعيث به طفيليات اللشمانيا، وتحلق في فضائه ذبابة الرمل!

لا لقاح، لا دواء، ولا معرفة تؤهل المصاب لإدراك خطورة ما هو فيه.

ليس لدى هذه الأسر التي أغلقت في وجهها السبل، سوى أن تنظر إلى السماء، وتنتظر. فسكان الأرض لم يكترثوا بأفراد هذه العائلات. إنهم موجودون بلا دليل. إنهم سوريون بلا برهان. النظام ليس معنيا بهم، ودولة الشام والعراق، “داعش”، مشغولة ببيع النفط،

وتطبيق الشريعة الإسلامية. المنظمات والهيئات والجمعيات التي تدّعي الإنسانية، متفرغة لإصدار البيانات، ودق نواقيس

الخطر.

بدأت مشكلتهم مع العطش، ثم اجتاحهم الجرب، وها هي ذبابة الرمل تحط رحالها في مخيماتهم، ليتوقفوا عن البحث عن معنى الموت، ويزهدون في الحياة. التفكير في فرص التعلم التي ضاعت على أبنائهم، بات ضربا من الترف. الحلم بحياة هانئة بات هو الآخر ضرباً من الجنون. 374 إنساناً، سُدّت في وجوههم كل منافذ الحياة. المكان بدّل أحلامهم، فصاروا “ينظرون إلى جراحهم دونما خجل من أوجاعها”. تقطعت السبل بين لجان الإغاثة في مدينة الطبقة، والمساعدات، فطرق الرقة لم تعد للسابلة، كما يُفترض. إنها لمن يسيطر عليها.

فالرقة التي أخذت موقع النقطة في آخر سطر الثورة، أصبحت حقل تجارب. كأن المعنى لا تكتمل دورته بدونها.

قبلهم لم أكن أعتقد أنه يمكن أن تكون للحكاية حواف جارحة. لم أكن أريد لمأساتهم أن تتحول إلى كلمات نتجمّل ببلاغتها. أردتها أن ترفع صوتها عاليا، ليدرك المعنيون بالأمر أن قيمة الإنسان ليس بما يملك بل بما يعطي. لم يعطهم أحد شيئاً. “عبثاً تقودُ رؤاك، بين حطام أزمنة العرب، كذب الرواة، إذا نظرت رأيت أنهاراً من الدم، فوق أكداس الذهب”.

هذا وجه من وجوه مآسي النازحين، الذين اختاروا الرقة ملاذاً؛ وجه ترفّع عليه الموت، ولم يجد إلى الحياة سبيلاً.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى