صفحات مميزة

في حرب النظام السوري على المجتمع/ سلمان عربي

 

يبدو بأن مكاسب النظام السوري الأخيرة، لن تنتقل من طور الإنجاز العسكري على الأرض إلى طور الإنتصار السياسي. فاستراتيجية مكافحة التمرد التي يستخدمها النظام، تعتمد أساساً على تدمير البيئات التي يتحرك فيها مقاتلو المعارضة. مما سيعني أن السيطرة على الأرض، ستكون مساوية، في أفضل أحوالها، لتهجير السكان.

تعتبر سيطرة النظام ومليشيا حزب الله على بلدة القصير الحدودية في ريف حمص، في حزيران/يونيو 2013، تطبيقاً فعلياً، لنهج مكافحة التمرد. فهذه الاستراتيجية مصممة لمواجهة حرب العصابات، بالإعتماد على مزيج من القوات النظامية والمليشيات. وتقوم على الإستخدام الكثيف للقوة النارية، بغرض التدمير الكلّي لمناطق المتمردين، وتفريغها من سكانها، والسيطرة عليها نهائياً. الأمر نفسه تكرّر، بعد نجاحه في القصير، على امتداد ريف حمص الجنوبي الغربي، والمتاخم للحدود اللبنانية، وصولاً إلى السيطرة على ريف دمشق الشمالي والقلمون والتي كان آخرها مدن يبرود ومعلولا ورنكوس في نيسان/إبريل 2014. لكن سكان هذه المدن وما حولها، هاجروا مناطقهم، وتبعثروا في الجوار، أو ذهبوا إلى لبنان. بحيث لم تسجل عودة ملحوظة للنازحين المدنيين إلى بيئاتهم المحلية بعد سيطرة النظام عليها.

هذه الطريقة من القتال، كانت قد أثبتت فشلها في تجارب استعمارية قديمة، إلا حين كان المطلوب منها، تثبيت وقائع التهجير، وتغيير الطبيعة الديمغرافية للسكان. وهذا يختلف تماماً عن السيطرة السياسية، وكسب القلوب والعقول.

وفي الوقت نفسه، انحصرت أساليب قوات المعارضة المسلحة، وبعض الفصائل الإسلامية على: كسب ودّ البيئات المحلية، وتحاشي المعارك المباشرة قدر الإمكان للحفاظ على الذخيرة والرجال، واتباع نهج الإنسحابات التكتيكية المتكررة، دون السيطرة الطويلة على الأرض. هذه الطرق هي أشبه بتقنيات الحروب الثورية، التي درجت في ستينيات القرن الماضي.

إلا أنّ فرقاً جوهرياً، يتعلق بطبيعة الحرب القائمة على أساس طائفي. فالسيطرة السياسية على مناطق المعارضة تدخل من باب الإنسجام الطائفي للنسيج الإجتماعي المحلي. قوات المعارضة المسلحة عبر مليشياتها وجيوشها، تمكنت من الحركة في المناطق السنيّة فقط. وليس بإمكانها أن تسيطر على مناطق آخرى سكانها ذوي انتماء طائفي أو إثني مخالف. وإذا حدث ذلك، فغالباً ما هرب المدنيون، كما في معلولا ذات الأغلبية المسيحية، وفي مناطق الأرمن حول كسب في شمال اللاذقية.

في حين أن “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، “داعش”، فعلت كما فعل النظام: رفض الإختلاف، والسعي إلى التطهير على أساس الإنتماء الإثني والطائفي، ورفض أي معارضة. مما يفسر ردة الفعل السلبية ضد “داعش” في الكثير من أماكن السنّة، مثل إدلب وحلب وريفيهما، وأيضاً في دير الزور حالياً، بحيث يشير ذلك إلى رفض المجتمعات المحلية لهذه الحدة والتطرف. مظاهر التمرد الأخيرة في محافظة السويداء ذات الأغلبية الدرزية ضد النظام تفهم في السياق نفسه. إذ لا يمكن للتخويف من الآخر، وفرض إجراءات قمعية صارمة تستهدف حتى المختلف ضمن النسيج الطائفي الواحد، إلا أن تؤثر في جوهر الولاء للسكان مع الوقت.

في الآونة الأخيرة من الحرب السورية، أصبح التقدم للنظام على أي محور يعني تهجير السكان أثناء تدميره. في حين أن المجال المتبقي والمفتوح للمعارضة أصبح ضيقاً جداً، ضمن المناطق السنيّة الواقعة خارج سيطرتها. في كلتا الحالتين، لم يعد بالإمكان السيطرة على أي منطقة جديدة عبر كسب ولاء سكانها، بل تتجه العمليات نحو تدمير البيئات التي لا يمكن السيطرة عليها. أما في المساحات المحاصرة مثل الغوطة الشرقية، وحمص القديمة، فإن تقديم مكاسب للسكان أصبح أمراً صعباً في ظل الفقر والفوضى والجوع. أهم ما يُبقي تلك المناطق صامدة فعلياً، هو الخوف من مجازر على نطاق واسع في حال سيطرة النظام.

ما يحدث اليوم في سوريا، هو قتلٌ مُنظمٌ من قبل مليشيات النظام، وتطهير إثني، بهدف خلق مناطق صافية طائفياً، وتهجير السكان من مساحات واسعة آخرى. الإبادة الجماعية وتدمير المعالم الدينية، والتراث المادي، والمناطق السكنية، يدخل ضمن نطاق إعادة رسم هوية المناطق طائفياً، تمهيداً لوضع حدود جديدة. فالحرب التي يشنها النظام لا تستهدف فعلياً سوى المدنيين، منحطةً في ذلك إلى أدنى درجات البربرية.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى