صفحات مميزة

71 لاجئاً سورياً (59 رجلاً وثماني نساء وأربعة أطفال)، عُثر على جثثهم داخل شاحنة أوروبية –مقالات تناولت الحدث-

 

الخزان والجدران/ صبحي حديدي

رواية غسان كنفاني «رجال في الشمس»، 1962، تنتهي عند أبو الخيزران، سائق الصهريج، بسؤال سوف تتلقف أصداءه صحراء الكويت أيضاً:

«- لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟».

وعندما شاع خبر الـ71 لاجئاً سورياً (59 رجلاً وثماني نساء وأربعة أطفال)، الذين عُثر على جثثهم داخل شاحنة أوروبية، على طريق سريع في النمسا؛ لم يملك الكثيرون دفع إغواء العودة إلى رواية كنفاني، واستعادة السؤال ذاته: لماذا لم يدقوا جدران الشاحنة؟ لكنّ طارح السؤال بصدد هذه المأساة السورية لسنة 2015 يعرف، مثل أبو الخيزران بصدد المأساة الفلسطينية قبل 60 سنة، أنّ الجواب واضح، في حدوده الدنيا مثل تلك القصوى: خوف المختبئين في الشاحنة/الصهريج من افتضاح أمرهم، وبالتالي انكسار أحلامهم في الوصول إلى برّ الأمان (النمسا ثمّ ألمانيا أو الدنمارك أو السويد، في المثال السوري؛ والكويت، في المثال الفلسطيني). وإذا كانت إسرائيل والنكبة، ثمّ الأنظمة العربية في الخلفية، هي المسؤولة عن اختناق الفلسطينيين الثلاثة، أبو قيس وأسعد ومروان؛ فإنّ نظام بشار الأسد هو المسؤول، أولاً وثانياً وعاشراً، عن مقتل السوريين الـ71، قبل أن يتحمل النظام العربي بدوره، أسوة بما يُسمّى «المجتمع الدولي»، قسطاً من المسؤولية؛ لعلّه أعلى، في الدرجة الأخلاقية والحقوقية أوّلاً، من مسؤولية المهرّب أو سائق الشاحنة الأوروبية.

ورغم ذلك، على ضفة أخرى من احتمالات ما جرى داخل الشاحنة، وحتى تتضح ملابسات أخرى للواقعة الرهيبة؛ الأرجح أنّ الكثيرين بادروا بالفعل إلى قرع الجدران، وربما الصراخ بأعلى الصوت، إنْ لم يكن من أجل المقاومة الغريزية في وجه الموت، فعلى الأقلّ من أجل الدفاع عن الأطفال داخل المحبس. هل تبدد القرع، مثل الصرخات، في أرجاء غابات صمّاء، وعلى إسفلت صاخب ضاجّ لكنه أصمّ أبكم أعمى أيضاً؟ أم أنّ أحداً لم يبادر إلى ترجمة دلالة الموت الفيزيائية المحضة، لأصوات غريبة اللكنة، لم تكن سوى حشرجة احتضار آدمي؟ أم أنّ السامع خطرت له خواطر شتى، لكنّ أياً منها لم يبلغ عنده ذلك المستوى المرعب الذي يتيح التنبّه إلى طراز فريد من فناء بشري جَمْعي، وحشي وبهيمي، هولوكوستي بامتياز؟

ولقد توفّر لنا، نحن السوريين، ناطق سفيه مثل أدونيس، منحلّ الضمير، حليف للقتلة ومجرمي الحرب، ازدرى السوريين الذين يهاجرون من بلدهم: «في سوريا مثلاً، فإن ثلث الشعب هاجر. لا يوجد شعب في العالم يهاجر ونستمرّ في تسميته بأنه شعب ثوري»، قال في حوار مع «السفير» اللبنانية. من الإجحاف، بالطبع، أن يضع المرء كلاماً في فم أدونيس لم يصرّح به، أو لم يفعل بعد؛ ولكن، في القياس على موقفه من الشعب الذي يهاجر، ما الذي يمكن أن يقوله عن شاحنة النمسا؟ ليس ذاك السؤال الذي تردد تلقائياً: لماذا لم يدقوا جدران الشاحنة؟ بل السؤال الآخر: لماذا جازفوا بالدخول إلى الشاحنة؟ أو، على نحو أكثر وفاءً لـ»فلسفة» الهجرة عنده: لماذا تركوا بلادهم وهاجروا، أصلاً؟ ألم تكن براميل الأسد، وسمومه الكيميائية، وطائراته الحربية… أولى بهم؟ ألم تكن نصال «داعش» أرحم من الموت اختناقاً، داخل شاحنة، في بلاد الغربة؟

في المقابل، لم يتوفر لنا، نحن السوريين، ضمير غربي من طراز إرنست همنغواي؛ المراسل الصحافي الشاب الذي كان يكتب لصحيفة كندية مغمورة، وصاحب تقرير شهير بعنوان «الموكب الصامت المروع»، وصف فيه نزوح آلاف اليونانيين من القسم الشرقي لجزيرة ثراسي، أُغلقت في وجوههم الحدود البلغارية، ولم يتبق أمامهم سوى مقدونيا والقسم الغربي من ثراسي ذاتها. كان همنغواي يغطي أحداث شبه جزيرة البلقان من أدريانوبل وإسطنبول، وكان في الثالثة والعشرين من عمره، لكنّ تقريره ذاك وضع اسمه على كل شفة ولسان في أوروبا، ليس بسبب موهبة مبكرة جلية وساطعة، فحسب؛ بل، كذلك، لأنّ النصّ انقلب إلى ضمير صارخ في البرّية، ترددت أصداؤه في النفوس. يتيمة هذه الانتفاضة السورية، إذاً، حتى في مستوى استيقاظ الضمائر الغربية على عراء مواكب السوريين في مقدونيا، أو جدران الشاحنات في النمسا.

القاتل الأوّل هو نظام الأسد، والسوريون كفيلون به، قصر الزمان أم طال؛ وأمّا المنشغلون، عمداً، عن سماع ما يُقرع على جدران الخزانات والشاحنات، وما يتلقفه البحر وتبتلعه الوديان السحيقة، فإنّ سجلات العار التي سطّرها التاريخ، على امتداد قرون وقرون، لن تغفل عن تدوين حصتهم في صناعة الفظائع.

القدس العربي

 

 

 

أبو الخيزران الهنغاري/ أمجد ناصر

“قال الرجل، وهو يمشي في شارع تجاري مزدحم بوسط فيينا: إنه جنون. أصبت بذهول تام… لقد صدمني (الخبر) حقاً. لا شك أن الأمر كان مؤلما للغاية لمن كانوا في الداخل… لا شك أنهم كافحوا للبقاء على قيد الحياة” (…) وبحروف بيضاء كبيرة، على صدر صفحتها الأولى السوداء، تساءلت صحيفة قائلة: من سيوقف هذا الجنون؟ وعرضت صحيفة أخرى صورة لشاحنة لها باب خلفي واحد مفتوح، وقد تكومت جثث مهاجرين في داخلها، وكتبت هذا المانشيت العريض: متكدسون كالقمامة”.

أتحدث، هنا، عن شاحنة التبريد التي عثرت عليها الشرطة النمساوية واقفة إلى جانب طريق عام، وفي داخلها 71 مهاجراً، يعتقد أنهم سوريون، بينهم أطفال، كانوا في طريقهم، على الأغلب، إلى هنغاريا ومنها إلى ألمانيا، لكنهم لم يصلوا، ولم تعرف هوياتهم. هناك بطاقة شخصية سورية مع أحدهم. لذلك يرجح أنهم سوريون من الذين نجوا من براميل بشار الأسد وسكاكين داعش، فوجدوا أنفسهم جثثاً في سيارة تبريد، بلا تبريد، متحللين، بلا ملمح أو هوية إنسانية.

بماذا تذكّرنا هذه المأساة التي لولا الموت السوري الغفير لكانت هزَّت العالم، وجعلته يتقيأ كل ما في معدته؟ طبعاً، برواية غسان كنفاني “رجال في الشمس”.

هناك دائماً، على ما يبدو، أبو خيزران ما. وهناك من في وسعه أن يقول، بكل انحطاط، محملاً الضحية مسؤولية موتها: لماذا لم تدقّوا جدار الصهريج، البراد؟

عندما سمعت هذا الخبر الذي جعلني أبصق على النظام والمعارضة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ومجلس الأمن وأصدقاء سورية وحلفاء النظام، فكَّرت، فوراً، بصهريج غسان كنفاني، الملتهب، الذي كان في طريقه إلى الكويت. صهريج ماء ينتقل بين البصرة والكويت. إنه فارغ هذه المرة. هناك ثلاثة رجال، من أجيال مختلفة، في داخله. لاجئون فلسطينيون يبحثون عن “مستقبل” و”حياة أفضل”، يختنقون في جوف الصهريج تحت درجة حرارة خمسين في الظل، إن كان هناك ظل في الصحراء. رواية “رجال في الشمس” تخييلية، ذات طابع رمزي، مرتبطة بمآلات القضية الفلسطينية. قد يكون حدث شيء مشابه، على أرض الواقع، لما يسرده كنفاني في روايته الأولى هذه، لكنَّ واقعة البراد الهنغاري ليست رواية ولا قصة. إنها حقيقة تتفوّق في عنفها على أي عمل أدبي أو درامي. هذه تراجيديا من لحم ودم حدثت في أضيق مسرح في العالم، ومن دون جمهور: شاحنة تبريد. لكن، قبل أن نصل إلى ختام هذه التراجيديا: الموت اختناقاً في براد تركه سائقه، أبو الخيزران الهنغاري، لسببٍ ما، من دون أن يفتح الباب لمن كانوا في الداخل، أو لعله اكتشف، بعد وقت من رحلة الموت هذه، أن “بضاعته” لم تعد صالحة للتسليم فهجرها. أقول قبل أن نصل إلى هذه النهاية المأساوية التي يكاد يختصرها خبر في جريدة، علينا أن نتخيّل سياقاً أطول من العذاب والانتظار والآمال والحدود. وقبل ذلك، ثمة أحلام وأفكار وتصورات راودت الذين ماتوا “متكدسين كالقمامة”، على حد وصف صحيفة نمساوية. هؤلاء ليسوا مجرد خبر في جريدة. ولا شاحنة متروكة على جانب طريق رئيسي. هؤلاء ليسوا رمزاً ولا استعارة. إنهم رجال ونساء وأطفال جاءوا من مدن وقرى لم تعد صالحة للحياة، مقامرين بحياتهم نفسها، من أجل أيام من دون براميل، أو بلطات وسكاكين. “رجال في الشمس” تطرح قضية، بل أهم قضية عربية في حينها، فماذا يطرح موت هؤلاء البشر المجاني؟ من يهتم بالأسباب التي جعلت أناساً لم يفكّروا، من قبل، بالهجرة، فما بالك برمي أنفسهم في أمواج البحر، في شاحنات وبرادات، تحت عربات قطار؟

لا أحد. العالم قلق بشأن مصير طاغية مجنون، اسمه بشار الأشد، أو عصابة مجرمين تسمى داعش. لكن، ولا ربع ذلك يحظى به السوريون. إنهم مجرد “ضحايا جانبيين” لـ”لعبة الأمم”.

لا ضرورة، هذه المرة، لأبي الخيزران الهنغاري أن يقول: لماذا لم تدقّوا جدران البراد؟ فلم يُبْق هؤلاء جداراً وباباً وسماءً لم يطرقوها.

العربي الجديد

 

 

 

شهداء الأوكسيجين/ ابرهيم الزيدي

أقترب منهم حرفاً حرفاً، لعلي أستطيع أن أجمعهم في جملة تصفع وجه الموت، الذي لم يعد يخجل منّا.

ماتوا غرقاً، ماتوا خنقاً، ماتوا قنصاً… تسقط الكلمات والجمل من شريط الأخبار الطويل الذي تركته الفضائيات العربية للموت السوري. شريط طويل، ليس أطول منه سوى صمت المجتمع الدولي. ماتوا، ولم يستطع أيّ منهم أن يسرق الوقت من ساعة معصمه!

ماتوا، لأنه لا يمكنهم أن يخافوا من الوطن، وعليه، في آن واحد. ماتوا قبل أن تسقط من ذاكراتهم أناشيد الوطن القبيحة. ماتوا ولم يحيا الوطن!

ماتوا. كأن وكالات الأنباء تتحدث عن مفاتيح سقطت من علاّقة قديمة!

59 رجلاً، 8 نساء، و4 أطفال، ماتوا اختناقاً في شاحنة، بعدما أثقلت زوارق الموت بأوزار ضحاياها. كان بينهم طفلة رسمت ضحكتها بأحمر الشفاه، ورجل يحلم بلمّ الشمل، وامرأة حامل، تعد جنينها بالجنسية النمسوية. وثمة شاب يقلب بين يديه مفكرة احتفظت صفحاتها بعناوين أصدقاء، حاول أن يخفض صوت غيابهم، إلا أن حنينه لهم لا ينام!

يوم أسود. هكذا قال وزير خارجية النمسا سباستيان كورتس، الذي أعرب عن حزنه، وخجله من موت أولئك الغرباء على أرض بلاده. أولئك الذين تحولوا إلى خبر يخجل منه وزير خارجية النمسا، لم يشاركه في حزنه عليهم، أو خجله من طريقة موتهم، أي مسؤول من شرق المتوسط. كلهم أخوة يوسف!

كانوا 71 سورياً، خلعوا عنهم ثوبَي المعارضة والموالاة، لأنهما لم يسترا عورات هذا الزمن. ركلوا الطلقات الفارغة بأقدامهم، ولعنوا الحرب.

71 سوريا كانوا يبحثون عن مكان يتسع للخوف الذي اجتاحهم.

غادروا الحواجز الموضوعة على أعناقهم، وتركوا القتلة ينتشرون في محيط غيابهم.

كتموا بكاءهم داخل شاحنة التبريد العابرة للأمل، وتوسدوا ما بقي من يقظة في عيونهم، ورحلوا بأجسادهم وأحلامهم قبل أن تنتهي صلاحيتها. فالواقع حين تكون حركته مبنية على صراع العقائد، يستهلك الأبدان والأحلام. ولنا في ذلك إرث لا يمكن نسيانه. الحقيقة “لم يرحلوا، البلاد هي التي رحلت”، ولم يختنقوا. سوريا هي التي اختنقت. ماتوا وهم يدقّون جدران الشاحنة، ولم يستجب لهم الهواء، كما دق غيرهم جدران البحر.

وقد ألقت السلطات المجرية القبض على صاحب “شاحنة الموت”، وهو من أصل لبناني، مع اثنين بلغاريين، وأفغاني، الأربعة مثلوا أمام محكمة مجرية لبتّ وضعهم كموقوفين احتياطيا، ومن بعدها النظر في طلب تقدمت به النمسا لتسليمهم إلى سلطاتها القضائية بعد التأكد من تورطهم في جريمة “شاحنة الموت”، وقد قررت المحكمة تمديد مدة توقيفهم حتى تاريخ 29 أيلول، بحسب ما أعلنه كبير قضاة محكمة مدينة كسكيميت المجرية، فيرينك بيسكي، في مؤتمر صحافي، ولم يصدر عن محكمة المدينة الواقعة بين العاصمة المجرية بودابست والحدود الصربية، أي بيان يتضمن أسماء المعتقلين الأربعة أو معلومات عنهم، فيما ذكر المتحدث باسم المحكمة زابولكس ساركوزي “أنه إذا لم يتم عرض الاتهامات بعد شهر، فإن القاضي سيمدد فترة احتجازهم”.

ما لا يعرفه مراقبو الوضع السوري، أو أنهم لا يأتون على ذكره، هو أن أولئك الضحايا هم بحسب أدبيات الأزمة من الموالاة والمعارضة، وهم من كل الطوائف والإثنيات السورية.

في مسعاهم للمغادرة يقومون بالخطوات نفسها، يبيعون الغالي والرخيص لتجار الحروب، ويحولون أحلامهم إلى دولارات، ويأخذون طرق الموت نفسها، ويسيرون بعضهم مع بعض، يتبادلون الأمل والكلمات والنظرات والابتسامات، وفي حالات الخوف يمسكون بأيدي بعضهم، والبعض منهم يبكي على صدر الآخر. لذلك فإن الموت لم يستطع التمييز بينهم، فأخذهم جميعا كما يقتضي عدله المطلق.

النهار

 

 

 

في السؤال عن أوجاعنا!/ أكرم البني

«هي الناجية الوحيدة»، والقصد طفلة سورية لا تتجاوز العشرة أعوام تلملم نفسها فوق رمال الشاطئ اليوناني، تجهش بالبكاء وتلحّ في السؤال عن مصير أمها وأخوتها، كأنها تستجدي الجميع للبحث عنهم! ولا تحتاج الى كبير عناء كي تكتشف من الرؤوس المطرقة والواجمة، أن من تسأل عنهم باتوا كغيرهم في عداد المفقودين أو طعاماً لحيتان البحر أو جثثاً هامدة على الشاطئ، ربما كحالة الطفل الوديع، آلان الكردي، الذي لفظه البحر ووجهه منكب على الرمال كأنه يرفض وداع عالم جاحد، تركه فريسة لوحوش العنف والأمواج الهائجة، ولن ينفع هنا لشحن الروح الإنسانية تسليط الضوء على محاولة أحدهم إحاطة كتفي تلك الطفلة بغطاء يقيها البرد!.

«غالبيتهم من السوريين»، هي عبارة بسيطة وموجعة تحدّد جنسية ضحايا شاحنة التهريب التي اكتُشفت على حدود النمسا مع هنغاريا، ولا يضير لإثارة المزيد من الألم والحزن، الإشارة الى وجود أطفال ونساء بينهم، أخفى التعفّن والتفسّخ ملامح وجوههم! فما ذنب هؤلاء؟! وأي مصير ينتظر سواهم؟! وهل الحل في اجتماعات يخصّصها قادة الأمم لتخفيف معاناة الهاربين من أتون العنف، أم التهليل للمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل نتيجة تعاطفها اللافت مع السوريين وما اتخذته من إجراءات تسهّل لجوءهم، أم الامتنان لتجمعات أهلية شهدتها برلين وفيينا وستوكهولم تدين هذا الاستهتار الأوروبي وترحّب بقدوم اللاجئين السوريين الى أراضيها؟!.

ومع نجاح حملة التبرّع لرجل سوري يبيع الأقلام وسط بيروت بينما تنام طفلته الصغيرة على كتفه، والإشادة بقرار تحويل الكم الأكبر من أموال تلك التبرعات لمساعدة لاجئين آخرين، ثمة مشهد لأم سورية تفيض عيونها بالدموع وهي تحضن طفلة ولدتها للتوّ في أحد أنفاق مترو بودابست، ولا يعرف، أهي دموع الحزن المرير على ما حلّ بها، أم تشي بفرح دفين لاطمئنانها الى أن ثمة حياة آمنة تنتظرهما؟! في حين تغدو الانتهاكات الجسيمة وظواهر الإذلال التي يتعرّض لها عموم اللاجئين السوريين أشبه بخبزهم اليومي، إن بإجبارهم على العيش في معازل ومخيمات لا تليق بالبشر، وإن بإخضاع حياتهم لمعونة دولية تتقلّص تدريجياً وتعجز عن تلبية أبسط احتياجاتهم، وإن باستغلال أطفالهم جسدياً، ليصبح وجعاً مألوفاً انتشار زواج القاصرات في مخيمات اللجوء، أو ازدياد عدد العاملات والخادمات السوريات اللواتي يغتصبن أو يجبرن على ممارسة الدعارة، أو انتشار الصبية والفتيات الصغيرات في الشوارع لبيع مواد استهلاكية بسيطة كي يعيلوا أسرهم!.

ويبقى الوجع الأخطر ما تورده منظمة اليونيسيف عن فقدان مئات الآلاف من أطفال سورية مدارسهم وفرص تعليمهم، وعن أعداد ما فتئت تزداد من الضحايا ذوي الكفاءات العلمية وحملة الشهادات الجامعية، بينما يشار بالبنان إلى سوريين متميزين صنعوا فارقاً في بلاد الغربة، منهم من أتقن بسرعة قياسية لغة الدولة المضيفة، ومنهم من حقق أعلى درجات التفوق في تحصيله الجامعي، ومنهم من يكرم لإبداعاته الفريدة، كالباحثة دينا القتابي التي كرمها أخيراً الرئيس الأميركي، ومنهم ذاك السوري النبيل الذي خسر في بلاده كل ممتلكاته ومدخراته وسارع في عاصمة غربية إلى مركز شرطة ليسلّم محفظة تمتلئ بالنقود وجدها على قارعة الطريق!.

يبدو أن الأوجاع التي يخلّفها تصاعد العنف اليومي ووتيرة القصف والبراميل المتفجرة، لم تعد بذات قيمة وقد خفّف تكرارها وطأتها، بخاصة إن لم يكن عدد الضحايا «محرزاً» أو حين يخترق المشهد أحد الناجين من تحت الأنقاض! أفلا يستحق الصدارة إنقاذ شاب بكامل عافيته من تحت الركام ليبدأ حياة جديدة، أو العثور على فتاة صغيرة بين الخراب وإن كلّفها بقاؤها على قيد الحياة بتر إحدى ساقيها؟!

بين الاستعراض والاستفزاز، يتقصّد «داعش» تعميق أوجاع السوريين، يفجر في تدمر أهم معبدين وثنيين ويصلب مسؤول الآثار هناك، ويتفنّن في إبداع أشنع الأساليب لتصفية المخالفين، فبعد أن رأينا الذبح الجماعي على الطريقة الهوليوودية ثم الصلب بعد قطع الرأس، فالإعدام غرقاً في قاع النهر، ثم حرق الناس في أقفاص، يصدمنا أخيراً مشهد الشي حتى التفحّم!

ومع تصاعد أوجاع الناس من رشقات قذائف الهاون العشوائية على المدنيين في العاصمة دمشق، وما تسبّبه من أذى وأعداد تزداد يومياً من الضحايا والجرحى والمشوّهين، تشتدّ معاناتهم من انقطاع طويل للتيار الكهربائي والغلاء الفاحش وتراجع الخدمات العامة، وأيضاً من ازدياد حالات السرقة والابتزاز بقوة السلاح، والضغط والإذلال اللذين تسبّبهما كثرة الحواجز الأمنية، وتشتدّ أيضاً أوجاع المعاناة المركبة التي يكابدها أبناء المناطق المحاصرة منذ سنوات، مرة من الجوع وغياب الحدّ الأدنى من الحاجات الإنسانية، الغذائية والصحية، ومرة ثانية من القصف اليومي والعشوائي وما يخلّفه من ضحايا ودمار، ومرة ثالثة من استبداد إسلاموي لا يقف عند إرهاب البشر وإرغامهم على اتباع نمطه في الحياة، وإنما يصل إلى اعتقال بعض المعارضين واغتيال آخرين والتنكيل بالناشطين المدنيين والإعلاميين!

أين وصلت أحوالنا وأي غد ينتظرنا، وإلى أي حدّ موجع ومدمّر يمكن أن تصل بنا الأمور قبل أن تطوى هذه المحنة؟! هو سؤال يتكرر بقلق وحرقة على لسان غالبية السوريين بغض النظر عن اصطفافاتهم ومواقفهم، وكأن ثمة إحساساً عاماً بدأ يتملّكهم جميعاً بأن ما ينتظرهم هو المزيد من الألم والخراب والضياع.

والحال، ليس من بلد نضجت فيه الدوافع الأخلاقية والإنسانية لوقف العنف المتمادي ولإنقاذ اجتماعه الوطني كما سورية، وليس من لحظة تلحّ لمساندة هذا الشعب المنكوب وتخفيف أوجاعه أكثر من اللحظة الراهنة، ما يتطلّب ليس إجراءات إسعافية على أهميتها وإلحاحها إنسانياً، بل دوراً أممياً يجترح حلاً سياسياً يوقف مشهد العنف المأسوي ويضع خطة طريق تحفظ للسوريين وحدة بلادهم وتنتصر لقيم الديموقراطية وحقوق الإنسان.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

 

 

كم أبو خيزران قتل السوريين؟/ علا عباس

إذا امتلك حداً أدنى من الإنسانية، وقليلاً من الإحساس بالآخر، وقطعة صغيرة باقية من القلب، فإن أول ما يمكن أن يصيب المرء، حين يرى صور الشاحنة الهنغارية لنقل لحوم الدجاج المجمد، وقضى فيها 71 سورياً، شعور بأن هذا هو الموضوع الأخير في العالم. وأنه لن يرى أو يسمع ما هو أسوأ، ولن يتحدث عن موضوع آخر في بقية حياته، ولن يسمح لأحد أن ينتج أفلاماً أو يكتب روايات أو يخوض في أحاديث مقاه، وسيقاطع أياً كان، ليعيد على مسامعه حكاية أولئك السوريين الذين فرّوا من الموت في حلب أو دمشق أو درعا أو دمشق، وقطعوا بحاراً وغابات، وعبروا أسلاكاً شائكة لحدود بلدان، تركوا كل شيء وراءهم وذهبوا متمسكين بالحياة.

تكدسوا، في رحلتهم تلك، في شاحنة دجاج عبرت بهم الطريق إلى النمسا، وفي الأثناء، كانت أحلامهم الأخيرة تخرج مع أنفاسهم الأخيرة. غادروا مكاناً ينقصهم فيه كل شيء، فوصلوا إلى مكان فيه كل شيء، باستثناء شيء صغير وبسيط ومتاح: الهواء.

ما صرت متأكدة منه، أن العالم خلا من المنتحرين، وأن أحداً لن ينتحر بعد الآن، فمن شاهد تلك الصور، وعرف تفاصيل القصة ولم ينتحر، فلن يملك سبباً آخر ليفعلها، فقد منحته الحياة فرصته الأخيرة لذلك.

أتخيّل لحظاتهم الأخيرة، أتخيل الأم المحنيّة فوق طفلها ذي العام والنصف، وهي تحبس أنفاسها وتقلل من تواتر شهيقها وزفيرها، لعلها توفر لابنها نفساً إضافياً. أتخيّل الرجال، وقد احتقنت وجوههم من نقص الهواء، ونظراتهم المذعورة، هل عرفوا ما يجري يا ترى؟ هل تقاطعت سعلاتهم وفركوا أعناقهم، وهم يبحثون في الفضاء الضيق المحيط بهم عن ذرة أوكسجين إضافية؟ هل باغتهم نقص الهواء، أم تسلل إليهم شيئاً فشيئاً؟ هل تألموا؟ لا يهم، فنحن سنتألم بالنيابة عنهم لما تبقى من حياتنا.

أتخيّل أحلامهم الصغيرة، وهي تخرج من رؤوسهم مع أنفاسهم الأخيرة، أتخيّل شعورهم وقد شعروا أن خلاصة مغامرتهم الطويلة والمكلفة أنهم استطاعو الموت اختناقاً، في بلد متقدم كالنمسا، يا للإنجاز! بدلاً من الموت ببرميل متفجر في بلد تمزقه الحرب، تحصل على الموت في برميل مغلق. لكن، في بلد هجر الحروب.

في روايةٍ تُذكر، منذ أكثر من خمسين عاماً، بتقدير كبير، جمح خيال الكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني، فكتب عن ثلاثة فلسطينيين يعبرون الحدود العراقية الكويتية داخل خزان سيارة يقودها المهرب أبو الخيزران، الذي يتباطأ على الحدود الكويتية، وهو يروي حكاية مختلقة لموظف الجمارك، فيعود ليجد الثلاثة وقد ماتوا اختناقاً في الخزان.

اعتبرت الرواية (أنتج عنها فيلم سينمائي) تلخيصاً بليغاً للمأساة الفلسطينية، ودرس النقاد الرمزية فيها، والعمق الذي عالجت به القضية.

روايتنا السورية الطازجة روتها الحياة، لا خيال الكاتب، بشكل أشد قسوة ووضوحاً وألماً. وبعدد أكبر من الأبطال، وبأكثر من أبي خيزران.

أبو خيزران الأول والرئيسي هو الذي تمسك بكرسيه، إلى درجة، أنه، في سبيل ذلك، دمر بلده وقتل شعبه، ودفع الملايين ليخوضوا في أكثر المخاطر التي يمكن لبشري تخيلها، كي يفروا من جحيمه.

عبروا البحر على طوّافات بدائية، وقطعوا الحدود بين الدول زحفاً، وسيراً على الأقدام، متعلقين بالشاحنات، أو مهتدين بنجوم السماء. وأخيراً، متكدسين في شاحنة لنقل لحوم الدجاج.

أبو خيزران الثاني هو الشخص الذي انبرى ليجعل من نفسه مناضلاً وقائداً وسياسياً وممثلاً لثورة شعب، ولم يقدم لهم سوى الوهم والوعود الزائفة.

أبو خيزران الثالث نحن الذين نجونا بجلودنا، تاركين أهلنا وأبناءنا ليواجهو الغيلان وحدهم. ربما يكون المهرب الذي ترك جثث المختنقين على طرف الطريق وهرب أبا خيزران أيضاً، لكنه سيكون أبا خيزران المائة أو الألف أو المليون. فمأساة بهذا الحجم وهذه القسوة لا يمكن أن يتسبب بها شخص واحد، ولا عدة أشخاص، ولا أحزاب ومؤسسات ودولة ما. هذه مأساة لا يمكن أن تقع ما لم يكن هناك خلل بنيوي في المنظومة التي نعيش فيها، في النظام العالمي، وفي الشعور الإنساني، في موقف الدول جميعاً، وفي تشابك علاقاتها.

أي درك وصلت إليه المأساة السورية؟ وإلى أين يمكن لها أن تصل؟ وما الذي سنفعله ونرويه فيما تبقى من حياتنا؟

العربي الجديد

 

 

 

 

لاجئون في الشمس/ هشام ملحم

تواجه أوروبا اليوم أكبر مشكلة لاجئين منذ الحرب العالمية الثانية، ويلتقي الجميع على انها مرشحة للتفاقم، والتسبب بازمات داخل دول الاتحاد الاوروبي وفي ما بينها. الاتفاقات التي تتحكم بالتنقل بين دول الاتحاد والقوانين المتعلقة بكيفية منح اللجوء السياسي ليست مصممة للتعامل مع مثل هذا التحدي. أوروبا بدأت بمراجعة هذه القوانين، على خلفية تفاوت كبير في مواقف دول الاتحاد من كيفية استيعاب اللاجئين، بين الذين يريدون الترحيب بعدد كبير منهم، والخائفين من اختراق “اسلامي” لمجتمعاتهم.

معظم اللاجئين هم عرب ومسلمون من سوريا والعراق. أكثر من 300 الف منهم عبروا المتوسط الى اليونان وايطاليا، في طريقهم الى أوروبا الأغنى والاكثر تسامحا في الشمال (المانيا والدول الاسكندينافية) وغرق منهم 2500، أضيف اليهم الاسبوع الماضي 150 بينهم اطفال سوريون لفظهم البحر على شواطىء ليبيا. آلاف آخرون يزحفون براً من اليونان الى وسط اوروبا وشمالها. في الاسبوع الماضي اختنق 71 لاجئاً في شاحنة مغلقة في النمسا وبدأت جثثهم بالتحلل قبل اكتشافها.

حال الذين يصلون الى أوروبا صعبة ومؤلمة ومهينة، لكنهم وصلوا الى برّ الأمان، مقارنة بأكثرية المقتلعين، وخصوصاً من سوريا والمتوزعين بين لبنان والاردن وتركيا والعراق. أنماط اللجوء تبين ان معظم اللاجئين لا يعودون الى ديارهم. وسوف تكتشف مجتمعات المنطقة، بعد 20 سنة، انها أمام جيل ناقم ومحروم من الشباب المقتلعين الرافضين للوضع القائم. الفلسطينيون الذين اقتلعوا في 1948 حملوا السلاح بعد 20 سنة. وهذا يعني ان مشكلة اللاجئين اليوم، ليست مشكلة انسانية فحسب، بل سياسية بامتياز وحلها يتطلب مشاركة دول الجوار والغرب لأنه من الواضح الان ان حرائق سوريا والعراق واليمن لا تعترف بالحدود الدولية.

تتعرض الدول الاوروبية لانتقادات من دول عربية، ومن أميركا أحياناً لتخبطها في استيعاب اللاجئين، وبعض النقد مبرر وجزء كبير منه خبيث. ولكن ما هو عدد اللاجئين السوريين الذين استوعبتهم الولايات المتحدة حتى الآن؟ الجواب: أقل من الفين. أما عدد اللاجئين الذين استضافتهم دول الخليج الميسورة؟: الجواب: صفر كبير.

خبر ضحايا الشاحنة في النمسا، ذكرني برواية غسان كنفاني “رجال في الشمس”. قصة ثلاثة فلسطينيين اختبأوا في صهريج وهم يحاولون عبور الحدود الى الكويت في يوم حار. تأخرهم على الحاجز أدى الى اختناقهم. وعندما رمامهم مهربهم في مجمع القمامة تساءل بهلع: “لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟لماذا لم تقولوا؟ لماذا؟”. هل لأنهم قرروا الانتحار بصمت وببعض الكرامة؟ ربما. ترى هل دق ضحايا الشاحنة في قلب أوروبا على جدرانها؟ واذا لم يفعلوا، لماذا؟ لماذا؟

النهار

 

 

 

 

شاحنة الموتى السوريين/ بكر صدقي

بعدما أعلنت الحكومة الإيسلندية عن استعدادها لقبول خمسين لاجئاً سورياً، أطلقت الكاتبة الإيسلندية برنديس بورغويندوتر حملةً على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، دعت فيها حكومة بلدها إلى قبول عدد أكبر من اللاجئين السوريين الهاربين من أهوال الحرب في بلدهم. حملة «سوريا تنادينا» استقطبت، خلال اليوم الأول لإطلاقها، أكثر من عشرة آلاف مؤيد، بينهم من أعلنوا عن استعدادهم لاستقبال اللاجئين في بيوتهم، ومتطوعين لتقديم دروس اللغة أو الملابس والأثاث المنزلي وألعاب الأطفال للاجئين السوريين. أما الكاتبة بورغويندوتر فقد وجهت رسالة مفتوحة إلى وزير الرفاه الاجتماعي إيغلو هاردر طالبت فيها بحق الإقامة وإذن العمل لخمسة لاجئين سوريين، على أن تدفع بنفسها ثمن تذاكر سفرهم، معلنة عن معرفتها بشخص مستعد لتأمين المأوى لهم. وختمت رسالتها بالقول: «سمعت عن استعداد إيسلندا لاستقبال خمسين لاجئاً سورياً. وهكذا يصبح المجموع خمسة وخمسين».

وفي العاصمة النمساوية فيينا خرج عشرات آلاف المتظاهرين تعبيراً عن تضامنهم مع اللاجئين السوريين وترحيبهم بهم. وخرجت مظاهرات مماثلة في مدينة درسدن الألمانية.

للعلم، لا يتجاوز عدد سكان إيسلندا ثلاثمئة ألف. من المحتمل أن العدد خمسين الذي حددته الحكومة للاجئين السوريين الذين يمكنها استقبالهم، ليس بالعدد الصغير إذا نسبناه إلى عدد السكان. وذلك بالمقارنة مثلاً مع فرنسا أو بريطانيا أو غيرهما من الدول الأوروبية الغنية بإمكاناتها الاقتصادية كما بقدرتها على استيعاب اللاجئين والمهاجرين.

كأننا أمام بداية تحول كبير في الرأي العام الأوروبي في مواجهة مشكلة اللاجئين عموماً، والسوريين منهم بصورة خاصة. تحول لا شك في أن حادثة الشاحنة المغلقة على جثث واحد وسبعين من السوريين التعساء لعبت دور المحفز المباشر في إطلاقه. هذه الحادثة التي وصفها بابا الفاتيكان بالعار على الإنسانية جمعاء.

لعله من المبكر الآن توقع انعكاسات هذا الموقف الإنساني على القرارات السياسية للدول، ليس في مواجهة مشكلة اللاجئين السوريين، بل في مواجهة المشكلة الأساس التي تسببت بتدفق هؤلاء اللاجئين خارج حدود بلدهم بحثاً عن الأمان. لكن من المحتمل أن الديناميات الاجتماعية التي تسببت شاحنة الموت السورية بإطلاقها، لن تقف عند حدود الموقف الإنساني ما دامت أخبار الكارثة السورية تأتي كل يوم. فقط أحد أبعاد هذه الكارثة هو المتعلق بعابري البحار أو الحدود البرية «بصورة غير شرعية» كما يوصفون، معرضين أنفسهم وأطفالهم لخطر الموت غرقاً في البحر المتوسط أو بحر إيجة. ولكن لا أحد يتساءل، بجدية، عما دفع هؤلاء إلى مغادرة بلدهم للبحث عن مكان آمن يؤويهم. بدلاً من ذلك يتم تصوير ما يجري في سوريا على أنه حرب أهلية بين مكونات تريد إبادة بعضها بعضاً. ولا يسع الرأي العام الغربي، والحال هذه، أن يفهم سبب العداء المتبادل بين «الهوتو» و«التوتسي» السوريين على رغم أن كلتا القبيلتين من العرق الأسود، أو في الحالة العيانية السورية «كلهم مسلمون»! هنا يأتي دور إيديولوجيا الاستشراق لرد العلة الأصلية إلى العقائد الدينية للمسلمين التي تشجع على العنف بلا مبرر.

تسهل هذه الترسيمة الإيديولوجية التي يروج لها الإعلام بكثافة، على حكومات تلك الدول تبرير مواقفها من المشكلة الأصلية المتمثلة في نظام دكتاتوري سلالي طائفي تمرد عليه شعبه للإطاحة به، فكان رده المعلن «الأسد أو نحرق البلد»! واستخدم كل الأسلحة التي تملكها «الدولة»، بصفتها كذلك، لقتل الشعب الذي تمرد عليه بصورة سلمية وترويعه وتهجيره. وإذ لم يردعه أي رادع أممي أو دولي، استمر في حرق البلد وتدميره سنوات أربع ونيف، بما أتاح مساحات واسعة من «التوحش» الذي ملأه التطرف الديني.

وكأن تلك الدول القادرة وجدت ضالتها المنشودة في هذا التطرف الموصوف بالإرهاب لتحويل الأنظار إليه ونسيان أصل المشكلة. حتى في حربها المعلنة على تنظيم الدولة الإسلامية، لا تفعل دول التحالف الذي تشكل لهذه الغاية ما يتجاوز بعض الضربات الجوية التي لا يمكنها تحقيق الكثير من الهدف المعلن. الخبراء العسكريون الأمريكيون وكذلك ساسة الإدارة يقولون صراحةً إن الحرب على داعش قد تستمر عقوداً.

كذلك فإن مشكلة الهاربين من الجحيم الأسدي، بحد ذاتها، ليست جديدة. وقد بلغ عددهم نحو نصف السكان (11 مليوناً) خمسة ملايين منهم فروا إلى دول الجوار التي لا تمنحهم الصفة القانونية للاجئ، وتعجز ميزانياتهم الحكومية عن تلبية متطلباتهم. ولكن يبدو أن الأمر كان يتطلب كارثة نوعية على شاكلة شاحنة الموت التي عثر عليها في النمسا، ليستيقظ ضمير العالم ولو متأخراً.

ولكن أليس أساس مشكلة السوريين مع النظام المجرم الذي حكمهم لنصف قرن هو أساس إنساني وأخلاقي قبل أن يكون سياسياً؟ أليست مواقف الدول والجماعات والأفراد الذين دعموا هذا النظام المجرم في حربه على سوريا والسوريين، هي مواقف لا أخلاقية أكثر من كونها تعبيراً عن خيارات سياسية؟

ربما هذا ما يدعو إلى التفاؤل: عودة المشكلة إلى أساسها وجذرها كمشكلة إنسانية وأخلاقية أولاً تقتضي وضع المجرم في المكان الذي يستحق، أي وراء القضبان، بدلاً من التعاطي معه كما لو كان دولة.

٭ كاتب سوري

 

 

 

 

لم يبقَ للسوري إلا القبر المعدني/ مرهف دويدري

روى لي صديقي، الذي ما زال تحت رحمة الصواريخ والبراميل، أنه في عام 1999 خرج في رحلة غير شرعية للعمل في اليونان، مروراً بتركيا، على متن سفينة تجارية.. قصّ عليّ يومها كيف وضعوه مع 24 شخصاً آخرين، داخل مستودع في الطوابق السفلية من السفينة؛ في هذا المستودع فتحة للسقف، تلك التي نزلوا منها إلى داخل المستودع، وفتحة صغيرة جداً للتهوية.. أخبرني صديقي كيف أغلق هذا المستودع بلوح معدني، وتمّ إحكام إغلاقه بواسطة “لِحام كهربائي”، ليبدو كأنه مكان مغلق أصلاً!

روى لي صديقي يومها كيف عانوا من الاختناق، والجوع، والعطش، خلال اليومين الطويلين من الاختباء.. وحدّثني عن حالة اليأس، التي اجتاحته لدى عودته من رحلته.

يحدث أن يستشرف الروائي الفلسطيني، غسان كنفاني، المستقبل في روايته الأولى “رجال في الشمس”، قبل أكثر من نصف قرن من زمن الحروب؛ تدور أحداث الرواية حول رجال ثلاثة ماتوا داخل خزان الماء في رحلة هروب امتهنها كل أبناء القهر، من أجل لقمة العيش، أو ربما بسبب فقدان الأمل حتى في حياة قديمة نحمل ذكرياتها في سجل وجداني، فيتحول شيئاً فشيئاً إلى مفتاح يعلوه الصدأ مع مرور الأيام، هو مفتاح لباب أزيل من مكانه خلال سنوات الحرب التي أبعدت روح المكان عن الجسد المنهك بالموت.. والقهر.. والجوع..

ثلاثة رجال اختصروا معاناة الشعب الفلسطيني في رحلة لجوء إلى المنفى، بعد نكبة أخرجتهم من الديار، وإلى الأبد، يعرفون تماماً أن لا عودة من هذا الخروج العظيم، والمكان الجديد في خيام اللاجئين بدأ يثقل كاهل الروح، فالذل أصبح عادة يومية تمارسها المنظمات الإغاثية تارة، ومن وجدت من أجلهم تارة أخرى..

بعد خمسين عاما ًمن عمر رواية كتبت ما حدث في منتصف 2015، يعيد التاريخ نسج حكايته، متواطئاً مع صفحات وكلمات الرواية، مجسّداً في مشهد واقعي نعيشه بشكل يومي.. نتلمس ثقل معاناته برؤوس منكسة، وشفاه تتمتم ما شاء لها من كلمات الاستسلام لقضاء بدأ يثخن في أرواحنا وحياتنا، على مدى خمس سنوات من موت معلن، لم يكف عن إشهار قوائم الوفيات، بكل أساليب الموت الممكنة..

“من لم يمت تحت البراميل.. أو بقصف الصواريخ مات بغيرها” وهنا يسأل السوري هذه المرة نفسه ما تلك الطريقة التي يمكن أن تكون أكثر هولاً من سقوط برميل من مروحية حاقدة؟؟.. ليأتي الجواب سريعاً: “موت البحر في التغريبة العظيمة الأبدية، التي أعلنت سفر الخروج من تيه الموت المستمر في جنون السلطة والكرسي، الذي يسبح في دماء الأبرياء.. يصرخ البحر بندم المذنبين: لا.. أنا قاتل رحيم، من مات بالاختناق.. هان عليه الموت غرقاً!”.

سبعون روحاً، أو تزيد، صعدت إلى السماء وكانت قد حملت أجسادها كرهاً في رحلة بحرية، اعتقدت أنها نجت من الموت غرقاً.

ضحكات.. وحمد وشكر لله على اجتياز الموت الرهيب.. تلك الأرواح التي وقفت على حدود الذل، تحت الشمس الحارقة، تعتصم، وتتظاهر، وتهتف من أجل احترام حقوق الإنسان في دول تلاعبت بأقدارنا يوماً، واحتلتنا عقوداً من الزمن باسم هذه الحقوق.

سبعون روحاً هربت إلى السماء، من قبر معدني خُصص لها لعبور البرزخ الحدودي، خوفاً من بصمة قد تقتل حلم الوصول الى الأمان.. استطاعت الأرواح الهرب، لكن الهواء عاند وأبى أن يدخل لينعش الأجساد المتكدسة داخل القبر المعدني.. هو الهواء القاتل، يدور بعنف المجرم حول ضحيته، دون أن يمنحها فرصة الحياة مرة أخرى.. مع شدة عناده تعلو ابتسامة على ملامحه الشريرة، لكنه يبقى خارج أسوار القبر المعدني لتهرب الأرواح معاتبة الهواء الشرير على فعلته وإجرامه.. تلك لعبة الموت التي احترفها السوري في كل مكان..

أنظر إلى الشاحنة، التي تحمل القبر المعدني، من خلف “كيرستال” الشاشة، وأتساءل محاكياً تلك الرواية القديمة: هل بين هؤلاء الموتى “أبو قيس” الذي فقد بيته وحياته ليعيش تحت سقف الخيمة المهترئ؟ أم هو “مروان” ذاك الشاب الذي ربما خرج من أجل لمّ شمل العائلة في بلاد آمنة؟ و”أسعد” الذي هبّ في المظاهرات، ونادى بأعلى صوته “حرية” أملا ًفي حياة حرية وكرامة.. لم يكونوا ثلاثة هذه المرة، هم سبعون..

سبعون حكاية.. سبعون مأساة، وسبعون روحاً دفنت بإرادتها داخل القبر، ودفع ثمن الدفن سلفاً لذاك المهمل، “أبو الخيزران”، الأوروبي، الذي رأى في هؤلاء السبعين رزمَ أموالٍ يحلم بها، بعد أن فقد رجولته/ إنسانيته..

شخصية “أبو الخيزران” ليست شخصية غير قابلة للتكرار، لكن القاتل الحقيقي يجلس في منفاه القصي، لتعاد الحكاية بعد سبعين عاماً، ثلاثة رجال قتلوا خنقاً داخل خزان بسبب احتلال إسرائيل لبلادهم، وسبعون سورياً يموتون اختناقاً لأن الأسد المعتوه يقتلهم بالبراميل، إلا أن ما يريح النفس أن موت الاختناق أقل قهراً من موت البراميل، فالجسد يبقى بكل تفاصيله، أما تحت براميل الإجرام والحقد، فيتحول إلى أشلاء مبعثرة..

(سورية)

 

 

 

رجال في البحر… هجرة الموت والأوطان الطاردة/ د. فايز رشيد

قالت حكومة النمسا إنها عثرت على أكثر من 71 جثة في داخل شاحنة للمهاجرين، كانت متوقفة على جانب طريق سريع في شرق النمسا، في موقع مخصص على الطريق السريع في ولاية برغنلاند الحدودية شرق البلاد. وقالت الوزيرة ميكل ليتنر إن «هذه المأساة أثرت فينا جميعا بعمق، المتاجرون بالبشر هم مجرمون. كل من لا يزال يعتقد أنهم لطفاء ويرغبون بالمساعدة، يحتاج للمساعدة».

وقال المتحدث باسم الشرطة هانس بيتر دونسكوزيل إن من «بين 71 شخصاً هناك 59 رجلاً وثماني نساء وأربعة أطفال، إحدهم في سنته الأولى أو الثانية». وتم منذ بداية 2015 تسجيل أكبر عدد من المهاجرين الذين يتدفقون على أوروبا عبر البحر والبر، هربا من النزاعات في افريقيا وآسيا والشرق الأوسط. وذكرت السلطات أنه لم يعرف بعد متى ولماذا توفي هؤلاء المهاجرون، لكن يرجح أن يكونوا ماتوا اختناقًا. وقال مسؤول نمساوي «إن كل الجثث سرقت أعضاؤها وبالطبع فسيتم اختفاء ملابسات الجريمة، فهناك الكثير من اﻷخبار التي تفيد باختفاء اللاجئين منذ ما يقارب الأسبوع، وأحدها كان اختفاء 11 طفلاً من النمسا بظروف غامضة. كل يوم يحدث اختفاء عائلات وفقدان أشخاص بظروف غامضة والعدد قابل للزيادة». سماسرة وتجار أرواح ناهيك عن مئات السماسرة الذين يمتهنون التهريب عبر مراكب الموت، في كل من مصر وليبيا وتونس وغيرها، وهم لا يبالون في التضحية بالعدد الزائد من الركاب في عرض البحر، في حال تعرض المركب للخطر. وعلى الرغم من ذلك، يتم يومياً تسيير رحلات الموت، عبر قوارب الموت، عن طريق تجار الموت. سبق أن أعلنت المفوضية العليا لشؤون اللاجئين: أن عدد المهاجرين منذ بداية عام 2015 يتجاوز 11300 شخص، وما تزال أرواح العديدين منهم تزهق على شواطئ باقي بلدان أوروبا، وكلهم هربوا من بلدانهم ليستقبلهم الموت بطريقة قاسية. ولعل في الكارثة البحرية التي أودت بحياة 374 شخطا من السوريين والفلسطينيين قبالة سواحل جزيرة ( لامبيدوزا) الإيطالية في 3 و11 من تشرين الأول/اكتوبر من العام المنصرم المثال الأكبر على ذلك. كل ذلك يحصل وما زال صمت القبور يخيم على الدول والجهات المسؤولة عن دفع هؤلاء الأبرياء للمخاطرة بحياتهم للبحث عن ملجأ آمن في أوروبا.

لعل الكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني كان يعكس في روايته «رجال في الشمس» واقع الفلسطينيين بعد النكبة، عندما كان يتم تهريبهم إلى دول الخليج في صهاريج الشاحنات، بحثا عن لقمة العيش. لكن أحدا لم يكن يتوقع أن تتمثل نبوءته أيضا في القرن الواحد والعشرين، وعلى العديد من المواطنين العرب من دول عربية كثيرة مأزومة، هذه المرة في قوارب تجوب البحار في رحلات أصبح يُطلق عليها «رحلات الموت».

أما القوارب فـ «قوارب الموت»!. أصبح الموت هو القاسم المشترك الأعظم بين العرب، فهو الذي يوحدهم في زمن المهانة والإذلال. «التاريخ يكرر نفسه مرتين.. في الأولى على شكل مأساة والثانية على شكل مهزلة» .. مقولة تُثبت صحتها مرّة أخرى، فنحن نرى المأساة والمهزلة معا في زمن الرّدة!. بالفعل تتحقق نبوءة عيسى عليه السلام.. فكان أكثر من محق عندما قال جملته الشهيرة: «لا كرامة لنبي في وطنه!».

هل الوطن ليس مثلما يقترحون في زمن العولمة أنه «كذبة بيضاء .. يروّج لها البعض دون شعور بالذنب، ويتلقفها آخرون دون شعور بالخديعة»؟. أجزم بأن كل الذين يغادرون ويهاجرون من أوطانهم يشعرون في دواخلهم بالألم. المهاجر دوما محاصرٌ بوخز الألم! لم يهجُر وطنه اختيارا، هو في جحيم الورطة بين الغربة عن الوطن وبين وجع الحاضر، وانسداد آفاقه!.. وما أقسى المفاضلة بين وجعين وألمين!. هل قُدّر للعربي أن يختنق في العام 2015 في ثلاجات وقوارب الموت على أيدي تجار الموت في الهجرة إلى الموت، تماما كما مات الفلسطيني اختناقا عام 1950 في صهاريج الموت؟

لقد تصاعدت وتائر الهجرة مؤخرا من الدول النامية بما فيها دولنا العربية، الآلاف يجوبون البحر وبتنظيم المهربين. ووفقا لمنظمة الهجرة الدولية سافر نحو 150 ألف مهاجر عبر البحر خلال الفترة من كانون الثاني/يناير وحتى بداية تموز/يوليو لهذا العام 2015. من زاوية ثانية لقد نشأت أحزاب شوفينية في الدول المُهاجر إليها، تعمل على محاربة الأجانب المقيمين فيها، فكيف باللاجئين الجدد؟ أصبح من الصعوبة بمكان إعطاء الهاربين إلى هذه الدول، حق اللجوء إليها…هذا الذي يتم تحت مبررات عديدة. في كثير من الأحيان تقوم سلطات هذه البلدان بتسهيل هجرة جنسية معينة إليها. الحالة المحددة التي نقصدها هي: تسهيل هجرة الشباب الفلسطيني، سواء منهم من يعيشون في فلسطين أو الذين يقيمون في الشتات. هذه الهجرة تحديداً تتم من أجل أهدافٍ سياسية، فالذين يعيشون على الأراضي الفلسطينية يتم التسهيل لهم من أجل إفراغ فلسطين من العنصر الشبابي الحيوي. أما الذين يقيمون في الشتات فيأتي بهدف: إنقاص عدد المطالبين بحق العودة إلى الأرض الفلسطينية. لذلك فإن سفارات وقنصليات الدول الغربية في رام الله وفي العديد من العواصم في البلدان الأخرى عربية وغيرها، تقدم التسهيلات والإغراءات للشباب الفلسطيني من أجل الهجرة.على هذه القاعدة هاجر عشرات الآلاف من فلسطينيي لبنان، ومن الأرض الفلسطينية المحتلة. وحتى اللحظة، فإن عشرات الآلاف من فلسطينيي سوريا تمكنوا من الوصول إلى هذه البلدان… ولا يزال موسم الهجرة مستمراً.

في أسباب هجرة الشباب العربي إجمالا، والتي أخذت تتصاعد في الآونة الأخيرة، وبخاصة من العراق ولبنان وسوريا والدول العربية في شمال افريقيا يمكن القول: بداية لو كانت الأوضاع في بلدان المهاجرين مستقرة في المعنيين الاقتصادي والسياسي وبالضرورة الاجتماعي، لما حصلت الهجرة. فالبطالة بين الخريجين وضعف الرواتب إن وجدت الوظائف، وعجزها عن تلبية أهم القضايا الحياتية للشباب، كل هذه الظروف تدفعهم إلى الهجرة. في كثير من الأحيان، يقدم الغرب تسهيلات كبيرة للكفاءات من الدول العربية، التي لا تقّدر كفاءة أبنائها، فيكون مستقرهم في البلدان الأجنبية! فما أكثر الكفاءات العربية في الطب والهندسة وحتى في علم الذرة وغيرها من التخصصات الأخرى، في الدول الغربية؟ لو وجدت هذه الكفاءات ظروفاً مماثلة للعمل في بلدانها، لاستقرت فيها. ولكن للأسف، فإن العديد من الدول العربية أصبحت طاردةً لأبنائها. بالمعنى السياسي فالحروب والأحداث الداخلية في هذا البلد العربي أو ذاك، هي في حد ذاتها عامل مساعد على هجرة الشباب منها… كما العامل الأهم، أن المواطن العربي يفتقد إلى الفضاء الرحب لمطلق إنسان.. وهو الحرية، ويفتقد إلى غياب الديمقراطية في بلده.. وبالفعل، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟

المواطن العرب يعاني القمع والدكتاتورية والخنق والضائقة الاقتصادية! فلماذا لا يهاجر؟ مسكين مواطننا العربي عندما يعيش قضايا حياتية أولية في زمن العولمة في القرن الواحد والعشرين! العالم قطع مشوارا بعيدا في التطور.. وللأسف نحن ما زلنا في عصر أشبه بالمرحلة البدائية في سُلّمه. الوطن انتماء لكنه أيضا قضية .. هو حرية، عدالة، عطاء لابنائه، ديمقراطية.. وذكريات طفولة وحنين إلى ترابه! إن افتقد الوطن لكل عطاء لأبنائه في الذي حددنا، يصبح غُربة تماما مثل مسرحية» غربة» للأستاذ دريد لحام. الوطن سماء مفتوحة يتسع لكل الآراء في سبيل تطويره! إن افتقد الوطن لكل ذلك يصبح اللافرق موجودا بينه وبين أي عاصمة في هذا العالم. لهذا عنون الموهوب محمد الماغوط كتابا له بـ «سأخونك يا وطني» هو لم يقصد خيانة حقيقية للوطن، بل هو يرفض كل ما هو سيئ في وطنه.

إن قيمة الأموال العربية المودعة في البنوك وبخاصة الأمريكية 4.3 تريليون دولا، منها 3.8 تريليون مودعة على شكل سندات في الخزينة الأمريكية، ولا يجوز لمودعيها سحب أي مبلغ منها دون موافقة الخارجية الأمريكية التي تستشير بدورها البيت الأبيض. إن نسبة الأمية في الوطن العربي هي 35٪، ونسبة أمية المرأة بينها 52٪. وإن نسبة الجوعى كبيرة في جنوب السودان وموريتانيا، وفي التقرير العربي للأهداف الإنمائية 2014، الذي أطلقته الأمم المتحدة في نيويورك يكتب: أن النزاعات في المنطقة العربية «توسّع دوامة الفقر والبطالة والجوع»، متوقعاً أن «تطال البطالة 14.8 في المئة من السكان خلال العام الجاري، وهي أعلى من النسبة المسجلة في المنطقة العربية عام 1990». ورجّح التقرير أن «تؤدي الزيادة في أعداد الفقراء والعاطلين عن العمل إلى ارتفاع نسبة الذين يعانون من الجوع في المستقبل القريب إلى 20 في المئة من السكان، بعدما كانت 15 في المئة عام 2011».

في العراق يتظاهر الموطنون العراقيون من أجل الكهرباء التي لا يرونها إلا في المناسبات نرجوكم.. إرحموا عقولنا. العراق من أغنى دول العالم نفطيا. دخله السنوي من النفط فقط 120 مليار دولار سنويا! بالله عليكم.. أين تذهب هذه الأموال؟ وإن لم تُستخدم لمصلحة احتياجات المواطن العراقي، فما الفائدة منها؟ يتكرر المشهد في لبنان حيث الصيف القائظ والرطوبة القاتلة.. ولا كهرباء.. ورائحة النفايات تملأ الأجواء اللبنانية في كل المناطق… ارحمونا بالله عليكم… نخشى أن يأتي اليوم الذي لا يظل فيه مواطن في العديد من الدول العربية!.

٭ كاتب فلسطيني

 

 

 

“أوقفوا المجزرة” بالنمسا: شاحنة الموت تفتح عيون الأوروبيين وأبوابهم

فيينا ــ نائل بلعاوي

في السادسة من مساء اليوم الأخير من شهر أغسطس/آب الماضي، كانت العاصمة النمساوية فيينا، وعلى اختلاف مكوّناتها الإثنية، تحتشد على مقربة من محطة قطاراتها المركزية الشهيرة “فيست بانهوف”، لتبدأ مسيرتها التي ستأخذها عبر الشارع التجاري الطويل “ماريا هيلفر” إلى ساحة الأبطال في الحي الأول، للتجمّع على مقربة من مبنى المستشارية، وتعلن بصوت واحد: “لا وجود لإنسان غير شرعي”، و”افتحوا الحدود الآن.. أنقذوا الضحايا”. إلى جانب الشعارات الأخرى التي اتفقت في مجملها على حقيقة واحدة: “لن نقبل بالجريمة بعد اليوم ولن نصمت”.

وحّد المتظاهرون في فيينا صوتهم، ورفعوه في وجه الجريمة الكبيرة التي تمثلت على نحو مفاجئ وفاجع، يوم 28 أغسطس، حين عثرت الشرطة النمساوية على شاحنة التبريد المحمّلة بـ71 جثة للاجئين. أدى هذا اليوم الأسود من أغسطس دوراً مفصلياً في المعنى وفي التأثير، في الوعي الجماعي للسكان في هذه المنطقة الهادئة من القارة الأوروبية، وترك جرحاً بليغاً لن يندمل بسهولةٍ ويُسرٍ، لا اليوم ولا الغد على الأغلب. وما فعلته الجريمة عند هؤلاء الناس هو الاشارة، التي بقيت لسنوات طويلة غائبة، إلى الجريمة الأم. تلك التي حملت ضحايا الشاحنة على ركوبها، والمغامرة بحيواتهم، سعياً خلف حرية مشتهاة وعيش من دون قَتَلَة وبراميل متفجرة وتعاويذ ترفع السيوف وتُنصب المشانق.

هذه الإشارة هي التي دفعت الحشود إلى الشارع (بين 30 و40 ألف متظاهر). وهي الإشارة التي ارتفع فيها شعار “أوقفوا المجزرة”. وهي التي ستفتح باب الحوار، بل الاحتجاج، على مصراعيه في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي في النمسا، كما في وسائل الإعلام. الإشارة عينها حرّكت الجلسات الطارئة للدولة والبرلمان ومجالس الأحزاب الصغيرة والكبيرة في النمسا، بعنوانٍ واحد “لا ترتكبوا الجرائم باسمنا”.

تكفّلت فاجعة الشاحنة من فتح الباب الموصد، الذي لم تتمكن المقالات القليلة في الصحف، ولا التقارير الخجولة، على امتداد سنوات الجمر السورية الأخيرة، ومن فتحه، ولا تمكنت من ذلك أخبار الموت المريع في عرض المتوسط، ولا صور أولئك الذين تمكنوا سابقاً من عبور الحدود إلى النمسا.

لم تتمكن كل تلك الأخبار من توجيه اهتمام الناس، ووعيهم إلى حقيقة أن مذبحة متواصلة لا تزال تدور وقائعها الوحشية في مكان ما، على هذه الأرض، وأن العمل على إيقافها، أو مساعدة ضحاياها، على الأقلّ، هو من صلب فكرة التضامن الفعلي بين البشر. وحدها فاجعة الشاحنة فعلت ذلك.

لعلّ الإيمان الجدّي بهذه الحقيقة الأخيرة، هو الذي دفع الرئيس النمساوي هاينز فيشر، في خطاب جارح، للقول إننا “لسنا وحدنا على هذا الكوكب. هناك من يموت كي يعيش مثلنا، فحفاظنا على حريّتنا، يكمن في القدرة على حماية هؤلاء الناس وضمان حقهم بعيش كريم بيننا”.

لم تبتعد كلمات الرئيس كثيراً عن المعنى الذي حملته كلمات المستشار فيرنر فايمان: “لا يستطيع المرء أن يعبّر بالكلمات وحدها، عن هذا الشقاء الذي يحيط بنا من كل جانب”. مع العلم أن أسقف مدينة فيينا الكاردينال كريستوف شينبورن، قد سبق الجميع أثناء إقامته قداساً على أرواح الضحايا، حين حذّر القيادة السياسية في البلاد، وفي دول الاتحاد الأوروبي عموماً، قائلاً “تأخرتم كثيراً، وعليكم الآن العمل والتحرك بسرعة من دون مبررات، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أرواح هؤلاء الناس”.

وازداد وفقاً لهذه النبرة، عديد الشخصيات السياسية والثقافية، التي أعلنت عن تضامنها مع مأساة اللاجئين وتبعاتها الإنسانية العالية، وبدأت تنشر مواقفها في أعمدة الصحف اليومية، من الصحف التي توزع مجاناً في المترو، مثل “اليوم” و”النمسا”، إلى الصحف الجادة، من طراز “دير ستاندارد” و”دي بريسه”. ناهيك عن المهرجانات الموسيقية والحفلات والندوات، التي تُعقد يومياً في مختلف أنحاء البلاد رافعة شعار: “نرحّب بكم”.

بات التضامن حالة عامة وغير مسبوقة تجتاح البلاد من شرقها إلى غربها، وخصوصاً أن لا أحد يمانع هذه الحالة، ولا تظهر أي آراء من هنا أو هناك، لتضرب فكرتها الأساس: دعم اللاجئين. كما تغيب المواقف الناقدة أو المشككة، على شاكلة المواقف التي اعتاد حزب “الأحرار” اليميني المتطرف اختراعها والتغنّي بها، كـ”حماية الوطن من الغرباء”. وكان زعيم الحزب كريستيان شتراخه قد تناغم، هو الآخر، مع الحالة السائدة. وكتب على صفحته في موقع “فيسبوك”: “لدينا مرجعيات أخلاقية أيضاً”.

عكس كل ذلك حالة غير مسبوقة من التعاطف النمساوي مع اللاجئين، لأن الذاكرة الجماعية للبلاد لا تحتفظ بفظائع شبيهة بهذه الكارثة، التي مثلتها وعكستها تراجيديا الشاحنة. وسبق للنمسا أن مرّت عبر تاريخها الحديث بتجاربٍ وضعتها وجهاً لوجه أمام مآسي اللجوء وتداعياته القاسية، كانتفاضة المجر في عام 1956، وربيع براغ (عاصمة تشيكيا الحالية وتشيكوسلوفاكيا سابقاً) في عام 1968، وحرب البلقان في تسعينات القرن الماضي.

لم تُرغم تلك الكوارث كل هذه الأعداد الهائلة من البشر على النزوح، كما هو الحال الآن مع نتائج المأساة السورية، ولم يترك كل ضحايا النزاعات السالفة أوطانهم هرباً من أشباح الموت الأكيد، كما يفعل السوريون. ولم توثر أي مأساة بالنمساويين كما فعلت شاحنة الضحايا تلك.

تجسدت صورة 71 إنساناً، بينهم أربعة أطفال، دفعة واحدة أمام الجمهور النمساوي. لم تعد الشاحنة مجرد خبر عابر في نشرة الأخبار أو زوايا الصحف. صارت هنا، على بعد كيلومترات قليلة من العاصمة فيينا. وعلى مسافة أقل من بورغينلاند المحاذية للحدود المجرية. لم تعد ضحية عالم بعيد ولا مجرّد نبأ في وسائل الإعلام.

واستولدت الشاحنة حالة قصوى من التضامن الإنساني الرفيع. هذا التضامن الذي تغرق البلاد الآن في اقتراحاته وتجلياته الثمينة، ولا تود تلافيه أو الابتعاد عنه. وقد عبّرت إحدى المتظاهرات عن ذلك خير تعبير، حين قالت لصديقها بصوتٍ مسموع: “لا يجدر بنا انتظار كارثة أخرى لنخرج بعدها إلى الشارع. يجب أن نعود دائماً، وألا نعتبر ما نقوم به الآن عابراً ومؤقتاً، كي لا تعود تلك الجرائم من جديد، وتختفي إلى الأبد”.

لا تودّ النمسا انسجاماً مع الحالة التي تعكس حجم الكارثة، أن تعود إلى صمتها السابق وحيادها البارد حيال الضحايا، بل تريد مواصلة المعركة والمضي بها قدماً، إلى تلك الحدود التي يريدها شعبها، إلى حدود تجفيف المنابع الأولى التي ترغم الناس على ترك بيوتهم وأوطانهم، المنابع القبيحة لهذه المأساة.

العربي الجديد

 

 

هل صدمت الشاحنة ضمير أوروبا؟/ غازي دحمان

لماذا وضع اللاجئون أنفسهم وسط خزان الموت الذي عبر بهم من وسط انشغالاتنا بيومياتنا وعادياتنا؟ وكيف لم نسمعهم وهم يدقون الخزان؟ ألهذه الدرجة افتقدنا نحن حساسية سماع أصوات الألم ورائحة الموت؟ هل لأننا لم نعترف بجرحهم ونكبتهم، أم أنهم لا يثقون بنا وبآدميتنا؟ بالتأكيد نحن لسنا كذلك ونرفض أن نكون على هذه الشاكلة، وإن كان ساستنا حذرين ومتناقضين وغير حاسمين وغارقين في البيروقراطية.

هذه كانت الكلمات «الصرخات» والتفسيرات التي تقع في خلفيات لافتات أهالي فيينا الذين نزلوا إلى الشوارع، بما يذكّر «بالفزعات« التي قام بها أهالي أرياف درعا، لفك الحصار عن المدينة بدايات الثورة. نزل الفييناويون، ليس فقط من أجل الترحيب باللاجئين ومنع البوليس من إعادتهم إلى بودابست، ولكن ايضاَ من أجل أن يبعدوا عن انفسهم عار التسبب بموت اللاجئين؛ ومثلهم رفع الألمان رايات الترحيب في ملاعب كرة القدم، وهم يعرفون أنها أفضل وسيلة لإيصال رسالتهم إلى ما هو أبعد من الداخل الألماني.

عبر زمن مديد ومليء بالألم، شكلت المقتلة السورية واحدة من أكثر القضايا المهمشة في العالم، وساهم هذا الامر بتفاقمها بدرجة كبيرة ووصولها إلى الحدود الذي وصلت إليه من دموية وشراسة. ففي حين كانت ألة القتل نظام الاسد وحلفائه الروس والإيرانيين، تتغذى بدرجة كبيرة من هذا التهميش، لدرجة أنها تصوّرت أن ما تقوم به صحيح وشرعي، بدليل عدم اعتراض الرأي العام العالمي عليه، فقد شكلت حالات التطرف المقابلة نمطاً احتجاجياً على هذا التهميش وراحت تبتدع أشكالاً وانماطاً مختلفة من العنف لإيصال رسالتها الغاضبة من العالم الصامت. وفي النتيجة فإن تلك المنظومتين غرقتا في الدم السوري الذي صار صندوق بريد لإيصال الرسائل للعالم الخارجي.

في مقابل ذلك ابتدع العالم الخارجي معادلة تنطوي على تبسيط مُخلّ، مفادها أن ما يحصل ليس سوى قتال مسلمين ضد، مسلمين ولا علاقة لنا بالأمر، بالأصل نحن لا نفهم هذا النمط من الصراعات الذي يقتل الجميع فيه الجميع، وبالتالي فمن الأفضل عدم الانحياز لأي من الطرفين، خاصة وأن المقتلة تحصل على بعد زمن قصير من حوادث قتل قام بها مسلمون في أوروبا والغرب بذريعة مقاومة التدخل الغربي في شؤون المسلمين.

على ذلك وبطريقة غير متوقعة، صمّ الغرب عيونه وآذانه عن اكبر كارثة إنسانية حصلت بعد الحرب العالمية الثانية؛ تواطأ الإعلام والنخب السياسية في تقديم صورة ملتبسة حول الوضع في سوريا، كان الهدف رغبة تلك الدوائر في إراحة رأسها من اتخاذ مواقف تؤثر في حسابات دولها السياسية والأمنية والاقتصادية، وترتب عليها التزامات هي غير مستعدة لاستحقاقاتها. وقد عبّر البرلمان البريطاني عن هذا الأمر بوضوح عندما رفض مشاركة القوات البريطانية في أي نشاط أو مجهود حربي ضد نظام الأسد بعد جريمة الكيماوي في سوريا.

لم يتسنّ للمجتمعات الغربية التقاط صورة مخالفة لتصوّراتها النمطية عن المجتمعات الإسلامية الفوضوية والمختلفة في طريقة التفكير ونمط الحياة. والأرجح أن تلك المجتمعات ارتاحت لتلك الصورة؛ ذلك أن المجتمعات الأوروبية الغارقة في لجّج أزمة اقتصادية خانقة، لم يكن لديها رفاهية إعادة ترتيب اهتماماتها وانشغالاتها، وكانت منهمكة بمراقبة أسواق الأسهم والبورصات لتطمئن على رفاهيتها، وربما معيشتها بحدودها الأساسية في بعض القطاعات، أكثر من اهتمامها بأخبار حروب العالم القابع خلف البحار.

لكن هذه الحركة الوليدة في أوروبا والتي عبرت عن نفسها في محطات القطار النمسوية وملاعب كرة القدم الألمانية تشي بمتغير جديد، صحيح أنها حتى اللحظة تنحصر فعالياتها وتعبيراتها في إطار التعاطف مع اللاجئين الواصلين إلى البر الأوروبي، ولكن المأمول ان تتسع هذه الحركة لتصل إلى معرفة جذور الازمة الحقيقية وتشكل رأياً عاماً ضاغطاً على حكومات الغرب التي يتسابق مسؤولوها على كسب ود طهران ومراعاة مشاعر قادة الكرملين. فمن غير المعقول أن يتسبب هؤلاء بكل تلك الكارثة للملايين من الشعب السوري من دون أن أدنى إحساس بالمسؤولية.

في التاريخ المعاصر، عاشت أوروبا ولا تزال تحت وطأة الإحساس بتأنيب الضمير تجاه ما حصل لليهود في الهولوكوست، وعاهدوا انفسهم بوقف كل ما يمكن أن يساهم بتكرار تلك المأساة. وقعت هذه المأساة في سوريا وما حصل في الشاحنة الهنغارية لم يكن سوى صورة مصغرة لبلد يختنق، لذا لن يفيد أوروبا والغرب، الأسف دائما بعد وقوع الكارثة واكتمال أركانها. فهل ما بعد حادثة الشاحنة سيكون غير ما قبلها أوروبياً؛ هل تتفاعل القضية إلى الحد الذي يغير تماما توجهات الحالة السورية وينهي قطب الكارثة فيها المتمثل بمنظومة الأسد وحلفائها من الإيرانيين والروس؟ نتمنى أن لا تنتهي حادثة الشاحنة بإضاءة الشموع على أرواح القتلى، بل تشكل فرصة لتسليط الضوء على كارثة السوريين بمجملهم.

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى