صفحات سوريةعبدالناصر العايد

مأسسة السياسة لتفادي هاوية العنف المذهبي/ عبدالناصر العايد

 

 

انفلات ما يدعى بالمحور الإيراني أو الشيعي، وعدم ردعه سياسياً وأمنياً من قبل القوى الإقليمية، منحه وهم إمكانية الانتصار، فضاعف من رهانه ونشاطه من جهة، ودفع من جهة أخرى، قطاعات وفئات «شعبية» من الجماعة السنيَّة، تتحسس الخطر بصورة واقعية محايثة، للتنطع لمواجهته بأساليبها الارتجالية والعشوائية، تحت القيادة الوحيدة المتاحة لهم، وهي التنظيمات الدينية السنيـة الأكثـر تشدداً مثل «داعش» و«النصرة»، في غياب إستراتيجية مدروسة وفعالة من الدول والحكومات.

وقد انتقل الصراع بذلك من ميدان السياسة و»الدول» إلى ميدان المجتمع والتنظيمات الشعبوية، التي يوجهها العنف والعنف المضاد، ويغذيها المال المتدفق من الأنصار والجهات الخفيَّة غير المسؤولة، وهو ميدان إيران المفضل، الذي تمتلك فيه عناصر التفوق والفعالية، سواء من خلال جيش «الملالي» المحترفين في التعبئة المذهبية، أو من خلال عوائد النفط الوفيرة الموقوفة لبناء إمبراطورية قائمة على تفتيت قوى المنافسين، وشدّ الطائفية الشيعية في عموم العالم إليها، بإرغامهم على الاتحاد بها لمواجهة الأخطار التي تثيرها هي ذاتها من كل مكان حولهم.

إن مواجهة هذا المنبع الخفي لاستفحال العنف الديني وتفلته في منطقة الشرق الأوسط، وتحوله مع الوقت إلى ظاهرة عالمية، يقتضي أولاً عودة «السياسة» إلى مجتمعات الشرق الأوسط، فغياب العمل السياسي بين سكان هذه المنطقة، وعزوف الأجيال الجديدة عن المشاركة فيه، ليس مسألة اختيارية أو قراراً مستقلاً، إنه حصيلة ظروف وسياسات وقرارات بمنعهم وعزلهم وتهميشهم، ودفعهم إلى الجدار أولاً، بحثاً عن الأمان، بعد أن جعلت السلطات الحاكمة من حقل السياسة ميداناً شيطانياً لا يأمن فيه الشخص على كرامته أو حريته أو حياته، ومن ناحية أخرى دفعتهم في مسارب اللهاث لتأمين لقمة العيش العسيرة، بعد إهمال متعمد للبعد التنموي في أوطانهم وبلدانهم، وتخبرنا اللحظات الأولى من الربيع العربي، عن مدى رغبة واندفاع الأجيال الشابة على وجه الخصوص إلى العمل السياسي الفعال، وتدلنا الخواتيم المأسوية لمجمل تلك الثورات، على عمق وعقم السياسات السلطوية، التي أعادت الأمور إلى نصابها السابق أو أسوأ مما كان.

لكن «تسييس» المجتمعات وأخذها بعيداً عن النزعات الأهلية والأيديولوجية السابقة على الدولة، يقتضيان أيضاً وجود المؤسسات السياسية، أي الهياكل المسؤولة عن تنظيم العلاقة بين المجتمع والحكام على نحو مقونن وعلني، وهنا نتحدث عن مؤسسات تتبع للسلطات ومنفتحة على الشعوب، وأخرى تجمع الراغبين بالعمل السياسي في المجتمع، ومع أن هذين الكيانين يبدوان متعارضين للوهلة الأولى، إلا أن تعارضهما في الحقيقة يصب في مصلحة الدولة وبقائها وتطورها.

إن طرح التسييس والمأسسة السياسية كحل لمعضلة تفشي الإرهاب على خلفية دينية، يبدو معقولاً في هذه المرحلة، لكن القول بأن ذلك الطرح ناجع أيضاً لمواجهة المشروع الإيراني سيواجه اعتراضات جمة، وهنا يجب أن نذكر بنقاط القوة والضعف في ذلك المشروع لتصبح وجهة النظر هذه أكثر وضوحاً في مراميها، فالخمينية مشروع ماضوي ومتخلف، لكن قوته تنبع من التصلب الغرائزي والتوحد القطيعي، وتدميره ليس بمواجهته بأدواته ذاتها، فتلك الأدوات هي التي تزيده صلابة وتمنحه مزيداً من القوة، وتوصله للفوز في النهاية، لأنه هو من يقود اللعبة التي أسسها بنفسه وفرض قوانينها وقواعدها، أما الآخرون فهم طارئون ومنقادون إليها بالإرغام، والمعالجة الصحيحة تبدأ من خلال نقل الصراع إلى ميدان آخر، والقفز فوق مشروع الملالي إلى أفق أكثر عصرية، وخاصة على صعيد الانفتاح والمشاركة السياسية، إذ إن ذلك سيعكس فعل آلية التفتيت، وينقل الجدل من سني/ شيعي، إلى الحداثة/ والتخلف، وهو مستوى سيجد فيه الخمينيون أنفسهم بمواجهة الأجيال الإيرانية الشابة المقموعة.

إن نهجاً سياسياً من هذا النوع يحتاج إلى التبصر والصبر، وإلى تغير عميق في العقلية التي تقود بها السلطات العربية شعوبها وتدير بها أزماتها، وسيعرضها لاختبارات عنيفة، لكن النظر إلى الهوة السحيقة التي تنتظر تلك السلطات وشعوبها معاً فيما إذا استمر الجميع على مساراتهم الحالية، يجعل من مغامرة القفز فوق التاريخ الجامد في بلادنا، بشجاعة ومسؤولية، أمراً لا مناص منه، بل أنه فرصة غير متاحة إلى الأبد.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى