صفحات مميزةياسين السويحة

العام الذي مرّ كثورة


ما زال كثيرون منّا، بعد مرور أيام قليلة على انتهاء عام 2011، بعيدين عن تخيّل أهميّة الحدث الذي عاشوه خلال العام المنصرم، فعام “الثورات العربيّة”، ككل الأحداث التاريخيّة، يحتاج إلى مرور فترة زمنيّة سخيّة قبل أن يمكن النظر إليه من بعيد ومشاهدته بالكامل وتقدير حجمه وقوامه. كلنا أملٌ في أن نستطيع قول الشيء ذاته عن 2012، أي أن يكون امتداداً لموجة عارمة بدأت في بلدة تونسيّة تدعى “سيدي بوزيد” ووصل صداها إلى كل أنحاء العالم (وربما أيضاً إلى الفضاء الخارجي.. فالمؤامرة “كونيّة” على حدّ تعبير غلاة أنصار النظام السوري).

عدا عن تخيّل حجم وأهمية الحدث، سيكون مهماً أيضاً تحديد الفاعلين والمنفعلين فيه، أي، بمعنى آخر، العمل على دراسة تاريخية تشمل كرونولوجيا الأحداث بما يشمل أسبابها وآثارها والعناصر الفاعلة فيها. هذه الدراسات من اختصاص المؤرخين واخصائيي السياسة واﻻجتماع والاقتصاد وغيرهم. لكن، حتى ذلك الحين، يبقى الصوت للثورة وحدها، للثوار فقط.

بإعداده هذا الملف، المؤلف من عشرة مواد، أراد موقع “صفحات سوريّة” أن يسمع، وأن يُسمع، صوت مجموعة من الشابات والشباب السوريين (وشابة فلسطينيّة ﻻ تعترف، وﻻ نعترف، بحدود بينها وسوريا)  من مدوّنين ومستخدمي الإعلام الاجتماعي، مقيمون داخل وخارج سوريا، وآراؤهم حول عام “الربيع العربي” بشكل عام، أو حول واحدة أو أكثر من جزئياته تخصيصاً. كتابٌ شباب، منهم من خبر أقبية المخابرات وسجون القمع، من الجيل الذي أدهش الأنظمة العربيّة ومعارضاتها في آنٍ معاً. جيلٌ تغلّب على الهزيمة وقرر أن الوقت قد حان ليُسمع صوته ﻷن لديه كلمة يقولها.. وها قد قالها.

سننشر المساهمات حسب الترتيب الأبجدي، في هذا الملف، ومن ثم ننشر مساهمة كلكاتب منهم، منهن في صدر صفحات سورية حيث المكان الذي يليق بهم، وسندفع الكتاب المعروفين الى الظل قليلا.

انتصارات الثورة وحصاد النتائج

أمجد طالب

عندما هبت نسائم الربيع العربي في المنطقة بدأت الثورة تدغدغ أحلام السوريين في الداخل والمهجر، إلا أن ذاكرة الثورة الموؤودة في ثمانينيات القرن الماضي كانت لا تزال حاضرة في تلك الأحلام التي أصبحت حقيقة بجميلها وقبيحها وواقعاً نعيشه كل يوم في عام شعر الكثيرون من السوريين أنه الأقصر في حياتهم لكثرة أحداثه وإن كان فعلاً الأقصر لما يزيد عن خمسة آلاف سوري اختزلت أعمارهم رصاصات الغادرين، وكثيرون آخرون شعروا أنه الأطول وهم يعدون الدقائق في عتمة الزنازين عندما لا يكونون مشغولين بعد ضربات الجلادين.

لقد فوت السوريون فرصة ثمينة للثورة في عام 2000 عند وفاة الدكتاتور السابق، لذلك لم يترددوا بعد 11 عاماً من النزول إلى الشوارع للمشاركة بثورة كانت كل العوامل المهيئة لاندلاعها متوفرة. وكانت انطلاقة هذه الثورة أسرع بكثير من سابقاتها بالرغم من القمع الشديد الممارس من النظام، وانتشرت الروح الثورية وسيطرت على الحياة اليومية للمواطن السوري الذي إن لم يكن يتحدث في السياسة كان يشاهد المحطات الفضائية ليتعرف على المعارضين السوريين وأفكارهم ويسمع منهم تعليقاتهم وتوجيهاتهم وأصبح يعرف أكثر عن وضع حقوق الإنسان إدارة الدولة ومفاهيم الديمقراطية والمواطنة والدولة في عرس للديمقراطية يذكرنا أيضاً بربيع دمشق الذي تأخر حتى اليوم بسبب عدم وجود ثقة شعبية بالقدرة على تغيير النظام في تلك الأيام.

 

سأحاول في هذه المقالة سرد بعض إنجازات الثورة ومقارنتها مع أهدافها والبحث عن أسباب النجاح والإخفاق أملاً بإيجاد الطريق نحو تحقيق كامل الأهداف.

ربما كان الانتصار الأول والأهم هو سقوط هيبة الدكتاتور وزوال الخوف من قلوب السوريين الذين انتقلوا من الخوف من مجرد ذكر اسم الدكتاتور إلى السخرية منه ولعن روح أبيه. وعلى الرغم من تعمد النظام إظهار بطشه ووحشيته مستخدماً الرصاص المتفجر لقتل المتظاهرين والتعذيب البهيمي في السجون استمرت الثورة وازداد عدد المشاركين فيها. يتبع ذلك انتقال الثورة إلى الجيش عن طريق عصيان الأوامر بإطلاق النار والذي ابتدأه المجند خالد المصري في 23 آذار، ثم فرار المجندين من خط المواجهة لمشاركة المدنيين في المواجهات ضد قوات الأمن وما تلاه من انشقاقات لجند وضباط مع سلاحهم ليشكلوا حركة الضباط الأحرار بقيادة المقدم الهرموش والجيش الحر بقيادة العقيد الأسعد.

زاد من أهمية ذلك انتقال الخوف إلى بيت النظام بعد أن فقد مسكنه الأول في قلوب الجماهير السورية. فقد ظهر الرعب في عيون بشار الأسد في كل كلماته ومقابلاته التي لم يجرؤ على توجيه أي منها إلى عموم الشعب، وكان واضحاً بشدة في صوت بثينة شعبان في مؤتمراتها ومقابلاتها الصحفية. بالإضافة إلى تهافت النظام إلى الإعلان عن إصلاحات، وإن كانت غير جدية كرفع حالة الطوارئ ومنح الجنيسة للأكراد المكتومين وزيادة الرواتب وتغيير الحكومة. تحمل هذه “الإصلاحات” اعتراف النظام ولو بشكل غير مباشر بالمشاكل التي كانت موجودة في سوريا ولطالما أنكرها كالفساد المستشري والفقر والمسألة الكردية ومشكلة الجفاف في المنطقة الشرقية بالإضافة إلى مشاكل التمييز ضد المسلمين في الدولة.

لا يقل أهمية عن ظهور المعدن الحقيقي للشعب السوري البطل ما أبداه لاحقاً من وعي ساعد في انتصاره على الفتنة؛ وأقصد بذلك الفتنة الطائفية التي حاول النظام بثها، وربما كان هذا أهم انتصارات الثورة التي أظهرت أحقية الشعب السوري بمطالب ثورته الي آمن بها بحق في الحرية والعدالة الاجتماعية. لقد حاول النظام مجتهداً جر المتظاهرين إلى حمل السلاح ضد الجيش لكن فشله في ذلك ساهم في حرمان النظام من وجود ما يدعيه من عصابات مسلحة يستطيع أن يواجهها، بالإضافة إلى أن هذا ساهم في دفع المزيد من المواطنين إلى المشاركة بهذه الثورة الشعبية.

نظراً لعدم سماح النظام لوسائل الإعلام بتغطية الأحداث في سوريا، كان لزاماً على المتظاهرين الذين يصنعون الحدث أن يوثقوه بالفيديو وينقلوه إلى وسائل الإعلام باعتماد كامل على الذات، ما زاد من ثقة الشعب بنفسه وإصراره على التحدي، وقد تحسن مستوى الإعلام الشعبي وتطور بشكل ملحوظ في سرعة ودقة نقل الأخبار وانتشار رقعة التغطية، كما تطور في أسلوب التوثيق عن طريق الكلام في الفيديو المصور أو تصوير لافتة توثق الحدث بالإضافة إلى تصوير معالم من المدينة لإثبات المكان، وهذا أدى أيضاً إلى ازدياد اهتمام السوريين بوسائل الإعلام الحديثة ومشاركتهم بكتابة التعليقات والتحليلات ما ساهم في رفع الوعي السياسي للمواطنين.

تبع ذلك ظهور فن خاص بالثورة، فقد ازدهرت الحركة الأدبية وازداد الإقبال على قراءة إنتاج الكتاب السوريين، خاصة عند دخول شباب جدد ساحة الكتابة وربما لم يعلموا من قبل أنهم يمتلكون هذه الملكة. كما ازدهرت الكتابة باللهجة العامية التي ربما يراها المحافظون تردياً للمستوى الثقافي إلا أنها برأيي تعبر عن تطور في اللغة وربما كانت جزءاً من الثورة الفكرية التي نعيشها. ترافق هذا طبعاً بازدهار الحركة الفنية غناءً وتمثيلاً ورسماً وحتى النكتة شهدت نهضة لا تقل عما شهده باقي أشكال الفن.

هذا الإعلام الشعبي القوي المدعوم بالفنون الثورية تسبب في انتشار الثورة عالمياً وكسب التضامن بل الإعجاب من قبل شعوب العالم كافة، وهذا يعود بشكل أساسي إلى استمرار سلمية الثورة كمنهج في مواجهة أشنع أشكال القمع والتنكيل. لقد انتصر إعلام الثورة بالرغم من التعتيم الذي مارسه النظام ومحاولاته التشويش عليه بنشر الإشاعات ثم فضحها على أساس أنها من فبركات ما يصفه دائماً بقنالات الفتنة المغرضة وقيامه هو بفبركة الفيديوهات ونسبها إلى الثورة.

لم يكن أمام النظام إلا الخضوع للضغوط الشعبية المتعاظمة، وإن كان رأسه في بداية الثورة قد وصف الاستجابة للضغط الشعبي بأنه مظهر ضعف، إلا أن قوة الحراك أجبرت النظام الذي تدعمه الكثير من دول العالم العربية والأجنبية على الركوع أمام نضال الشعب السوري. وأهم أشكال هذا الخضوع كانت أولاً الاعتراف بوجود المعارضة والحركة الاحتجاجية ثم الدعوة إلى الحوار معها وانتهاءً بتوقيع اتفاقية إرسال المراقبين الدوليين.

أخيراً، وربما يكون هذا من أهم انتصارات الثورة على النظام؛ استقلالية الخيار الثوري: حيث لم تتلق الثورة أي دعم من أنظمة الدول المهتمة بالشأن السوري. وعلى الرغم من أن هذا أشعر السوريين في كثير من الأوقات بالعزلة وبالتآمر من دول العالم، إلا أنه كان دافعاً نحو الثقة بالنفس والاعتماد على الذات في الوصول إلى الهدف المنشود.

 

تهدف الثورة بشكل عام إلى تحقيق الحرية الاجتماعية والسياسية، الكرامة الإنسانية والمواطنة، الديمقراطية والتعددية السياسية، والعدالة الاجتماعية، وسيادة القانون… وغيرها من أحلام أي إنسان يشعر بإنسانيته وحقه بالمواطنة في مكان عيشه. ربما كانت هذه الأهداف لتتحقق في بداية الثورة عن طريق الإصلاحات التي كان بإمكان النظام تنفيذها حيث كانت المطالب فعلاً لا تتجاوز إصلاح النظام، لكنه بعد تفويته الكثير من الفرص والمهل وإمعانه في القتل والإجرام لم يعد بالإمكان تطبيق هذه الأهداف إلا عن طريق إسقاط النظام بالكامل ومحاسبة رؤوسه، وذلك يتطلب مرور البلاد بفترة انتقالية يقودها أشخاص من خارج النظام. ويتطلب قدرة استثنائية على السيطرة على البلاد في تلك المرحلة التي ستشهد حتماً فلتاناً أمنياً وعمليات انتقامية وتصفية حسابات. فما هي المبادئ التي يجب أن يتمسك بها الثوار للحفاظ على مكاسب الثورة الحالية وضمان استقرار البلاد عند سقوط النظام وما هي الاستراتيجية الواجب اتباعها لإكمال المسيرة؟

 

يجب أن تنطلق رؤيتنا لمستقبل الثورة من إدراكنا لعوامل نجاحها واستمراريتها والأخطاء التي وقعت فيها فتسببت بتراجعها وكيف يحافظ النظام على بقائه إلى اليوم. عوامل النجاح التي وصلت بنا إلى ما نحن عليه اليوم كانت بشكل عام إصرار الشعب السوري على المضي قدماً في الثورة وإدراكه لخطورة التراجع عنها والتزام الثوار بسلمية الثورة وعدم وجود أي تدخل أجنبي ومشروعية المطالب وشمولها لكافة فئات وطبقات المجتمع من غير المستفيدين من النظام الفاسد.

لا شك أن الإصرار البطولي للشعب السوري أمر مستمر لا داعي للنقاش بشأنه، أما الالتزام بالسلمية فقد كان مهدداً في كثير من الأوقات بالخضوع لضغوط النظام السفاح وإن لم يتجاوز إلى الآن أحداثاً متفرقة كانت بأغلبها دفاعاً عن النفس، وعلى الرغم من أنه كان خياراً استراتيجياً للثورة ولا يزال الثوار يرددونه في المظاهرات في كل المناطق السورية إلا أن فقدان الأمل بنجاح الحراك السلمي بعد مرور قرابة العشرة أشهر على الثورة وعدم وضوح المكاسب التي حققها الحراك السلمي يرجح احتمال التحول نحو التسليح. لقد حصلت عدة حوادث عنف خاصة في المناطق الساخنة كحمص وقد شاب العديد منها جانب طائفي كان يمكن أن يعصف بالثورة كلها لولا تدارك القيادات الميدانية الواعية للوضع بسرعة. نعلم أن النظام يجتهد في إذكاء الفتنة الطائفية والتشجيع على العنف، ولم يتورع عن ممارسة هذه الجرائم ونسبها إلى الثوار ﻷسباب واضحة، وعليه فإن الوعي الشعبي لفائدة التسليح للنظام من جهة ولفائدة النضال السلمي للشعب من جهة أخرى بالإضافة إلى إدراك الشارع بأن انتصارات كبيرة قد تحققت في زمن قياسي بفضل هذا النضال سيشجع على الحفاظ على السلمية والتصدي لألاعيب النظام وهذا بشكل أساسي واجب الواقفين على المنابر الإعلامية من مديري صفحات الفيسبوك والسياسيين، وما أدل على خطورة السلمية على النظام ومنحبكجيته إلا أنهم يرددون عبارة “سقطت السلمية” كلما رأوا واحدة من إشاعات النظام أو من العنف الذي حصل أثناء الثورة فهم يرون فيها تفوقاُ أخلاقياً للثورة وعاملاً لقطاع واسع من الشعب.

 

يعتبر التدخل الخارجي الموضوع الأكثر تداولاً بين السوريين داخل وخارج سوريا يصل إلى حد تخوين مشجعي التدخل لرافضيه والرافضين لمشجعيه. كما أن هناك رأي وسط بين الطرفين يطالب بالحماية الدولية المتمثلة بإرسال مراقبين دوليين وصحافة عالمية مستقلة إلى سوريا، وهذا الرأي على الرغم من أنه الأكثر قبولاً في الشارع إلا أنه الأكثر رفضاً من طرف النظام؛ الذي يرى في عدم التدخل فرصة لارتكاب المجازر بحق الشعب كما يرى في التدخل فرصة لاكتساب شرعية فقدها في الداخل، بالإضافة إلى تحويل ساحة المواجهة إلى خارج سوريا، أي بين سوريا وآخرين بعد أن كانت شأنا داخلياً. لم تُخف دول العالم المعنية أنها لن تقوم بالتدخل العسكري في سوريا وأن على جامعة الدول العربية المبادرة لحل الأزمة بالإضافة إلى أن كلاً من روسيا والصين ترفضان بشكل واضح حتى إدانة النظام السوري في مجلس الأمن. لقد قامت الجامعة العربية فعلاً بعرض مبادرة كان تحقيق البندين الأولين منها (إطلاق سراح المعتقلين وسحب الجيش من المدن) كافياً لإسقاط النظام إلا أن الشارع السوري رفضها قبل أن يرفضها النظام وتعرضت الجامعة للهجوم من قبل المعارضين وصفحات الفيسبوك على الرغم من أن الجامعة عملياً لم تهتم لأي من الثورات العربية عدا السورية وقد اتخذت قرارات حاسمة فعلاً ﻷول مرة منذ زمن طويل. يعلق عزمي بشارة على هذا الموضوع بشكل موسع أكثر في آخر لقائين له العام الماضي على قناة الجزيرة ويرى أن رفض المبادرة العربية وطلب التدخل الأجنبي أخطاء تسببت بهدر دماء السوريين الذين ينتظرون من لن يأتي.

لقد تسبب التعويل على الخارج، سواءً كان سورياً أو عربياً أو إسلامياً أو عالمياً، باستنزاف الثورة وضياع الكثير من الوقت بانتظار العامل الخارجي الذي سيفقد الثورة بشكل أساسي خياراتها المستقلة ويعطي القرار للخارج الطامع بمكاسب في سوريا. بالإضافة إلى أنه عملياً يعني عدم الثقة بقدرة الشارع السوري على النجاح في الثورة.

أضيف إلى ذلك المطالب بتوحيد المعارضة والتي تعني ببساطة أن على رأي ما أن يسكت مقابل أن يسري الرأي الآخر، وهذا مخالف من حيث المبدأ للديمقراطية التي نطمح لها، والتي تخضع لاختبار حقيقي الآن، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تسبب بتشتيت العمل السياسي المعارض وضياع الجهود في أمر لا فائدة ترجى منه أصلاً، فلكل مجموعة من السياسيين منطلقاتهم الفكرية ورؤيتهم للحل في سوريا ولا يمكن أن تختزل كل وجهات النظر تلك بجسم واحد.

 

نصل إلى العامل الأهم في استمرار ونجاح الثورة: المطالب الثورية وشموليتها، والتي تتطور بحسب المستجدات الميدانية، فالثورة التي بدأت ثورة للكرامة تتحدى الظلم وتنادي بالحرية بدأت تبتعد عن هذه القيم الرفيعة إلى الاكتفاء بشتم رأس النظام ولعن روح الدكتاتور السابق والمطالبة بإعدام الرئيس. وهذا أمر نبهنا إليه إعلام النظام، فهم يعرفون علل الثورة ويشيرون إليها دائماً ويرون أوجه الخطأ التي يجب على الثورة أن تتفاداها. إضافة إلى ذلك ظهرت هتافات تشتم غير المشاركين بدءاً من “الي ما بيشارك ما فيه ناموس” إلى الأغاني التي تصف أهالي حلب بالاهتمام ببطونهم وعدم الاكتراث بما يجري في سوريا إضافة إلى عبارات طائفية تداولتها صفحات المنحبكجية بكثافة. تسميات الجمعة واحدة من العوامل التي حملت أثراً سلبياً كبيراً على الفكر الثوري والمطالب الثورية وكانت تمثل وجهة نظر واحدة في الحراك وسببت حالة  امتعاض في الشارع.  ومادة دسمة لإعلام النظام وفتوراً للروح الثورية.

 

لقد تشتت النضال الثوري والعمل السياسي في أهداف جانبية وصراعات داخلية تسببت بتراجع في انتشار الثورة لعدة أشهر ولم ينجح شيء في استعادة الثوار لثقتهم بأنفسهم إلا نجاح إضراب الكرامة ولو جزئياً ووصول بعثة المراقبين العرب إلى سوريا. وقد حان الوقت للجدية في العمل السياسي من طرف المعارضين وطرح حلول عملية لا تصل بنا إلى طريق مسدود، كما يجب على الثوار احترام الحلول المطروحة على الساحة وإعطائها الفرصة كي تنجح فالسياسيون المعارضون هم أيضاً سوريون ويتميزون بخبرة ودراية أكبر بكثير من الشباب الثائر.

الملحمة السورية والجسم السياسي المشوه

حسين غرير

حملت اللحظات الأولى من العام الجديد تناقضاً صارخاً بين ثورة ملحمية استقبل أهلها رأس السنة باحتفالات ورقص وألعاب نارية عمت شوارع سوريا لأول مرة، وبين معارضة تعلن اتفاقها فاختلافها فانقسامها فحفلات هجموم إعلامي خلال ساعات قليلة.لخصت مجمل حال الثورة السورية على المستويين الميداني والسياسي.

شيع الثوار شهداءهم الذين سقطوا في 31 كانون الأول، وقبيل منتصف الليل توافدوا إلى الساحات مزهوين بانتصارات العام السابق ومعاهدين سوريا وأنفسهم بمتابعة الطريق إلى نهايته مهما بلغت التضحيات من شهداء وجرحى ومعتقلين. احتفلوا بعام جديد حملوا له الأمل بغد جديد، بسوريا جديدة تقطع مع الاستبداد والفساد وانتهاك الكرامات إلى الأبد. استطاع هذا الشعب بثورته السلمية وتقديم القرابين واحدة تلو الأخرى أن يسمع صوته ويسقط الشرعية عن النظام محلياً وإقليمياً ودولياً رغم أن الجميع لا يعنيه الخلاص القريب لهذا الشعب، بل جل ما يهمهم هو نهاية تضمن مصالحهم هم فقط. أثبت السوريون ليلة رأس السنة أنهم ماضون في طريقهم لتحقيق أهدافهم في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية التي خرجوا من أجلها شاء من شاء وأبى من أبى. ومن المهم أن نذكر دائماً أن محاولات حرف الثورة عن أهدافها الرئيسية وسرقتها بدأت مع الأيام الأولى لانطلاقها، ابتداءً من النظام إلى كل الأطراف العربية والإقليمية والدولية. ربما لم يشهد التاريخ ثورة حاربت على كل الجبهات معاً دون أن تتراجع، بل وتصر على مواصلة النضال السلمي حتى إسقاط كل الأقنعة التي يتكشف منها الجديد كل يوم.

يمكن فهم تعدد وتنوع المعارك التي على الشعب أن يخوضها نتيجة خصوصية وضع الدولة السورية. فوجودها في قلب ما يسمى بالشرق الأوسط وفي قلب جميع الصراعات الإقليمية وتحديداً فيما يتعلق بإيران وإسرائيل والنفوذ التركي والسعودي والقطري، والتعدد الطائفي والقومي الواقع الذي يتجاوز حدود سوريا نحو العراق ولبنان وتركيا وإيران وحتى دول الخليج بنسبة ما، كل ذلك يصعب من مهمة الثورة في تحديد الأسلوب المناسب والأنجع للتعامل مع كل من هذه المحددات بالغة الحساسية وخاصة أنها ثورة شعبية لا قائد لها. وعليه يمكن فهم بعض المنزلقات (بالمعنى السياسي) التي يقع فيها الثوار كردود فعل عفوية نابعة من ثقافة شعبية تفتقر إلى القدر المناسب من الوعي السياسي نتيجة قيام النظام طيلة أربعة عقود بقتل كل ما يتعلق بالحياة السياسية والفعل المدني للمجتمع السوري وإعادته إلى حالته الأولية كمركبات أهلية تعتمد على العصبية (العائلية، المناطقية، الطائفية، العشائرية) في تفاعلاتها الداخلية والخارجية. لكن ما لايمكن قبوله أن تقوم المعارضة السورية نفسها بفتح جبهتين إضافيتين يطلب من الشعب السوري القتال عليهما أيضاً، ولا يمكن بعد مضي عشرة أشهر على بدء الثورة فهم ضعف المعارضة في الحقل السياسي الذي يفترض أن يكون في جوهر مهامها في هذه اللحظة الثورية- السياسية.

ارتكبت هيئة التنسيق الوطني خطأً قاتلاً برفضها تبني مطلب الشارع الرئيسي في إسقاط النظام الذي يشكل عقبة في تحقيق أهداف الثورة النهائية. استخدمت، وما زالت إلى الآن، الكثير من الألعاب اللفظية للالتفاف على هاتين الكلمتين البسيطتين، وكانت دائماً تعبر بشكل موارب عن رغبتها بحل سياسي يتأتى عن طريق الحوار، الأمر الذي فهمه الناس في الشارع على أنه تقديم فرص مجانية للنظام الذي لم يعر بالاً للمنطق السياسي بل كان يمعن كل باستخدام الحل الأمني ضد مطالب السوريين، فسقطت هيئة التنسيق أمام قطاع واسع جداً من الشارع الثائر.

ولد المجلس الوطني في لحظة شعر الناس فيها بانسداد كل أفق لانفراج قادم وخاصة بعدما صعد النظام من حملته الأمنية اعتباراً من شهر آب ووجد المتظاهرون أنفسهم وحيدين في مواجهة آلة القتل وليس بيدهم من أداة سوى التظاهر لإسقاط النظام. سوق للناس حينها أن هناك ضرورية ملحة لجسم سياسي للثورة. تزامن كل ذلك مع التركيز والترويج من قبل البعض على ضرورية التسلح وطلب التدخل الخارجي لحماية المدنيين. تم تشكيل المجلس متبنياً التدخل الخارجي (الحظر الجوي) والدعم المطلق للجيش الحر كبندين شبه وحيدين في برنامجه السياسي، مستغلاً بذلك لحظة الدم التي يطلب الناس بها الحل بأي طريق كان ولا يمكن لومهم على ذلك إطلاقاً. أراد المجلس من برنامجه المختصر هذا أن يقول للناس أنه يتبنى مطالبهم كما هي وبلغتهم هم تمهيداً لطرح نفسه كممثل شرعي ووحيد للشعب السوري، ورفعت اللافتات له في المظاهرات فعلاً. لا يعيب الناس التي تقتل وتعتقل وتدمر بيوتها كل يوم أن تطلب التدخل الخارجي سبيلاً للحماية، بل يعيب المجلس ألا يقرأ الواقع بشكل صحيح، أو عدم رغبته بذلك، ليترجم هذا المطلب المشروع تماماً إلى عمل سياسي ليس بالضرورة يؤدي إلى تدخل عسكري من أي نوع كان. يبدو أن المجلس زاود على حاجات الناس الطبيعية واستمر في إيهامهم أنه قادر على تحقيق مطلب الحظر الجوي لحمايتهم، وأنه قادر على دعم الجيش الحر لحمايتهم. تسويق الوهم هذا أدى فيما أدى إلى قناعة المتظاهرين أن الحل قادم على يد المجلس فخفت صوت النشطاء المدنيين الداعين بشكل أساسي للتمسك بالقدرات الذاتية وبلاعنفية الثورة كمخرج ممكن وعقلاني لحالة الاستعصاء تلك.

دخل كلاً من هيئة التنسيق والمجلس الوطنيين في صراع دائم على من يمثل نسبة أكبر من السوريين، ومن يمثل العقل السياسي الواعي لهذه الثورة الملحمية. اضطررنا لحضور الكثير حفلات التخوين والتشبيح الإعلامي من الطرفين على شاشات الفضائيات والقليل من الفعل السياسي الحقيقي. لا أجد نفسي أجني على كلا الطرفين إن قلت أنهما بعيدان كل البعد عن الناس ومطالبها، فالهيئة لا تؤمن بقدرة الثورة على الإنجاز فتسارع إلى الحصول على ما يقدمه النظام في كل لحظة من مكاسب ممكنة، والمجلس لا يرى أن للثورة قوة ذاتية هائلة استطاعت لوحدها وبمواجهة الجميع أن تحقق الكثير من التقدم، فأصر على استجداء التدخل الخارجي (لإنقاذ) الثورة. ولا يمكن أيضاً استبعاد احتمال الهرولة من كلا الطرفين للحصول على أكبر حصة ممكنة (وربما الحصة كلها) من سوريا المستقبل، فيحاول كل فريق جر البلاد والناس إلى الحقل الذي يجيد اللعب فيه.

كان موضوع التدخل الخارجي ودعم الجيش الحر، رفضاً أو قبولاً هو الطُعم الذي يريد كلاً منهما رميه للثوار لاكتساب الشرعية منهم. وخاضا نقاشات بيزنطية لا طائل من معظمها، وغاب عن بال الطرفين، وخاصة المجلس الوطني، أو تعمدا تجاهل دراسة إمكانية هذا التدخل أساساً، وهل الدول الغربية والإقليمية راغبة به؟ وهل هناك إمكانيات حقيقية لدعم الجيش الحر؟ إن محضر اللقاء بين الدكتور برهان غليون وهيلاري كلينتون يبين بما لا يدع مجالاً للشك أن مثل هذا التدخل غير وارد على أجنده كل الدول على الأقل في المدى المنظور. وفي المقلب الآخر يبدو أن من كتب اللافتة في كفرنبل التي تقول “ثورتنا ما زالت سلمية لعدم توفر السلاح” يملك قدرة على قراءة الحقائق تفوق بكثير ما يملكه الهيئة والمجلس مجتمعين.

خلاصة القول أن ما حدث ليلة رأس السنة من احتفالات تؤكد إصرار الثورة على الوصول إلى أهدافها مهما بلغ الثمن ومن انقسام ومهاترات بين المعارضين، وعودة أشكال المقاومة اللاعنفية إلى الساحة مجدداً من خلال أنشطة روزنامة الحرية وفعاليات إضراب الكرامة المتزامن مع الشعور باليأس من الحلول الجاهزة المقدمة من الخارج، كل ذلك يبرهن أن الثورة بخير وأنها تعود إلى مسارها الأجدى والأوفر كلفة والذي يعد بمستقبل مدني ديمقراطي لسوريا.

..

مدوّن سوري

http://ghrer.net/blog/

الإعلام الشعبي في سوريا

رزان غزاوي

حرص الإعلام الغربي على إبراز دور المدوّنين في كل من ثورتي تونس ومصر ووصف هؤلاء بمشعلي الثورات في كلا البلدين. غير أنّه لدى لقائي مع بعض المدونين المصريين والتونسيين في ملتقى التدوين العربي الثالث الذي احتضنته تونس منذ شهور, سارع بعضهم إلى الاختلاف مع هذه الفرضية، لا بل قلّلوا من شأن المدوّنين ودور مواقع التواصل الاجتماعي التي, وحسب الإعلام الغربي, هم من لعب الدور الجوهري في إسقاط المستبدين.

هناك جدل حقيقيّ دائر في تسمية هذا الدور الذي لعبه المدوّنين أو مواقع التواصل الاجتماعي في الثورات. فهناك “خبراء” يسارعون إلى مديح موقعي الفيسيوك وتويتر إلى حد أن ذهب بعضهم لوصف الثورات بـ”ثورات الفيسبوك,” ممّا أثار امتعاض العديد من الثوّار الذين يجابهون الرصاص بصدورهم العارية بالإضافة إلى خطر الاعتقال, بينما ذهب البعض الآخر إلى إلغاء أهمية هذا الدور نهائيّاً, بداعي أنّ الثورة التي تسقط نظاماً لا يمكن لها أن تسقطه افتراضياً.

رغم أنّني وبشكل شخصي أميل إلى إبراز من هم على الأرض من الثوّار الذين لايزالون يحتجون يوميّاً مخاطرين بحياتهم بشكل حقيقيّ, من يتعرضون للضرب والاعتقال التعسفي بظروفه القاسية -حيث نسمع مراراً في سوريا أخبار استشهاد معتقلين تحت التعذيب, أجد الحديث عن دور التواصل الاجتماعي والمدونين مضلّل في سياق ما يمر به شعوب بلدان ثائرة من قتل منهجيّ وحصار انسانيّ وصولاً الى سياسات الاختفاء القسري والاعتقال التعسفيّ.

لكن رغم ذلك, هناك من يسأل محقّاً, إن لم يكن لنشطاء الانترنت دوراً مهماً في الثورات, لم اذن يتم إيقاف خدمة الانترنت في المناطق الساخنة أو لحظة حدوث مظاهرة في سوريا؟ يجدر بنا أن نذكّر القارئ بأنّ معظم النشطاء في سوريا ومن يتم اعتقالهم أو اختطافهم, يتّهمون بـ”نشر أخبار كاذبة من شأنها أن توهن بنفسيّة الأمة,” وهذه التهمة تطال غالباً نشطاء الانترنت.

هناك حرب إعلاميّة في سوريا, الدولة تمتلك “الحقيقة,” ومن يقول الحقيقة هي وسائل إعلام الدولة, وكل من يعارض ويخالف هذه الحقيقة ينشر “أخباراً كاذبة من شأنها أن توهن نفسيّة الأمة.” أحاكم شخصيّاً حاليّاً بهذه التهمة الباطلة.

أيضاً, إن أردنا تقييم التدوين في سوريا ونشطاء الانترنت, علينا فعلاً الحديث عن الإعلام الشعبي, والذي أعتقد أنّه أبرز الانجازات التي حققتها الثورة السورية.

في ظلّ نظام منع تشكيل مؤسسات وجمعيّات المجتمع المدني ومحاصرة حريّات الصحافة وفرض الرقابة على الانترنت والنشاط الإلكتروني, وجد السوريّون أنفسهم أمام تحديّات كبيرة, كيف ننظّم أنفسنا ونخبر العالم بما يجري داخل سوريا, خصوصا بعد منع السلطات السورية للإعلام العربي والأجنبي من دخول الأراضي السورية. قام السوريون بعد انطلاق ثورتهم باختراع “التنسيقية,” وهي عبارة عن مجموعة من النشطاء الذين ينظمون المظاهرات وتصويرها وتحميلها وإرسال الأخبار وتسجيلات الفيديو إلى وسائل الإعلام. كما تشارك التنسيقيّة بإنشاء خطاب لرؤية ومسيرة الثورة, وتختلف التنسيقيّات على هذه,  فالبعض يعارض تدخل خارجي بشدة, والبعض يرى أنّه الخلاص رغم تحفّظاته الأخلاقيّة والسياسيّة على هذا الخيار. وتجد أغلب التنسيقيات تعزز في خطابها وبياناتها العمل السلميّ وتنادي بإضراب عام منعاً من الانزلاق إلى خطر الحرب الأهلية أو إلى عسكرة الثورة.

يتفق كثيرون على أنّ أهم منبر إخباري ثوريّ في سوريا اليوم هي “اللجان التنسيق المحليّة,” والتي تُعتبر مصدراً لدى العديد من وسائل الإعلام العالميّة بالإضافة إلى منظّمات حقوقيّة عربيّة ودوليّة. استطاعت اللجان رغم كونها إعلاماً شعبيّاً, رغم اعتمادها بشكل أساسيّ على مجموعة من النشطاء المتفانين في عملهم ليلاً نهاراً كي ينقلوا حقيقة ما يجري, أن تكوّن صوة عامة عمّا يجري في سوريا لدرجة اعتماد وكالات أنباء وجرائد عالميّة على أخبارها. وتسارع اللجان إلى تصحيح أخطاءها فوراً ما إذا ثبت عدم صحّة خبر من الأخبار, وتكمن أهميّة دور اللجان في خطابها السلمي والسياسي, حيث كانت من الأوائل الذين عارضوا التدخل الخارجي في سوريا.

لكن رغم هذه الانجازات, أجد أنّ هناك تقصيراً حادّاً في أنسنة الأخبار. الأخبار التي ينشرها الإعلام الشعبي في سوريا, سواء كان تدويناً أم تغريداً, أو عبر الفيسبوك من مجموعات أو تنسيقيات أو حتى شبكات أخباريّة كاللجان, جميعها تنشر أخباراً دون إدراج سياق هذا الخبر. أدرك صعوبة البحث عن السياق الانساني للخبر, لكنني أعتقد بوجوب لجنة خاصة تقوم بجمع المعلومات عن الشهداء والمعتقلين حول حياتهم وأفكارهم ونشاطاتهم وأصدقائهم بالإضافة إلى صورهم الشخصية. أنسنة أخبار الثورة برأيي هي ما تحتاجه الثورة إعلاميّاً وبالدرجة الأولى في ظلّ بقاء هوّية أصحاب هذه الشبكات الإخبارية غير معلن حماية لأمنهم وأمان عائلاتهم.

ختاماً, يطول الحديث عن دور الإعلام الشعبي في الثورة السوريّة, لكن ربّما من المهم أن نشير هنا إلى أنّ التدوين, لا محلّ له من الإعراب ممّا يحدث في سوريا, فمثلاً, لم يتم سؤالي أثناء فترة اعتقالي في الأمن السياسي عن مدونتي, لا بل لم يقم المحقق بفتح مدونتي, بل كانت أسئلته مركّزة على حسابي الشخصي على الفيسبوك وعلى بريدي الالكتروني.

لا تعلم الأجهزة الأمنيّة ما هو التدوين, لكنّها تعلم أنّ النشطاء يعتمدون على الفيسبوك في نشاطهم من أجل الثورة, ومن هنا, ربما يجدر على الإعلام العربي, والغربي بشكل خاص, أن يسلّط الضوء على هذا الإعلام الشعبي في كافة أشكاله, لا على مجموعة المدوّنين فحسب, فالانترنت عالم واسع وله من الإمكانيات ما يتجاوز تدوينة.

..

مدوّنة سورية

Accueil

لحظات ربيعية في حياة مغترب

ريتا السلاق

– أستيقظ صباحاً، أشغّل الحاسوب الخاص بي و أفتح الـ Google Reader لألقي نظرة سريعة على الأخبار، أحتفظ ببعض الأخبار على جنب، سأعود اليها لاحقاً. أحمل كتبي وأمضي.. أسمع أصوات المتظاهرين: “إذا الشعب يوماً أراد الحياة / فلا بد أن يستجيب القدر” .. أهتف معهم. أكاد أن أعطي جندياً تونسياً وردة  إلا أنني أنتبه إلى أن الشارع فارغ وهادئ .. و مملّ أيضاً. لا متظاهرين، لا هتاف، لا جندي تونسي، ولا حتى وردة. هكذا هي الحياة على الطرف الآخر من الكرة الارضية، أذكّر نفسي.

– أنا في المكتب الآن. خلف الحاسوب أبحث عن عروض سفر جديدة  أُلوّث بها صناديق بريد الزبائن وأحارب رغبة شديدة في سرقة بضع دقائق أُحدِّث بها معلوماتي. فبعد عقود من الصمت لم يصدّق الشعب أنه تحرك.. و كما لو أنه يؤكد لنفسه الفكرة، قرر ألا يهدأ ابداً. فكما قال فيكتور هوجو “لا شيء أروع من انتفاضة شعبية. فكل شيء يحدث في كل مكان في آن واحد”.. فكل ثانية تحتوي خبراً جديداً، و في كل دقيقة ثورة جديدة، و كل ساعة  هي احتمال سقوط طاغية آخر..

– كيف لي ان أساعدك؟

– هل لديكم عروض سفر إلى فيغاس؟

– نعم بالطبع .. هل لديك فكرة محددة  عمّا تودّين زيارته هناك؟

– لا أعتقد ذلك ..

– تفضلي.. هذا كتيّب فيه العروض الخاصة بفيغاس.. هل تودّين أن تلقي عليه نظرة بنفسك أولاً، أم تفضلين أن نناقش العروض كلاً على حدة الآن؟

– سألقي نظرة أولاً.

أبتسم للزبونة ابتسامة تشجيع.

تُقلّب الشابة العشرينية كتيّب العروض  مقابلي وأنتظرها.  فيغاس … مدينة ملاهي الراشدين العملاقة.. و الباهظة الثمن. أتذكر منظر الرجل الخمسيني المشرد الذي يقطن في شوارع حيّنا.. أفكر بفتاة عشرينية أخرى لا أعرفها ولا أعرف ملامح وجهها تحتل ميدان التحرير الآن مع رجل خمسيني مشرّد آخر لا أعرفه ولا أعرف ملامح وجهه.. وأنتظر.

– أعود الى المنزل مساءً. عليّ كتابة ثلاثة مقالات مختلفة، و قراءة كتاب، والتحضير لامتحان، و رسم بوستر للمكتب. أنثر أوراقي على الأرض، أغلق باب غرفتي وأجلس خلفه.. إنه المكان الأبعد عن الحاسوب وأنا أحاول التركيز على دراستي و عملي الآن، أقنع نفسي بأن الدنيا لن تُدمّر ولن تتوقف عجلة التغيير إن أنا لم ألقِ بنظرة على الأخبار؛ أنهمك في دراستي و أقرا:

“وينستون سميث”

اسم تقليدي و ممل جداً. أعرف أن جورج أورويل انتقى هذا الاسم عمداً.  فمن المؤكد أنه لم ينقصه الخيال ليأت باسم أكثر جاذبية… ولكن ما الحاجة إلى اسم أكثر جاذبية؟ فوينستون سميث نفسه كان رجلاً كسائر الناس. لا شيء يميزه عن غيره سوى ثورته. و يبدأ عقلي بالهروب شرقاً مجدداً..

فـ”وينستون سميث” خاصّتنا لا يُعدّون.. حمداً للربيع.

و فجأة أنتبه إلى مشكلة: أنا لا أعرف أسماء السواد الأعظم من “وينستون سميث” عندنا!! ولا أعرف حتى قصصهم، ولكلٍّ قصّته، أليس كذلك؟

ما الذي دفع بهم إلى الشوارع؟ هل هي قصة حب مجنونة تقع تحت رحمة سجن سياسي؟ أم مسؤول جشع لا يمكن ردع فاه،حتى بالاسمنت المصفح؟ أم انها بطالة أُحدثت لمصادفة وجود النقود في جيوب الآخرين؟ أم أنه جميع ما سبق؟ أم شيء آخر .. كالتعاطف الإنساني مع المظلوم والغضب من كل ما سبق مثلاً؟

ولكنني أنتبه فجأة إلى مشكلة أكثر إلحاحاً.. كيف سأحفظ أسمائهم وقصصهم في الوقت الذي أعاني فيه من الكمية الكبيرة من المعلومات المخزّنة في رأسي الآن؟

“لكني أستطيع التعايش مع هذه المشكلة، فليكن عدد الثوار أكبر ولن أدقق في وجوههم وأسمائهم وسِيَرِهِم كثيراً.. فكلّنا متشابهون” أقول لنفسي بصوت منخفض وأعود لعملي من جديد.

– أكتشف أنّي جائعة فجأة وأتذكر أنني لم آكل شيئاً منذ الصباح، أركض بسرعة إلى المطبخ وأبحث عن شيءٍ يؤكل، أجد خبزاً وجبناً،  أغلي الماء لصنع الشاي و أباشر في التهام الطعام بسرعة.. فما زال لدي مقالة قصيرة وبوستر للمكتب وأريد أن انهيهم بسرعة كي أتفرغ لشيء آخر.. كالنوم مثلاً.

رأسي بدأ يؤلمني وأخيراً، كنت قد استغربت أنه لم يصل إلى هذه المرحلة بعد، حيث أن حفلة الألم تبدأ أبكر من هذا الوقت عادة. أشكر الله سراً على خلوّ المنزل من الكائنات الحيّة الأخرى اليوم، نعم.. ربّما لهذا لم يؤلمني رأسي إلى الآن.

ليلة أمس مثلاً، كنت قد دخلت في الحالة باكراً، فملّحت الشاي بدلاً من تحليته، أهذه هي وصفة القذافي في كتابة الخطابات: “على قعدة وجع راس”؟

– أهمّ بالعودة إلى مقالتي الأخيرة.

المواطنة وأهميتها، نعم.

ألعن حظي سراً،  يجب على هذه المقالة أن تكون أقصر من سابقتيها، طبيعي (أُفكر).. حيث أنني أجيد التحدث عن موضوع المواطنة، أستطيع بسهولة، مثلاً، أن أقنعك بأنه إذا كانت الحكومة تنتهك حقوقك، فأنت شخصياً تشاركها بذلك.  وقد أهطل عليك بالأمثلة إلى أن تقتنع بوجهة نظري؛ أي عربيٍّ يستطيع فعل ذلك بسهولة.

أتذكر قول عبد الرحمن منيف في روايته “الآن.. هنا”:  “لا أريد أن أستعمل كلمات كبيرة أو خاطئة، ولكن قناعاتي أننا نحن الذين خلقنا الجلادين، ونحن الذين سمحنا باستمرار السجون. لقد فعلنا ذلك من خلال تساهلنا و تنازلنا عن حقوقنا، ومن خلال استسلامنا لمجموعة من الأوهام والأصنام، ثم لمّا أصبحنا الضحايا لم نعد نعرف كيف نتعامل مع هذه الحالة”.

سأترجمها للإنكليزية وأستشهد بها في مقالي أيضاً،  أدب عربي، نعم نعم.. سيعجبهم ذلك، فربيعنا يروق لهم وبالتالي أدبنا وفنّنا أصبحا أكثر إثارة.. طبعاً ربيعنا يروق لِمن يهتم بالأخبار العالمية، وهؤلاء نفسهم قلّة قليلة.. ولكن الأساتذة عادة يندرجون في خانة هذه القلّة.. لذا أنا بخير.

– أعود الى مكاني، أغلق باب الغرفة وأجلس خلفه، أنظر لا شعورياً إلى ناحية الحاسوب وأغلق عيناي حالاً.

سأشغل الحاسوب حال انتهائي من الكتابة.. لذلك عليّ أن أنتهي سريعاً.

– أشغل الحاسوب، دقات قلبي تتسارع.

هل من طاغيةٍ جديد هارب؟ هل من معتقلين؟ هل من إضرابات.. عن الطعام ربما؟ كيف هم أصدقائي؟ والأهم من هذا كلّه: هل من شهداء؟

أفتح الموقع الإخباري وأتأمل الخارطة الملونة.. أعد مواقع الثورات على أصابعي وأبتسم..

“أنا من جيل الثورة” أقول .

لطالما سمعت شباباً يتمنون الإنتماء إلى الجيل الذي شبّ في ثمانينات القرن الماضي، أنا لم أكن منهم يوماً.

أولاً: لأن المصدر الوحيد الذي يؤمّن معلوماتٍ كافية لمقارنة وضع الشباب حينها بوضعهم اليوم هي قصص نوستالجيا  الجيل السابق (وهذه تنطوي على الكثير من الانحياز والعاطفية. لذلك لا تصلح).

ثانياً: لأنني من مؤيدي محمود درويش حين قال “يا بلادي ما تمنيت عصور الجاهلية / فغدي أجمل من يومي ومن أمسي”

و لم أكن مخطئة. أليس كذلك؟

– عليّ إنهاء البوستر سريعاً للخلود إلى النوم، فقد أوغلت في الليل الآن وبقي لدي ساعات معدودة قبل أن أستيقظ مجدداً.

أفرد الورق المقوى على الأرض. أحضر ألواني وريش التلوين، والأقلام.. أرسم الخطوط العريضة للبوستر.. فبوسترات مكتبنا صناعة يدوية دائماً. نظراً لأن دخل المكتب محدود.

أنهيت رسم الكرة الأرضية في زاوية من الزوايا.. هنا طائرة، وهناك اسم المكتب، وتحته الشعار: “عالمكم هو عالمنا” .. لم أفهم الشعار يوماً ولكن هذا لايهمّني الآن.

لنبدأ بالتلوين.

أعلم جيداً أني بعد دقائق قليلة سأكون أنا والأرضية والورق قد تلونّا بلونٍ واحد. ولكن هذا لا يهمني الآن أيضاً، فأنا ألوّن خطوط الطول والعرض على الكرة الارضية. ألوّن بنهم.. بجنون.. ومع كل خط طول أسقط ديكتاتوراً.. ومع كل خط عرض أسقط معارضاً ساقطاً يحاول تسلّق ثورة الشعب.

– ألملم العدّة سريعاً وأنظف المكان، أغتسل وأبدل ثيابي وأذهب إلى السرير؛ أحتضن وسادتي وأفكر: “سوريا”.

أستغرب من قدرتي على التفكير في السرير بعد هذا اليوم الحافل.

أقرّب وسادتي مني أكثر.. فسوريا بمن فيها في القلب منذ الأزل.

و أغفو..

مدوّنة فلسطينيّة

http://rita1313.blogspot.com

بين َ الساعة الثانية عشر و ساعة الصفر

شيرين الحايك

زين العابدين بن علي في السعودية ، حسني مبارك في السجن ، القذافي جثّة تحت الثرى ، علي عبد الله صالح ، اخر الساقطين ، سيتحسس ُ بقيّة عمره آثار الطغيان عندما يواجه الثورة على وجهه ، هكذا أعلنت 2011 نهايتها ، يردد ُ كـُثر ” من كان يتوقع كلّ هذا في عام ٍ بدأته ُ البلدان العربية و شعوبها بشكل ٍ إعتياديّ و احتفالات ٍ اعتياديّة السطحيّ منها و العميق بسنة ٍ جديدة ٍ ليس َ إلّا ” و فعلا ً ، من كان يتوقع ؟

مرت منذ ُ أيام ٍ الذكرى السنوية الأولى لإحراق البوعزيزي نفسه ُ ، يراودني شيء من الرومنسية عندما أتحدث ُ عن الأمر أمام أحد الأجانب . الرومنسية التي تؤكد أن الواقع أكثر خيالا ً من الخيال نفسه ، رومنسية الثورات ، ربما .  شخص يحرق نفسه احتجاجا ً على مصادرة عربة الخضار التي كانت دخله الوحيد بسبب حالة البطالة التي تعاني منها البلد و طريقة المعاملة التي تلقاها في محاولة استعادة عربته . شرطيّة تصفعه ُ فيحرق نفسه ُ عندما تتساوى الحياة و الموت بين يديه ، يحرق نفسه ُ و يمضي غير آبه ٍ بالموت معلنا ً التحدي قائلا ً كلمته ُ و صافعا ً الشعوب كافة ً على وجهها قائلا ً بفعلته هذه أنّ مصير أيّ واحد منكم لن يختلف عن مصيري و أنني أكبر كرامة ً و جوعا ً من أن أكون شريكا ً في هذه الحياة .

أفكر ُ أحيانا ً ، هل يمكن أعتبار البوعزيزي ضحيّة الشعوب نفسها قبل َ أن يكون ضحيّة الأنظمة الفاسدة ؟ لا أعرف وهو على أغلب الظن ليس َ كذلك تماما ً . يموت ُ في كلّ يوم ٍ العشرات والعشرات من البوعزيزيين الذين يخرجون من بيوتهم صباحا ً حاملين معهم من الموت كحِملهم من الحياة ، يواجهون من الوحشيّة و الظلم و الطغيان ما يحرق كلّ شيء فيهم و يعيدهم إلى أهلهم  وأصدقائهم جثّثا ً تشبه شكلا ً ما عرفوه و لا تعرف ُ من يشبهها .  “يخرجون إلى حتفهم باسمين “ في تأكيد على تساوي كلّ شيء ، الفرح و الموت، و الموت و الحزن ..

البوعزيزي احترق َ و أعلن بإحتراقه اشعال الفتيل الذي بدأ بإحراق الأنظمة الفاسدة واحد تلو الآخر طوال عام ٍ من أكثر الأعوام التي تعتبر أنها مغيّرة للتاريخ عربيا ً أو حتى عالميا ً ، بشكل ٍ مباشر أو غير مباشر .

بقي على الساحة العربية حاليا ً كلَ من الثورة السورية و البحرينية اللتان  تنتظران اسقاط الأنظمه فيهما  قبل َ أن تبداأ رحلة الإصلاح الأكبر . البحرين التي أعتبر، بشكل ٍ شخصي ّ، أنها الأصعب و الأطول مشوارا ً لأسباب يطول شرحها – أهمّها الإهمال الإعلامي و التكاتف الملكي – الخليجي ضدها – . أمّا الثور السورية فهنا تبدأ قصّة مملكة الصمت التي نطقت كالموت الذي يحيا .

أذكر ُ جيّدا ً أنه ُ عندما بدأت الإحتجاجات في تونس ، انتشرت عبارة على الشبكات الإجتماعيّة قالت “ أنا سوري ، أنا تونسي “ عندها كان الحلم أصغر ، و لكن مع ذلك أذكر محاولة بعض الأصدقاء و النشطاء في القيام بالتحدي الأوّل و تنظيم وقفات تضامنيّة مع الشعب التونسي و من ثمّ المصري و أخيرا ً الليبي في دمشق . في الوقفة التضامنيّة مع الشعب الليبي ، الذي كان واضحا ً أكثر من كلّ شيء فيها ، هو مستوى التحدي و الشعارات التي كانت ببساطه تتبع مبدأ “ الحكي إلك يا كنّة اسمعي يا جارة “ ، هناك َ صدح ً شعار “ خاين اللي بيقتل شعبه “ ، إلّا أن المفارقة الحقيقية و النقطه التي عرفت ُ عندها أنّ لا عودة فعلا ً و أن سوريا و الشعب السوري على طريق الحريّة و أنهم يتحسسون نبض بعضهم البعض كجريح ٍ يتأكد ُ بأنّ صديقه ُ مازال يتنفس كي يتابع مجاهدا ً محاولة الحياة . ثمّ كانت حادثة الحريقة في 17 شباط عندما تجمّعت الناس في سوق الحريقة و هتفت جمعاء : “ الشعب السوري ما بينذل ! “  ردا ً على اهانة لمواطن ٍ سوري من قبل شرطيّ ، أذكر ُ جيّدا ً أنه عندما حضر وزير الداخلية وبدأ بعض الخوف يدغدغ ُ بعض القلوب فبدأت تهتف بشعارات ٍ تحية للأسد ، لم يكن هناك ردّ فعلي ّ من الجموع ، كانت أصوات وحيدة ليس إلّا .. في هذه اللحظه تماماً ، تأكدت ُ من أنّ لقب مملكة الصمت في سوريا قد انتهى .

تتابعت الأحداث و ها نحن ُ اليوم نحتفل ُ برأس السنة الجديدة بمزيد من الشهداء و مزيد من الخلاف بين صفوف المعارضة السورية ، التي و برأي الشخصي َ ، خذلت الشارع مرارا ً ، و قد يصح القول أنها خذلت الشارع بقدر ما كان النظام يتمنى منها أن تفعل. المعارضة السورية هي إبنة الوضع الذي فرضه النظام في سوريا على مدى ما يقارب النصف قرن ، ليس أنها من رجالاته ، بل أنها لم تعرف طريقا ً للقيادة إلّا طريقة النظام و لم تعرف طريقا ً للتواصل فيما بينها إلّا بما اعتادت عليه السياسة السورية في ظلّ النظام. هكذا كبرت و هكذا ناضلت ، ربما أنها لم تتوقع يوما ً أنها ستصل إلى يوم ٍ كاليوم و أنه سيتعلق على عاتقها مسؤوليات كهذه . تذكرني المعارضة أحيانا ً بالأطفال الذين َ ينقدون تصرفات أهلهم معهم على مدى أعوام ٍ و هم يكبرون ، ثم ّ و عندما يصبحون هم نفسهم آباء يمارسون نفس العادات على أبنائهم ، ببساطة لأنهم لا يعرفون طريقة أخرى و لم يتعودوا على طريقة اخرى . المحزن في الموضوع ليس َ أنها كذلك و حسب ، بل أنها لا تحاول غير ذلك ، لا تثور على نفسها و القواعد و الأسس التي وضعها نظام فاسد و سار عليها على مدى أعوام و جرّنا جميعا ً للسير معه على قوانينه . أنا اليوم لا أجد ُ فارقا ً حقيقيا ً بين المعارضة السورية و النظام ، كمؤسسات و منظمات و تجمعات سياسية ، ربما أكون ُ قاسية ً بعض الشيء بحقّ المعارضة ( و في كل مرة اقول المعارضة اعني فيها المعارضة كجماعات و ليس كأفراد إذ أن الحديث سيختلف عند التطرق للأشخاص ) و لكن كمواطنة سورية أمتلك بعض المخاوف التي خلفتها طرق المعارضة في معالجة الأوضاع و حماية الشعب قبل حماية مصالحها  و هذا جمّ ما أخشاه عندما أراقب الخلافات الداخلية بين أفراد المعارضة ، أن لا تثور المعارضة على نفسها و ألّا تتغيير و أن يضطر الشارع السوري لأن يثور مجددا ً على المعارضة  كما ثار على النظام قبل أن يضع أولى خطواته في الطريق نحو البلد التي يحلم بها آلاف و ملايين من السوريين .

لا أخفي أننا و إذ ندخل ُ في عام ٍ جديد ٍ تزداد مخاوفي حول توجه الثورة في سوريا ، مازالت ثقتي في الشعب الذي أثبت مرارا ً أنه ُ أكثر وعيا ً من أيّ سياسيّ ، معارض أو موال ٍ يجلس ُ على كرسيّ ليطلق َ الكلام و الأفكار ، مازالت ثقتي بهذا الشعب الرائع عالية جدّا ً ، لكن مخاوفي هي في أن  يُقاد هذا الشعب في طريق ٍ يضطر فيه العودة لاحقا ً ، أن يجد نفسه كالغريق الذي يترك ُ وحيدا ً في عرض البحر ساعات و أيّام حتى يصبح الحوت الذي قد يأكله ُ بعد أن يصل به إلى الشاطئ ، صديقا ً و منقذا ً . فالشعب في سوريا عاش َ أعواما ً دون أيّ وعي ّ سياسي و سيكون من السهل خداعه ُ سياسيا ً مرارا ً قبل َ أن يتمكن من أن يكتشف سياسييه الجدد ، لكنني متفائلة !

 ثورة السورية بدأت بأروع ما يمكن لثورة أن تبدأ ، سواء باعتصام أهالي المعتقلين في دمشق في 14 آذار ، أو في جرأه شباب الحميدية في دمشق في 15 آذار ، و تباعا ً لدرعا و حمص و اللاذقية التي تغلبت على ما حاول النظام أن يزرع فيها من طائفيّة مرورا ً بكل شارع و حيّ و منزل ثار في سوريا . أعود إلى بعض الفيديوهات و أشعر ُ بالفخر الذي أخشى أننا نبتعد ُ عنه ُ أحيانا ً ،  بشكل ٍ خاص عندما بدأت الثورة تتخلى بشكل ٍ جزئيّ عن سلميتها ، و التي دفعها النظام ( و المعارضة ) و بعض اخر من الصامتين عن الموت ، إليها . أنا و إذ أفهم من ينادي بحمل السلاح للتخلص من الوضع الحالي الذي يعيشه ُ من تهديد بالقتل الشخصي أو القتل و الاعتداء و التشويه و التعذيب لأحبابه بشكل ٍ دائم ، إلّا أنني مازلت ُ أجد ُ في النضال السلمي طريقا ً أكثر أمانا ً و إن كان يسألني البعض عندما أقول ذلك إن كان النضال السلمي مازال َ معقولا ً بعد أن أثبت النظام أنه ُ على استعداد لقتل أيّ شيء و التضحية بكلّ شيء في سبيل بقائه و لا أعرف الإجابة الكاملة و المنطقية على ذلك تماما ً.

هناك الكثير للكتابة عنه ُ و لكن كي لا أطيل الحديث أكثر علي ّ أن أقول أنني و إذ تدقّ الساعة الثانية عشر معلنة ً نهاية عام ٍ فاق ً في أحداثه توقعات أكبر المنجمين في العالم ، أحتفظ ُ بتفاؤولي و بأنّ المفاجآت قد تحصل بين ليلة ٍ و ضحاها  قد تقلب كلّ النظريات التي يضعها أيّ و كلّ منّا . الكثير من الدول و الأشخاص و المعارضين و المثقفين و أشهر من كان يتوقع منهم أن يكونوا أوّل قادة لأي حراك في سوريا خذلوا الشارع السوري و لكن الشارع أبقى و أكثر قدرة على المفاجآت من أيّ شيء آخر . لذا أختم بعبارة يسقط كلّ شيء و تحيا الشعوب وحدها فهي ، و فقط هي من تكتب التاريخ !

..

مدوّنة سوريّة

www.freesham.com

سلمية.. سلمية

طارق شام

عام مرّ..2011 لم يكن أحد يعتقد منّا أنّ شرارة أشعلت  في جسد تونسي أطلقها بمرارة وجسارة وحرارة أنّها ستلهب المشرق من تونس انطلقت البشارة لتحط في مصر العروبة لتزلزل عرش الطغيان فليبيا فاليمن البحرين وسوريا…

كانت النتائج مذهلة وتكاد تكون مثالية في سلميتها في تونس ومصر رغم محاولة الحاكم بأمره حرفها عن ذلك المسار الحضاري ولعل ذلك يعود إلى وقوف الجيش كمؤسسة-وليس بالضرورة كقيادات- وطنية إلى جانب الشعوب، أما في ليبيا فبسبب الطبيعة الفريدة لـ”جماهيرية القذافي” لم يكن هناك من مؤسسات إلا مؤسسة “الأخ القائد” مما دفع الثوار إلى السلاح كحل لمن لم يترك لهم مكانا للسلميّة، وفي اليمن فمازال الشعب اليمني يعاني من _رغم انتصاره مرحليا_ على النظام اليمني الذي خرج بأقل الخسائر لازال يعاني من قيادات معارضة سياسية مترهلة تدعي حكمة الشيوخ للانقضاض على ثورة الشباب… لكن  المفاجأة كانت بمشاركة المرأة اليمنية الفاعلة والحقيقية أظهرت المرأة اليمنية بصورة رائعة

أما البحرين تلك الثورة المظلومة فإنّ الظلم وقع عليها من قبل عدة أطراف فمن ممالك مستبدة مجاورة لا يروق لها وجود نظام حر ونزيه في الجوار إلى الغرب الذي يهمه استقرار البحرين كجزء من أمن منظومة الخليج النفطية ولهذا لم نرَ المتحدثين باسم الولايات المتحدة “يلعلعون” لسقوط الضحايا  كما فعلوا في أماكن أخرى هناك أيضا إيران وحليفها حزب الله اللذين لعب موقفهما في إعطاء الأمر بعدا طائفيا مما خلق انطباعا عاما بأن في البحرين أحداث طائفية أكثر منها ثورة شعب وربما هذا ما أعطى دول الخليج المبرر كي تدخل درع الجزيرة إلى البحرين لحماية النظام حتى التعاطف الشعبي معها للأسف لم يكن كبيرا كونه أعطي بعدا طائفيا .

أمّا سورية فما أن انتصرت الثورة المصرية حتى ساد شعور عام بأنّ لها اسم في القادم من الثورات وتجسد ذلك التململ في حادثة “الحريقة” والتي وان كانت صغيرة لكنها كانت الدخان الذي يدل على غليان براكين في النفوس لم ينتبه ولم يستغل النظام هذه الفترة بل إنّي أجزم أنّ كلام الأسد لصحيفة “الوول ستريت جورنال “في شباط بأنه لم يعد أحدا بالتغيير كانت بمثابة الشرارة الحقيقية للثورة التي أصبحت اليوم رقما صعبا يصعب تجاوزه خاصة بعد اعتماده وتغوله في الحل الأمني وفساده وهناك أمر أهم من كل هذا هو تعمد إهانة الكرامة للمواطن السوري إذلال غريب  عجيب تصرفات غبية وغير خاضعة سوى لمنطق مريض يعتقد أنّه ورث الشعب مع البلد

إنّ الثورة السورية تمر بعدة أزمات لا تؤثر على استمرارها ولكن يجب أن تحل

 وأولها موضوع سلمية الثورة ووحدتها الوطنية نعم يجب أن نقتنع بذلك أننا قادرون رغم حجم الخسائر لكن النتائج ستكون مضمونة  أكثر فالناتو لن يجلب لنا الديمقراطية على طبق من ذهب ، فنكون كمن استبدل صدام بالمالكي!!

الموضوع الثاني هو موضوع الأقليات وتخوفها من الإسلاميين والنظام دائما روج نفسه لدى الأقليات على أنه حاميها من مد الأخوان المسلمين والمتطرفين ..بقدر كذب النظام بأنه حامٍ للأقليات بقدر ما يوجد تخوف حقيقي من قبل هذه الأقليات تجاه أي قوى إسلامية والحقيقة أنّ هذه الأقليات بحاجة إلى تطمينات خاصة أن سلوك قوى الإسلام السياسي الراديكالي بعدة بلدان بالمنطقة يوجب من القوى الإسلامية تبني خطاب واضح من مسألة مدنية الدولة وحقوق الإنسان وحقوق المرأة يجب ترسيخ أنّ المؤسسات هي التي تحكم البلد وليس الأشخاص أو الانتماءات وهنا لابد من ذكر كلمة للراحل سلطان الأطرش قائد الثورة السورية ضد المحتل عندما عرض عليه البعض مسألة تولي فارس الخوري(المسيحي) رئاسة الحكومة فسأل الأطرش قائلا هل سيحكم فارس بك بالدستور أم بالإنجيل مادام سيحكم بالدستور فما المشكلة .

وهناك أمر وحدة المعارضة ليس من الطبيعي أن تكون متحدة لكن هناك بضعة نقاط أساسية يجب أن تكون محل إجماع كمسألة وحدة البلاد وحقوق الإنسان ورفض العمل العسكري الأجنبي المسلح إنّ رفض بعض الأطراف لهذه المسلمات يعني أن هناك نوايا سيئة تجاه البلد لخطف الثورة فالشارع السوري عانى من ضمن ما عانى من عدم وجود وعي سياسي نتيجة ظروف الطغيان أمّا اليوم فيجب أن يكون الشارع وحده من يقرر من يستحق التمثيل ولا يجوز لأحد كائنا من كان اسمه أو تاريخه أو نضاله أن ينصب نفسه وصيا على الشعب ويتخذ القرارات نيابة عنه.

لقد مضى عام 2011 بآمال وآلام وطموحات ونجاحات وإخفاقات لكنه كان عما استثنائيا أسس لمرحلة جديدة من تاريخ الشرق الأوسط وربما العالم أجمع والآن عملية المخاض لهذا لازالت مستمرة  أبوه بائع خضار من تونس وأمه أمة كاملة عسى أن يكون مولد الحرية قريبا بالمختصر: عاشت كل الشعوب ويسقط كل الطغاة.

..

مدوّن سوري

http://tareqsham.wordpress.com

الثورات العربية وإعادة الشان العام لمجاله الشعبي

عبد السلام اسماعيل

مضى العام مسرعا بخفة رغم أيامه المثقلة بالأحداث العظيمة والجسيمة، والمشبعة بدماء الشهداء وآهات الأمهات والهادرة بهتافات الثوار، التي أعلنت عن معجزة الشعب الذي يعود للحياة للمرة الأولى في تاريخه!

ولا تحمل العبارة السابقة في طياتها على أية مبالغة، فاستثنائية العام المنصرم تأتي من أمور عديدة، يأتي على أولها عودة الشعوب العربية الغائبة والمغيبة عن ساحة الشأن العام منذ فجر التاريخ. فشعوب الشرق عامة والشعب العربي خاصة عُرف بدلالة مصطلح “الرعية” الرائج في أدبيات التراث. حيث ينطوي المصطلح على سلبية واتكالية هذا الجمع البشري وحاجته الدئمة إلى راع يقوده إلى صالح عام يرتأيه. ويرسخ في تاريخ ثقافتنا أن الحاكم هو ابن الله فرعون مثلا، وفي أحيان أخرى ثلثه إله كجلجامش في الميثولوجيا البابلية، أو مفوض بالحكم بتفويض إلهي كسسلسة الخلفاء الذين تعاقبوا علينا بدءا من الحكم الأموي، ولعل الألقاب التي حملها خلفاء بني العباس تعبر تماما عن الفكرة، ويكاد يكون الخليفة الراشدي عثمان بن عفان رضي الله عنه –على حد علمي- هو أول من وصف السلطة كهبة إلهية حينما رد على من طالبه بالتنحي: ما كنت لأخلع سربالا سربلنيه الله.

فالمسألة لا علاقة لها بالتقوى والإيمان، إنما نابعة من ثقافتنا الراسخة والممتدة امتداد تاريخنا المدني عن مفهوم السلطة وعلاقتها بالشعب. أرجو ان تكون هذه الفكرة واضحة في أذهان التيارات الإسلامية المتأهبة لولوج المعترك السياسي. ورغم التطور الحضاري الكبير الذي حققه الإنسان، وانتشار المفاهيم الحديثة عن فصل السلطات والشرعية والدولة المدنية واعتبار الشعب مصدرا للشرعية ومحلا لتفويض الحاكم بالسلطة، ورغم امتلاء دساتيرنا بهذه الرطانة، بقي الحاكم هو القائد الملهم، والضرورة، وغالبا ما يوصف بالأب القائد أو الأخ القائد. وبقي الشعب أيضا بعيدا كل البعد عن الشأن العام، يستثنى من ذلك فترات التحرر من الإستعمار، حيث لم يكن القائد الرمز التاريخي يجد كرسيا ليجلس عليه، رغم أنه يملكه في وعينا الجمعي وثقافتنا العامة.

ويكاد يكون تاريخنا، تاريخ يملأه الرضى بالإستسلام للسلطة، وعدم الإكتراث للشأن العام. حتى أن أرسطو وصف شعوب الشرق، بالشعوب ذات الإستعداد الفطري للعبودية. فالشعب اعتاد على أن القضايا العامة ذات الصلة بالمجتمع والسياسة والإقتصاد والثقافة، مسائل لا تعنيه ولا تدخل ضمن نطاق فاعلية اهتماماته ويعتبرها شؤون خاصة برجال الحكم والنخبة، لهذا ولأسباب أخرى لا يتسع المقال لذكرها، يكاد يكون الفقه الإسلامي –باعتباره الممثل لمرحلة مشرقة من تاريخنا الحضاري- فقيرا حد الجدب بالدراسات المتعلقة بالحكم وعلاقته بالشعب إلا اللهم علاقة الإنقياد وعدم جواز الخروج على الحاكم، وفي الشأن الٌإقتصادي، أحكام حول البيع والشراء تدور حول الأمر الإلهي بعدم جواز الربى، دون أن ترقى لتشكل نظرية إقتصادية متماسكة. وعلى ضحالة هذا التناول كان مصوغا بصياغة الأوامر والتعليمات الصادرة من سلطة عليا إلى عامة الشعب الذين لا محل لهم سوى التنفيذ، كتكريس لاستمرار وقوع المجال العام خارج دائرة الإهتمام والتأثير الشعبي.

والسلطة بدورها اعتادت على غياب الشعب هذا، فأصبح التدخل بالشأن العام حقا حصريا للسلطة لا يشاركها فيه أحد، وأي محاولة لكسر هذه النمطية تأتي كخروج سافر عن الثقافة والتقاليد العامة تستدعي أقسى العقوبات من الحاكم دون أي إستهجان شعبي، فالشعب معتاد ومتقبل لطغيان السلطة، ويدرك بلا شعوره وحتى شعوره الواعي أن الحديث بالشؤون العامة بما لا يعجب السلطة مسألة محفوفة بالمخاطر تستوجب العقاب من حيث المبدأ، وتبقى قسوة العقوبة هي القابلة لإبداء الإمتعاض حولها –سرا في أغلب الأحوال- وليس مبدأ العقاب أو حق الشعب في ذلك، فالشعب لا حق له في ذلك. وهذا يفسر القبول الشعبي لكثير من الممارسات السلطوية المهينة للكرامة الإنسانية، مثل لطمة يتلقاها مواطن من عنصر أمن أو مسؤول ما على سبيل المثال لا الحصر.

 ويكاد يكون الشعب نسيا منسيا في حسابات السلطة، فهو مجرد حشد بشري يصلح لأعمال السخرة، والتكسب ويصلح أيضا للتصفيق لإنجازات القائد، ولا يتعين على السلطة تقديم الإهتمام به إلا من باب المكرمة والتفضل، فالمجال الداخلي والشعب أساسه، ليس هو موضع الإهتمام، إنما المجال الخارجي الذي يكون عادة هو مجال الإهتمام وميدان ملائم لبناء المجد الشخصي للحاكم. ويرسخ في ذهن السلطة أن الشعب مجرد نكرة وصنيعة للحاكم، واعتقد أن مرد هذا الأمر بجانب أساسي منه يعود إلى غياب الشعب عن المجال العام.

فعندما ثار الشعب التونسي مثلا، استهل بن علي خطابه قائلا: لقد فهمتكم! مما يعني أن الشعب لم يكن يوما مهما حتى يحاول الرئيس فهمه قبل اليوم. ومثله مبارك قال: سأبقى حتى أسلم السلطة لأضمن استقرار البلد. عبارة تعبر عن لا ثقة كاملة في الشعب وبقدرته على تسيير أموره بنفسه. أما القذافي فقد عبر تماما عن موضع الشعب في الذهنية السلطوية، بقوله: من أنتم؟!

وبشار الأسد: قال في مقابلته مع الواشنطن بوست، لا أشعر بالذنب إنما بالأسف، ليعبر بذلك عن مدى هامشية إحساس السلطة بالمسؤولية تجاه الشعب وما يحدث له، بصرف النظر عن كونه هو الفاعل.

ويعتبر بشار الأسد نموذجا معبرا، عن موضع الشعب في حيز اهتمام السلطة، فهو ومنذ اندلاع الثورة في سورية وسقوط آلاف القتلى، لم يجد نفسه ملزما بتوجيه أي خطاب مباشر للشعب! وكل خطاباته كانت عبارة عن مقابلات مع وسائل أجنبية أو خطابات غير مباشرة تمر عبر وسطاء لتصل رسالته في النهاية إلى الشعب بطرق ملتوية!

فضلا عن كون الحالة السورية عموما، نموذج يلخص كل ما ماسبق ويمثل طريقة تعاطي السلطة مع الشعب وفقا لموروثنا الثقافي، فالشعب العربي لم يثر يوما في تاريخه على حقوق سياسية ولم تكن الحرية أبدا قيمة تستدعي التضحية في سبيلها مقابل سلطة محلية تحتكرها. ولا يذكر التاريخ أن الشعوب العربية قامت بثورة “شعبية” على سلطة تحكمها، بل مجمل ما كان يحدث ثورات مسلحة بقصد الحصول على السلطة، أو احتجاجات على سوء الأحوال المعيشية، أي على قضايا مرتبطة بالحاجات الأساسية من مأكل ومشرب، ولو أمن الحاكم هذه الأشياء فلن يجد معترضا عليه مهما استبد في حكمه!

وهو ما عبر عنه بشار الأسد بدهشة في خطابه الأول، حينما قال: أنا ألتقي الكثير من السوريين وكانت كل مطالبهم تدور حول قضايا معيشية، ولم يتطرق أحد للحقوق السياسة !

مرة أخرى، الشأن العام ليس شأنا شعبياً!

وان كانت الثورات العربية بجانب مهم منها ردا على سوء الأوضاع المعيشية والفساد الهائل الذي حاصر الناس في لقمة عيشهم. الا إنها بجوهرها كانت ثورات لرد الإعتبار وانتزاع الإعتراف بوجودها إزاء سلطة لم تشعر بوجود الشعب واعتباره يوما . هي ثورات الكرامة كما وصفها ياسين الحاج صالح مرة.

إن صيرورة وسيرورة التطور الحضاري وانتشار مفاهيم الحرية وحقوق الإنسان، والديمقراطية وتداول السلطة . . الخ وتحولها بفعل تحول العالم إلى قرية صغيرة إلى مفاهيم عالمية من جهة، وتغول السلطة وطغيانها الهائل واحتكارها لكل شيء في هذا العصر المفتوح من جهة أخرى ساهم في تحفيز الشعب على أخذ زمام المبادرة، ودخول المنطقة التي كانت محظورة لآلاف السنين. ومن هنا نفهم أيضا وحشية السلطة في ردها على الشعوب التي حاولت تحرير الشأن العام من السيطرة الأزلية بقصد المساهمة في تشكيله وصنعه بما يتوافق وتطلعاتها. لقد دخلت الشعوب في المنطقة المحظورة لآلاف السنين وعليه هي تستحق كل العقاب بما يتناسب وحجم تدخلها السافر!

لذلك كان الشعار الأول: الشعب يريد إسقاط النظام معبرا أفضل تعبير عن إرادة الشعوب في جعل الشأن العام مجالا شعبيا، وكان الشعار الثاني: الشعب –السوري- ما بينذل، تعبير آخر لإرادة رد الإعتبار لهذه الحشود المنسية على مر العصور.

**********

الإستثنائية الثانية للثورات العربية، طبيعتها السلمية – فيما لو استثنينا المثال الليبي- وحجم الحشود البشرية المساهمة فيها، فلم يشهد تاريخنا يوما ثورة سلمية أو ثورة ساهمت فيها هذه القطاعات العريضة والهائلة من الشعب. ومن ثمرات هذه النقطة، التأسيس لمفاهيم المدنية والنضال السلمي في تحقيق الأهداف والتغلب على العقبات، بما يضمن مستقبل أفضل للمنطقة فيما لو تجذرت هذه الثقافة، وأيضا تحطيم مفهوم القائد والواحدية التي حكمت ثقافتنا على مر التاريخ، فالثورات العربية اليوم هي ثورات بطلها الشعب من خلال احتشاده وعدم حاجته إلى القائد الضرورة. ويكاد يكون معظم الأشخاص الذين عرفناهم كمساهمين فاعلين في الثورة – وليس هذا بالتعميم – هم أقل الناس فاعلية فيها على مستوى الفعل على الأرض، فالأبطال الحقيقيون أو الأشخاص الأكثر مساهمة غالبا ما يكونون مجهولي الهوية، وما بروز بعض الأسماء على الساحة إلا بفضل الإعلام أكثر من كونه بفضل فاعليتهم في مسار الأحداث، دون أن يبخسهم هذا حقهم أو يقلل من قيمتهم.

**********

الإستثنائية الثالثة، تأتي من اعتبار الربيع العربي كرد ورسالة حضارية طال انتظارها من قبل العرب إلى العالم بأسره، وما انتشار عدوى الربيع العربي الحميدة في دول العالم إلا خير دليل على ذلك.

http://www.3bdulsalam.com/

لا يختصر الربيع بزهرة واحدة
غابرييل كبّة

الإجرام الدموي الذي أظهرته الأنظمة التي ثارت عليها شعوبها بشكل متأخر نسبياً ضمن التسلسل الزمني المتسارع للثورات العربية، يعطي انعكاساً على اقبال تلك الحكومات على دراسة الأوضاع الثورية في البلاد التي سبقتها بشكل تفصيلي خرجت منها بنتيجة الأخذ من العنف الارهابي سلوكاً لردع ثوارها واعادة صناعة الخوف في نفوس شعوبها، ساعدها على ذلك تبعية القوات المسلحة لرغبة الطبقة الحاكمة المتحكمة بالهرمية العسكرية والتي سخرت هذه الظروف لخدمة مصالحها. فالأنظمة العربية الحاكمة تتشارك جميعها فيما بينها باعتمادها على تسخير القوى الأمنية لخدمة مصالحها والتضييق عن طريق تلك القبضة الحديدية على حريات شعوبها ونشر اساطير الرعب في صدور مواطنيها، النقطة التي استطاعت زمنياً تمديد عمرها كأنظمة ديكتاتورية مستفردة بالحكم بطرق غير شرعية وذلك بخلق مناخ قمعي لضمان وأد الثورة قبل اندلاعها أو تشكيل الظروف المهيئة لقدح شراراتها، معتمدة على تفتيت الحياة السياسية والنقابية والسيطرة على كل مظاهر الحياة الاجتماعية بما فيها التجمعات الرياضية!. هذه الانظمة المتآكلة داخلياً بفعل الفساد الذي وجد فيها بنية مثالية للانتشار، لم تكن لتستطيع الوقوف طويلاً بوجه ارادة شعبها لو لم تقحم القوة العسكرية لتحمي بها كيانها ضد المد الشعبي الثائر عليها. اعتمادها على التضييق الامني لم يكن كافياً للسيطرة على الدائرة الثائرة من بعد تشكلها، فكان المشهد المختلف من ناحية الدموية وزمن الصمود القمعي في البلاد العربية يعتمد على انصياع الجيش لرغبة الحكام من عدمه. وعليه تكون النقطة المرجعية الأساسية التي يجب الارتكاز عليها مستقبلا كفعل جني لأولى ثمار الربيع العربي، تحويل تبعية القوى العسكرية لرجال السياسة إلى نموذج ذو هيكلية مستقلة، محترم قرارياً، لا يحق للمنتمي إلى هرميته شغل أي دور مهما كان بسيطاً في الحياة السياسية. وهو أمر يمكن الوصول إليه مباشرة بالاعتماد على مواد قانونية تنظّم اصول العلاقة بين الانظمة الحاكمة والمؤسسة العسكرية ومراقبة طبيعة هذه العلاقة لعدم العودة لحالة التبعية المطلقة.
لكن المشكلة التي تحتاج كل البلاد العربية الوقوف مطولاً أمامها -سواء كانت قائمة على انظمة تسيطر على المؤسسة العسكرية أو لم تكن- تتلخص بمدى قدرة أنظمة المستقبل على ايجاد المستوى المناسب لوضع “نقطتها المرجعية” بحيث لا تضمن فيها عدم تكرار المشهد القمعي الديكتاتوري الحالي المستفرد بالسلطة فحسب، بل تضمن ايجاد هوية وطنية حقيقية مفصول فيها الامور المسلّم بها بشكل غير قابل للجدال أو النقاش عن الامور التي من الواجب الجدال بها والسماح لبيئة متعددة الآراء للخروج ضمنها والتعبير عن ذاتها.

نجاح التغيير من عدمه في البلاد العربية مرتبط بشكل مباشر بقدرة الشعوب الثائرة على طغاتها على ركن “نقطتها المرجعية” التي سترتكز عليها مستقبلا لترفض النزول دونها، كلما وضعت مرجعيتها في القيم والقوانين والسلوكيات أبعد عن واقعها الحالي وبالاتجاه الصحيح، كلما استطاعت الشعوب العربية الابتعاد عن شبح السقوط بواقع مماثل أو ما يعرف عامية بتبديل الطرابيش في مشهد ألفته وعاصرته شعوب المنطقة في القرن الماضي يوم حصلت معظم البلاد العربية على استقلال قرارها وكيانها بفعل سُجّل بالتاريخ على أنه ثوري نتج عنه ديكتاتوريات دموية أشد قسوة من القوى الاستعمارية باستثناء كونه مغلفاً بالخطابات والشعارات والقيم النضالية الوطنية.

الديكتاتوريات العربية خلقت على مر زمن حكمها حالة من الخلط اللغوي والفكري والقانوني بين سلوكها القامع كأنظمة مستفردة بالسلطة وهوية الاشخاص القائمين على رأس الهرم مع المواطنة والحقوق والقيم التي تستدعي وجود حالة تكاتف شعبي مؤمن بضرورة تحقيقها، هذا الخلط في المفاهيم والمصطلحات اضافة لتشويه مفهوم الالتزام بالقوانين وقدسيتها، سمح لهذه للأنظمة الحاكمة المحولة بلدانها لمزارع خاصة لها ولعائلتها، ومن دون أن تجد ضرراً في ذلك، أن ترفع شعارات ثورية وأهداف تحررية ونضالية، وهي التي تشكل كأنظمة أكثر النماذج ديكتاتورية في العصر الحديث. ويوم لم تجد أي رادع شعبي أو حقوقي أو قانوني ليقف امامها أو يضع حدا لمد سيطرتها، لم تتوانى عن نقل كل الأفكار والأهداف وتفاصيل الحياة الاجتماعية لخانة المحظور مناقشته ضمن سلوكها السادي. فبات التمييز في توزيع المناصب بطريقة عنصرية تقيّم الفرد بحسب انتماءاته لا بحسب امكانياته، مدرج ضمن افعال ممنهجة غير قابلة للنقد، وكل من ينقدها أو يشخصها طائفي بالضرورة وعنصري بالضرورة وجب اسكاته بكل الطرق الممكنة. كذلك الامر بالنسبة لفساد الحكم بانتقاله وتداوله بوصمه فعل طبيعي غير قابل للنقاش وكل من يحاول الاشهار بنقده أو محاربته مدفوع بأجندات خارجية أو بأحسن الاحوال بغيرة شخصية لعدم حصوله على مكتسبات مماثلة. والكثير من جوانب الحياة التي منع الرأي العام من التفكير في تصايلها أو حتى الاقدام على طرحها على طاولة النقاش.

المشكلة تظهر عند سقوط هذه البنية غير قابلة للنقاش دفعة واحدة، لتنقل معها جميع الامور المحرّمة إلى خانة المستباحة، بعيداً عن أي محظورات أو ضوابط تتحكم بها، ولتطرح تساؤلات عن شرعية التمييز الطائفي مثلا أو امكانية تشتيت البلاد لأقاليم منفصلة تبعاً لرغبة الأغلبية التي تسكن كل أقليم!

اضافة إلى كون النموذج الوحيد الذي عاصره معظم المواطنين اليوم يستلهم بطريقة أو بأخرى المفهوم السادي في الحكم، فالمفهوم المشكّل حول الديمقراطية مثلا، رغم تناقضه الكلي مع الديكتاتورية كمبدأ وتوجه وسلوك، إلا أنه يخضع في البلدان التي لم تعرف غير الديكتاتورية حكما يتسيدها لتصور ديكتاتوري لكن بصيغة شعبية، فيختصر العمل النقابي والمؤسساتي ليقتصر على ورقة في الصندوق وبعدة مرشحين من أحزاب مختلفة، يحق للفائز بأغلبية التصويت اضافة طابعه الشخصي والفردي على البلاد كلها وليصبغها بالشكل الذي يريد تماما كما يفعل الديكتاتور اليوم، الفرق أنه ديكتاتور منتخب بعملية ديمقراطية تظهر فيها مفهوم الأغلبية لا بصيغة قناعات بل أغلبية مبنية على صفات عنصرية بحتة كالدين والقومية والطائفة. أي أن النموذج الذي يتخيله عامة الشعب الراضخ للديكتاتورية والحالم بالديمقراطية يكون مازجاً بين ديكتاتورية الأغلبية وديمقراطية المبنية على واقع النسب الديموغرافية العنصرية، فيها الأفضلية للأكثر تعدادا من الأشخاص، بشكل مشابه جدا لحياة القبائل قبل التمدن والغلبة الأكثرية المبنية على التعداد أو بشكل آخر على الفحولة الجنسية.

الواقع العربي الذي رسخته أنظمة الحكم الحالية، حولت الجموع الشعبية لقطعان يسهل اقتيادها وتوجيهها بعد افقادها القدرة على استشفاف مصالحها، أو القدرة على التخطيط والعمل الجماعي الممنهج لدعم وجودها والصعود عالميا في سلالم التصنيف التي لطالما اعتادت على تذيلها، إلا انها شعوب ناضلت وضحّت في سبيل كرامتها بعد أن حركتها بقايا انسانيتها التي لم تقو أدوات القمع على سحقها، هذه الشعوب قادرة على احداث تغيير ملموس لو وجدت هويتها الوطنية أو خلقت رداء انساني لمواطنيها وفرضت على الأنظمة المقبلة احترامه والالتزام به. يبقى احتمال صعود ديكتاتوريات جديدة على شعارات ثورية وخطب رنانة مفتوح الافق في حال قُيّم ربيع التغيير العربي على أنه ربيع ثورات، مقياس نجاحه مقتصر على نهاية الأنظمة من عدمه.
فالثورات العربية لا يمكن أن تشكل أي لحظة تاريخية مشرّفة تستحق الذكر أو التقديس إن لم تتبع بعمل توعوي وحقوقي واجتماعي جبار يشابه قياسا بجبروته وعظمته وقوف متظاهر عاري الصدر أمام فوهة دبابة. ربيع البلدان العربية لم يكن الثورات بل الرغبة بالتجديد، والتي اصطدمت بأنظمة ترفض هذا التغيير وتحاربه فحولت الرغبات الحالمة بغد أفضل لثورات مشتعلة ضدها. سقوط الأنظمة المتمسكة بالسلطة لا يعني سوى الوصول لمرحلة القدرة على المسير في طريق التغيير بمواجه العواقب والصعوبات الداخلية والخارجية التي يجب الاعتراف بها والاقرار بوجودها، الفرق الوحيد أن الشكل الكلاسيكي للتغير بعيداً عن سيناريو الثورة لا يدور في فلك ازالة السياط أو رفع الحذاء العسكري عن الرقاب، بل في البحث عن تغيير الأسس المنتهجة لتحسين واقعي معيشي اقتصادي وخدمي عن طريق تنظيم حقوقي وقانوني. التغيير الذي يجب على الثوار انفسهم العمل عليه -كونه هو الهدف الاساسي الذي تشكل الثورة مرحلة من مراحله- بنفس الروح المرتفعة والحماس المشتعل في الساحات والذي خلق للعربي المعاصر صورة مشرقة ومشرفة في ضمير الانسانية استحق من الجميع الوقوف أمامه واحترامه عليها.

..

مدوّن سوري

http://www.syriel.net

أزمة الهوية العربية

فادي حليسو

ثمّة ظاهرة لافتة استوقفتني مطوّلاً في كلّ من الجزائر ومصر، في فترة إقامتي القصيرة في كلّ منهما، وتتجلّى في النقدّ الذاتي لمرحلة ما بعد الاستقلال في الجزائر وما بعد ثورة يوليو في مصر. في الجزائر مثلاً، تدور على صفحات الجرائد بين الفينة والأخرى عملية نقدٍ جريئة للماضي، لممارسات الثورة، وبالأخصّ للشهور الأخيرة من الثورة، ومن ثم للمرحلة التي أعقبت الاستقلال، وأداء القيادات في تلك المرحلة. ويحدث كثيراً حينما يلتقي المرء ببعض كبار السنّ في الجزائر، أن يسمعهم يتّهمون وبمرارة، تلك القيادات بسرقة الثورة، ويصنّفونهم ضمن “المارسيست”.

والمارسيست Marsistes أو الآذاريين، هو مصطلح يطلق على ثوّار الساعة الأخيرة، أي تلك الفئة من الناس التي ظلّت تدعم الفرنسيين حتى اللحظة الأخيرة، أو ظلّت أقلّه محجمةً عن دعم الثورة حتى تمّ توقيع اتفاقية ايفيان في 19 آذار 1962،  وهي الاتفاقية التي أعطت الجزائريين حقّ تقرير المصير من خلال استفتاء عام، فسارع هؤلاء، بعدما بدا أن البلاد في طريقها إلى الاستقلال، إلى الانضمام للثورة، وتسجيل أسمائهم في جبهة التحرير الوطنية FLN، ووصلوا لاحقاً إلى مراكز متقدمة وقادوا البلاد والحزب، بعد أن قُتل عدد كبير من قيادات الثورة الأساسية خلال الحرب الطويلة.

ثمّة كثير من النقد إذن لتلك الفترة التي أعقبت الاستقلال، للأحادية الأيديولوجية التي طبعتها، ولملامحها التي اتسمت من بين ما اتسمت به، بسياسة تعريب قاسية قادها لسخرية القدر كثيرون ممّن ظلوا موالين لفرنسا حتى اللحظات الأخيرة. أنكرت تلك السياسة على باقي المكوّنات المجتمعيّة، حقوقها الثقافية، وجرّمت استعمال لغاتهم المحلية، محاولةً فرض فكرة العروبة بالقوّة، والتنكّر لأيّة قومية أخرى، بدعوى أن أيّ كلامٍ في القوميات المغايرة للقومية العربية هو عمل بغيض من آثار المرحلة الاستعمارية الفرنسية. ومن الجليّ اليوم أن هذه الممارسات ولّدت لدى بعض الأمازيغ، وعلى الأخصّ سكّان منطقة القبائل الساحلية، ردّ فعلٍ مرير يتسم برفضٍ للعروبة وبكل ما يمتّ إليها بصلة، لا بل أنك تجد منهم في أيامنا هذه من يفضّل التكلّم بالفرنسية على العربية، دون أن ننسى بروز بعض الأحزاب القومية المحلية التي تنادي بالاستقلال في منطقة القبائل.

لا تقتصر مثل هذه الممارسات على الجزائر وحدها بالطبع، فالفاشية سمة طبعت سياسات معظم الأحزاب التي ادعت تمثيلها للقومية العربية، وليس البعث في كلّ من العراق وسوريا بغريب عنها، وهو اتبع سياسة مماثلة فرضت القومية العربية واللغة العربية منكرةً كلّ ما عداها. وما مشكلة الإحصاء السكاني لأكراد الجزيرة السورية إلا إحدى الوجوه القاتمة الكثيرة لهذه السياسة.

وهل يمكن أن ننسى في هذا الإطار السودان، أكبر بلدان الجامعة العربية، ومشاكله الكثيرة، بدءاً من الجنوب الذي انفصل أخيراً، إلى المشاكل المستجّدة في دارفور والأقاليم الشرقية؟ كان ملفتاً للنظر إبان الأشهر القليلة التي أعقبت انفصال الجنوب، تلك العنجهية التي ميّزت الخطاب الرسميّ السوداني، الرافض لتحمل المسؤولية في المآل السيء للأمور، وهو الذي مارس سابقاً دوراً بارزاً في تفجير الأزمات التي يعانيها السودان فارضاً اللغة العربية على الجميع، ومستخدماً التهديد بفرض الشريعة الإسلامية في سياسةً تناوبت بين الترغيب والترهيب. وما يزال أولئك الحكام مصرّين على استخدام خطاب متخشّب يعتبر أن الحضارة العربية هي الحضارة المنتصرة على كل المكونات الأخرى في السودان، سواء أكانت في الجنوب الأفريقي الأسود أو الشرق غير العربي، وما على تلك المكوّنات إلا الرضوخ والخضوع لما يقرّره من نصبوا أنفسهم سدنة لتلك الحضارة المنتصرة.

أما في مصر فيتخذ الخطاب النقدي الحديث طابعاً آخر، إذ يلاحظ المراقب للمشهد الثقافي المصري، وخاصة في السنوات الأخيرة التي سبقت ثورة 25 يناير، محاولات لدى بعض المثقفين المصريين لإعادة اكتشاف تاريخهم الذي شوّهته التجربة الناصرية عن عمد. وما تجارب مثل مسلسل الملك فاروق للكاتبة لميس جابر، ورواية عمارة يعقوبيان لعلاء الأسواني، وغير ذلك من المقالات الصحفية إلا محاولات جريئة لتقديم قراءة أخرى لهذا التاريخ، مختلفة عن الصورة النمطية الرائجة منذ ثورة يوليو، التي اعتبرت ذاتها منبع مصر الحديثة، والتي قدّمت كلّ ما سبقها على أنه خارج عن سياق الزمن والتاريخ. اكتشف المصريون شيئاً فشيئاً، واكتشف المتابعون العرب معهم، أن ذلك الماضي لم يكن مجرّد لوحة سوداء قاتمة، بل حفل بالكثير من المحطات المضيئة، والمواقف النضالية والوطنية المشرّفة، حتى فيما يخص من كان يطلق عليهم أبشع النعوت. الشيء ذاته يلاحظ لدى مثقفي العراق وسوريا في محاولاتهم لإعادة قراءة فترة ما قبل البعث، وإعادة فهم أدوار شخوصها من أمثال نوري السعيد وأديب الشيشكلي، ممن ارتبطت أسماؤهم في ذاكرة أجيال البعث بصفات قميئة كالرجعية والعمالة.

تشير الأمثلة السابقة على تنوّعها واختلافها، إلى أزمة هويّة عميقة تعاني منها الدول العربية، هوية لا تتحقّق إلا بنفي الآخر وعدم السماح له بالوجود ما لم ينصهر في بوتقة الأيديولوجيا أو الدين، أو بالأحرى في بوتقة “الثقافة المنتصرة”، بحيث يكون دائماً ثمّة خاسر ومقهور ومقموع. ولعل ما يثير الانتباه في هذه التجارب أنها عمدت إلى تبنّي خطاب أيديولجي، وإن اختلفت مقوّماته من دولة إلى أخرى، لا يكتفي بنفي الآخر وإنكار حقّه بالاختلاف فحسب، بل يعمد إلى تدمير الماضي وإلصاق أشنع الصفات به، فهو الماضي الاستعماري، الإقطاعي. ورموزه هم العميل للأجنبي، أو المتواطئ مع المؤامرات الإمبريالية، أو المستغل لدم الشعب، إلى ما هنالك من مفردات تحفل بها كتبنا المدرسية المؤدلجة. فكان أن نشأت أجيال تعتقد أن أنظمتها الحاكمة هي من صَنع التاريخ، وهي من خلق هويتها وأوجدها: هوية تماهت مع أحد المفهومين: الأيديولوجيّ، أو الدينيّ لمن ضاق ذرعاً بتلك الأيديولوجيا.

وماذا بعد؟

في الواقع لقد كانت الانتفاضات العربية التي شهدها العام المنصرم بمثابة الهزّة العنيفة التي أيقظت البعض منا من كابوس طويل. ولعلّ ما يلفت النظر حقاً، موقف الشباب الثائر في أكثر من بقعة من وطننا العربي، والذي بدا وكأنه قد نفض عنه فجأة كل الهراء السابق والذي رضعه منذ طفولته، موجداً معنًى جديداً لهويته تختصرها كلمات ثلاث: الحرية، الكرامة والعدالة الاجتماعية.

في هذا الواقع، تحاول بعض التيارات الدينية ركوب الموجة والتقدّم إلى الصفوف الأمامية لكسب الجماهير، مستغلة حالة التعاطف الموجودة لدى شرائح مجتمعية واسعة، والناجمة عن تاريخها مع الأنظمة المهترئة ذاتها. تحاول هذه التيارات أن تقدّم نفسها كصاحبة المشروع البديل الذي طال انتظاره، المشروع الذي يزيح الأيديولوجيا ليفسح المجال أمام خطاب ديني يدغدغ المشاعر ويذكّر بالمجد التليد، لتكشف لنا أنها لم تستفد بدورها من دروس الماضي.

فيما أصيب الكثير من المثقفين العرب من متابعي المشهد الثوري بالصدمة والانكفاء، الأمر الذي تُرجم إلى مواقف مائعة ومخيّبة للأمل لعددٍ منهم. لقد وجدوا أنفسهم أمام ظاهرة غير مسبوقة، خارجة عن سياق نظرياتهم عن الثورة، إنها المرة الأولى التي تسبق فيها الثورة نظريتها، إنها المرة الأولى التي تتقدم فيها الثورة على الأيديولوجيا، وتبرز كعمل عفوي لشعوب مقهورة طال سكوتها عن الظلم الاجتماعي اللاحق بها، وبلغت نقطة الانفجار في غفلة عن تأملاتهم الثورية.

يقدّم لنا الربيع العربي فرصة غير مسبوقة قد لا تتكرّر مرة أخرى، لنقوم بقراءة عقلانية لتاريخنا بعيدة من جهة عن إلباس الماضي رداء المثالية الرومانسية البعيدة عن الواقع، وتتجنّب من جهة أخرى الوقوع في خطأ الأنظمة التي نتوق للتحرّر منها فلا تلجأ إلى تشويه هذا الماضي بما يخدم المصلحة الآنية. نحن أمام فرصة نادرة لنقوم بتشكيلٍ جديدٍ وواعٍ لهويتنا العربية، الإسلامية، الشرق الأوسطية… فهل نكون على قدر التحدي؟

..

مدوّن سوري

http://kharbachat.com

ماضٍ كالسيف باقٍ كالحبّ

 ياسر الزيّات

لم أكن أظن أن العام الماضي سيمضي. لا أظنه مضى أصلاً. ربما ما زال هنا، يفتح الباب لمن بعده فحسب. عبقُه البطولي لم يتبخّر. الصبح لم يزل يتنفّس بنفْس الكبرياء. الانتعاش المعاش كل يوم على نشرات الأخبار مستمرّ. كيف مضى؟ أظنه وَلَدَ عاماً جديداً. أو لعلّه كَبِرَ. على أية حال، هو ماضٍ، كالسيف، ولكن باقٍ كالحبّ.

قال لي: كن جميلاً كأهازيج حرية، رءوماً كعلَم مدمّى، شامخاً كمظاهرة مليونية، جسوراً كخنساء عربية، كريماً كنهرٍ معمِّر، أبيّاً كعربة خضار…

وقال أيضاً: لا تشتروا مَلِكاً دون العصا معهُ \ إن الملوكَ لأنجاسٌ مناكيدُ!

جملة مسلمات

علمني 2011 أن الخوف من المستقبل انتحار، وأن الخوف من استمرار الماضي هو الخوف المبرَّر الوحيد. أن الموت هو الموت جباناً، وأن الشجاعة صكّ خلود.

علمني أن ما يلمع ليس دائماً ذهباً، وأن الذهب لا يلمع دائماً، وأن السكوت ليس من ذهب على الإطلاق. علمني أن البركان قد يسمى مملكةَ صمت قبل أن يثور، أن قوة الظالم وهمٌ وضرباته محضُ محاولة لتثبيت الوهم، أن كل من يتعالى سافل، أن الثمار الفاسدة تسقط حين تسقط من ضمير المزارع، أن اجتثاث الزهور لن يوقف مدّ الربيع، أن ملوك الملوك أو ملوك الغابات قد يمسخها الله جرذاناً حين يقرر الناس، أنه لا رجولة ولا أمن في الكائنات الخائنات المسمّاة رجال أمن، أن هولاكو قد يسمي نفسه صلاح الدين، أن السائرين إلى عين جالوت لا يعرفون داحس والغبراء، أن أعداءنا كانوا أربعة لا ثلاثة: التجزئة والتخلف والتبعية و… الاستقرار!

شكراً لتونس. ما زال يواسي نفسه المخلوع، بأن شعباً نبيلاً هو الذي أزاحه لا نذلٌ مثله. شكراً لمصر. كانت الوصية للشعوب أنْ لا تصادموا حكامكم، فصارت للحكام أنْ لا تصادموا شعوبكم. شكراً لليبيا. لا يحلّق الشعب إلا حين يهوي الطاغية. شكراً لليمن. كلما اخترع التاريخ مستحيلاً جاء من يخترع التحطيم. شكراً لسوريا. الأرض التي تشرب من نهر “العاصي” لا تطيع الأوامر.

كل احتلال عدوّ

شكراً لسوريا مرة ثانية. شعبها أدرى بمن يستحق المقاومة.

علمني 2011 أن كل احتلال عدو، وأن سارق العرش محض غاصب غاشم، حتى لو تكلم بلغتنا أو صلى صلاتنا أو قال لنا كلاماً جميلاً. كل مستبدّ عدوّ، وكل سلطة شرعيتُها مدرعاتُ العسكر ساقطة، اليوم أو غداً. ولكل احتلال عملاء ينتفعون من وجوده ويتنطّعون على ضحاياه المضطهدين. ولكل احتلال مستوطنون لا يهمّهم من الشأن العام سوى نرجسية العيش. ولكل احتلال خصوم يقاومون غطرسته، لا يرون في وعيده مثبّطاً للهمم، ولا في وعوده مسكّناً للألم، فيواصلون النضال والتضحية، على أملِ نصرٍ يؤمنون به، يفكّك الظلم وينهي المعاناة اليومية.

ذاك المنظار “الفلسطيني” يفسر لي كثيراً ما يحدث في بلاد الشتاء العربي (عواصف ما قبل الربيع): دبابات، انتفاضة، شهداء، حرية، سجون، مفاوضات، صمود…. طويلٌ خندق الثوار دائماً، ولكنه إجباري، وذو نهاية مشرقة.

هذه الأيام هي ذكرى حرب أليمة جرت قبل سنوات على غزة، وهذه الأيام تشهد الآن حرباً أليمة أخرى تجري على حمص ومدن سورية أخرى. لا يختلف المشهدان كثيراً: مقاومة وجيش احتلال، مقاومة وجيش احتلال.

أما أولئك الذين يمدحون حكم المجازر في سوريا ويسبون حكم المجازر في فلسطين فمخلوقات غريبة فعلاً! أيرون فرقاً حقاً بين دبابة إسرائيلية تحتل طولكرم ودبابة سورية تحتل درعا؟ أما أنا فلا أرى فروقاً كثيرة. حتى حين أقرأ أشعاراً عن فلسطين أراها جميعاً تشيد بالسوريين من حيث لا تدري. يمكنني أن أقول عن سوريا نفس ما قاله عن فلسطين إبراهيم طوفان وتوفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم ومريد البرغوثي وغيرهم.

“أيها المارّون بين الكلمات العابرهْ \ منكمُ السيفُ ومنّا دمُنا \ منكم الفولاذُ والنارُ ومنّا لحمُنا \ منكم قنبلةُ الغازِ ومنا مطرُ \ منكم دبابةٌ أخرى ومنّا حجرُ \ وعلينا ما عليكم من سماءٍ وهواءْ \ فخذوا حصّتكم من دمنا \ وانصرفوا… آن أن تنصرفوا… فاخرجوا من أرضنا \ من برنا من بحرنا من قمحنا من ملحنا من جرحنا من كل شيءٍ واخرجوا من مفردات الذاكرهْ \ أيها المارّون بين الكلمات العابرهْ”

يسقط يسقط حكم العسكر!

كل الطغاة يخافون الأغنيات، ولعلنا كتب علينا مواجهتهم واحداً واحداً. ما سبقَ شعرٌ قيل في جنود الاحتلال الإسرائيلي، ويُقال في جنود أيّ احتلال آخر.

سيسجل التاريخ أن عام 2011 كان بداية نهاية حكم العسكر في بلادنا، أي حكم الاستبداد المسلح.

من آل عثمان إلى آل الأسد، مرورا بالريّس والعقيد والجينيرال والمشير… لم تقدم لنا الجيوش سوى الظلم والتقهقر والجهل، وتقديم “التصدي للخارج” على تحصين الداخل والاهتمام به. وها هي بعض الجيوش العربية تقود اليوم خريفاً مضاداً على ربيعنا العربي المجيد.

رحم الله الكواكبي رحمة واسعة، كم يستحق الحياة!

“ما من حكومة عادلة تأمن المسؤولية والمؤاخذة بسبب غفلة الأمّة أو التَّمكُّن من إغفالها إلاّ وتسارع إلى التَّلبُّس بصفة الاستبداد، وبعد أنْ تتمكَّن فيه لا تتركه وفي خدمتها إحدى الوسيلتين العظيمتين: جهالة الأمَّة، والجنود المنظَّمة. وهما أكبر مصائب الأمم وأهمّ معائب الإنسانية، وقد تخلَّصت الأمم المتمدُّنة -نوعاً ما- من الجهالة، ولكنْ بُليت بشدة الجندية الجبرية العمومية، تلك الشّدة التي جعلتها أشقى حياةً من الأمم الجاهلة، وألصق عاراً بالإنسانية من أقبح أشكال الاستبداد، حتَّى ربَّما يصحّ أن يقال: إنَّ مخترع هذه الجندية إذا كان هو الشّيطان فقد انتقم من آدم في أولاده أعظم ما يمكنه أنْ ينتقم! نعم، إذا ما دامت هذه الجندية التي مضى عليها نحو قرنَيْن إلى قرن آخر أيضاً تنهك تجلُّد الأمم، وتجعلها تسقط دفعة واحدة. ومن يدري كم يتعجب رجال الاستقبال من تَرَقِّي العلوم في هذا العصر ترقِّياً مقروناً باشتداد هذه المصيبة التي لا تترك محلاً لاستغراب إطاعة المصريين للفراعنة في بناء الأهرامات سخرة، لأنَّ تلك لا تتجاوز التّعب وضياع الأوقات، وأمّا الجندية فتُفسد أخلاق الأمّة، حيثُ تُعلِّمها الشّراسة والطّاعة العمياء والاتِّكال، وتُميت النّشاط وفكرة الاستقلال، وتُكلِّف الأمّة الإنفاق الذي لا يطاق… وكُلُّ ذلك منصرف لتأييد الاستبداد المشؤوم: استبداد الحكومات القائدة لتلك القوَّة من جهة، واستبداد الأمم بعضها على بعض من جهة أخرى”.

من يرى أن هؤلاء العسكر قد يحرّرون من فلسطين شبراً فليسارع إلى أقرب مغسلة وليغسل عينيه سبع مرات عسى يزول العمى! أصلاً لا تحلم القدس بضابط يحتلّها. هي أجمل من حلم قبيح كهذا. القدس تحلم بفارس نبيل يدخلها باكياً ويمسح عن وجهها حزن الستين سنة. العسكر المتوفر حالياً مُعيب، وحكامه آخر من يستحق المجد.

علمني 2011 أن بلادي ليست بلادي، ووطني ليس وطني، وشعبي ليس شعبي… ولكن بلادي لمن صانها، ووطني لمن أحبه، وشعبي ملك نفسه. على المعاتيه المهووسين بالتملك أن ينقرضوا.

زهرةٌ طفلةٌ تنمو فوق جبل مهجور أجملُ عندي من قصر متكبّر يطلّ على العاصمة، وفقيرٌ كافحته الحياة يحرق نفسه احتجاجاً على ظلم ذوي قرباه أعظمٌ من غنيّ أخرقَ أغرقَ الطرقاتِ بصورته البلها، وكلمةٌ عذبةٌ تكتبها أنامل المشتاقين أشدُّ وطنية من عسكريّ ملأ عمره وعمرنا صراخاً في وجه العدو.

شكراً لتونس مرة أخرى، وإلى الأبد.

..

مدوّن سوري

http://yalzaiat.wordpress.com/

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى