صفحات المستقبل

القصة الحقيقية لممرض سوري :هكذا قتلني الأمن السوري مرارا


كلنا شركاء – خاص

أذكره صباح ثلاثاء وما زلت أذكر سماءه المتشحة ببعض الغيوم ونسمته الباردة اللذيذة.

قالت الياسمين: رح أعمل قهوة ألبس تيابك وتعا نشربها سوا.

كانت لذيذة جداً, تصاعد دخان لفافتي, وسكنت فيروز صميم فؤادي, ورسمت ابتسامة الشمس الجديدة وسرحت في ما يخبئ لي هذا النهار فقاطعتني الياسمينة قائلة : كيف بدكن تروحو عالمشفى والدني خربانة هونيك ؟؟؟

فأجبت: قال رح يتأمن الطريق للكادر الطبي والتمريضي لأن فيه جرحى كتير وضروري كون موجود لأني مساعد جراح.

– الله ييسر أمرك يا أمي لكن بدي أطلب منك تتذكر عبارة وحدة بس ((لا تطرحوا درركم أمام الخنازير فتدوسها و تندار إليكم)) لأن يا أمي في شعب لا بيفهم ولا بدو يفهم.

– حاضر أمرك.

اتجهت إلى نقطة التجمع, ضحكنا وألقينا بعض العبارات التخويفية على أمل إزالة خوف النفوس ورفع مستوى الإحساس بالواجب الوطني.

مشت السيارة متثاقلة بحملها وكلما اقتربنا أكثر من ازداد خوفنا أكثر وتوقفنا قليلا عند مدخل المدينة وتبادلنا التحية مع الجيش الوهمي وسألنا عما جرى في الأيام السابقة فلم نسمع إلا الأكاذيب و الترهات فقاطعتنا اللهجة الجبلية قائلة: يلا شباب  أبدنا نتأخر شرفو لنشوف.

مشينا ببطئ قاتل فعيوننا معلقة بالشبابيك نراقب ونلاحظ ونحاول أن نفهم بعض الأحداث من هذه الصور الصامتة.

بدت المدينة كأنها ملك للأشباح والصمت فيها يزرع هوسا يكاد أن يقتلك لتعرف ما الذي جرى ولم يطل انتظارنا فقد بدأت علامات الحرب تظهر, البلور المكسور وفتحات الجدران إثر الرصاص والسيارات المحطمة والمباني المدمرة جزئيا وتوحدت الكلمة في الحافلة تقول: الله يسترنا.

وصلنا المشفى, تعانقنا مع رفقائنا المحتجزين منذ أربعة أيام ولم يفاجئنا منظر الجيش لكن وجود الدبابات والمجنزرات زاد من خوفنا.

دخلت إلى قسمي العزيز (الإسعاف) فوجدته خرابه مهجورة ومزبلة تعاف الكلاب شمها فالعدة الجراحية مرمية في الأرض والأسرة منزوعة المراتب والشاش قد ملأ الأرض ورائحة الدم تعم المكان وشبه جثة ملطخة بالدم مرمية في غرفة ما عادت صالحة إلا لجمع النفايات.

كانت امرأة في العقد السادس من العمر مصابة بطلق ناري في عضدها الأيسر والدماء تلطخ كل أناء جسدها حتى شعرها الأبيض بدا ملطخاً ببقع حمراء.

تركتها و خرجت لأسأل من هي و ما حالتها الصحية حتى أتابع لها خطتها العلاجية فكان الجواب: هي شرموطة عاهرة كانت مبارح بدها تفجرنا وتصاوبت بمواجهة مع الجيش.

سمعت صوت سوسن وهي زميلة موالية للنظام تقول: لك الرئيس داعس عرقبتكين يا كلاب يا خونة.

اتجهت نحو غرفة المريضة ثانية فوجدت حذاء سوسن يقبل وجنة العجوز المصابة ويحاول أن يدخل فمها أيضا فصرخت بها: سوسن خلص هي مش شغلتنا… اتركيها. وأبعدتها عن المريضة وما زال صوتها يصدح ملأ المكان: اتركني عليا بتستاهل أكتر من هيك هالكلبة.

خرجنا من الغرفة سوياً وبدأت أقرع نفسي لأني اتصلت بسوسن هاتفياً قبل عدة أيام أدعوها للاحتماء بمنزلي إذا كان الخطر شديداً في مدينتها وعبرت لها عن وحدة حالنا وعن وحدة مصيرنا. حاسبت نفسي وقرعتها لأن نزقة مثل هذه لا تصلح بأن تدوس قدمها عتبة بيت الياسمينة .

رن هاتف القسم يدعونا إلى اجتماع مع مدير الصحة الذي جاء بجولة تفقدية لأحوال المشفى وأحوال العاملين فيه بعد هذا الحصار, ذهبت مسرعاً لأعود بأقصى سرعة ممكنة فهناك عمل كثير لا يحتمل التأخير, استمعت إلى كلمته ممتعضاً لما فيها من كلام خيالي و عبارات رنانة وعندما أنهى كلامه توجه إلينا إن كان أحدنا لديه أيه مداخلة.

فانبريت معرفاً بنفسي وبموقع عملي و قلت له: إن دورنا ككادر طبي وتمريضي أن نقوم بخدمة المريض أياً كان سواء هو من جيشنا وقواتنا المسلحة أو من المسلحين أو المدنيين المصابين وذلك دون أن إظهار أي انفعالات شخصية وبدون شتائم أو ضرب للمسلحين أو المدنيين.

انتهت مداخلتي و حصلت على تأييد مدير الصحة ليبدأ الصراخ بالتعالي ولتبدأ الهمجية تظهر بكل أشكالها ففلان من يعترض أن ذلك لم يحصل و آخر يلوم الأطباء الذين لم يكونوا متواجدين و ثالث يحاول أن يظهر بطولته وسط زخ الرصاص.

انتهى الاجتماع بفكرة أخيرة من مديرنا ليقول: يعطيكن العافية, كل واحد يتفضل على شغلوا.

ليس هناك من داعٍ لأي خطاب تشنجي

عاد كل إلى قسمه و كذلك أخذت أثنين من زملائي لمساعدتي في أعمال التنظيف وإعادة تأهيل قسم الإسعاف فكان دوري أن أقوم بمسح الأرض وتنظيفها فانهمكت في العمل واحتجت إلى مزيد من مواد التنظيف والمعقمات فاتجهت إلى الإدارة طالبا الإيذاع للمسؤول أن يصرف لي ما احتاج إليه.

هناك وعلى مسمع الجميع من مدير صحة و مدير المشفى  وجميع الأطباء اعترضني حضرة,سعادة, سيادة, وصاحب السمو النقيب عيسى شعبان ليوجه لي تهمة الخيانة ويقول حرفياً: ولك كلب ولك خاين أنت و قيعد ببيتكين متقول أنو الممرضات والعالم متضرب المدنيين, هدالي ال 28 عنصر اللي كانوا محجوزين بالمشفى هني أخواتي وأنا بدي دوسك بصرمايتي وامسح فيك الأرض.

لم أجبه بأي عبارة استفزازية ولم أقابل إهاناته إلا بكلمة: أنت فهمت الموضوع غلط. ليجيب: أنا ما بفهم غلط ولك حقير ومو أنت اللي بيعلمني الصح من الغلط.

ولأنه رفع صوته جداً اقترب منا المدراء والموظفين لفض الخلاف وهذا ما اعتقدته وعدت إلى قسمي لأتابع عملي ولكن ما هي إلا دقائق حتى سمعت صوت النقيب عيسى يقول لي : أنا بوعدك أنو بأي محل رح شوفك فيه رح أدعس ع رقبتك وهيدا وعد . فأجبته : يا سيد ما في داعي لأي خطاب تشنجي.

اتجهت مرة جديدة إلى الإدارة لعل المدير يتوصل إلى طريقة تضع هذا الحقير في الصورة الصحيحة لما قلته في الاجتماع , ما إن وصلت حتى تبعني ودخل ورائي ليعاود السب والشتم فطلب منه د. الياس الهدوء ولكنه جن أكثر وقام بإخراج الطبيب قسرا من الغرفة وانهال علي بالضرب مع ثلاثة من عناصره ثم أخرجوني إلى بهو المشفى وهم يصرخون : تعو شوفو هالخاين تعو بزقو ع هالأخو الشرموطة .

لم أتوقع ما حصل وكان آخر شيء قد يخطر في رأسي أن بعض زملائي الذين عانقتهم صباحاً أن يلبوا نداء النقيب بهذه السرعة, تواردوا علي واحداً تلو الآخر يوجهون التهم ويعلنون جرائم لم اقترفها يوماً و ما زلت أذكرها كأنها حاضرة الآن:

هيدا الكلب سب الرئيس.

سب أخو الرئيس.

هيدا سب رئيس جهاز المخابرات.

خزق صورة الرئيس وحرقها.

هيدا معارض للحكم وعم يحكي مع القنوات الأخبارية العميلة.

قيدوا يدي خلف ظهري وعصبوا عيني بقطعة قماش لكنني عرفت صوت د.حسن عيد وهو طبيب متهم من قبل رجالات الثورة بأنه يقتل المصابين في المشافي الحكومية وتأكد اتهامه عندما سمعته يقول لعناصر الأمن أن يهينوني بأكثر الكلام بذاءةً فالطبيب الحقيقي لا يتلفظ بهكذا عبارات أبداً.

رموني أرضاً و بدأوا يضربوني ضربا قاسياً ولن أنسى ما حييت صوت محمود يازجي وهو زميل في قسم المعالجة الفيزيائية وهو يضع قدمه في فمي ويقول أنا محمود يا ابن الشرموطة وسباطي بتمك يا ابن الكلب .

ضحكت من نفسي كثيراً من كبر الموقف, ضحكت من ذل نفسي و أنا مقيد و تافه يدوس رأسي ويعرفني بنفسه متباهيا وهو الذي لم يكن يتجرأ على التحديق بي لكنه اغتنمها فرصة ابن الزانية لينتقم مني لأني لم أسمح له يوماً بأن يحول قسمي على كرخانة مع عاهرته وفاء، وهي أحد العناصر العاملين تحت إشرافي وعندها خطر برأسي قول الزناتي لابنته سعدى عندما خانته في حربه مع بني هلال:

وإن دار الزمان يا سعدى ورجعت               سالم ل لف البكر و دلي الحبال

وصرخت فيه : بحاسبك يا محمود الأيام جايي.

وسط زحام الأصوات توارد إلى مسمعي من يقول: له يا شباب عيب شو عم تعملوا. لم أعرف صاحب الصوت لكن يده جرتني من كتفي وعرفت أننا عائدون إلى مكتب الإدارة فك العصبة عن عيني, إنه بلباس عسكري وقبعة بيضاء رأيته يبتسم قائلاً: طول بالك معلش أنا المقدم باسل. أحضر لي الماء وسقاني وأجلسني ثم أمر بفك وثاقي وشرع بتفتيش جزداني قلب أوراقه فسألني عن نصف ورقة نقدية حمراء اللون فقلت له أنها من صديق باكستانية وقعنا على نصفيها واقتسمناها كتذكار بيننا, ثم عاد وسألني عن صورة أمي ولما عرف ذلك رفعها ووضعها على رأسه ثم أستأنف الحديث: قلي يا أديب ساعدني حتى ساعدك.

فقلت: يا سيدي بشو بدي ساعدك كل هالكلام مش صحيح أنا ما بسب حدا حتى سب الرئيس أو غيرو بس أنا معارض للفساد ومعارض للفوضى اللي عم تصير معارض أنو أي حدا صاحب رتبة عسكرية يسبني ويسب أختي بس لأنو هوي عسكري أو أمني.

دخل النقيب عيسى وعاجلني بلكمة على وجهي وثانية وثالثة فلم أنبس ببنت شفة وهززت برأسي فقط ولأني فعلت ذلك عاود ضربي مع كل كلمات الإهانة ولاحظت أنه تقصد أن يأتي على ذكر أختي في كل شتائمه لأننا في مجتمعنا من أكثر الكلام إيلاماً.

أمره المقدم أن يتوقف ففعل وقال له المقدم: عيسى اللي بدو يضربوا كأنو عم يضربني… ثم نقلني بنفسه إلى الغرفة الداخلية للمكتب كي لا يتعرض لي أحد.

قضيت حوالي نصف ساعة دون أن يمسني أحد حر اليدين مفتوح العينين, إلى أن انشغل المقدم وعاد النقيب ليأمر عناصره بأن يقيدوا يدي ورجلي, ففعلوا.

رن جرس الهاتف, عاجل النقيب ليجيب وليسمع خبر وفاة العقيد …………. رئيس فرع الأمن السياسي في المدينة فترك السماعة ولأني أصبحت مقيداً ضربني بقدمه على فمي فكسر أحد أضراسي وبلعته مجبراً وتهيأ لضربة أخرى فانفجر بركان غضبي واستطعت أن أحرر قدمي اليمنى وضربته ضربة ربما كسرت أحد أضلاعه لأنه وقع على إثرها فورا ومن هول مفاجأة ردة فعلي لم يجرؤ أي عنصر التحريك ساكناً لكن صوتي أعاد المقدم باسل غاضباً وأمرهم بنقلي إلى نظارة المشفى حتى يريحني من مزاجية النقيب وعناصره فتم ذلك.

نقلت إلى النظارة وعين علي حارسان وأحضروا شخصاً آخر معي بنفس الغرفة, كبير في السن في منتصف العقد الخامس, اسمه عطالله وبعد الحديث معه عرفت أنه كان صاحب منصب مدير مكتب النائب العام في المحافظة وجريمته أنه سني الطائفة .

ارتحت من الضرب لساعتين أو أكثر لكن نظرات الاحتقار التي كان الموظفون ينظرونها إلي كانت مؤلمة لحد الموت وأنا ما تركت واحداً منهم وقت ضيقه ولم أنسَ أن أدعو الكل للجوء إلى بيتي. كنت في غمرة من أحلام يقظتي عندما أيقظتني صديقتي ريم ص بصوتها وهي تتذرع بأنها تريد أخذ عينة من الدم للموقوف الآخر باعتباره مريض سكري, رأيت الدمعة في عينيها والغصة في نفسّها اقتربت مني ومسحت وجهي وقالت: لا تخاف ما بيصير غير اللي كاتبو ربك _ قلت لها  أمي يا ريم…

فأجابت : لا تخاف ع أمك إلها الله…

عندها نهرتها أن تقوم فوراً خوفاً عليها من أن يراها أي أحد ويزعجها بأي كلمة فانصرفت وعيونها متعلقة بي.

مضت ساعة أخرى تخللها تحقيق بسيط من أحمق انتهى بعشرة عصي على ظهري وفخذي وخرج مبتسماً ليحضر عناصر الأمن ليقوموا بترحيلي, فعصبوا عيني, وسألوني عن أغراضي فقلت لهم أن لا شيء معي سوى جزداني وجوالي وعندما سألوني عن الكومبيوتر المحمول فأنكرت أنه لي لأني كنت قد احتفظت بأرشيف كامل للثورة مع أسماء الشهداء إضافة إلى كتب الكترونية ممنوعة من النشر في البلد والغريب أنهم لم يهتموا كثيراً إلا أن المصيبة أن شخص ما قد دس هوية أخرى في جزداني لشخص اسمه عقبة سألوني عنها فما عرفت عما يتكلمون فانهالوا علي ضرباً لخمس دقائق حتى حضر أحدهم وقال أنه وضعها خطأً هنا.

جروني كالكلب عبر بهو المشفى ورموني من أعلى الدرج وعندما استقر بي المطاف على الأرض استقبلتني الأرجل بالركل والعصي على رقبتي وظهري ولقد تعرفت على قدمين اثنتين من أصوات أصحابها فكانت الأولى لمحمود يازجي والأخرى لحسن… وهو موظف آخر في وحدة المعالجة الفيزيائية, رفعوني إلى السيارة وجرح ظهري بحرف الباب السحاب لأنهم جروني إلى آخرها حيث تكون المنفردة وأدخلوا شخصاً آخر كان صوت تنفسه مزعجاً جداً وبعد ربع ساعة دار محرك السيارة وانطلقت السيارة مرتاحة وأنا محشور مع آخر في منفردة.

إلى جهنم و بئس المصير

قطعت السيارة باب المشفى فهدأّت نفسي وأسكنت عيني محاولاً معرفة الطريق التي تسلكها فاتجهت نحو قرية بجوار المشفى فقدرت أنهم لا يريدون أن يعبروا طريق المدينة خوفاً من المقاومين لكنني سرعان ما عرفت السبب الحقيقي ألا وهو التسويق الإعلامي فلقد توقفت السيارة في ساحة القرية على ما أظن وكان الأهالي في انتظارها وفتح بابها وسمعت صوت الأهالي الذين عرفتهم من لهجتهم أنهم من طائفة النخبة الحاكمة وفُتح علي باب المنفردة وصوت امرأة يقول: آه يا خاين تفو عليك روح وانشالله عجهنم ويئس المصير.

وجهت لي العاهرة صفعة على وجهي وللآخر صفعة وأغلق الباب.

عادت السيارة إلى الحركة ودخلت الطريق السريع عبر طريق زراعي لأني أحسست بوعورة الطريق ومشت لدقائق ثم انعطفت يميناً وقدرت أنها عائدة إلى مركز المدينة وفعلاً لم أكن مخطئاً فما لبثت أن توقفت وسمعت الأصوات تتباحث في من سيقوم بتوقيع أمر الترحيل من العميد ولقد استهلكنا من الوقت حوالي نصف ساعة وعدنا للتحرك من جديد والغريب أننا لم نعد إلى الطريق السريع بل تابعنا باتجاه طريق الريف فأدركت أننا سنواجه كثيراً من اللطمات من قبل الأهالي على مدى ثلاثة قرى وتم ذلك فعند كل قرية اسمع الزغاريد وتتوقف السيارة, يصعد الأهالي, يبصقون علينا, يلطمونا ثم نتحرك من جديد.

اعتدت قليلاً على ضيق المكان لكن صوت تنفس الرجل الآخر كان مقززاً بشكل لا يوصف واعتقدت بادئ الأمر أنه مصاب بالبلاهة المنغولية أو أنه كبير في السن فتشجعت وخالفت التعليمات وسألته عن اسمه فقال: أحمد الأحمد.

إنه شاب صوته صوت رجل قوي, فقلت: أحمد فيك تفكلي ربطة أيدي.

فقال: وقف خليني أقعد وجرب فكلك ياها بسناني.

حاول جاهداً لكن عبث فعاودت وسألته: عيونك مسكرين. فأجاب بالنفي وهو يحاول مرة أخرى أن يفك يدي فأوقفته ليقيني أنه سيفشل وطلبت منه أن يفك عصبة عيني وبعد محاولات عدة تمكن أخيراً من فتح عيني ولأنني طويل القامة ولأن المنفردة في مقدمة السيارة أصبح بإمكاني رؤية الطريق.

إننا على الطريق الموصلة إلى المحافظة وركبني هم أن نكون متجهين نحو السجن الصحراوي كما يصفه الكاتب مصطفى خليفة في كتابه القوقعة, أما المفاجأة الكبرى أنه عندما دخلنا مدينة المحافظة وتسلل الضوء إلى السيارة والمنفردة كان أحمد, فهو شاب صغير السن عرفت بعد ذلك أنه في السابعة عشر, رياضي الجسم, طويل الشعر, جميل الخلقة.

فقلت مبتسماً: شو جرمك يا أحمد؟؟؟

فأجاب: رجعت عالبيت لقيتن ميخربو فيه وأنا معي سلاح وفتحت جبهة أنا وهالكلاب ويمكن قتلت واحد منن.

لم كن يوماً عنيفاً ولم أطق العنف يوماً إلا أنه في تلك اللحظة قلت له: لك الله محيي أصلك اللي ما بيحمي بيتو ما بيحمي وطنو.

أعرف هذه المدينة كراحة يدي فقد سكنت في حاراتها خمس سنين وعملت سائق تكسي أيام كنت عاطلاً عن العمل وكنت أتوقع أن يحط بنا الرحال بفرع الأمن السياسي و ليس من هنا إذا إلى أمن الدولة إلا أننا عبرنا المدينة كلها واتجهنا نحو مخرجها الجنوبي وعندما وصلنا آخرها تملكني الخوف فهذا لا يدل إلا أننا ذاهبون إلى السجن الصحراوي, أي أن إقامتي ستطول وربما ستكون عشرات من السنين وعندها خطر ببالي أن أقضي أربع عشرة سنة وسأخرج بعمر الأربعين, كيف سيكون شكلي حينها؟ ابتسمت وقلت لأحمد: راحت علينا يا أبو حميد رايحين لعند وهب اللات. لم يفهم ما قلت. تغير اتجاه السيارة وأصبح الطريق وعراً جداً, إنها أرض قاحلة وصحراوية والمدينة قريبة إلى أين سألت نفسي؟ ولم أجد جواباً وبعد أربع أو خمس كيلو مترات توقفنا أمام غرفة صغيرة خرج منها شاب واحد أجاب على سؤال أحد عناصر السيارة إن كان هناك موقوفين للترحيل عندها أدركت أنني اكتشفت واحداً من السجون السرية المدفونة في الأرض فأجاب صاحب الغرفة: أي أي في كلب طلعت شغلتو فاضية خدو معك.

فرموه في مؤخرة السيارة وانطلقنا عائدين عبر الطريق الوعر ولكننا عندما انعطفنا يميناً أي باتجاه المدينة كدت أن أجنُّ فرحاً لأننا سنعود إلى أحد الأفرع الأمنية وبالفعل دخلنا المدينة مجدداً وأخيراً أستقر بنا المطاف في فرع أعرفه جيداً وأعرف موقعه تماماً إنه فرع الأمن العسكري.

نمّ جيداً فغداً ستموت تعبا

لم يكن عمر الظلام أكثر من ساعتين فقدرت أن الوقت هو التاسعة والنصف مساءً, وقف عسكري بباب السيارة قائلاً: ولك ولاد الشرموطة اللي بدو يكون بأجرو شحاط أو سباط بدي خوزقو. فما كان منا إلا أن خلعنا نعالنا منتظرين الأمر التالي سمعت بعض الضجيج ولما تبينته كانوا الشبيحة أزلام النظام المدنيين المجندين لقمع الاحتجاجات الأخيرة, عاد العسكري مع رفيق له إلى الصياح والصراخ وفتحوا باب السيارة ودخلوا ومعهم مجموعة من الجلود في أيديهم عرفت لاحقاً أنها لعصب العينين وبدأوا بتعصيب عيوننا والتأكد من أن أيدينا مربوطة وأخذوا بإنزالنا من السيارة, كنا تسعة معتقلين وعندما جاء دوري عاجلني بربط عيني أولاً ثم بلكمات لم أستطع إحصائها وأنزلني ليستقبلني الضاربون كأنني طريدة صيد أو صندوق ذهب كل يريد أن ينال حصة أكبر, وما كان من أكبرهم إلا أنه نهرهم عني وقال: تركولي هالبغل إلي.

فقربوني منه وسألني: شو اسمك ولك كلب؟ فأجبته بصوتي العريض, فكرره مرات ثلاث كأنه يبحث عنه في ورقة وصاح: أنت متسب عالرئيس يا عرص ومتدافع عن المخربين ما هيكي يا سافل؟ متطاول عأسيادك يا حقير.

ومع آخر كلمة خرجت فمه بدأت يديه ورجليه باللكم والرفس ثم صاح لأحدهم قائلاً: حطولي ابن هالكلب بمنفردة لحالو حتى نشوف كيف بدنا نربيه.

جروني من شعري وسط ظلام عيني وظلام المكان, ارتطمت مرات عدة في الجدران ووقعت مرتين على درجات لم ينبهني لها أحد, أوقفنا أحدهم وسألني عن أسمي ثم قال: بدك تعمل إمارة إسلامية يا سلفي يا أخونجي الكلب.

فأجبته: يا سيدي أي إمارة وأي سلفي لك أنا مسيحي مسيحي من … وذكرت له اسم منطقتي فقال لي: أنت شهود يهوه ولك كلب أو من جماعة معتوق

فقلت: لا والله فودعني بصفعة قائلاً: بدك تصير من جماعة أسامة بن لادن بعد التحقيق… خدوه لهالحقير.

نسيت ما أنا فيه وخطرت برأسي فكرة أنني طالما كنت علمانياً مطّلعاً على كافة الديانات ورافضاً لهذه الحدود البسيطة التي يعرّفون بها الله ولطالما تحاشيت القسم بالله مستعيضاً بكلمة: أقسم بالحب… لم يطل بي التفكير كثيراً فقد أيقظني من حديث نفسي صوتاً يقول ك أهلا وسهلا أي رح نستضيفك أحلا ضيافة.

سمعت صوت باب يُفتح وأحسست بأنني أقف أمامه, لم يطل تكهني حتى عاد الصوت متزامناً مع رفسة بظهري يقول: فوت.

أُغلق الباب وحلَّ الصمت, تفقدت زنزانتي  أتحسس جدرانها برأسي محاولاً معرفة مساحتها وحجمها, فكانت حوالي المترين بعرض متر فاستغربت كبرها مقارنة عما كنت اسمع أو أقرأ عن المنفردات, ثم انبريت أحاول نزع ربطة عيني حتى تمكنت أخيراً من أن أرَ النور.

جلست أرضاً أنظر إلى الفتحة الصغيرة في الباب الحديدي الأسود مسنداً ظهري إلى الجدار, فظهر وجه أمام النافذة ليقول: من وين أنت يا وال؟

فأجبته فرد مستغرباً: وشو جايبك لهون؟

فقلت: سيدي …

فقاطعني قائلاً: بلا سيدي بلا خرا أنا مسجون متلك.

عندها ارتحت قليلاً وأجبت: أنا هون لأني من المعارضة… فابتسم وقال لي: عطشان لشربك؟؟؟

_ ميت من العطش.

فأسرع وجلب لي الماء وسقاني حتى ارتويت ولما شكرته قال لي: عيب يا زلمي نحنا أخوة وغاب ليتناوب الكل على النظر إلى المسيحي المعارض وكانوا يلقون التحية ويذهبون.

تعاظم ألم يدي المقيدتين منذ أكثر من تسع ساعات والماء الذي شربته زاد من حاجتي لدخول الحمام وفكرت أكثر من مرة أن أبول بثيابي لكنني قررت أخيراً أن أرفس الباب برجلي وأصرخ يا سيدي فلن يكون ثمن المغامرة أكثر من صفعتين بقيت أصرخ وأرفس حتى جائني شاب لديه لحية خفيفة وقال: لشو متبعق ولك حيوان… شو بدك؟ كان مرتباً وأنيقاً ولا يظهر عليه التعب فقلت له مستعطفاً: دخيلك يا سيدي أيديي رح ينقطعوا رح موت من الوجع بدي فوت عالحمام.

فنظر يساراً وقال: افتحولوا الباب وفوتوه عالحمام. فتحوا لي الباب لكنهم نادوه من جديد حتى يسمح لهم بفك وثاقي فأعطاهم مقصاً لأن القطعة البلاستيكية التي ربطت بها يدي لا تفك و لا تحل أبداً, تحررت يداي وعادت الروح إلى جسدي من كتفي عندها استرخيت وقام السجناء بإزالة ملابسي عني وسكب الماء فوقي وهم يقولون: طول بالك… معليش… بيعين الله.

جففت نفسي ببطانية عسكرية شائكة ومسحت وجهي بيدي المخدرتين واستجمعت قواي لارتداء ملابسي وشكرت من حولي لكن السجان أبو علي خرج إلينا ومعه الكلبشة الحديدية وضعها في يدي خلف ظهري رغم توسلاتي أن يبقيها من الأمام لكنه رفض بعنجهية وأدخلني زنزانتي وأغلق الباب علي مجدداً.

تذكرت ما قد رأيته في الأفلام وحاولت تطبيقه فنجح بأن قلبت يدي من تحت جسدي فعادت الكلبشة لتقيدني من الأمام ولأرتاح قليلاً وعدت وارتميت أرضاً أريد النوم وما هي إلا عشر دقائق حتى عاد الذي سقاني وبحركة شيطانية فتح الباب وأدخلني إلى غرفة أخرى فيها خمسة شباب رحبوا بي وتعرفوا باسمي ورويت لهم قصتي فما كان من أحدهم إلا وأخرج من سرواله الداخلي قطعة حديدية صغيرة تشبه الإبرة ولكنها أكثر عرضاً وتناول يدي وبحركة خفيفة فك الكلبشة وقال لي: خيو قوم نام هلأ لأن بكرا جاييك تعب بيموت.

استمعت إلى نصيحة محرري وعدت متهالكاً إلى زنزانتي فوجدتها مفروشة ببطانية ووسادة فوقها دخلت واستلقيت فرحاً وهم أغلقوا الباب.

بكيت بدموع حرقت وجهي وصرت أخمن ما الذي ينتظرني غداً, تذكرت وجه أمي وطعم قهوتها, رسمت طيف حبيبتي وضحكتها وأبدلت رائحة العفن برائحة عطرها ضممتها إلى صدري وأردت النوم, فكما كنت أنزع نظارتي و أضمها إلى جوالي وأضعهم بجانب مخدتي كذلك نزعت عصبة عيني وضممتها إلى الكلبشة ووضعتهم تحت وسادتي ونمت وأنا أتذكر مشهدين تعرضهما القنوات الأخبارية الأول كان لامرأة تونسية تقول: نموت نموت ويحيا الوطن.

والثاني لرجل يصرخ في شارعٍ خالٍ وهو يقول: عاشت تونس الحرة… عاش الشعب التونسي العظيم… بن علي هرب…

أغمضت عيني وقلت لنفسي: تصبحون على وطن .

جلسة التحقيق الأولى

نمت طويلاً ولم يكن هناك من شيء يزعجني إلا أنني كنت مضطراً أن أحمل يدي اليمنى كلما أردت أن أتقلب.

قرع الباب بقوة ووجه أمام النافذة الصغيرة يقول: يا وال يا وال قوم قوم خليني سكرلك الكلبشة… قمت فدخل علي وكان ذات الشاب الذي فكها ليلاً وقال لي: رح يجو ياخدوك عالتحقيق لا تعطين أي معلومات وتحمل قد ما فيك.

حضر أبو علي وصاح باسمي فطلبت منه أن يسمح لي بالدخول إلى الحمام وتجهيز نفسي فكان كريماً وأعطاني من الدقائق عشراً وعاد ليأخذني بعد أن تأكد من عيني المغلقتين وربطة يدي  وانطلق بي ولكن ليس لمسافة طويلة إنها أمتار عشرة لا أكثر ولا أقل وأوقفني بحذاء الجدار ولم يبقَ عالقاً في ذهني إلا دعاء المساجين لي وأنا منقاد: الله يسرلك… الله يحمل معك… ما بيصير غير اللي كاتبو ربك…

انتظرت حوالي الساعتين ولم تخل هذه الساعات من التسلية واللهو فكنت ومن معي من أصحاب العيون المغمضة تسلية لعناصر الفرع بأسمائهم المستعارة فذاك بعصاته الغليظة وآخر بالقبضة الكهربائية وثالث بكفه الأصم…

بقيت هكذا حتى سمعت اسمي فقلت: حاضر سيدي.

“سيدي” هي كلمة تقولها دون أن تعرف صاحبها قد يكون عميداً أو مجنداً أو ربما مستخدماً يحضر القهوة والشاي ولكن لأنه حر اليدين ومفتوح العينين فهو سيدي, لأنه قادر على سكب الماء البارد أو الساخن على رأسك فهو سيدي, لأنه قادر على شد وثاق يدك فهو سيدي, لأنه قادر على حشرك في غرفة صغيرة مع عشرات الرجال لذلك تضطر أن تقول له: سيدي.

جرني سيدي إلى غرفة أحسست من صدى أصواتنا أنها كبيرة وقال: سيدي هادا اللي قلتلي عنو. فأجاب صوت عرفت أنه المحقق قائلاً: أهلين بالسيد أديب… قعود لنشوف.

ركعت على الأرض ورأسي بمستوى المكتب الذي يجلس خلفه فأدركت أنه يرتدي بنطالاً بني اللون وشحاطة بنفس اللون.

وبدأ الحديث:

_ شو عندك معلومات عن اللي صار؟

_ سيدي أنا موظف بالمشفى وما بعرف شو صار لأن ما كنت مداوم.

_ شو بلشنا بأكل الخرا بدك تحكي بالصرماي فأحكي من الأول أحسنلك.

_ يا سيدي أنا بروح عشغلي وبرجع عبيتنا من دون ما أحتك بحدا من ألأهالي وما إلي علاقات بالمدينة أبداً.

_ يعني  أبتعرف مين كان معو قناصات عسطح المشفى.

_ قناصات شو يا سيدي أنا من يوم ما اقتحم الجيش المدينة ما داومت.

_ وأبتعرف مين الأطباء اللي كانوا عم يحرضوا بالمشفى.

_ يا سيدي كل أطبائنا من الموالين للسلطة وأنا ما حدا حكى قدامي أي شي.

_ شو اسم الشيخ اللي كان عم يحرضك عالمعارضة.

_ يا سيدي أي شيخ كرمال الله والله ما بعرف حدا أنا.

كانت الصفعة الأولى من يده الضخمة ثم عاود ورماني برجله على الأرض وصاح: قلتلك أحكي من الأول يا ابن الشرموطة وما فعلت هلق بخليك تحكي دعس رقبتك.

وابتدأ ثلاثة من الرجال بضربي بطريقة جنونية وتوقفوا كلهم دفعة واحدة وكرر المحقق السؤال: ها أبدك تحكي شي يا حيوان. فأجبت: ما بعرف شي.

عندها قال: علقوه لهالكلب .

لم أدرك حينها ما الذي تعنيه كلمة ( علقوه ) لكن سرعان ما فك وثاقي وما لبث أن عُقِدَ مجدداً مع تغيير بسيط أن يدي كانت للخلف وأصبحت للأمام وسمعت صوتاً صادراً من بين يدي.. إنها كلبشة ثانية يوضع أحد أطرافها بين يدي والأخرى عُلقت بمكان آخر لم أجهله إلا لثوانٍ فلقد كنت حسب ما يقول المثل الشعبي : كالأطرش بالزفة. ارتفعت يدي قليلاً… استمرت يدي بالارتفاع وأنا أسمع صوتاً أحاول أن أتذكر صاحبه… آه إنه البلنكو (رافعة يستخدمها الجزار لتعليق الذبيحة فيسهل عليه تجريدها).

ارتفعت يدي قليلاً قليلاً حتى بلغت حدها الأخير وانسحب جسدي مرتفعا ورائها وتوقف الرفع لأكون معلقاً في الهواء ومستنداً على رؤوس أصابعي قدمي فقلت في نفسي: إن كان هذا التعليق فبسيط جداً… لم تمض بضع دقائق حتى بدأت بالتململ والحركة فما كان من الكلبشة إلا أن شدت أكثر على يدي وانغرزت في معصميّ.

مضت نصف ساعة وصوت المحقق يقول: شو تذكرت شي…

فأجبت: ما بعرف شي.

فمل من كان يحقق معي وطلب إحضار موقوف آخر ليبدأ معه التحقيق بينما أنا معلق ومع مرور الوقت أصبحت أخترع أشياء في ذهني بأني طائر وبأن الألم اختفى وأني في مكان آخر… كنت أدندن الأغاني ولا يوقظ أحلامي وأغانيَّ إلا صوت المحقق: شو يا ابن الشرموطة… وأنا لا جواب لدي.

بدأ وعيي يتغيم وهي حالة طبية أعرفها جيداً وأصبح السؤال عن استسلامي من قبل المحقق يتكرر لكن بمسافات زمنية أطول لانشغاله بالموقوف الثاني والثالث والرابع وأنا معلق حتى سمعت صوته يصرخ: ولك حيوان ديقتلي خلاقي كل الكلاب حكت إلا أنت بدك تحكي ولا شو…

_ يا سيدي الله وكيلك ما بعرف شي.

فاقترب مني قليلا وبصوت مليء بالإعجاب قال لي: بتعرف يا حيوان أنا إلي بحقق 20 سنة وأنت أول جحش بيتعلق كل هالمدة وما حكا… أي لعمى بعيونك إلك معلق 8 ساعات بحضي لازم تعترف أنك احتليت العراق…

وبصوت حازم قال: نزلوه.

عادت الروح إلى جسدي من كتفيّ وأغمي علي فكانت الماء هي من أيقظني هذه المرة وأجلسوني على الأرض مرة أخرى وقال لي: يا أديب أحكي اللي بتعرفوا الرئيس أصدر عفو عنكين كلياتكين فأحكي مشان ريحك.

_ يا سيدي والله ما بعرف حدا ولا شفت حدا ولا حتى بعرف حدا من الأهالي.

فقال: افسخوه… هيدا حيوان حابب يتعزب ويعزبنا معو.

ماذا يعني؟ كيف؟ لمن يقول هذه الكلمات؟ أسئلة تواردت إلى ذهني.

رُبطت يدي مرة أخرى بعد تحريرها كل في جهة وقدماي أيضاً وبعد لحظات بدء الشد من أطرافي الأربعة, شدّوا كثيراً والواضح أنهم بشراً وليست آله لأن الشد كان متبايناً ولكني عند لحظة ما فقدت القدرة على السيطرة على أعصابي فقد آلمتني قدمي جداً حتى أني سمعت أصوات الأوتار بين فخذي تتمطط هنا صرخت بجنون مطلق: يا أخوات الشرموطة والله ما بعرف شي.

فتركوا الحبال وانهالوا علي ضرباً بكل طرق الضرب.

_ عاد المحقق يسألني: شو تذكرت؟

_ ما بعرف شي.

_ حطوه بالدولاب لهالكلب…

مرَّ الدولاب وألم الدولاب وانتهت فقرة الدولاب كسابقتها بكلمة: ما بعرف شي.

جعلوني أقف وأعادوا ربط يدي من الخلف ولكنهم أنزلوا لي بنطالي مع سروالي الداخلي ووسط ألم خجلي لسعت من عضوي التناسلي لسعة كهرباء فصرخت وتكررت اللسعات ومع كل مرة يسألني: أبدك تحكيلي اللي بتعرفوا… حتى أجبته أخيراً: والله حرام عليك لك أنا ماني عامل شي حرام عليكن حرام لك هادا كفر.

فكأني أيقظت شيطاناً كان نائما فرفسني برجله لأقع أرضاً وهو يقول: أنتو بدكن تعلمونا الحلال من الحرام يا عرصات يا خونة يا أرهابية يا سلفية يا كلاب…

ركعت على ركبتي فوضع رجله على رأسي وأخذ ينزلني حتى لامس وجهي الأرض وأنا راكع وهو يقول: هون محل راسك يا واطي متتطاول عأسيادك يا كلب… في غمرة ألمي أتاني ألم جديد فعصاته الغليظة أخذت تأخذ طريقها في شرجي وهو يضحك مع عناصره متهكمين قائلين: أي أي هيدول بيحبو هالشغلات… كل شيوختين بيلحقو العجيان.

صاح صوت حازم من بعيد: يا 46 شو متسوي يا حجش؟

صمت الجميع ليحضرني شخص يعيد رفع بنطالي ويَركعني من جديد.

بكيت وكانت أول مرة أبكي فيها, بكيت بكاءً مراً وعرفت لماذا تكون دموع الرجال غالية ومُرّة, نزلت دمعة باردة أحرقت وجهي بعد دمعة ذرفتها لصورة أمي لكن دمعتي هذه كانت على شعب اعتاد الحقد و اعتاد الظلم.

عاد 46 لإصدار الأوامر وكانت: شدوه عبساط الريح…

شدوني إلى بساط الريح ولكن دون أن يحصلوا على شيء لأني بالفعل لا أعرف شيئاً ولكني بعد ألم بساط الريح قلت له: أنا عرفتك وشفتك وحفظتك وأنا ما رح ضل كل العمر بالسجن… عندها لملم أوراقه وخرج من الغرفة مسرعاً وبقيت مرتاحاً لدقائق خمس.

سمعت صوتاً جديداً يقول لي: يا أديب هيدا شغلنا شو متقول للمحقق؟

فقلت: شغلتو أنو يجبرني أحكي بدون ما أعرف شي, شغلتو أنو يغتصبني بالعصا, هيك قلو الرئيس يدافع عنو ويحافظ عهيبة الدولة…

فقال: بس أنتو خربتو الدني بدكين تعملو إمارة إسلامية وبدكين حكم مستقل.

فقلت: أي إمارة يا سيدي ولك أنا مسيحي.

عم الصمت الغرفة وبعض الهمسات تردد: مسيحي… معقول مسيحي…

سمعت صوت 46 يقول: أتركوه هادا الظاهر بدو جلسة تانية.

فقال المحقق الجديد: خدوه.

حملني إثنان أوقفوني ثم أُخرجت إلى العراء حافياً كانت النسمة باردةً لكنها جميلة… ملأت صدري بالهواء النظيف الخالي من رائحة التبغ واللحم المحروق بالسجائر و قبضات الكهرباء, مشينا من الأمتار خمسين وكلما قطعت متراً تلقيت صفعة أو رفسة حسب رغبة الضارب, نزلنا درجتين, شممت رائحة البطاطا المسلوقة ومن على يميني صوت رجل قريب يسأل عن اسمي فأجبته ليدخلني رجل آخر بعد أن فك يدي ونزع عصبة عيني.

رأيت النور ملء عيوني, رأيت وجهاً بشرياً بعد ثلاثة عشر ساعة من الظلمة. باب أسود وجدار أبيض متسخ, فُتِحَ الباب وتلقيت دفعة لأدخل إلى مكان مليء بالرجال وبعض الأطفال والشيوخ.

ما الذي يفعله هذا الطفل هنا؟ إنه كهل جداً لما هو بيننا؟

بدأ الجميع يطبطبون على كتفي قائلين: بيعين الله… أدمعت عيناي ودفعوني بهدوء قائلين: فوت غسل.

استغرق وصولي إلى المكان المطلوب بعض الوقت فالازدحام شديد وألم مفاصلي أشد, اغتسلت قليلاً ببعض الماء وقد عرف وجهي بعض الموجودين لأني موظف في مشفى مدينتهم مثل أمجد ن ونور الدين ع فالأخير كنت قد عالجت قدمه المكسورة منذ أكثر من شهرين.

عدت وجلست قرب أمجد و نور الدين وسألوني عن سبب وجودي هنا فأخبرته بحادثة المشفى والمريضة المسنة وتلك الممرضة التي كانت تضرب المدنيين.

ما هي إلا ربع ساعة كان كل من في المهجع يعرف قصتي ويعرف اسمي مع سبب وجودي والكل يمرون بي مشجعين قائلين: الله حيك يا هيك الرجال يا بلا… الله يثبتك عإيمانك… نحنا أخوة…

ترافقت كلمة ( نحنا أخوة ) مع معرفتهم بأني لست مسلماً بل مسيحياً وبأني من منطقة المسيحيين فهذا ما زاد رصيدي وجعلهم يعطوني مكاناً لارتاح قليلاً لأنه لا يمكن لأحد أن يتمدد على الأرض فإما واقفاً أو جالساً لأن عدد المساجين كبيرا جدا في مكان طوله حوالي ثمانية أمتار وعرضه لا يزيد عن ستة, فسمحوا لي أن أتمدد لمدة ساعتين على الأرض وارتاح قليلاً بعدها قمت من تلقاء نفسي لأسمح لموقوف آخر حضر مؤخراً من التحقيق ليحل مكاني.

لم يمض على وجودي في المهجع أكثر من ساعة حتى بدء العرق يتصبب مني ورائحة النفس تقتلني ورائحة الحمام ورائحة عرق الأجساد باختلاف روائحها لكن عظيم أنت أيها الإنسان وعظيمة هي قدرتك على التأقلم والعيش في كل الظروف لأن الرائحة توحدت والإيمان بالقضية جعل من كل شخص في المهجع هو أخٌّ وصديق للآخر لم يكن بيننا من هو سارق أو قاتل أو صاحب جرم أخلاقي فالكل كان موقوفاً لأنه من أطراف المعارضة للسيد الرئيس الفاقد الشرعية, للطفل الذي عُدّل دستور بلادي ليتناسب مع عمره, للقزم السياسي صاحب اللكنة الغبية, معارضون لذاك الضاحك من دماء شهدائنا, للمراوغ للمتلاعب بالكلام, لسارق خيرات بلادنا منا ولواهبها لأبناء أعمامه وأخواله.

سهرت مع أخوتي الليل كله وكان أول من تعززت علاقتي بهم هم أمجد و أخوه محمد، صحيح أنهم كانوا بدينين قليلاً لكنهم يتمتعون بصوت منخفض وبعيون ذكية حتى أن ملابسهم كانت أنيقة ولكن ما لفت نظري هو طفل جميل الوجه نحيل القامة أشقر الشعر وداهية في حركاته فناديته فقال: أمرني أخويي. سألته عن اسمه فقال: أنا معتصم, كان معتصم صاحب ستة عشر ربيعاً اعتقل مع أخوه أثناء محاولتهم الخروج من المدينة مع أمهم هرباً من القصف والجيش القادم للسرقة والنهب.سألته معتصم: ضربوك شي، فقال: آخ يا أخويي, لكن ما ضربوني قال أنا كان معي سلاح وكنت مقوص عالجيش أي الله وكيلك البارودة أتقل مني.

ضحكنا على كلامه البسيط وذهب معتصم عائداً إلى أثنين من رفقائه الصغار الذين كانوا يلعبون طوال الوقت أولهم ورد ح و الأخر محمود ص.

أخيراً جاء دورنا في الجلوس جلسنا وأعطيت ظهري لمحمد وهو أيضاً فاستطعنا النوم ساعتين تقريباً واستقيظنا ليحل محلنا آخرين ونعود للوقوف, لكن الغريب أن التعب والألم الذي ناله كل منا أثناء التحقيق قد ذهب عندما عشنا في هذا المهجع كأننا أصدقاء نعرف بعضنا منذ سنين.

أطل الصباح وتبادلنا تحيته رغم عدم نومنا وتطلع كل منا إلى تلك الشبابيك المعلقة برؤوس الجدران والتي منها فقط يمكننا تبين الليل من النهار وكانت أصوات المساجد النافذة إلينا هي الوحيدة التي تعطينا التوقيت بدقة.

كان الباب يفتح إما لإدخال الموقوفين من التحقيق أو لإخراجهم إليه وعند فتح الباب دون إذاعة أسماء فيكون حينها حل وقت الطعام فمع الصبيحة يكون نصيب كل منا بضع حبات من الزيتون مع خبز تعاف الكلاب شمَّهُ والغداء أرز ملتصق موضوع في قصعة قد تصدأت من كثرة الاستعمال، أكلت مع باقي الرفقاء وأصبحت دائرة معارفي تتسع فمحمد أبو يوشع شاب كبير الجسد والرأس معاً له شكل مجرم وقلب طفل أما متعب الذي كان عند كل لحظة صمت يردد علينا كلام المحققين والعناصر ليضحك ويضحكنا _ بدكن حرية يا عرصات ها

سمعت اسمي ضمن لائحة المطلوبين للذهاب إلى غرف التحقيق فنظرت بسرعة إلى رفاقي خائفاً وما كان منهم إلا بعض العبارات التشجيعية: قول الله… روح والله معك… قل لا يصيبنا إلا ما كتب الله لنا…

وصلت إلى الباب وأدرت ظهري بحسب العرف لتقييد يداي وتغمض عيناي لأحضر الموعد مع المحقق 46 وبعبارة أخيرة ودعت زملائي وأنا أقول: راجع وبصوتي إيماني

جلسة التحقيق الثانية

لم تكن هذه المرة أفضل من سابقتها فالمدنيين المجندين كانوا بانتظارنا ليمارسوا هواية الضرب على كل المارين من معتقلين وخونة على حسب قولهم, وصلنا المبنى وصعدنا بعض الدرجات التي كنا نزلناها سابقاً وانتظر كل منا دوره, لم يطل انتظاري طويلاً فدعاني المحقق 46 بصوته الذي ما زال يخنق صوت فيروز في أذني وقال ضاحكاً: شو يا حيوان بدك نعيد متل مبارح ولا بتقر بكل شي بتعرفوا.

_ يا سيدي أنت ليش مصر أنك تخليني أحكي شي أنا ما بعرفوا؟

_ أبتعرفوا…؟ ليش وقت خطاب الرئيس عرفت تقول أنو الخطاب ما فيه شي… لحظة لحظة أنا بقلك شو قايل بالحرف… سمعت تقليب بعض الأوراق وصوته آخرهم: أي قلت خطاب الرئيس فارغ… أنت يا صرصور بتحكم عخطاب الرئيس ولك حيوان؟

_ يا سيدي أنا قلت فارغ من القرارات وما أهنت حدا بكلامي.

_ أي خراس خراس وقلي مين كان معو قناصات عضهر المشفى.

_ لك قناصات شو مقلك أنا ما كنت مداوم بهديك الفترة وما بعرف حدا.

التفت 46 إلى عناصره وأمرهم بتعليقي كالمرة السابقة وأعاد وأنزلني بعد ساعتين أو أكثر قليلا وقليلاً أنزلت في الدولاب وشددت إلى بساط الريح ولكن الجديد بالموضوع هو تناقص ألمي عن ما عانيته قبلاً فعلى الأقل صرت أعرف كل وسائلهم وألم المفاجأة سبب آخر من أسباب التعذيب, استمر تعذيبي هذه الجلسة لفترة أربع ساعات تقريباً وأنا مصّرٌ على أنني لا أعرف شيئاً, أنكر كل التهم الموجهة لي, وأحاول أقناع المحقق الغبي بأني لست من السلفيين ولا من الأرهابيين أو الطامعين بحكم دولة تنافس عليها المذهبين العلوي والسُني ولكن فكرة مسيحي قد جعلته يفكر قليلاً ويصمت لدقائق تخللها بعض من الأسئلة كان يطرحها علي شخص يحمل في إصبع يده اليسرى خاتماً فضياً كتب عليه حرف R سألني عن منطقتي وعن أسماء القرى واسم شخص يدعى أسعد م وكان من دواعي الصدفة أنه قريب لأحد زوجات أعمامي فأشار للمحقق 46 بأني من منطقة مسالمة وأهلها أهل سلام ومودة.

استسلم المحقق 46 بوجه عنادي وإصراري وبدأت لهجته تتغير معي وتحول مجرى الحديث ليسألني عن رأي المسيحيين في الحكم وعن الأقوال المتداولة في منطقتي وعن أهم الشخصيات فأجبته بكل حذر, وعرف هو من خلال أجوبتي بأني لن أعطيه أية معلومة تفيده في كسب رضا معلمه قرر أن يكتب التقرير وينتهي مني ليتفرغ لموقوف آخر وكان يردد وهو يكتب: ضيعتلي وقتي الله يضيع عمرك.

كان من أطرف ما تعرضت له أثناء التحقيق هو سؤاله لي عن كلمة وردته في أحد التقارير بأني قد قلت: أنا إنسان رمادي فسألني عن معنى عبارتي ليدونها لديه, كان من أصعب الأسئلة التي وجهها إلي ليس لأني غير قادر على الإجابة بل لأني أعرف حق المعرفة بأنه لن يفهم معناها مهما بسطُّها له أجبت: يا سيدي بالإنجيل مكتوب: فليكن كلامكم نعم نعم أو لا لا وما زاد على ذلك فهو من الشيطان… وبالقرآن الكريم فيه آية بتقول: إنّا خلقناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم… والإمام علي بن أبي طالب قال: ما ناقشت عالماً إلا وغلبته وما ناقشت جاهلاً إلا وغلبّني… يا سيدي أنا مؤمن بكل هدول الناس وأقوالن وما بحب كون منتمي لأي حدا أو أعتبر أني أنا الصح وغيري خاطئ.

فما كان من المحقق إلا أن قال لي: يعني شو بكتب هلق؟

فابتسمت بداخلي ولم أنطق بعدها بحرف.

أعدت عليه سبب اعتقالي وطلب مني أن أذكر أسماء الأطباء الذين كانوا يحرضون لزيادة شحنة التوتر, وبالطبع لم آت على ذكر أحد لأنه بالفعل أنهم كلهم من لون واحد سوى بعض الأصدقاء المحببين إلى قلبي و كنت قد قررت سابقاً أن أموت قبل أن أصرح بأي حديث لأحدهم معي أمام المحققين.

فجأة أوقفني وفك الكلبشة من يدي وقام بطبع بصمتي بآخر تقريره فعرفت حينها أننا انتهينا من التعذيب والألم ولم تعد المسألة إلا مسألة وقت إما للترحيل إلى أحد السجون الكبرى أو إخلاء السبيل المشروط بعدم التظاهر مجدداً تطبيقاً للقوانين الأخيرة الصادرة عن القزم السياسي.

أخرجوني مرة أخرى إلى العراء ومررت مجدداً بالسفلة المدنيين وعندما دخلت المهجع انتبه أخوتي أني ملوث الباهم الأيسر بالحبر الأزرق فعاجلوني بالسؤال: بصموك ؟ فقلت: أي بصموني… وابتدأت المباركات والتهاني لأني أنهيت حصتي من التعذيب والذّل وقالوا لي أنه لم يبق إلا أن أعرض على اللجنة فأعيد ما قلت في التحقيق وبعدها بعض الأيام وأعود إلى بيتنا.

جلست أروي للأصحاب ما دار بيني وبين المحقق وأخبرتهم عن غبائه في كلمة ( أنا إنسان رمادي ) وضحكنا منه كثيراً ولأن السجان يكرهنا كرهاً عظيماً فكان دائماً يصرخ فينا شاتماً بأقذر العبارات طالباً منا أن نصمت فهم يخافون حتى من كلامنا ومن توحد آرائنا و تعارفنا وتحاببنا.

ارتفعت أسهمي كثيراً وكنت من بين الذين إذا تكلموا صمت الجميع وإذا طلبت أمراً لصالح الجماعة لبّى الجميع وكان أكثر الأشخاص المساهمين في هذه النقطة الشيخ عبد الحليم ح وهو إمام جامع في منطقة حدودية قريبة من المحافظة كان كهلاً بعمر الستين تقريباً هادئ الصوت, جميل الوجه, قوي الملامح والتعابير وما زلت أذكر عبارته لي بعد أن رويت له سبب وجودي معهم: شوف يا عمي أديب بحب تعرف شي واحد بس أنو ما في حدا إلو بهالبلد أكتر منك ونحنا أخوة بإذن الله.

أحببته جداً وهو كذلك وصار الصباح منه يشبه صباح شرفة بيتنا, كان دائم الكلام عن الشهادة والتضحية في سبيل الوطن, وفي سبيل الحرية المغتصبة منّا منذ أكثر من أربعين عاماً, ولقد أكد لي ما كنت أفكر فيه أن المتشددين ولو وجدوا هم من صنيع السلطة ومن زيادة تضييق الخناق على المسلمين الملتزمين بشعائر دينهم, روى لي كثيرا عن سوريا التي عرفها في صغره وعن أصدقائه المسيحيين والعلويين مؤكداً لي أن الحق هو السلطان في كل الأزمنة والأوقات.

كان الوافدون أكثر بكثير من المغادرين ومع كل معتقل جديد تتجدد الأحاديث تبعاً لقصته التي أدت إلى جرّه إلى هنا وما زلت أذكر قصة الأخوين قوتلي وهم شابان قويان البدن والشخصية, عرفنا عليهم السجان أنهم كانوا يرتدون ملابس نسائية ويقومون بإطلاق النار على قوات الجيش والأمن وأنهم كانوا يرتدون ملابس للجيش تحت ثيابهم النسائية ليطلقوا النار على المدنيين متهمين الجيش بذلك ولكن هيهات منا الخداع فما لبث أن خرج المحقق وتبين لنا من أحد معارفهم أنهم رجال حقيقيون وأن هذا الكلام لا يمت إلى الحقيقة بصلة ولما اقتربنا من زنزانتهم المنفردة أخبرنا كبيرهم بقصتهم الحقيقية, بأنهم كانوا معتقلين في السجن العسكري وأن أحد العاملين هناك قد أعطاهم ثياب الجيش عوضاً عن ثيابهم الممزقة وأنهم أثناء عودتهم إلى حارتهم كان إطلاق النار كثيفاً فأعطتهم امرأة بعضاً من ثيابها حتى يسلموا من اعتقال الأمن التعسفي لكل رجال الحارة وقد كشفا بسبب مشيتهم الرجولية فقبض عليهم الأمن ولفق هذه الرواية التي حكاها لنا السجان الساقط .

كان أملنا في العودة إلى بيوتنا ضئيل جداً وأن إقامتنا ربما ستطول لذلك كان من المهم قتل الوقت باكتساب المعارف وتبادل القناعات ومناقشة المراحل المقبلة من تاريخ سوريانا الجميلة أذكر صوته وأذكر تفاصيل رأسه الكبير ولفت نظري عبارة إنكاره أن لديه ابنة صغيرة ولما تبينت السبب فقال حتى لا يشتمها المحقق السافل, إنه فادي م كان جرمه الوحيد أنه من أبناء أغنياء المدينة لذلك فإن تهمته جاهزة وهي تمويل المتظاهرين و شراء الأسلحة ولكن وجهه يخبرك بدون أي كلمة أنه لا يشتري إلا الأطعمة والمأكولات فهو بدين جداً, كان فادي يتمتع بأخلاق أولاد النعمة ويحاول دائماً أن يهدئ من حدة النقاشات حتى لا ننال حصة من الشتائم أو الضرب من قبل السجانين.

كان المساء ليوم الخميس وغداً سيكون يوم الجمعة التي أسموها جمعة أزادي أي جمعة الحرية سعياً وراء ضم الأخوة الأكراد إلى صفوف الثوار ولهدم الجدران التي خلقها النظام تحت تصنيف هذا عربي وذاك كردي.

كان أحلامنا تصل إلى اقتحام المتظاهرين للسجن القابعين فيه ليفتحوا لنا أبواب الحرية ويغلقون على الظالم قبر المحاكمة لما اقترفته يداه من القتل والتشريد والاغتصاب, كنا ننتظر الصباح ليقربنا من صلاة الظهر ونسمع دوي الأصوات تصرخ: الشعب السوري ما بينذل… بالروح بالدم نفديك يا شهيد…

عند ساعات الصباح الأولى وبعد تلاوة الأسماء للتفقد دخل علينا قزم لا يتجاوز طوله السبعين سم حليق الرأس أسود اللون, تبيناه فكان كلامه غير مفهوم حتى قدّرنا أخيراً أنه متخلف عقلياً وترافقت معه رواية السجان بأن هذا القزم المسكين كان يحمل العلم الإسرائيلي أثناء خروجه في أحد المظاهرات ولكن صفة الكذاب ألصقت بصاحب الرواية لمجرد معرفتنا أنه متخلف عقلياً ولكن المؤلم هو ضربهم له وآثار الجلد على ظهره و قدميه وهو لا ينطق بكلمة سوا دموعه الخانقة وكان من أكثر ما آلمني حين أجبره السجان على إخراج عورته أمام جميع الرجال الحاضرين و ضحكة السافل تقهقه ملأ المكان أنهاها بجلدة من كبل لا يضرب به إلا الحيوانات وصرخة من قزمنا الذي اتخذ بعدها من باب الحمام مكاناً لينام ويجلس ويأكل.

ساعة أخرى ومعتقلين كثر يدخلون إلى المضافة الأسدية لكن يحيى م كان أزرق الوجه ومحني الظهر حاولنا مساعدته قدر طاقتنا وهو ليس على لسانه إلا عبارة: استغفر الله العظيم.

ارتاح يحيى قليلاً وقال لنا أنه اعترف أنه قام بقتل أربعة من جنود الجيش فهو لم يعد يستطيع تحمل الألم والعذاب أكثر من ذلك ولكن ما يلفت النظر أنني عرفت بعد خروجي من المعتقل أن يحيى خرج بعدي بأيام معدودة وأن اعترافاته كلها اضمحلت ليشمله عفو أصدره الرئيس محاولاً إرضاء الشارع الذي قام ولن يعود إلى غفوته ما دام هو جالس على سبّة الرئاسة.

مرت ساعات الظهر ولم يدخل علينا المتظاهرين ولم تفتح لنا أبواب الحرية ولكن الباب فُتح لإدخال بعض ممن كانوا يتظاهرون بعد صلاة جمعة أزادي وكانت أخبارهم تسر الخاطر وتزيد من جرعة الحماس والإيمان بالقضية التي بسببها نحن معتقلون فمظاهرات اليوم عمت المحافظة وزادت من إرباك الأمن ودفعت الأمن إلى ارتكاب مزيد من الحماقات وقتل المتظاهرين مما دفع رئيس الولايات المتحدة الأمريكية أن يصرح بأن على الرئيس أن يسارع بالإصلاح الحقيقي أو أن عليه الرحيل فوراً وكان المميز بالأخبار أن محافظتنا الأكثر حراكاً شعبياً مما جعلنا نفخر بأننا أبناء العدية.

نسينا فكرة السجن وقضينا الليل كله في مزيد من الأحلام والتمنيات برحيل هذا الطاغية مع جميع كلابه المسعورة ولكن وسط فرحتنا صاح السجان ببعض الأسماء كان اسمي من بينهم لنعرف لاحقاً أننا مدعوون للمثول أمام اللجنة العسكرية التي يتوجب عليها إعادة التحقيق معنا بأسلوب حضاري وأكاديمي ولكن كيف يكون هذا ونحن سنقابلهم مغمضين العيون مكبلين الأيدي ومطأطئين الرأس أخرجونا وانطلقنا مجدداً في رحلة الضرب المزاجي من قبل أشخاص موزعين على امتداد الطريق بين المهجع ومكتب اللجنة.

التصقت بالحائط مجددا لأن دوري لم يأت بعد, غادرني من هو أمامي ولما عاد جُررت من شعري واعتليت درجتين وفتح لي الباب من كان يجرني وصوت قوي صلب يقول لي: شو يا كلب… ياللي شوهت اسم…… بعملتك الوسخة ( ذكر اسم قريتي ) لم أنطق بأي حرف فقال: شو انقص لسينك لبقى تعرف تحكي… جاوب ليش متدافع عن المسلحين؟

أجبت: يا سيدي أنا ما دافعت عن حدا أنا قلت أنو المريض مريض شو ما كان سواء من الجيش أو المسلحين والنقيب عيسى تبلاني لأني اختلفت أنا وياه قبل الأحداث.

صرخ: هي فهمنها ولشو متحرق صور الرئيس ومتسب الرئيس والدولة.

_ يا سيدي أنا ما سبيت حدا ولا بسب حدا لأني بعرف أنو المسبات ما بتجيب نتيجة ولا ممكن تحل أي مشكلة.

فسألني عن اسمين من أسماء رجال قريتنا عرفت مستواه من خلالهم فهم أسفل وأنذل الذكور في قريتنا ولما سألني عن ابن واحد منهم أخبرته أنه كان من زملاء المدرسة وفي نفس صفي فقال: قديش الفرق بينك وبينو وهوي شب ميناضل عالانترنت لخدمة بلدو وأنت متل الكلب متدافع عن المسلحين وأنا بعرف أنو أنت ما إلك نوايا سيئة وتخريبية بس أنت الظاهر جحش وما بتعرف أيمت لازم تحكي وأيمت لازم تخرس وكرمال الشباب رح سامحك روح انقلع هلق, ضرب الجرس وحضر شخص يريد جري من شعري مجددا فنهره الصوت الذي كان كلمني وقال: لا مو هيك… خدو وديرو بالكن عليه وبالفعل أخرجت بقليل من الاحترام وأعادني هو إلى المهجع ولم يسمح لأحد أن يضربني في طريق العودة.

كنت أول العائدين لأني حصلت على توصية من قبل ذاك الصوت الحقير وتوارد الجميع يسألني عما جرا فأخبرتهم بالتفصيل عن زيارتي كاملة وعن أسئلة الصوت لي وإجاباتي فتبسم الكل ودعّوا الله بأن يفك أسري وعادوا إلى أماكنهم وبقيت مع رفاقي اللذين كانوا قد ضمّوا إليهم شابين جدد هم أخوين جميلين كنت قد ألفت وجوههم بسبب مروري الدائم في السوق الذي يملكون أحد محلاته.

لم أدرك حينها ما الذي جعلني أتعجل الخروج وما الذي تغير في نفسي حتى صرت أتحرق لفتح الباب وأتعجل أن ينطق السجان باسم لأخرج عائدا إلى بيتنا ألكي أكتب هذه الطور وأوثق هذه الأحداث المؤلمة أم لأني اشتقت إلى السرير النظيف والقهوة الساخنة.

أصبحت الساعات تمر علي متثاقلة الخُطا والقصص ذاتها تكرر مع دخول كل سجين وخروج آخر إلى التحقيق ولم يخرجني من حالتي هذه إلا تعرفي على شاب جميل الخلق والوجه عرفني باسمه أنه طارق ( أبو حازم ) صاحب قضية وصاحب أولاد ثلاث, آلمتني دمعته عندما عرفت أن أخويه الاثنين يقضيان أحكاماُ قضائية بتهمة انتمائهم إلى تنظيم الإخوان المسلمين المحظور في بلادي وبأن لا معيل لأهله ونساء إخوته وأولادهم إلا هو.

قويت علاقتي بطارق وتبادلنا الأحاديث لساعات طوال قضيناها في زيادة ضغينتنا على رجالات النظام وانتقاد كل تلك المراسيم الفاشلة التي أصدرتها كرسي الرئاسة فهي لن تنقذ أصحاب المزرعة من المحاكمة والإعدام .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى