سمر يزبكصفحات الثقافة

بوابات أرض العدم

 

سمر يزبك

-2-

كان يلزمه المرور من الشارع والاستجابة لدورية العسكر والأمن. الشاب ابن التاسعة عشرة، كان حائراً، هل يتجاوز الشارع؟ هو يعرف أن القناص يقوم باستهداف كل من يتجاوز الرصيف. لم تكن حيرة طويلة، إذ سرعان ما اتجه نحو الدورية بقلب واجف، هو ميت في أي حال، إن لم يستجب لدورية العسكر، سيطلقون الرصاص. يبقى احتمال أن يقنصه الرجل في أعلى البناء، أقل.

عبرَ الشارع، وتجادل لبضع دقائق مع أحد عناصر الأمن، ثم اتصل بوالده ليأتي له ببطاقة هويته، كان قد نسيها في البيت! عندما حضر الأب، كان يلهث. وصل، وسقط على ركبتيه، وهو يناول البطاقة للحاجز الأمني المسلح. لم تمض سوى دقائق، حتى اختفى الأب والابن مع الدورية. عُثر على الابن في اليوم التالي مرمياً، وفي جبهته فتحة عميقة فارغة. قال الجيران، إن فوهة المسدس لامست جبهة الابن، حين خرجت الرصاصة منها، أما الأب الذي ظن الجميع أنه محتجز لدى أحد فروع الأمن، فعُثر عليه مقتولاً، ومرمياً بين كومة جثث، في بناء يعرف الأهالي أن رجال الأمن يستخدمونه كمنطقة إعدام ميداني. لكنّ رصاصة واحدة لم تكن كفيلة بقتل الأب، كان جسده مثقوباً بالرصاص، مع أثار طعنات، وكسر في يده اليسرى. قال الأهالي: إن الأب مات وهو يدافع عن ابنه.

لا بطل هنا سوى الموت. لا قصص يرويها الناس سوى عنه. كل شيء قابل للنسبية والاحتمال، إلا بطولة الموت المطلقة. أو لحظة خارجة من السياق الزمني، هي تلك اللحظة التي كنا نجتاز فيها الأسلاك الشائكة ليلاً، نعبر التيه إلى التيه، حيث حفر الشباب بوابة لمرورنا، وحيث كنا نركض حيناً، ونسير على مهل حيناً.

على طرفي السياج، تخرج الأجساد فجأة من الظلام، ونسير كالعميان وقد يحتك كتف بآخر. نسمع صوتاً يقول: مسا الخير. صوت يروح، وصوت يأتي، وكأننا قطط سوداء، لكن عيوننا لا تلمع. المسافة الحدودية التي صار السوريون يختفون في الليل تحتها، ليست كبيرة، يدخل ناس ويخرج ناس، يتقاطعون عند مسافة سلام الليل، والكثيرون لا يلقون السلام. هلاميون في الانسلال. في طريق عودتنا، وعند الأسلاك نفسها، كان هناك شابان تونسيان يعبران الحدود، قال لي الشاب الذي دخل رفقتنا: إذا بقي الدعم والتمويل لمجموعات معينة من «الجيش الحر» على حساب مجموعات أخرى، لن نكون بخير أبداً. هذا الكلام ردده المنشقون، والجنود والمدنيون، الذين لا يملكون الذخيرة الكافية، كما يحصل مع مجموعات جهادية قليلة، يقولون عنها متطرفة، وممولة من بعض الدول. الكتائب الممتدة في ريف إدلب وحماة وحلب، قالت في الغالب الكلام نفسه، الكل بحاجة لدعم بالسلاح، لكن هذه الكتائب الضعيفة التمويل، تجد دائماً ما ينقذها من الانضمام للمجموعات الجهادية، يبيعون أشياءهم وأغراضهم، يساعد بعضهم بعضاً، وكأنهم أفراد عائلة واحدة، يقومون أحياناً ببيع مصاغ زوجاتهم. إحدى النساء، وعندما كان قائد مجموعة يقوم بجمع بعض المال لشراء بنادق للشباب، خلعت خاتم زواجها وقدمته له، لكنه رفض. قائد مجموعة قال لي: إذا بقينا هكذا، فلن نتوانى عن الانضمام إلى الشيطان، لنواجه نظام بشار الأسد. قائد المجموعة هذا جعلني أغصَّ بالدمع، رغم قسمي أن وقت البكاء لن يكون الآن، وأن هذا الوقت ليس للحزن. كان يتحدث وينزف روحه مع كل حرف، بدا غاضباً وحزيناً، ليس لديهم السلاح الكافي لتوسيع أرض المعركة، يريدون تخفيف القتل عن مدينة حلب ويشعرون بالعجز. سماسرة السلاح يشتغلون، والمعارضة السياسية لم تنشغل بواقع الكتائب المسلحة على الأرض، ولم تهتم بتشكيل قيادة موحدة لنا. يقول قائد المجموعة؛ إنهم يخلقون من التراب وسيلة للدفاع عن بلداتهم وقراهم، لكنّ هذا لن يطول، تحت القصف والجوع والحصار والقنص والاعتقال، الكل سيتجه إلى المجموعات الممولة جيداً بالسلاح. قلت له: وهذا ما يريده النظام؟ قال: قولي هذا لنخبة المعارضة السياسية والثقافية، أين هم؟ الضباط الكبار، لمَ يعيشون في تركيا؟ المعركة الحقيقية هنا! نحن نموت كل يوم، وسنموت، ولا نستطيع أن نقدم أكثر من أراوحنا، ولن نتراجع عن مواجهة النظام، ربما سنموت، لكنّ أولادنا وأحفادنا سيقاتلون نظام الأسد، أين أنتم من كل ما يحدث؟

لا أستطيع الكتابة عن طريق التسلسل، لا أجيد السرد المتسلسل. استمتع بكسر الزمن.

أعود إلى أحاديث الشباب، وأتحدث عن عبورنا التائه بين حدود بلدين، وكيف استقبلتنا كروم الزيتون ورائحة البلد الجديدة، كل الجهات التي عبرتها قبلاً، كانت تستقبلني بكروم الزيتون، وجدران البلدات المزينة بصور الثورة وأعلامها، ووجوه الناس المتعبة. في السيارة التي تخترق حجاب الليل، كانوا أربعة شباب، مسلحين، تجاوزنا حواجز عدة للجيش الحر، لم تكن حواجز ضخمة، لكن الشباب، كانوا يعرفون بعضهم بعضاً. القرى محررة، ومنها شبه محرر، كلمة محررة هذه فضفاضة، لأن السماء ما زالت رهينة النظام. تنطلق بعض القذائف من حولنا، ونسمع أحياناً هدير طائرة، الشباب يطمئنونني، كل شيء بخير، لكنّ هناك بضعة كيلومترات من الخطر. بسيطة جداً، يقول أحدهم، وهذه «البسيطة» تعني أن الموت سيأتي من السماء! نحن في السيارة، لدينا مجرد تحويلة، سنمر على «بنش» ونشارك في التظاهرة، ثم نلتقي إحدى الكتائب.

التظاهرة في «بنش» كانت خالية من النساء، وفيها أعلام مكتوب عليها: لا إله إلا الله محمد رسول الله. كنت وحدي وسط الفتيان والشباب، وكانوا يحدقون بي بغرابة، بعض الشباب تعرفت عليهم، وكانوا في غاية اللطافة والتهذيب، غنوا وصفقوا ثم جاء شيخ يخطب فيهم، لم نغادر البلدة فوراً. كانت محررة فعلاً، لكن السماء خائنة، هناك حالة من الغدر والخسّة، عصيّة على الشرح تقوم بها الطائرات ومدافع الدبابات؛ لا يستطيعون مواجهة الثوار على الأرض، لايجرؤون على الدخول إلى البلدة بعد معارك مع أهلها للدفاع عن أنفسهم، يأتون ليلاً وفي أول الفجر، يقصفون ويهربون. يموت الأطفال والنساء والشيوخ غالباً، ولا يملُّ الأهالي والكتائب من مواصلة القتال، هذا قدرنا، يقول الشباب في «بنش».

كنا قبلها قد مررنا على إحدى القرى، والتحقت بنا سيارة أخرى للمجموعة من الشباب، سوف ينطلقون صباحاً إلى مدينة حلب. معظم الشباب كانوا في بداية العشرينات.

كل الأحاديث التي نسمعها عن الخوف من الكتائب لأنهم سلفيون وجهاديون، يفتقد الدقة. لم أشاهد امرأة سافرة أبداً، وهذا جزء من ثقافة العيش، هم يمارسون شعائر الإسلام، ولكن لم يحتجّ أي منهم على خروجي سافرة، وعندما كنا ننتقل بين البلدات والقرى، كنت أضع الحجاب حتى لا نلفت انتباه المجموعة، ولكن عندما كنا نجتمع بالشباب، كنت أجلس بينهم سافرة، منهم من لم يصافحني، كان هناك بيننا حوار عقلي وإنساني عالٍ، ولكن هم أنفسهم، أخبروني أن هناك كتائب أخرى لن تقبل بوجودي بينهم إلا محجبة. لم يتحدث أي منهم عن قيام دولة الخلافة الإسلامية، بل تحدثوا عن دولة مدنية، ولكن هناك كتيبة واحدة تريد أن يكون الشرع الإسلامي هو القانون، لكنها كتيبة صغيرة، الغريب أنها ممولة جيداً بالسلاح والمال، على خلاف الكتائب ذات التوجه المعتدل، ولكن في العموم نسبة هذه الكتائب وتوزعها لم تكن عالية، ولم تبدأ إلا قبل أشهر قليلة، حتى الحديث عن «الجهادييّن العرب» كان مبالغاً فيه، لكنه وبعد كل مجزرة كان يزداد. في البلدة التي بقينا فيها، كان قرابة 19 مجاهداً عربياً من أصل 750 من المقاتلين تقريباً.

العشاء الذي تناولناه في «بنش» كان أكثر من كريم، أدهشتني مرونتهم في الحوار ودماثتهم، ورغبتهم في الحديث عن المشكلة الطائفية وضرورة حلها، تحدثنا عن محاور عدة، وعن ضرورة عدم إفساح المجال لحرب طائفية، قال لي أحد الشباب، إن هناك ردود فعل عنيفة ضد عنف النظام، لكنها قليلة، ولا تتجاوز حالات فردية يتم تصحيحها ونبذها. سيقول لي الشباب بعد أيام أيضاً إن هناك شاباً ينتمي إلى الطائفة العلوية تم ذبحه، رداً على مجزرة، ونحن وقفنا ضد هذا العمل. حتى الآن لم يكتمل للنظام ما أراده، ولم تهجم قرية سنية على قرية علوية، هذا لم يحدث، ولن يحدث أبداً، ولو دفعنا أرواحنا ثمناً لذلك. لكننا لا نستطيع السيطرة على حالات الغضب عند بعض الذين يتم قتل عائلاتهم كاملة، أو قصف بيوتهم. الزمن ليس في مصلحة هذا الغضب!

سيروون لي الكثير من التفاصيل عن بعض العصابات المرتزقة، التي تسرق باسم الجيش الحر وتخطف باسم الكتائب، والتي ينشغلون بها عن مقاتلة النظام بحل مشاكلها، أو عن بعض النزاعات بين الكتائب المسلحة التي تتسبب بها تفاصيل وضيعة أحياناً، تصل إلى حد أن بعض الكتائب تخطف عناصر من بعض البلدات التي يدخل أفرادها في نزاع شخصي، ويقوم الوجهاء في ما بينهم بحلها. سيتحدث الشباب عن بعض أخطائهم، ويفكرون بتصحيح مسار الثورة. لكني تساءلت حين ودعتهم: ما الذي نريده أكثر من ذلك؟ من الممكن أن لا يمثل هؤلاء جغرافيا الشمال كاملاً في ريف حلب وإدلب وحماة، لكنّ كل الكتائب التي التقيتها، لم تشذ عن هذه القاعدة، بما فيها اللقاء بشيخ إحدى العشائر.

كنت أستمع إلى شباب «بنش» حين دوى صوت انفجار كبير، ونحن على الشرفة، كانوا نحو عشرة وفي الجهة المقابلة للشرفة المطلة على الليل. لمعت السماء، فقال أحدهم: قصف على تفتناز. كنا قريبين من مكان القصف، وعادوا إلى متابعة الحديث وطلبوا مني الاستمرار في تناول العشاء. أكلت بصمت، وكنت أسمع دقات قلبي من الخوف. سيكتب لي أحدهم لاحقاً: بعد أن غادرتِ بدأ القصف علينا، الحمدلله أنك رحلتِ.

كان كل شيء يسير وفق نهاية يوم مغبر، بالعدو والركض ولمعان السماء بالقذائف، لولا شوارع مدينة «الأتارب»، حيث أصر الشباب أن أرى فيها مقبرة الدبابات، التي قام الجيش الحر بالقضاء عليها. مجموعة من الآليات المحترقة تتكوم، هياكل معدنية معجونة، وآثار الحريق تمتد في المكان، ووسط البيوت المقلوبة مثل علب كرتونية ممزقة، الصمت والوحشة، لا صوت في «الأتارب». لا شيء، ولا حتى الهسيس، ولا عويل كلاب! فقط في نهاية أحد الطرق الفرعية، ونحن نبحث في الخراب الهائل الذي يفسر معنى كلمة «إبادة» ويشرحها أيضاً بتفصيل. هناك ضوء شمعة داخل دكان صغير، ومن بعيد يلوح خيال امرأة تتحرك، كان هذا الأثر الوحيد على أن «الأتارب» ليست مدينة أشباح. كنت أفكر، في كمية الخراب التي حولت المدينة إلى ركام، مجرد ركام بلا تشكيل ولا هوية، وكنا ما زلنا نسمع أصوات القذائف القريبة.

حرّك القائد بندقيته وقام بتلقيمها بسرعة، ارتجفتُ. ثم وضع قنبلة في يده. كانت القنبلة إلى جانبي مباشرة، القائد يضعها على جنبه، نظرت إلى كتلتها الخضراء، بضعة سنتيمرات وألمسها. ارتجفت ثانية. ونحن نجتاز المنطقة الخطرة، وهو يحكم قبضته على القنبلة، وضع سلاحه على طرف الزجاج، وقال: هون منطقة خطر. انتبهت كيف كان كذئب يجول بعينيه في الليل. قال:»يا أما كلاب النظام، يا أما الزعران والحرامية اللي بيشلحوا باسم الجيش الحر».

الشاب في الأمام جهز بندقيته، الشاب الآخر، كان يقود بثبات الأنبياء. والآخر إلى جانبي قام بالحركة نفسها بسلاحه.

استطعنا المرور في العتمة المخيفة، كانت أشجار السرو عالية، وتحيط بالطريق الإسفلتي الضيق. بدا لي أن هذا الطريق لن ينتهي. تظاهرت بالشجاعة، وأنا أسمع طرق قلبي. لكنّ استرخاء البندقية إلى جانب قائد المجوعة، ووضعه القنبلة في جيب سترته، جعلاني أفكر بأن الوقت حان للزفير، لولا فوهة البندقية التي صارت في مواجهتي. وضعها القائد بيني وبينه، الفوهة أمام عيني تماماً، فكرت أن حركة سنتيمترات من أصابعي، على الزناد، كفيلة لأغرق في العتمة الأبدية العذبة.

فوهة صغيرة جداً وشهية، تحدق بي وسط العتمة. انتشلني منها صوت القائد، وهو يقول: نروح كلنا ولا تُمسّ شعرة منك.

بوابات أرض العدم-3 – بيديّ هاتين دفنت خمسة وسبعين شهيداً

«صدق يا حاف العين ما تنسى الجفن، وصدق يا حاف الوردة ما تنسى الغصن»

(كتابة على جدران «سراقب»)

< بيدي هاتين دفنت خمساً وسبعين جثة.

يقول جثة، ويفرد كفيه، ويضيف: سأحكي لك حكاية كل واحدة منها.

الرجل الذي يقوم بتلوين جدران سراقب ورسم لوحاتها، هو من يدفن شهداء القصف.

نقف أمام الجدران المواجهة لمبنى المركز الثقافي في «سراقب»، ألوان مشعة تكسر شحوب المكان. في الجهة المقابلة، بناء كُتب على جداره الأمامي: «صدق يا حاف العين ما تنسى الجفن، وصدق يا حاف الوردة ما تنسى الغصن» وفي المقابل جدار يقول: «دمشق، نحن والأبدية سكان هذا البلد» ورسوم عليها صورة «النمر الوردي» يرفع علم الثورة. كنا نتجول في الشوارع، وأقوم بتصوير الجدران، وواجهات المحلات، بينما المدينة غارقة بأصوات التكبير للموت، وجنازات الشباب والأطفال. غبار وقحط، ولهيب الشمس حارق. لكن ونحن نمشي، كانت قلة من الرجال تمرُّ، عيونهم محمرة، لكنها مشعّة. وصوت رصاص القناص لا يزال مسموعاً. القذائف لا تتوقف، في المساء سيأتي شاب أسمر، محروق الخدين، سيجلس صامتاً لبعض الوقت، قبل أن يقول، إن القذائف سقطت في حقله، وأحرقت التبن الذي كان يتاجر به. موسم هذه السنة انتهى. قال جملته، ورمى رأسه على الحائط. كنا نجلس فوق حصير بلاستيكي، على فراش اسفنجي. نصغي بصمت. أمّه ستنظر إليه بذهول، ونسمع نخيرها لثوان، قبل أن تصمت أيضاً، وتصغي معنا لصوت رصاص القناص.

يقول الشاب، ونحن نقف مقابل أحد الجدران في الظهيرة: يحرقون الأراضي الزراعية المحيطة بالبلدة، لمعاقبة أهلها، لكني لست متأكداً إن كانوا سيوجهون قذيفة الآن إلينا، ربما يفعلون! ننظر جميعاً إلى السماء الزرقاء الصافية التي ترعد بالقذائف. عندما ستسقط قذيفة فوق رؤوسنا لن يتسنى لنا حتى سماعها. يقول، ونضحك. كان رتل الدبابات الذاهب إلى حلب، لا يزال يتابع مروره قرب البلدة.

«سراقب» ستكون منطقة تماس لاحقاً عندما تحتدم المعارك.

نصير أمام بيت مهدم، هذا البيت تم قصفه بقذيفة، بعد أن تم حرقه، وقُتل أحد أبنائه، يقول أحد الشباب، الابن الذي مات تحت التعذيب في السجن، لديه سبع أخوات، وأخ واحد، وهو يتيم الأب، بعدما قتلوه، علقوه في سيارة، وجابوا الشوارع، وسحلوه، كان من الشباب الذين خرجوا في تظاهرات سلمية. شاب آخر كان يقوم بتصوير التظاهرات، أمسكوه ثم وضعوه تحت الدبابة، وقالوا له، إن الدبابة ستمر فوقه، ثم حركوا الدبابة، وكان تحتها، بقوا هكذا لبعض الوقت، ثم أطلقوا ضحكاتهم، قبل أن يعتقلوه. نحن نعيد بناء ما يتم قصفه، في الجهة المقابلة ترين هذا البيت؟ يشير الشاب إلى بيت في الطابق الثاني مُخترق بفتحة كبيرة من قذيفة: هذا البيت هو لأخت أحد المنشقين، قصفوه فقط انتقاماً من أخيها.

في الملجأ

كنا قد نهضنا فزعين منذ الخامسة صباحاً، على أصوات القصف، لا يوجد وقت محدد للقذائف، لكنه في الليل يتحول إلى توقيت دقيق، بين كل نصف ساعة وساعة تسقط قذيفة، من ثلاثة أيام سقطت 130 قذيفة، السيدة المضيفة قالت، إنهم منذ بداية الثورة، لا يعرفون النوم جيداً، ينامون ساعة، ثم يستيقظون، كانت عيونهم غائمة. أخذتُ الطفلتين اللتين بقيتا طوال الوقت قربي، ونزلت بهما بسرعة إلى الملجأ، البيت كبير، لكنه ممتلئ بأفراد العائلة النازحين من بيوتهم: الجدة الكبيرة، أم الجميع، والخالة أيضاً، ثم جيل البنات وأزواجهن، والرجال وزوجاتهم، وجيل الأحفاد، وأولاد الأحفاد… كل بيت تتكوم فيه عدة عائلات، هناك بيوت اقُتحمت وخُربت، أخرى في مرمى القصف، أو يشكل موقعها نقطة تماس، بيوت تقع تحت عين القناص، وبيوت لمنشقين اختفوا. العائلة كبيرة هنا، لكن الخير موجود، كما تقول إحدى النساء.

الملجأ عبارة عن غرفة واسعة، كانت العائلة تستخدمها لوضع لوازم العمل بالأرض والأنابيب والمعدات. في الملجأ فتحة، تم ردمها. قالت أم الطفلتين، إنها آثار قذيفة سقطت من السماء، وباب الملجأ، تم تغليفه بأكياس نايلون. الأطفال والنساء هنا، وينضم بعض الرجال. النساء العجائز مع الرجال الكبار في السن يبقون في الأعلى، تقول البنت الكبيرة: لا يستطعن التحرك، والوقت اللازم لنزولهن وخروجهن، غير كاف للهرب من صدفة الموت بقذيفة، حركتهن بطيئة، وهن مريضات، يبقين في غرفهن، يسمعن أصوات القذائف، وعندما تهدأ الأصوات، ونسمع بعد حين الصوت من مئذنة الجامع ينعى موت أحد الأهالي، ينظرن إلى الفراغ البسيط الذي يتيحه زجاج النافذة. الجدة الكبيرة، بقيت ثلاثة أيام، حتى قالت لي: مرحباً، وكانت قبل ذلك تحدق بي بنفس الصمت والحيطة. سنصبح صديقتان لاحقاً. لكن في تلك الأثناء، وبعد أن نزلنا إلى الملجأ، كانت الفتيات الصغيرات، يقمن بفنون الزهو بأنفسهن، ويتحدثن عن أنواع القذائف والصواريخ، وتحمل إحداهن قذيفة تحتفظ بها كذكرى. جاءت عائلات من الجوار، ونزلت إلى الملجأ، الكثير من العائلات لا ملاجئ لديها، العائلة التي يجلس القناص في مواجهة بيتها هربت إلى هنا أيضاً، رأيت البيت، كانت آثار رصاص القناص تتوزع على الجدران، الأم قالت، ونحن نتجول خائفين ومسرعين، إنها عندما تريد الانتقال بين الغرف، وعبور صحن الدار، تقف مطولاً، وهي تراقب القناص، تغافله ثم تهرب منه، لتشرب كأس ماء، أو تأتي لأولادها بالطعام، أو لتقضي حاجة. أنا ألعب مع ابن الكلب هذا القناص، تقول وتضحك. كانت تضع على رأسها غطاء زهرياً، وترتدي فستاناً مشجراً بنباتات استوائية، الفستان طويل حتى الأرض، كل النساء هنا يرتدين فساتين طويلة، والأم التي تلعب مع القناص، بدت وسط دمار بيتها، غريبة.

القناص والقصف

كانت القذائف تنهال، على رغم أن الشمس ساطعة، والصمت لا يقطعه في وضح النهار سوى أصوات القذائف، ورصاص القناص. ابنها الصغير لحق بنا، وأمسك بذيل ثوب أمه، ثم وضع إصبعه في فمه، ونشج ببكاء خافت. قالت ضاحكة، ونحن نتجاوز عتبة البيت: ما تخافي، لما بيكون القصف شغال، القناص بيهدّي اللعب. وغمزت لي بعينها. ثم حملت ابنها بيد واحدة ورفعته في الهواء، ورمته في حضنها. كان بيتها فارغاً، مجرد مجموعة حُصر بلاستيكية على الأرض، عندما عدت معها إلى الملجأ، جاءت عائلة جديدة من الجيران، قالت البنت الصغيرة التي دأبت على رواية حكاية ليلية قبل النوم، وهي تشير إلى العائلة الجديدة: أمهم معنا، لكن أبوهم مع بشار، أنا أبي من الثوار، و «هدون»، ثم أشارت للفتيات: مع بشار كمان، يعني مو معنا! بس معليش، لازم يتخبوا عنا منشان ما يموتوا! هذه الصغيرة السمراء – شهرزادي – كانت تحمل أجمل عينين سوداوين رأيتهما في حياتي، تمشي بخفة، وتسرح شعرها كل ساعة، تضع عليه الورود الاصطناعية، ورود زهرية وصفراء وحمراء، تختارها من ألوان ثيابها، هي ابنة مضيفي الوسطى. تقوم بمراقبة الجميع، وتصبح أكثر دقة، عندما ننزل الملجأ، تهتم بأختها الصغيرة ذات السنتين والنصف، والتي تعرضت لخلل هرموني نتيجة الخوف، وأصيبت بمرض غريب. السمراء تراقب جميع الأطفال من حولها، ولا تسمح لأحد بالاقتراب مني، ثم تشرح لي بالتفصيل، حكايات موت الجيران، والشباب الذين اختفوا من البلدة واحداً إثر واحد. قبل توقف القصف بقليل، سحبت القذيفة من يد أختها ذات السنتين والنصف وقالت لها بكل هدوء: الصغار لا يحملون القذائف! هي لم تتجاوز السابعة، وعندما كانت تسمع صوت قصف جديد، ونحن ننتظر متكومين حول بعضنا، كانت تهرع لتحضن أختها، وتضمها بشدة، امرأة أخرى يتكوم أطفالها حولها في زاوية الملجأ، تقول: كانوا يدخلون وينهبون، يأتون بالشاحنات المعبأة بالذخيرة، يقتلوننا بها، ثم يعودون بتلك الشاحنات ممتلئة بأثاثنا المسروق، قتلوا أولادنا وسرقوا بيوتنا، ولكن لمَ فتحوا خزانتي، وقاموا برمي فساتيني في ساحة الدار، ومسحوا مؤخراتهم بها، وبالوا في أكواب الشراب؟ حتى فستان عرسي القديم لم يسلم منهم، صار كله خراء!

في بيت آخر، سأرى العديد من الأطفال الصامتين. امرأة تقارب الأربعين، تمسّد ظهر ولد تجاوز العاشرة، كان الوحيد الذي بقي لها، وهو مصاب بخلل عقلي. لا يتكلم، لكن عينيه ذات اللون الأزرق، تضحكان، وجهه قمحي جميل، فمه مفتوح دائماً. قالت لي الأم، إن لديها ثلاثة شباب آخرين، حكت قصتها، وبقيت عيناها مفتوحتان على اتساعهما، وهي تشرح بالتفصيل كيف سحبوا ابنها من حضنها. احمرت عيناها، وسقطت دمعة، قالت إن الدمع لم يعد يخرج، كانت دمعة كبيرة جداً، سقطت بهدوء، وبقيت واحدة فقط، قالت:

«أخي كان من أوائل الناس الذين خرجوا للثورة، كيــفما اتجــهت هنا يعرف الناس «محمد حاف» إنه بطل سراقب، خرجوا في تظاهرات سلمية أولاً، لكنهم قصفونا، وأعدموا تسعة من أولادنا أمام الجميع، بقي أخي يقاتل حتى آخر رمق، كنا نموت كل يوم، وكان يقول لي: لن نموت كالجبناء، سنموت كما يليق بنا. أخي الثاني أيضاً قتلوه. حرقوا بيتي، وهربنا من البيت. قُتل اثنين من أخوتي، وابني انتزعوه من حضني، رجــوتهم أن يتركوه بحاله، لكنهم لم يستجيبوا لي. ابني الثاني أيضاً قتلوه، اثنين من أولادي، واثنـــين من أخوتي، لكن ما زال لدي هنا ولد، لكنه مع الثوار، لم يعد لدي من أولاد، راحوا كلهم، بقي هذا الصغير، تشير إلى ابنها المــريض الذي ينــظر إلينا باستغراب، ويضحك. تتابع: وكما ترين… يا حسرتي. ابني الذي بقي مع الثوار، قال أنه لن يعود حتى تصير سورية حرة.

الشهيدان

تأتي بصور ولديها الشهيدين، الأول ذو عينين خضراوين، وشعر ذهبي، في التاسعة عشرة من عمره. أصابعها على الصورة تتحرك كأمواج، ثم تفرد الصورة الثانية لشاب بالكاد ينمو زغب فوق شفتيه، ثم تسحب صورة «محمد حاف» ترفعها عالياً. الصورة الرابعة، تتوقف عندها. تطرق رأسها في الأرض. تقول: انتزعوه من يدي، بقيت أمسكه حتى اجتمعوا علي وسحبوه من حضني، تمسحت فيهم ورجوتهم أن يتركوه، ركضت وراءهم، لكنهم أخذوه، كان ناشطاً في الثورة، أعادوه لي شهيداً. كان طفلاً…

قصص الصباح لا تنتهي، ولكن في المساء، حين نعود من جولة في القرى مع الشباب، يحضر أحد المقاتلين المنشقين من جبل الزاوية، قائد مجموعة، عيناه تفوران بالحيوية، لكنه بين حين وآخر يسهو، فيلتحم جفنيه ويبدو وجهه طافحاً بالهناء، وهادئاً إلا من الموت. قال: أخي الصغير، أخذوه إلى السجن، عذبوه، وأخبروه أني قُتلت وأنهم قطعوا جسدي، ورموني في الجبل، بعد أن عذبوه، أحرقوه حياً، نحن من قرية «عين لاروز» قُتل منها ستة أولاد، أخي كان في السادسة عشرة، كان حياً عندما أحرقوه، وعدد الشهداء في قريتنا ستة عشر شهيداً، أهلي تركوا البيت، واختبأوا. في بداية الثورة والانشقاقات كنت أتواصل مع ضابط علوي، كان صديقي، تواصلنا مع صف الضباط أيضاً، ومع الأهالي، وخلال شهر في بداية الانشقاقات كان لدينا 700 عنصر، أربعة عناصر هربهم لي هذا الضابط العلوي، كان يقوم بمساعدتنا، وفي البداية خفت منه، ولكني جازفت بالتعامل معه، وبقي يساعدنا حتى آخر لحظة، وكانت الاتصالات بيننا تتم بسرية تامة، لم نكن نتحدث عبر الهاتف، فجأة اختفى هذا الضابط، سألت عنه، قالوا أنه تم نقله إلى الحاجز «ك» ولكن أحداً لم يعرف عنه شيئاً. النظام كان يخاف من الانشقاقات فكان يقوم بتغيير الضباط دائماً، هذا الضابط اختفى، الآن الجيش سيطر على المنطقة كلها، كان هذا قبل معركة حلب، انسحب الآن الجيش تكتيكياً إلى حلب، لكنه سيعود، نحن نقوم بتصنيع بعض الأسلحة بأنفسنا حين لا يتوافر السلاح، مرة جربنا أن نصنع صاروخاً بمواد بدائية، وطالما فعلنا، لكن في إحدى المرات، الصاروخ الذي كنا نجربه، انطلق في السماء واختفى، وبدأنا الركض، ارتفع واختفى، كنا في حقل قمح، وركضنا، كانت تجربة فاشلة. يقهقه، فتختفي عيناه مع الضحك. يتابع: ركضنا مثل «توم وجيري»، وخشينا أن يسقط فوق البيوت، على رغم أننا كنا بعيدين جداً عنها، لأن وزنه كان 16 كيلو، وهذا يعني أنه سيسقط بوزن 16 طناً! لكن الشباب وجدوه بعد أيام في حقل القمح نفسه، نحن نتعلم بأنفسنا، ومن الممكن في أي لحظة أن تنفجر بنا. يصمت الشاب فجأة، ينظر إلى الجمع، كنا كثيرين، وصوت القذائف لا يزال يُسمع، يبدو أنه تذكر أمراً: هناك شيء غريب حدث معنا، كنا في إحدى المواجهات، وهم كانوا يقومون بتنقيل الفرقة العاشرة والسابعة والرابعة من مكان إلى مكان، وتواجهنا معهم في عدة أمكنة، جاؤوا من حمص إلى جبل الزاوية، وفي إحدى المرات دخل الجيش إلى قريتي «بلين وبديتا» وكانت المواجهة عنيفة بيننا، كان جنود الجيش النظامي يمشون بشكل غريب، رأيت اثنين من الجنود منفصلين عن الجماعة، ويبتعدان. كانا يتحركان بطريقة آلية، نحن اعتقدنا أنهما يريدان الانشقاق، فصرخنا بهم، في البداية كان صوت الرصاص عالياً، ولم ينتبها، ولكنا بقينا نصرخ بهم: الله أكبر، الله أكبر، تعالوا… تعالوا نحن هنا. حملا السلاح وأطلقا علينا النار، ونحن بدورنا بدأنا بإطلاق النار، سقط أحدهم ميتاً، الجندي الآخر الذي يسير إلى جانبه، خفض سلاحه، وتحرك بشكل آلي، مشى فوق جسد رفيقه، وترك لنا ظهره، كان يبدو أنه يسير في نومه، ثم وقف مثل مسمار، بعد ذلك عاود المشي بنفس الطريقة الآلية على رغم أصوات الرصاص، أنا توقعت أن ينبطح أو يخاف، أو يقوم برد فعل ، لكنه استمر بالمشي، وفي معارك أخرى رأيت أمراً مشابهاً، يموت أحدهم، فيتابع الآخر المشي، وكأنهم لا يلامسون الأرض، بعض الجنود الذين انشقوا وانضموا إلينا، قالوا أنه تم حقنهم بإبر، ولكن قالوا هذا مورفين فقط، لكن لست متأكداً من شيء، فما رأيته كان عجيباً فعلاً!

يريد الشاب أن يتابع حكايته، لكن صوت القذائف لا يتوقف، والصغيرة السمراء، بدأت تنظر بعتب ونزق، لأن وقت النوم قد فات، وهي لن تنام، قبل أن تحكي الحكاية. حكاية الجيران الذين قُتلوا، والذين تحب تعداد صفاتهم واحداً واحداً، وهي تقرر، من كان أحبهم إلى قلبها. قالت لي ونحن نغادر المضافة: يعني إنتي كمان رح تموتي؟ ضحكتُ، وقلت: لا… لن…

قبل أن أتم جملتي، هزت أرنبة أنفها، وقالت بسخرية: هي… هي… هي… كل اللي ماتوا قالوا نفس الشي!

الحلقة الأولى من بوابات العدم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى