صفحات سوريةميشيل كيلو

أخطاء قاتلة!


ميشيل كيلو

ثمة أخطاء شائعة في عمل المعارضة السورية تتكرر منذ قيام الثورة المجيدة، أهمها قاطبة موقف بعض المعارضين من مسألة الحوار، التي أربكت العقل السياسي المعارض بالأمس، خلال نيف وعامين، وتربكه اليوم أيضا.

في بداية الثورة، وقع نقاش حول مسألة الحوار مع النظام تباينت وجهات النظر فيه، فقال البعض برفضه المطلق، وقال البعض الآخر بقبوله على علاته، ودعا كاتب هذه الأسطر إلى حوار تتوفر فيه ثلاثة معايير هي: أن يخدم الثورة والشارع، ويقلل أعداد المحايدين والخائفين ويدفع بهم إلى المظاهرات، ويفكك أو يضعف النظام، وإلا فلا حوار، ولا محاورين، تحت أي ظرف كان.

بعد أشهر قليلة على قيام الثورة، عرض النظام الحوار من خلال ما سماه «هيئة الحوار الوطني» برئاسة الأستاذ فاروق الشرع، نائب الأسد. وبالفعل، فقد أجرى بعض المعارضين حوارات معه ومع أعضاء في اللجنة انطلاقا من المعايير الثلاثة السابق ذكرها، انتهت بقرار إجماعي من المعارضة يدعو إلى مقاطعة الهيئة ومؤتمر صحارى الذي نظمته، فكان ما فعلته مفيدا للحراك الشعبي، لأنه قلل بالفعل أعداد المحايدين، وأقنع جمهورا كبيرا من الناس بأن النظام لا يريد تسوية سلمية للأزمة، وأنه اختار الحل العسكري سبيلا وحيدا للتعامل مع الشعب، كما أدى إلى خلخلة جدية في صفوف النظام، حيث أحدث داخله تناقضات زاهرة بين دعاة التسوية السياسية وأصحاب الحل العسكري – القمعي، عكستها إزاحة عدد من المسؤولين الكبار والمتوسطين عن مواقعهم، أو اعتقال البعض منهم، بينما تعززت ثقة الشارع بقدرة الثورة على بلوغ أهدافها، بعد أن اقتنع بأن النظام يحاول كسب الوقت وإضفاء صبغة معتدلة على عنفه، ويبحث عن تغطيته سياسيا من خلال توريط المعارضة بما يناقض مصالح الشعب.

فيما بعد، وخلال فترة قصيرة من تأسيس المجلس الوطني، رفع شعار «لا حوار مع الدبابات»، وتم رفض «مبدأ الحوار» باعتبار أنه لن يفضي إلا إلى خيانة الثورة، ثم ربط الرفض بإسقاط النظام، واستخدم لتحقيق أغراض ليست على علاقة بذلك، تفرعت عن الصراع على قيادة المعارضة وانصبت على شرعية منظماتها، فكان من الطبيعي أن تنتهي الأمور إلى تخوين معارضة الداخل واتهامها بالرغبة في حوار مع النظام سيخرجه من مأزقه، كأن كل شيء كان قد أصبح معدا بالفعل لإطاحة السلطة، أو كأن هذه كانت راغبة في حوار يضع حدا للأزمة والصراع مع أي طرف داخلي معارض، وأخيرا، كأنه لم يبق لإسقاط النظام غير التخلي عن الحوار معه. حدث هذا، بينما كان النظام يستعيد بعض من تخلوا عنه في الفترة التي أعقبت قيامه بإفشال الحوار الوطني، ويوحد صفوفه بدرجة لم تعد تسمح لأي شخص أو جماعة بقول أو فعل أي شيء يتعارض وخط الأسرة الأسدية وزرازيبها. وحدث كذلك بينما كانت المعارضة تزداد فرقة وانقساما وتصارعا، والشعب يزداد إصرارا على التضحية دون أن يجد بين المعارضين من يعبر عن رغباته ونضالاته. هكذا، انقلب الخلاف حول الحوار إلى أداة مزقت الصف الوطني، ومكنت النظام من التذرع بأنه لا يحل الأزمة سلميا وسياسيا، لأنه لا يجد من يريد الحوار معه. ذلك نقل مركز ثقل الصراع من السياسة إلى استخدام القوة، كما خطط لها النظام، وتخلت المعارضة بكافة ألوانها وأطيافها عن ورقة السياسة، التي لم يكن من الجائز التخلي عنها، لصعوبة كسب الشعب من دونها، وخاصة قطاعاته الواسعة المطالبة بحل سياسي وسلمي، الخائفة من المصير الذي يأخذها العنف إليه. لقد كان من الممكن كسب أقسام كبيرة من هذه القطاعات عبر استعمال الورقة السياسية أداة فاعلة في صراع متنوع لا يتورع النظام عن استعمال جميع ما هو متاح له من أوراق فيه، لكن ذلك لم يحدث.

واليوم، صارت استحالة إجراء أي نوع من الحوار مع السلطة من مسلمات العمل المعارض، كما يقول: «الائتلاف الوطني للقوى الثورية والمعارضة». والغريب أن القائلين بهذا المبدأ لا يلاحظون تعارضه مع استعدادهم المعلن لمحاورة من «لم تتلطخ أيديهم بدماء الشعب من أهل السلطة»، وللمشاركة (حسب الميثاق السياسي للمجلس الوطني) في حكومة «وحدة وطنية» مع مؤسستهم العسكرية، التي لا ينكر هؤلاء أنها تسفك دماء السوريات والسوريين منذ قرابة عامين، ويتجاهلون أيضا ما في القولين من استعداد للحوار مع من لم تتلطخ أيديهم بالدماء في الأول، ومن تلطخت حتى أعناقهم في الثاني، ولا يأخذون بحسبانهم واقعا قد يترتب على تداعي النظام، يعبر عن نفسه في بروز تيار داخله يريد التخلص من بشار وعصابته، والمساعدة على انتقال سوريا إلى نظام ديمقراطي، مقابل منحه ضمانات خاصة بأمن وسلامة أطراف في السلطة. ماذا سيفعل المعارضون في حال اتصل بهم بعض أهل النظام وطالبوهم بحوار حول هاتين النقطتين: التخلي عن النظام والمشاركة في إسقاطه والمطالبة بضمانات؟ هل يكون من مصلحة الثورة أن يقولوا لهم: ابقوا حيث أنتم، مع بشار الأسد ونظامه وقاتلونا حتى النهاية، لأننا نرفض مبدأ الحوار معكم، أم سيكون من المصلحة محاورتهم؟

هذه مسألة على قدر عظيم من الأهمية، يصعب الوصول إلى موقف صحيح منها عبر سياسة الرفض المطلق لمبدأ الحوار، الضيق جدا بالنسبة لحجم الاحتمالات المتنوعة التي يمكن أن تواجهنا في الواقع خلال الفترة القادمة، عندما سيكون من الممكن أن يقتنع بعض أهل النظام بضرورة العمل على حماية أنفسهم من خلال الإسهام بطريقة ما في تفكيكه، بالتعاون مع المعارضة. ماذا نقول لمن يأتي إلينا معلنا استعداده للمشاركة في تفكيك النظام ووقف العنف والتخلص من قيادته الحالية؟ هل نلقي بمبدأ اللاحوار وراء ظهورنا أم نرتكب غلطة التمسك به، فنطيل أمد الأزمة ونتسبب بالمزيد من قتل السوريات والسوريين، ومن دمار وطننا المنكوب بحكامه؟

لا بد من التخلي عن بعض الشعارات التي ورثناها من حقبة تأسيس المجلس الوطني، وكان القصد منها الصراع ضد أطراف في المعارضة وانتزاع قيادة العمل منهم، أكثر مما كان الصراع مع النظام، والدليل ما شاب أقوال المجلسين من تناقضات صارخة ترفض الحوار مبدأً، لابتزاز المعارضة، وتقبله كممارسة، مع النظام.

ويقيني أن الائتلاف كان يجب أن يقول في بيانه برفض الحوار، إلا إذا كان يفضي إلى تفكيك النظام وإسقاط العصابة الحاكمة، والإسهام في نقل سوريا إلى النظام الديمقراطي العتيد. ذلك كان سيشجع أطرافا كثيرة في النظام على تلمس دربها نحو دور وطني، وسيسهم في تخفيف وطأة القتل عن شعبنا، وسيعيد ورقة السياسة إلى يدنا باعتبارها الورقة التي تكمل ورقة مقاومة شعبية ندين لها بصمودنا الأسطوري وانتصاراتنا. وأعتقد، في الختام، أن وقت تصحيح هذا الخطأ لم يفت بعد، وأن علينا التخلص منه، لأنه مفيد ومطلوب!

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى