باسيليوس زينوجورج كتنحمّود حمّودصفحات الرأيطلال المَيْهَنيمحمد ديبومعتز حيسو

مقالات مختارة عن الطائفية

العصبيات الحديثة

    معتز حيسو

    يشكّل الانغلاق على أحد المكونات الأولية للمجتمع، عائلة،عشيرة، قبيلة، مذهب، عرق، دين، طائفة،.. بداية تشكل العصبيات بأشكال تجلياتها المتخلفة. وتتميز العصبية بشد العصب المكوِّن لهذا الانتماء،و بالتزمت والتعصب والتقوقع حول فكرة طوطمية والانغلاق على الذات وعلى العصبية التي تشد عصب من ينتمي لها لدرجة يرى فيها من يرتبط بأحد هذه العصبيات بأن كافة مكونات الكون وقضاياه تتمحور حول عصبيته.والعلاقة بين هذه العصبيات تكون غالباً محكومة بلغة العداء والسطوة والقوة والسيطرة والهيمنة ورفض الآخر…. ومن الممكن أن تتحول بعض الأشكال والبنى الحديثة/ الحزب، النقابات،السلطة، الفكر../ إلى عصبيات في ظل: غياب الدولة، سيادة التخلف الاجتماعي،في الأزمات التي تهدد وجود الإنسان، استمرار تأثير العصبيات القديمة.

    ومن البداهة بمكان أن العصبيات ليست بالشيء الجديد. إذ يرتبط ظهورها في سياق تطور التاريخ البشري في مراحل محددة ولحظات تاريخية معيّنة. فنشوءها وتناميها وتراجعها وزوالها يرتبط موضوعياً ببنية وشكل الدولة،وبالتالي بمكانة ودور مؤسسات الدولة التي يفترض أنها تمثّل المواطن / الإنسان / الفرد . فالإنسان يميل بحكم تكوينه وبنيته الاجتماعية أن يتموضع في أطر اجتماعية جماعية لتحقيق ذاته المستقلة، المتميزة ،المستقرّة، وكلما تنامت هذه الجوانب وتعمّقت في الوعي الإنساني، كلما ازداد مستوى القطع المعرفي للفرد/ الإنسان مع الحالة القطيعية. ويرتبط مستوى القطع مع القطيعية البهيمية بمستوى وشكل الوعي الاجتماعي المؤسساتي الذي يحقق للفرد المتفردة مكانته المستقلة والمتميزة والفاعلة في الأطر المؤسساتية.

    وإذا كانت العصبية تنشأ في سياق تشكّل بشري محدد بسمات وشروط زمانية ومكانية خاصة، محددة ومحكومة بمستوى التطور الاجتماعي العام للبنية الاجتماعية وأشكال تجلياتها، فإنها تعزز الشد العصبي على أسس جهوية مذهبية إثنية طوائفية عشائرية دينية… فهي تقوم على مبدأ التكتل، التوحد،الاندماج، تماهي الذات وذوبانها في الجماعة ومعها. والإشكالية في اللحظة الراهنة تكمن في إعادة إنتاج التموضعات والتشكيلات الاجتماعية الحديثة (الحزب، النقابة، المؤسسات..) من منظور عصبوي يعيد إنتاج التخلف، في ذات اللحظة التي يتم فيها استنهاض ذات العصبيات بأشكال مستحدثة تتوافق مع اللحظة الراهنة، لكنها تتجلى بأشد أشكالها تخلفاً وتعصباً وانغلاقاً وتقوقعاً على الذات. وهذا يرتبط موضوعياً بالأزمة التي تعاني من آثارها كافة مكونات المجتمع السوري. لكن من يتحسس الخوف على مستقبلهم بشكل خاص هم الأقليات(المذهبية،العرقية،الإثنية والقومية.) وهذا نتيجة لتراجع إن لم نقل غياب خطاب وطني جامع، عدم وضوح آفاق المستقبل، الأخطاء التي ترتكبها أطراف الصراع، إضافة لعجز هذه الأطراف عن حماية المدنيين. إن استمرار تأثير العصبيات في الوعي الاجتماعي، يرتبط بعجز الدولة عن تمكين وعي مدني علماني ديمقراطي تعددي، وعجزها أيضاً عن تمكين وتطوير مجتمع مؤسساتي يقطع في سياق التطور الاجتماعي العام مع كافة أشكال الوعي قبل الوطني. ومن النافل القول أن البرجوازية المتخلفة التي تحكم المجتمع بالقمع والاستبداد، تحافظ في سياق سيطرتها الطبقية على التشكيلات الما قبل وطنية وأشكال وعيها وإن بمستويات وأشكال كامنة ومتفاوتة، لتوظيفها في لحظة محددة(الأزمة)، وهذا ما يلحظه المراقب والمتابع لمجريات الحراك السوري الذي دخل في طور الأزمة، والخروج منها يحتاج إلى آليات تفكير ووعي واشتغال تقطع مع ما هو سائد من أشكال وعي وتفكير وممارسة، وهذا يحتاج لنمط من الوعي والتفكير التحليلي والنقدي للوعي الاجتماعي والسياسي اليومي السائد. ومن الموضوعية بمكان أن يقترن تشكّل هذا النمط من التفكير مع الوعي العلماني، الديمقراطي، المدني في سياق نقد ونقض الوعي المتخلف، وهذا يؤسس لعمليات نقض موضوعية للممارسة السياسية السائدة التي لم تخرج عن سياق التمحور حول الأنا الذاتية المتضخمة. وهذا الشكل من الوعي يتماهى مع الوعي السائد،الذي لا يمكن للفرد تجاوزه إلا في سياق تطور اجتماعي عام يتجاوز ويجبّ ما هو سائد من وعي اجتماعي متخلف.

    إن قمع التشكيلات المدنية والفصائل السياسية الوطنية والتجمعات الثقافية، في ذات اللحظة التي كان يتم فيها غض النظر إن لم نقل المساهمة في تشكيل تجمعات قبل وطنية (جمعيات أهلية، قبيسيات.. ) رغم مخالفته للشكل العلماني للدولة، كان يدلل على بنية السلطة وتركيبتها وآليات اشتغالها، وعلى المخاطر المستقبلية التي تنتظر السوريين نتيجة لهذه الآليات التي أمنت المناخ المناسب لتشكيل الحواضن الاجتماعية لتيارات سلفية وجهادية، وعمّقت التناقض الاجتماعي، في سياق المحافظة على تشكيلات قبل وطنية تزيد من حدة الاستقطاب الاجتماعي المستند إلى العصبيات، وهذا يوضح أسباب بروز وظهور الانتماءات والولاءات العصبوية، وأيضاً يوضّح أسباب استدامة إنتاج التخلف، واستمرار كمون أشكال ثقافية عصبوية. إن استنهاض هذه الآليات وتوظيفها سياسياً في اللحظة الراهنة، يساهم في إشاعة الفوضى وخلط الأوراق وإعاقة سيرورة التغيير الوطني الديمقراطي المدني، ونكوص المجتمع لأشد مراحله تخلفاً. والأهم أنه يستدعي ممارسة العنف المركّز والمركّب من قبل السلطة المسيطرة لمواجهة عنف مكونات المجتمع الأهلي المسيس عصبوياً،والذي ساهمت أطراف من السلطة في تمكينه في ذات اللحظة التي كانت تشتغل فيها على تفريغ الحراك الشعبي من مكوناته المدنية السلمية بالقمع المبطّن والعاري، وهذا لن يتم لأن بنية الحراك الشعبي السوري ومكوناته الأساسية هي قوى مدنية، وما يتجلى من مظاهر عنفية متطرفة هي حالات طارئة ودخيلة على المجتمع السوري، والشعب السوري الذي يتمتع بوعي ديمقراطي، مدني،سلمي،وطني، يحترم العيش المشترك القائم على التنوع. قادر على مواجهة وتجاوز هذه المظاهر، لأنها ليست من نتاج بنية المجتمع السوري، ولا تعبّر عن ثقافته.

    وليس جديداً إن يرتبط ظهور وتجلي هذه الأشكال من الوعي العصبوي، ببنية الدولة وأشكال تجلياتها السياسية والاقتصادية ودور مؤسساتها وتأثيرها على الفرد لجهة الانتماء والتعبير عن المصالح الاجتماعية من ناحية. ومن ناحية أخرى يرتبط عودة ظهور هكذا وعي، بمستوى تطور الوعي السياسي والمدني والمعرفي الذي تتحدد بموجبه أشكال الاشتغال بالقضايا العامة.

    لقد مثلت العصبيات التقليدية في أشكالها الأولية أحد مكونات الدولة قبل وطنية / سياسية. فكانت هذه الأشكال من التجمعات والتكتلات والانتماءات، تعبيراً عن حاجة الفرد لأطر اجتماعية يحقق فيها ذاته وانتماءه،و بذات اللحظة كانت تؤمن استقرار الفرد الاجتماعي،النفسي،الاقتصادي، وبشكل خاص الاستقرار الذهني والعقلي.

    إن هذه الأشكال من التكتلات والانتماءات سادت وانتشرت في مراحل لم تكن فيها الدولة ببنيتها وأشكالها القديمة تقوم بوظائفها الاجتماعية التي نشهد جوانب مهمة منها في معظم الدول الأوربية التي قطعت في سياق تطورها الليبرالي( فكرياً، سياسياً، اقتصادياً)مع أشكال الوعي القروسطي المتخلف. من هذا المنظور يمكن أن تشكّل إن هذه الانتماءات، حاجة إنسانية واجتماعية ضرورية وموضوعية للفرد في الدول التي لم تتجاوز حتى اللحظة أشكال تكوّنها الجنيني.

    لكن ما إن بدأت المؤسسات الاجتماعية للدولة بالتشكل على قاعدة الفهم والعقل الوطني والمصلحة والوظيفة الوطنية العليا الشاملة والجامعة .. حتى بدأ الفرد ينزاح ويتحول عن التشكيلات الأهلية السابقة، لإدراكه أنها متخلفة عن سياق التطور التاريخي في لحظته الراهنة، إلى تشكيلات مدنية ذات سمة وطنية قاطعة مع هذه الأشكال من الانتماءات. لكن مع كل حالة تراجع وارتداد للدولة عن وظائفها الاجتماعية، ومع كل لحظة غياب عن دورها الاجتماعي الوطني في سياق ما تستنبطه آليات العولمة من أشكال لدويلات مشوهه في بلدان العالم المتخلف، كانت هذه التشكيلات تستعيد أدوارها ووظائفها المعهودة وإن بأشكال ومستويات مختلفة. فحاجة الإنسان لتلبية احتياجاته تدفعه في بعض اللحظات ليتمسك بحبال جهنم حتى ينجو مما يعاني،فكيف إذا كان من يتحكم في سياق وآليات العولمة يدفع إلى استعادة هذه التشكيلات، ليعاد بناء الدول والمجتمعات على مكوناتها الأولية المتخلفة، من أجل إحكام هيمنتها السياسية والاقتصادية وفق منظور سياسي جديد يقوم على إعادة صياغة وبناء الدول الطرفية المتخلفة من منظور اثني، مذهبي، طائفي، ديني.. وهذا يفترض بالضرورة أشكال جديدة من العلاقات التي تبقي على التخلف والتبعية والارتهان من قبل هذه الدويلات لمراكز رأس المال العالمي المهيمن. وهذا لا يستدعي فقط استنهاض العصبيات الأولية، بل تمكينها سياسياً، إن هذا التحوّل في شكل العلاقات وآليات اشتغال رأس المال المعولم، يخدم مشروع إقامة الدولة اليهودية في المنطقة. وهذا يتناقض موضوعياً مع كل الدعوات الديمقراطية التي تطلقها الدول الرأسمالية في سياق تأكيدها على ضرورة دعم بناء الدولة المدنية التعددية، كون دوائر صناعة القرار في ( الإمبرياليات المهيمنة) لا تشتغل فقط على الترويج لديمقراطيات شكلانية وظاهراتية،بل تشتغل لإعادة تشكيل بنية الدول المتخلفة على أساس المكونات الأولية للمجتمع. لذا فإن بقاء هذه التشكيلات والانتماءات وحتى آليات التفكير في حيزات الوجود وتلافيفه المعلن وغير المعلن دليلاً ومؤشراً على فشل الدولة بالقيام بمسؤولياتها ووظائفها .. التي تشكلت أي الدولة من أجل إنجازها.. وبذات اللحظة هي دليل على أن هذه التشكيلات والأشكال من الانتماءات والولاءات لم يجبّها أو يتجاوزها التطور والارتقاء الاجتماعي( السياسي، الاقتصادي). مما يعني موضوعياً تقاطع الواقع الاجتماعي الراهن وسياسات النظم المسيطرة مع الميول العولمية المشوهة والمشبوهة.

    لكن إذا كان ظهور هذه الأشكال من الانتماءات بتجلياتها وأدوارها الإيجابية منها والسلبية، يعبّر عن حالة موضوعية من التطور الذي يتراجع فيه دور الدولة الاجتماعي الوطني، فإن المجتمع سوف يتجلى بداهة وفق أشكال أهلية / قبل مدنية. وهذا شيء طبيعي وموضوعي في سياق المتغيرات الراهنة.حتى لو كان يعاكس أو يخالف المنطق التاريخي في تطوره الارتقائي المتصاعد،الذي يجبّ في سياقه بقايا التخلف. لكن ظهور العصبيات القديمة بأشكال مستحدثة في دول حداثوية، يدلل على عجز حكومات هذه الدول عن انجاز مشاريعها التنموية، وعلى فشلها في بناء الدولة من منظور سياسي ديمقراطي مدني مؤسساتي، وعلى تقاطعها وارتباطها البنيوي مع سياسات الدول الرأسمالية المعولمة التي تشتغل على تعميق التخلف والتناقض الاجتماعي بكافة مستوياته ومن منظور دون وطني، ودون سياسي.

    لكن الإشكالية الكبرى تكمن في التجليات المستحدثة للعصبيات في ظل دولة حديثة تقوم على المؤسسات والأحزاب والجمعيات المدنية والحقوقية.ويمكننا الوقوف على هذه الحالة، ليس فقط من هذه الزاوية، بل على قاعدة تحوّل مؤسسات المجتمع المدني ذاته في ظل الأزمة التي تعصف بدول ( الربيع العربي) وتحديداً سورية، إلى أشكال عصبوية لا تجّب فقط دور مؤسسات المجتمع المدني(الشكلاني)، بل تناقضها وتهدد استمرارها، وهذا يدلل أيضاً على تشكّل بدايات وعي وتفكير متخلف بأشكال مختلفة. وهذا يستدعي من كافة المثقفين والهيئات والفعاليات المدنية، العمل بوعي وفكر ديمقراطي مدني علماني لمواجهة هذا الميل المتخلف الذي يهدد بنية المجتمع السوري. ومن الممكن في حال تعمّق تأثيره اجتماعياً أن يعيد المجتمع السوري لعصور التخلف، وأن يساهم في تفجير المجتمع على ذاته. وفي هذه اللحظة بالذات، فإن هكذا تحوّل لا يساهم فقط في إجهاض إمكانية التحول الديمقراطي، بل يعمّق حدة الانقسامات والتناقضات الاجتماعية التي أخذت تومئ برأسها من خلف إشكاليات لم نكن نلحظها بالشكل المباشر والعياني الملموس في السابق. مما يعني أن ظهور هذه التشكيلات (العصبيات)في اللحظة الراهنة يؤكد التساؤلات التي كنا طرحناها فيما مضى عن أسباب انكفاء الدولة عن القيام بدورها و وظائفها الاجتماعية من منظور وطني جامع،وعن تراجع المضمون الوطني للسياسات الحكومية في سياق نكوصها إلى الاعتماد على بعض المكونات الأولية والفعاليات الأهلية للمجتمع السوري من منظور متخلف يعفيها من تحمّل مسؤولياتها.وهذا التحول يعزز التساؤل عن إشكالية ومخاطر تحلل مؤسسات الدولة وتفتتها وتشتتها وتخلّع كيانيتها. ونتساءل: هل حقاً تم تجاوز الوعي ما قبل وطني بشكل فعلي وحقيقي، أم أنه ما زال يقبع داخل ذهنية وعقل الفرد. وإن كان هذا، فماذا كانت مؤسسات الدولة ( العلمانية / الحداثوية ) تفعل لتطوير مستوى الوعي الاجتماعي بأشكاله ومستوياته المدنية والعقلانية والعلمانية التي كان يجب ويفترض أن تواكب التطور العلمي والحضاري العالمي. أم أننا لم نشهد في الحقيقة حتى اللحظة تشكّل دولة مدنية، بل دويلات دون الدولة تجلّت ظاهرياً وشكلانياً بكونها مدنية، لكنها في العمق كانت دويلات تحافظ على العصبويات الأهلية الأولية التي لم تتخلى عن أدوارها ووظائفها الاجتماعية والسياسية والمذهبية، بل تغيرت أشكال تجلياتها وآليات اشتغالها فقط .. وهذا يدلل على أن تجليات هذه الدول المدنية المعاصرة ظاهرياً وشكلانياً، كان يحجب بنية الدولة الحقيقية القائمة على التكتلات العصبوية.. التي حافظت على أدوارها ووظائفها المعلنة وغير المعلنة. وما هذا إلا دليلاً على تخلف الدولة كبنية مؤسساتية عن مواكبة التطور العام، وأيضاً دليلاً على إشكالية الشرائح والفئات البرجوازية المسيطرة بأدوات ووسائل التخلف، وعجزها وفشلها عن القيام بمهامها الوطنية. وبمثل هذه الحالة فإن الارتداد والنكوص إلى التخلف سيكون سمة الفرد والمجتمع والدولة.

    فالدولة في أشكال تجلياتها الراهنة وبنيتها الإشكالية لم تعد تتمتع بمقومات الدولة،وهذا يؤكده تراجع سلطتها المركزية(الوطنية المدنية)على المجتمع،المؤسسات،الأرض. وأيضاً مؤسساتها لم تعد تعبّر عن المجتمع القائم على التنوع السياسي، الاجتماعي،المذهبي… وحتى الأحزاب تعود القهقرى إلى أشكال ما قبل سياسية لتتجلى بأسوأ أشكالها ومستوياتها(عائلية،عشائرية،إثنية،جهوية،..)ومن الموضوعية بمكان أن يرتد ويرتكس وينكص الإنسان إلى تشكيلات قبل سياسية عندما تفتقد مؤسسات الدولة لحظة الأزمة دورها المدني الديمقراطي التنموي، وتحديداً عندما تعجز عن تحقيق العدالة.

    هذا التحول الذي يعاد فيه إنتاج التخلف، من خلال إعادة إنتاج التشكيلات الأهلية يدلل على تراجع دور الدولة وضعفها وتخليها عن مسؤولياتها. ولحظنا كيف أن الجهات الرسمية في السنوات القليلة السابقة اشتغلت على استعادة دور هذه التجمعات والتشكيلات والجمعيات.ويشكّل هذا التحوّل نبشاً لتاريخ التخلف،الذي يدعّم الدور الوظيفي لهذه التشكيلات التي لم يتجاوزها التطور، ويدلل على هذا قدرة هذه التشكيلات على تلبية حاجة الفرد للانتماء حتى اللحظة.

    ومن المفترض أن لا نتوقف أو نكتفي بملاحظة ومتابعة أشكال تمظهر هذه التشكيلات. بل الأهم هو فهم وإدراك إشكالية ظهور عصبيات حديثة تستند بأشكال ومستويات تجلياتها إلى الجذر والعمق التاريخي لذات العصبيات القديمة، مستغلة تراجع إمكانية مؤسسات السلطة المركزية عن القيام بأدوارها ووظائفها السياسية والاجتماعية في لحظة الأزمة المتضخمة التي تنبئ بإمكانية تحلل كيانية الدولة في حال لم يتم الاشتغال على إيجاد حل سياسي ديمقراطي وطني شامل وعميق، تحديداً بعدما فشلت آليات ومفاعيل القوة العارية (الأمنية والعسكرية) عن فرض استمرار سيطرة الفئة المسيطرة. والسبب في ذلك يكمن في أسباب مختلفة ومتباينة، منها تعدد مراكز القوى خارج الأطر الرسمية. إن تعدد مراكز القوة المادية والبشرية لا يتجلى في اللحظة الراهنة من منظور التشكيلات الأولية ( الإثنية،المذهبية،العشائرية…) فقط، بل أن بعض الحالات السياسية ( الحزبوية المسلحة، والعقائدية الجهادية) تتجلى من ذات المنظور. أي إننا نلحظ نهوض واستعادة لدور هذه التشكيلات من منظور يختلف عما كان سائداً فيما مضى. فمن جانب يدافع بعضاً من هذا التشكيلات التي تحولت إلى قوة مادية مسلحة عن سلطة الفئة المسيطرة التي يتم شخصنتها على الأغلب. فيما البعض الآخر يناصب العداء لسلطة الفئة المسيطرة التي يتم اختزالها أحياناً في شخص بذاته. أي أننا نشهد انقساماً حدياً في البنية الاجتماعية، وتشتتاً على مستوى مكوناتها الأولية والسياسية التي تتجلى بالتناقض والتداخل والتراكب على كافة المستويات.

    من جانب آخر بات من الملاحظ بأن التحولات التي يشهدها المجتمع السوري، تنعكس على كافة مستويات وتفاصيل الحياة الاجتماعية والسياسية. فالمستوى السياسي لم يعد يتجلى فقط بذات الأشكال والبنى التي كانت سائدة فيما مضى، بفعل عدم تجاوز الفصائل والقوى السياسية لإشكالاتها وتناقضاتها البنيوية. بل أن هذه التشكيلات القديم منها والجديد الذي تسامق في ظل الأزمة السورية، لم يزل يمارس السياسية بذات الأدوات والآليات والذهنية،ومن ذات المنظور الأحادي الذي يدّعي امتلاك الحقيقة وتمثيل الشعب السوري،هذا إضافة إلى أن الوعي العصبوي المتخلف يشكّل أحد مستويات الممارسة السياسية لهذه الأطراف، مما يعني أنها تعاني أزمة حقيقية تضعها في مواجهة الشعب السوري الذي يدفع دمه يومياً على مذبح الحرية، وفي مواجهة السياق الموضوعي للتغيير الوطني الديمقراطي السلمي الذي ما زال المجتمع السوري يتمسك به، كونه يرى فيه المخرج الوحيد من واقعه الراهن.

    وفي ذات السياق فقد بات واضحاً بأن مكونات المجتمع السوري التقليدية بهيئاتها الأهلية تتجلى بوضوح، وفي بعض اللحظات تتصدر المشهد. لكن وظائفها وأشكال تجلياتها الحالية تختلف وإن بشكل نسبي عما سبق. ففي هذه اللحظة يتجلى بوضوح تمحور مكونات المجتمع السوري التقليدية حول ذاتها عصبوياً، وهذه الحالة موضوعية نتيجة لتراجع دور مؤسسات الدولة عن وظائفها وأدوارها الاجتماعية، ونتيجة لتراجع خطابها السياسي الوطني الذي يجب أن يمثّل كامل الشعب السوري بكافة مكوناته العرقية والإثنية والقومية …. . وإذا كان من الموضوعية بمكان أن تمارس الأقليات فعل التكتل والاندماج وذوبان الفرد في الكل مما يزيد من الشد العصبي لحظة الأزمات الكبرى التي تهدد وجود ومصير الأقليات، فإن آثار ذات الأزمة يمكن أن تنعكس بأشكال تفتيتية وتقسيميه بفعل تداخل وتباين وتراكب تأثير المستوى السياسي على تكوين وتركيب وآليات اشتغال التشكيلات الأقلوية. ففي اللحظة الراهنة المتسمة بالتأزم نلحظ كيف يتراكب المستوى السياسي إشكالياً مع الأشكال التي تتجلى بها المكونات الأولية للمجتمع السوري. فهذه المكونات تحاول تملّك بعضاً من مقومات الدولة، وتوظيفها بما يخدم مصالحها الآنية والمستقبلية، فيما لو تحللت الدولة الكيانية. أي أننا يمكن أن نلحظ في حال تحلل الدولة الكيانية أو تراجع قوتها المادية التي تمارس من خلالها فعل السيطرة، تشكّل كيانات سياسية جديدة تعيد تقسيم المجتمع السوري والدولة السورية على أسس مكوناته الأولية. إن العصبويات الحديثة تشتغل وفق آليات تتمحور حول توظيف هذه التشكيلات سياسياً، أي إن هذه التشكيلات قبل الوطنية تستعيد إنتاج ذاتها في اللحظة الراهنة من منظور سياسي، لكن بأكثر الأدوات والأشكال والآليات تخلفاً(تطييف السياسية).وبتقديرنا هذا التحول يهدد مستقبل المجتمع السوري فيما لو لم تتملك سلطة الدولة خطاباً وطنياً جامعاً ومعبّراً عن المجتمع السوري بكافة مكوناته، ولم تستطع الحفاظ على كيانية الدولة الموحدة( مجتمعياً وجغرافياً). أي أن تفجّر كيانية الدولة على ذاتها من الداخل، و تشظيّها بفعل تناقضاتها الداخلية والأزمة العامة والمركبة التي تعاني منها سوف ينعكس على المجتمع وعلى سلطة الدولة المركزية التي تميل للتحلل تدريجياً. مما يعني توفّر المناخ السياسي المناسب لمكونات المجتمع السوري التقليدية من إعادة إنتاج ذاتها من منظور سياسي تفتيتي وتقسيمي يعيد إنتاج التخلف، والأخطر في هذا التحوّل هو اقترانه بوسائل القوة العنفية الإقصائية والإستئصالية على أسس عصبوية متضيقة.وقد تكون الإشكالية الأعمق هي اعتماد بعض الأطراف السياسية لذات الأدوات والأشكال وآليات. وبالمقارنة مع هذه التجليات، فإن ممارسة القوة من قبل الفئة المسيطرة (دولة السلطة)، تتجلى في اللحظة الراهنة أحياناً على أنها ذات عمق عصبوي، مما يجعلها ومؤسساتها ذات الشكل المدني تتماهى مع بعض تجليات العصبيات الحديثة. إن هذا التحوّل في شكل ممارسة الدولة لسلطتها يشكّل الإشكالية الأعمق والأكبر، كونه يضعها في تناقض مع المجتمع ومكوناته السياسية والمدنية، ومع دورها الاجتماعي والسياسي الوطني. مما يهدد بتحلل مكونات الدولة الاجتماعية والسياسية تناقضياً،وتمكين فاعلية العلاقات السياسية على أسس تقليدية متخلفة لاقترانها بالعقل والآلية العصبية،وهذا يعيد المجتمع السوري إلى ما قبل التاريخ. ولا تقف تتداعيات الأزمة عند هذا الحد، بل حتى الإسلام الذي يشكّل المعتقد الرئيس لغالبية السوريين يتحول في الممارسه السياسية التي تتخذ أحياناً أشكالاً عنفية إلى فكر وعقل وممارسة ذات مضمون وبُعد طائفي ضد السلطة والطوائف والأحزاب والفصائل السياسية المخالفة له. أي يمكننا أن نلحظ تجليات للعقل و التفكير الطائفي على مستوى: الدين،السلطة،الدولة،المعارضة،الأقليات .. ونظراً لعدم امتلاك الإسلام وتحديداً الإسلام السياسي( العربي الريعي) لنظرية اقتصادية تنموية إنتاجية، فإن قياداته السياسية والاقتصادية يعتمدون على تنمية رأس مالهم الريعي الطفيلي في التجارة الحرة كبديل عن رأس المال المنتج،وهذا الميل يتقاطع مع الاقتصاد الحر الذي تشتغل على فرضه الدول الرأسمالية، مما يعني مزيد من التناقض الطبقي والاستقطاب الاجتماعي والقمع والاستبداد بأشد أشكاله تخلفاً، وهذا ما يشكل الإشكالية الأساس والمعضلة الكبرى في مواجهة التحول الديمقراطي السياسي المدني السلمي.

    إن هذه التحولات تنذر بمخاطر كبرى على المجتمع السوري وعلى الدولة السورية، مما يعني ضرورة تضافر كافة الجهود الوطنية من أجل بناء ثقافة وطنية ديمقراطية علمانية تمارس النقد والنقض، لتجبّ في سياقها المتطور كافة مظاهر تجليات الوعي قبل سياسي. إن تجاوز الأزمة الراهنة يحتاج إلى كافة الجهود الوطنية التي يزخر بها المجتمع السوري القائم على التنوع الذي يمد المجتمع السوري بالقوة في حال توظيفه ديمقراطياً، وينعكس إلى عوامل ضعف وتشتت وتناقض فيما لو تم التعامل معه بآليات استبدادية قمعية .. لذا فمن الأهمية بمكان التركيز على صياغة خطاب وطني جامع يعتمد العقل والأدوات والآليات الديمقراطية والسلمية، لأنه يشكّل حتى اللحظة المخرج الأمثل من الأزمة السورية.

العلويون والعبور الصعب من التوحش إلى المدنية

عبد الحميد سليمان

الجزء الأول: “بؤس اسمه التقية”

يُخطئُ البعض إذ يعتقد أن العلويين هُمْ طارئٌ على الفضاء المعرفي في الشرق عامةً وفي سوريا خاصة. ولعلَّهُم وأعني هُنا العلويين أنفسَهُم مسئولون عن هذا الوهم ومن ثمَّ هذا الكشف المهول الذي يعيش اليوم نتاجَهُ الكارثي جُلُّ السوريين؛ هُمْ مسئولون بشكل أو بآخر لأنهم اختاروا في مكانٍ ما وفي زمانٍ ما مبدأً غدا يوماً بعد يوم وسنةً بعد سنة ومن ثمَّ قرناً بعد قرن أساساً معرفياً لوجودهم… نعم لقد اختار العلويون الأوائل في الزمن الأول خياراً تَحوَّل بوعيٍ جمعيٍ تراكم عبر الزمن إلى أساسٍ وجوديٍ في صلب العقيدة بعدَ أن كان مجردَ وسيلةٍ للبقاء في وسطٍ مختلفٍ من ناحية ولا يتحمل الاختلافَ من ناحية ثانية.

التقية… الخيارُ كانَ التقية… بمعنى أن التقية كانت هي النتاج المعرفي للعصف الفكري العتيد ذاك الذي قام به العلويون الأوائل في العزلة… عُزلةِ الجبال… عُزلةِ الجبال هذي التي كان لها بالغ الأثر في الوعي الجمعي للعلويين.

لقد ذهب العلويون بعيداً؛ هُمْ لم يكتفوا بعُزلة المكان مثلما فعلَ الموارنة والدروز في سبيل البقاء، بل هُمْ أسقطوا عزلة المكان على العقيدة وهذا ما لم تصل إليه قط باقي الأقوام الأقلية التي كانت تنازع في سبيل البقاء في هذا الشرق القائم على الإقصاء، وهُمْ حين أسقطوا العزلة على العقيدة غدت هذه العزلة التقية في صُلب الهوية المعرفية للعلويين… لقد غدت في صُلب وعي العلويين لذواتهم.

قد لا يفهم البعض مدى الهول الذي عَنَاهُ خيارُ التقية… إخفاءُ الذات وإخفاءُ المعتقد والاختباءُ الأزلي خلف ستارٍ خَرِق لم يُقْنع أحداً يوماً… لقد قادت التقية إلى غياب التواتر عن النص… نصِّ العقيدة… وهو بالتالي غدا حِكراً على شخوصٍ منتقاة غدت بدورها عاماً بعد عام وجيلاً بعد جيل أكثرَ جهلاً به… لقد بَليَ النص في العزلة… عزلة التقية… ومن ثم غدا النصُ نتاجَ العزلة… غدا النص نتاجَ التقية.

إن التواتر ومن ثم النقاش والحوار بين أفراد الجماعة حاسمٌ في تشذيب العقيدة وتشذيب النص؛ هو حاسمٌ أولاً في حِفظِ النص من خلال إخضاعه المستمر إلى الرقابة الجمعية لضمير الأمة، وهو حاسمٌ ثانياً في إخضاع العقيدة لسلطة العقل الجمعي ولسلطة العصر ولسلطة التطور المحتوم. ما حدث أن غيابَ التواتر عن العقيدة ومن ثم غياب النقاش البيني في الوعي الجمعي للعلويين أدى تدريجياً إلى انفلات العقيدة (وهي روحُ النص) من سلطة العقل؛ هي لم تعد قادرةً على التكيف، وهي بالتالي لم تعد قادرةً على البقاء.

هولٌ عظيم… أنْ تبلى العقيدة، وأنْ تبلى في الخفاء في ظل التقية وبعيداً عن التواتر… في هذا السياق، دعونا أيها السادة لا ننسى الدور الجوهري للعقيدة في غياب الدولة… دورَها في عِصمة الفرد… حُرمةِ الفرد في الجماعة.

هناك في القفار الموحشة للجبال لم يكُ ثمة ما يَعْصُمُ العلويين من ذواتهم… لم يكُ ثمة هناك حُرمةٌ للفرد… لا حُرمةَ للدم ولا حُرمةَ للعِرض ولا حُرمةَ للمال… هناك في تلك القفار الموحشة حيث الفقر المدقع حدَّ الجوع وحيث التهميش الأقصى حدَّ إنكار الحرمة وحيث لا عقيدة تَعصُم في غياب الدولة… هناك في القفار الموحشة وعلى مدى قرونٍ من العزلة اُستُبيحَ الفرد العلوي دون هوادة… اُستُبيحَ ليس فقط من قِبَلِ آخَرَ مختلف… ولكن وبقسوةٍ أشدَّ هولاً من قِبَلِ أبناءِ الفرقةِ ذاتِها.

لقد كان شخصُ الأغا هو التجسيدُ الأكثر توحشاً لهذه الاستباحة، هُنا… سوف يجادلُ البعض بالقول أن هذا التهميش وهذه الاستباحة من قِبَل الطبقة الإقطاعية الزراعية لم تكن مقصورةً على العلويين؛ بل أنها كانت حالةً عامة وهي شملت كلُّ الجماعات التي كانت تقطن هذا الشرق خلال تلك الحقبة التاريخية. حسناً، هذا صحيح، ولكن لدى التأمل في طبيعة الطبقة الإقطاعية التي كانت تستبيحُ العلويين حينها لناحية كونِها أكثرَ تخلفاً “بفعل العُزلة” وأكثرَ انفلاتاً “بفعل بلاءِ العقيدة”؛ نُدرك حينها هَولَ التهميش وهَولَ الإقصاء وهول الاستباحة التي خضع لها العلويون…

هَولُ الاستباحة هذا قادَ إلى هَولِ التوحش… توحشٍ لا حدودَ له… لا عقيدة… ولا حُرمة… أللَّهم إلا حُرمةَ الأمرِ الواقع… لقد كان التوحش هو السبيل الأمضى للبقاء… ومثلما عمَّت الاستباحةُ وطال التهميشُ جُلَّ العلويين طال التوحشُ جُلَّهُم. وفي هذا الأتون المهول من فَيضِ الفقر وفَيضِ الجهل و فَيضِ الضعف تَوَحشَ المهمشون العلويون لا لخللٍ موروثٍ فيهم ولكن لتوقٍ أصيلٍ فيهم كبشرٍ نحوَ البقاء.

على أن التوحشَ هذا لم يعنِ الخواء القِيَّمي التام؛ كانت هناك قِيَّمُ الريفيةِ بطبيعة الحال، لكن هذه كانت هشة وغيرَ مؤطرة… هذه كانت فقط تقاليد… تقاليدٍ لم تكن لتصمدَ أمام النزق الذي خلقه شظف العيش الطويل.

في تلك الجبال المعزولةِ عن المَدَنية تخمَّرت في سبيل البقاء نزعاتٌ إنسانيةٌ قصيَّة ونَزَقٌ ساخطٌ على البنية الأبوية البطريركية التي استباحتهم على مدى قرون… ونَزَقٌ فرديٌ متمحورٌ حول الذات أولاً… وحولها قبل كل شيءٍ آخر.

الجزء الثاني: النزولُ من الجبال

كان تهاوي السلطنة العثمانية مدوياً على الطبقة الإقطاعية العلوية… كان وَقْعُهُ جسيماً عليها؛ لقد هَوَتْ السلطنةُ العثمانية… هَوَتْ وهَوَى معها مفهوم الرعيَّة… هَوَتْ حتميةُ العُزلة… وهَوَى معها مفهومُ التلزيم… التلزيمِ هذا الذي أعيا العلويين وقادَهم إلى التوحشْ… لم يَعُدْ من المقبولِ حينها “تلزيمُ” المجموعاتِ البشرية لإقطاعٍ رث يستبيحُ الأفرادَ دونَ حُرمة… إقطاعٍ لم يَعُدْ فعالاً في القيامِ بأعباءِ الإدارة… والأهم، لم يَعُدْ قادراً على تأمين الاستقرار.

كانَ هذا محتوماً… كان لا بُدَّ من التكيف… كان لا بُدَّ من التغيير لمواجهة هذه الرياح القادمةِ من الغرب… رياحٍ تَحمِلُ فيما تَحمِل هَمْسَ مفهومٍ جديد حينها… مفهومٍ لم يشهد لهُ هذا الشرقُ مثيلاً من قبل… مفهومٍ يُدعى المواطنة.

في تلكَ الأيامِ العصيبة وبينما كانت الطبقاتُ الإقطاعيةُ لدى الأقوامِ الأخرى تتكيف… تتغيرُ لتغدو شيئاً آخَرْ… شيئاً أكثرَ حداثة… برجوازيةَ مُدُنْ… ولِما لا… برجوازيةً وطنية… في تلك الأثناء، كانت الإقطاعيةُ العلويةُ تتخبط… تتخبطُ في العجزِ عن التغيير.

علَّهُ كانَ الشعورَ الدفينَ بالذَنْب وإدراكَ هَوْلِ ما اقترفَتْهُ من استباحةٍ بِحَقِّ مُهمشيها… وعلَّهُ كان التخلفَ المرير هذا الذي لم يكن له مثيلٌ بين نظيراتِها من الطبقاتِ الإقطاعيةِ الأخرى؛ عجزت الإقطاعيةُ العلويةُ عن التكيف… لم تكن قادرةً على التغيير… أقلَّهُ ليسَ بالسرعةِ الكافية… أقلَّهُ ليسَ بالكم والكيف المُناسبَيْنِ… المُناسبَيْنِ لعقدٍ اجتماعيٍ جديد… المُناسبَيْنِ قبل فواتِ الأوان.

في ذلكَ السياقِ المُتأزم، كانت الإرهاصاتُ الأولى لذلك النزولِ العتيد… بدأ العلويونَ النزولَ من الجبال… بدؤوا مع أقرانَ لهم يعبرون حاجزَ العُزلة… لكن هذا العبورَ لم يَكُ تاماً… كانَ ثمة الفقرُ المُدْقِعْ… وكانت هناكَ التقية…

حينها كان من المُمكن إسقاطُ التقية… كان من المُمكن لهذا النزول أن يغدو خروجاً… قطعياً وتاماً من العُزلة… عبوراً تاماً غيرَ منقوص من عُزلةِ المكان ومن عُزلةِ النص ومن عُزلةِ الهوية… لكن هذا لم يحدث وكانت تلك فُرصةً ضائعةً أخرى لتوحيد الطبيعة وإجلاءِ النص ومن ثمَّ الذات من ظلمةِ التخفي إلى نورِ الكشف.

من جِهَتِهم… كانَ موقفُ رجالِ الدينِ العلويينَ حازماً في رفضِ إسقاطِ التقية… على أي حال، كيف كان لهم ألا يفعلوا… بقايا نصٍ مُتآكل… وعقيدةٌ بَلَتْ على مدى قرونٍ في الخفاء بعيداً عن التواتر… وقُدرةٌ محدودةٌ على النقاش وعلى الإقناع… لا بل هوَ عجزٌ مرير وَلَّدَهُ الصمتُ الطويل ونقصُ المِران… عجزٌ وضعفُ ثقةٍ بالنفس جَعَلَ من المُمكن حينها لجماعةٍ أن تَنْشق… أن تؤسسَ ديانةًً أخرى مُستقلَّةً تماماً… طائفةً مرشدية… ومتى… على أبوابِ القرنِ العشرين.

أنْ يكونَ ثمةَ تواصلٌ نفعيٌ ومتبادل بين رجالِ الدين ورجالِ الإقطاع… هذا لم يكن قِصْراً على العلويين… هذا كانَ عاماً… ولكن، ما ميَّزَ هذه التواصلَ لدى العلويين حينها أنَّهُ كان أشدَّ تخلفاً… كانَ كِلاهُما رثاً ومن العصور الوسطى… وهذا قادَ إلى طواعيةٍ مطلقة… تطويعٍ كاملٍ للنص… ولما لا وكل شيءٍ يحدثُ في الخفاء بعيداً عن الرقابةِ الجمعية… نعم، لقد كانَ لرجال الإقطاع ولرجالِ الدين العلويين مصلحةٌ حياتية في إبقاءِ العموم… العمومِ المُهمَّش أسيراً للعُزلة… كانَ لهما مصلحةٌ وجودية في إخفاء العجز المهول… ووَسيلتُهم إلى هذا كانت الجهل… وكانت الفقر… وكانت التقية.

موقِفُ المثقفينَ العلويينَ… حسناً، حينها لم يكُ ثمَّةَ بعد مثقفونَ علويون… كانَ ثمَّةَ متعلمون… وهؤلاءِ كانوا قِلَّة… قِلَّةٍ متواضعةٍ وغيرِ مؤثرة… أيضاً، وهذا هامٌ لناحيتَين: أولاً لأنه أسس لأنموذج معرفي… أنموذج سوف يتكررُ في أزمانَ لاحقة، وثانياً لأنه كانَ وثيقَ الصلة بطبيعة التوحش عندَ العلويين… توحشٌ فردي وليسَ جمعياً… بمعنى، أنَّه يبتغي المنجاة على صعيدِ الفرد وليسَ على صعيدِ الجماعة. المنجاةُ الفردية حينها لهذي القِلِّة المتعلمة كانت بالتقدم… كانت بالتعليم… وهذا اقتضى التخفي… لم يكن حينها الوقتُ مناسباً لخوضِ صراعاتٍ جانبية… لم يكن مناسباً للتظهير.

أما العمومُ المُهمَّش من العلويين… هؤلاءِ الذين توحشوا في أزمانَ سابقة… حسناً، هؤلاءِ كانوا جوعى فقط… كانوا يريدون أن يأكلوا… كانوا يريدونَ أن يَسُدُّوا رَمَقَهُمْ فحسب.

الجزء الثالث: فرنسا الرائعة مرَّت من هنا

هناكَ في الأعماقِ الموحشة لجبالِ العلويين وفي قريةٍ من تلك القُرى الفقيرة المهمشة أقامَ الفرنسيون القادمون حديثاً… الفاتحونَ الجُدد لهذا الفضاء المعرفي المعقد… أقاموا بناءً مهيباً من حَجَرْ… وأما القريةُ فكانت تُدعى الدريكيش… وأما البناء فقد كانَ المدرسةَ العِلمانيةَ الفرنسية (L’école laïque française)… كانوا يدعونها اللاييك… وكانوا يدعونَهُ انتداباً وكان يحلو للبعضِ اللجوءُ إلى تعابيرَ أكثرَ حِدة… لكنَّ أحداً ما قبلاً لم يكن قد عاملَ العلويينَ المهمشين حينها كما فعلت فرنسا…

لقد كانت فرنسا هي الحداثة وهي التعليم وهي الثقافة… وهي القطيعةُ ولو الجزئية مع موروثٍ مؤسف من التلزيم المطلق ومن الاستباحة المطلقة ومن الإقصاء المطلق… لقد جعلت فرنسا من المُهَمَّشِينَ العلويين مواطنين… مواطنينَ تحتَ الانتداب… مواطنينَ من الدرجةِ الثانية… لكنهم بهذا كانوا قد غًدَوا مواطنين… مواطنينَ للمرةِ الأولى في حياتِهم… مواطنينَ لهم حقوق… هُم في أي حال لم يعودوا رعايا دونَ حقوق… وهذا كان رائعاً بالنسبةِ لهم حينها… هذا كان رائعاً فحسب.

لم تكن تلك سنواتٍ عابرة في الذاكرةِ الجمعية للعلويين… كانت تلك لحظاتٍ تاريخيةً بحق… لقد ترافقَ خِلالها هذا التلاقحُ الأولُ مع الحداثة مع وعيٍ أولَ بالذات… وهذا كان له بالغُ الأثر في وعي العلويينَ اللاحِق لذواتهم…

مدفوعةً بِحِسِ التنوير الحداثي… وطابَعِهِ الاستشراقي بطبيعةِ الحال، حاولت فرنسا فَهْمَ العلويين… حاولت فَهْمَ طبيعةِ التوحش لديهم… وبناءً على هذا الفَهْم حاولت أنْ تَصْنَع منهم شيئاً مدنياً… حداثياً… ومتصالِحاً معَ الذات… وأياً يكن من أمرها، كان ثمة انطباعٌ حضاريٌ يتراكبُ في عقلِ فرنسا عن العلويين… ونموذجٌ معرفي لطريقِهم نحو الحداثة… كانت هُناكَ أيضاً المصالحُ الحيويةُ للدولة الفرنسية بالطبع، وكذلك الطبيعةُ الاستشراقية لأي مقاربةٍ أوربية تحديثية نحو الشرق.

لقد طَبَعَ فَهْمُ فرنسا الاستشراقيُ للعلويين حيزاً هاماً من فَهْمِهُم لذواتِهم… هذا لم يحدث لدى العربِ السُّنة… هؤلاءِ كانَ لديهم الموروثُ العربيُ الإسلامي… المكتوبُ والمحفوظ… والخاضعُ أبداً لسلطانِ التواتر… هؤلاءِ كانَ لديهم كيانٌ حضاريٌ مُكْتَمِل… مُكْتَمِلٌ منذُ عهودٍ خَلَتْ…

خارجينَ من عهودٍ ما قبل حداثية، مع موروثٌ مُتآكل بفعل العزلةِ وغيابِ التواتر؛ كان الوعيُ الحداثي للعلويينَ كأفراد… وعيُهُم لذاتِهِم الجمعية يأخذ بالتبلور من خلال وعي الآخرين بهم… فرنسا كانت أكثرَ أولئكَ الآخرينَ تأثيراً.

لقد نظرت فرنسا إلى العلويينَ كإثنية وليسَ كفِرقةٍ دينية… هكذا عاملَتْهُم على الأقل… هذا الأنموذج المعرفي سوف يتكرر في أزمانَ لاحقة… سوفَ ينظرُ العلويون إلى ذاتهم الجمعية كإثنية… وأبعدَ من هذا، سوف ينظرون إلى شُركائهم في المواطنة السورية اللاحقة كإثنيات وليسَ كطوائف… وليسَ كسوريينَ… سوريينَ صَدَفَ أنَّهم يعتنقونَ ديناً آخر.

ومن تلك النظرةِ الإثنيةِ إلى الذات… تخلَّقَت في وعي المثقفِ العلوي هذا الذي سوف يأتي لاحقاً رؤيةٌ مشوهةٌ إلى العلمانية… سوفُ يعتقدُ هذا مُخطِئاً بإمكانية الجمعِ بين نقيضَين… العلمانيةِ والطائفية.

علَّهُ كانَ الطريقَ إلى جهنم معرفية… لكنَّهُ كانَ مُعبَّداً بالكثيرِ من النوايا الاستشراقية الحسنة… أخذت فرنسا بيَدِ المهمشين العلويين إلى الدولة… أخذتهم إليها في صيغتِها الرَيعية… وظائفِ الدولة في الإدارة الحكومية… في التعليم… وفي الجيش… علَّها كانت تلك رؤيا فرنسا الاستشراقية لخلاصِهم… وعلَّهُ كانَ حينها الطريقَ الوحيدَ المتاحَ للخلاص… لكنَّ هذا أيضاً أسس لأنموذجٍ معرفي… أنموذجٍ معرفي سوف يتكرر…

الجزء الرابع: لماذا قامت سوريا… ولمْ تَقُمْ دولةُ العلويين

مُعضلةُ سوريا الأساسية أنها وطنٌ هشٌ معرفياً… بمعنى أن السرديةَ المعرفية التي قامَ عليها الوطنُ السوري هي سرديةٌ هشةٌ معرفياً… هذا ليسَ حالَ مصر وهو ليسَ حالَ تونس… هناكَ ثمةَ هويةٌ معرفيةٌ واحدة… هويةٌ لم يستطع المستعمرُ الخارجي ولا المستبدُ الداخلي تَهْشيمَها والنيلَ منها…

خِلافاً لمِصْر… لم تكن سوريا قبلَ الانتداب وطناً متمايزَ الهوية… كانَ ثمة بالطبع بلادُ الشام ولكن هذه لم تكن يوماً حاضناً لهويةٍ معرفيةٍ مُوَّحدة ما قبلِ حداثية… هويةٍ يُعْتَّدُ بها لاحقاً في بناءِ هويةٍ معرفيةٍ حداثية تكون صالحةً لبناءِ الدولة-الأمة… أقلَّهُ حتى الزمن الذي سبقَ الانتداب… عِوَضاً عن هذا، كانت بلادُ الشامِ حاضنةً لأنموذجٍ معرفيٍ مغاير… الدولة-المدينة… بمعنى، أنَّ السرديةَ المعرفيةَ الأقوى والأكثرَ رسوخاً على صعيد الهوية في بلادِ الشام كانت المدينة…

لقد حاولت المسيحية ومن بعدها الإسلام صهرَ هذا الأرخبيل من الهوياتِ المعرفية “المَدينية” في أتونِ هويةٍ معرفيةٍ واحدة… حسناً، هذا كانَ يَنْجَعُ لوهلة… لكن، وكأنَّهُ الأنموذجٌ المعرفيُ الوحيدُ الموَّحدُ أبداً في الذاتِ الجمعيةِ الشامية… كانت الأوطانُ-المُدن تخرجُ كلَّ مرةٍ من بين الأنقاض المعرفية لدولٍ أكبرَ تتداعى… علَّها الجغرافية… وعلَّها التجارة… وعلَّهُ النزقُ هذا القابِعُ في عمق الذاتِ الشامية… النزقُ التوَّاقُ أبداً إلى التنوع… على أي حال، وأياً يكنُ من أمرها… هذا كانَ حالَ سوريا بعد السقوطِ المدوي للإمبراطوريةِ العثمانية.

لقد كانت هذه الهوياتُ المعرفيةُ المدينيةُ حاضرةً في لامركزية الثورات السورية الأولى ضد الانتداب… أيضاً، أنموذجٌ معرفيٌ سوفَ يتكررُ في أزمانَ لاحقة… دِفاعُ دمشقيٌ مُستَميت في ميسلون… ثورةّ في جبالِ العلويينَ… ثورةٌ في جبلِ الزاوية… ثورةٌ في غوطةِ دِمشق… ثورةٌ كبرى في جبلِ الدروز… ثورةٌ في المناطقِ الشرقية… ثورةٌ في حماة… لامركزية… لامركزية… أنموذجٌ سوف يتكرر…

في هذا الأرخبيلِ من الهوياتِ المعرفيةِ المدينية كانت تقبعُ جبالُ العلويين… تلكَ كانت الوطنَ-المدينة الخاصَ بهم… وشأنَهُ شأنَ الأوطان-المُدن الأخرى في هذا الأرخبيلِ المتنوع… كانَ ثمةَ نقاشٌ حاد تدورُ رحاه حولَ الكيان… على أي حال، ما جَعَلَ النقاشَ الكياني في هذا الوطن-المدينة هاماً فوقَ العادة هوَ الوعيُ الجمعيُ الذي كان حينها في مراحلِهِ البدئية لدى العلويين … النظرُ إلى الذات الجمعية كإثنية… إثنيةٍ مختلفة.

لقد كان النقاشُ حاضراً في أوساطِِ النخبة… النخبةِ الإقتصادية الإجتماعية العلوية… حينها كان النِقاشُ نخبوياً بطبيعةِ الحال… كان لا يزالُ التهميشُ حاضراً بقوة، وكذلك كانت بقايا التلزيم ورواسبِهِ المعرفية لا تزالُ حاضرة… لم يكن هذا شأنَ العمومِ في أي حالٍ من الأحوال.

حاضرةً أبداً في أذهانِهم؛ كان خيارُ النخبةِ المارونيةِ بعيداً وصعباً… لم يكن لدى النخبةِ العلويةِ حينها ذاكَ الكمُ الذي يُعوَّلُ عليهِ من التكنوقراط… كانوا جيلاً أولَ من المتعلمين وهذا لم يكن في أي حالٍ كافياً… لم يكن لدى النخبةِ العلويةِ حينها المؤسسةُ البطرياركيةُ المارونية وجذورُها الضاربةُ في أعماقِ التاريخ… لم تكن لديهم قطُ تلكَ المؤسسةُ الأبويةُ الجامعة التي تحفظُ التاريخ وتصوغُ الوعيَ الجمعي وتعصمُ الفردَ حينَ تغيبُ الدولة… كانتِ النخبةُ العلويةُ حينها شيئاً مُحدَثاً ودونَ هويةٍ جمعيةٍ متبلورة…

حسناً، هذا كان من ناحية… من ناحيةٍ أخرى، وفي مواجهةِ هذه النظرةِ الإثنيةِ إلى الذات؛ طرحت البرجوازيةُ المدينيةُ في الأوطانِ-المدنِ الأخرى نظرةً جديدة… هذه البرجوازيةُ المدينيةُ الغَنَّى بالتكنوقراط والناضجةُ كفاية لتغدو برجوازيةً وطنية كان لها نظرةٌ أخرى… خطةٌ أخرى لهذا الأرخبيلِ الذي لا ينتهي من الهوياتِ المعرفية…

لا تقوم الأوطان بمحض الصدفة كما أنها ليست حتمية… وإنْ كانَ لابدَّ لكلٍ وطنٍ من آباءَ مؤسسين… فإنَّ البرجوازيةَ الوطنيةَ السورية كانت هي الأم وكانت هي الأب المؤسس للوطنِ السوري… وهي كانت الوعاءَ الحاضِنَ لهذي التجربةِ المعرفيةِ الرائعة… هذي التي تُدعى سوريا.

مُشبَعةً بروحِ النهضة؛ عبرت البرجوازيةُ الوطنيةُ السورية بجسارةٍ حدودَ الطائفة… وحدودَ الإثنية… وحدودَ الدين… كانتً مدنيةً بحق… متصالحةً مع ذاتها… دونَ خوف ودونَ مواربة… كانت هيَ الرعيلَ الثالثَ لرجالاتِ النهضةِ العربيةِ العتيدة… ليبراليةً طَموحة… وكان بِوسعها أن تفعلَ الكثير…

كان جُلُّ البرجوازيةِ الوطنيةِ السورية من العربِ السُنة من سكان المُدْن… كانوا حينها قد بلغوا سويةً من النُضْجِ المعرفي غَيْرَ مسبوقة… هُمْ نظروا إلى الموروثِ العربي الإسلامي كثقافة… كروح… وليسَ كشريعة… وليسَ كإثنية… وبهذا المعنى كان الجميعُ عرباً مسلمين… كان المسيحيون عرباً مسلمين… وكان العلويون عرباً مسلمين… وكذلكَ كان الدروز والإسماعليون… والأكراد…

وبِحُكمِ منشئها الليبرالي… كانت المدنيةُ الديمقراطيةُ حاضرةً في ذاتها… هذه لم تكن إضافة… هذه كانت في صميم الحل… الحل التاريخي هذا الذي طرحته البرجوازيةُ الوطنيةُ السورية لهويةٍ سوريةٍ موحدة… هويةٍ سوريةٍ واحدة لهذا الكيان الهش.

كان هذا حينها عرضَ البرجوازيةِ الوطنيةِ السورية… مغامرةٌ مدنيةٌ ديموقراطية أساسها المواطنةُ المتساوية… حسناً، من كانت النخبة العلويةُ حينها لترفض هذا العرض… لم تكن شيئاً يستحق الذكر… لم تكن شيئاً يستحقُ الذكرَ البتة.

الجزء الخامس: حَبوٌ نحوَ مدنيةٍ ديمقراطية… حَبوٌ نحوَ الهوية

لقد صاغت البرجوازيةُ الوطنيةُ من سوريا وطناً… وطناً عِمادُهُ المدنيةُ الديمقراطية والمواطنةُ المتساوية… لكنها كانت ديمقراطيةً مدنيةً هشة… محكومةً أبداً بهذا الزحف المهول القادمِ من الريف… لما لا وقد حكمت هذه العلاقةُ الجدلية بين الريف المَقْصي بحُكمِ الفقر والتهميش ونقص التعليم من …ناحية وبين المدينة من ناحية ثانية… حكمت جُلَّ الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للكيانِ السوري الهشِ أصلاً… الهشِ بحُكمِ تعددِ الهوياتِ المعرفية المكونة له.

على أي حال، ذلك العقدُ الأول من حياةِ الوطنِ السوري الهش غدا لاحقاً مرجعيةً -وإن كانت أُحفورية- يَستندُ إليها الطيفُ المثقفُ السوري بشَقَيه الإسلامي والعلماني في دفاعِهِ المستميت عما يدعوه الأصل اللاطائفي للمسألة السورية أو دعوني أقول للمسائل السورية… أبعدَ من هذا، لقد غدت تلكَ الحِقْبَةُ اللاطائفية في منظورِهِ أساساً معرفياً لا يقبلُ الجدل في قراءةِ الحِقَبِ السابقة لها وحتى اللاحقة.

في خِضَّمِ ذلكَ الزحفِ الأول نحو مدنيةٍ ديمقراطيةٍ سورية عابرة للطوائف والإثنيات كان ثمةَ أنموذجٌ معرفيٌ يتكون في أذهانِ الطيفِ المثقفِ السوري… أنموذجٌ صارِخٌ في مواجهةِ المعادلةِ اللبنانيةِ حينَها القائمةِ على المُحاصصة… وفي حينِ قررت النخبةُ البرجوازيةُ اللبنانيةُ التسليم؛ قررت النخبةُ البرجوازيةُ السوريةُ التحدي… تحدي الغياب المرير لهويةٍ معرفيةٍ وطنيةٍ واحدة.

المحاصصةُ الطائفية كانت هي الوريثَ الشرعي لمفهومِ التلزيم وكانت تعني التسليم بحتمية الفشل في الوصولِ إلى هويةٍ معرفيةٍ وطنيةٍ واحدة ذلكَ أنها تحصرُ الصراعَ المجتمعي في إطارِ الهوية وتنفي عنه صبغتَهُ الطبقية… وهذا ما لم تقبلْهُ النُخبُ السوريةُ حينها.

في لبنانَ القريب وفي خِضَّمِ بحثٍ موازٍ عن هويةٍ معرفيةٍ وطنيةٍ جامعة… كان ثمةَ أنموذجٌ معرفيٌ يسود… أنموذجٌ يُدعى المارونيةَ السياسية

المارونيةُ السياسية لم تكن تعني في أي حال شَغْلَ الموارنة لِجُلِّ المناصبِ السياسيةِ والإدارية في الوطنِ اللبناني الناشئ… هذا كان فهماً خاطئاً وحسب، في النهاية، كان ثمةَ المحاصصةُ الطائفية وما تَعْنيه من حمايةٍ لِحصصِ “النُخَبِ الأخرى” في المنظومةِ الإداريةِ والسياسية للدولةِ اللبنانيةِ الناشئة…

المارونيةُ السياسية كانت تعني أنَّ فَهْمَ ومن ثمَ رؤيةَ النخبةِ المارونيةِ حينَها للوطنِ اللبناني قدْ طَبَعَ فَهْمَ ورؤيةَ “الآخرينَ” له… أبعد من هذا، هي كانت تعني أن فَهْمَ النخبةِ المارونيةِ حينَها لذاتِها وللآخرينَ معها في هذا الوطن قدْ طَبَعَ فَهْمَ الآخرينَ لذواتِهم ولها…

بهذا المعنى، هل كان يمكنُ الحديثُ في سوريا حينَها عن “سُنية” سياسية؟ بمعنى هل طَبَعَ فَهْمُ النخبة البرجوازية السورية وكان أغلبُها من العرب السُنة… فَهْمُها للوطن السوري… فَهْمُها للهويةِ الوطنية السورية المُفتَرَضة… فَهْمُها للآخرين ورؤيتُها لهم كعربٍ مسلمين وإنْ بالمعنى الحضاري… هل طَبَعَ هذا الفَهْمُ وهذه الرؤيةُ فَهْمَ الآخرين لهذا الوطن؟ وأبعد من هذا، هل طَبَعَ هذا الفَهْمُ وهذه الرؤيةُ فَهْمَهُم لذواتهم؟

في الواقع، لستُ أمتلكُ الإجابةَ على هذا السؤال الشائك… ليسَ بَعد على الأقل، ولكن دعوني أقولُ التالي: إن كانَ هذا قد حصل فإنَّهُ لم يكن مقصوداً… بمعنى أنَّ البرجوازيةَ الوطنيةَ السورية وإنْ كانت لها هويةٌ معرفيةٌ نابعة من عمقِ الموروثِ العربي الإسلامي فإنها لم تحاول فرضَ هذه الهوية المعرفية على الآخرين من علويينَ ومسيحيينَ ودروزٍ وأكراد… لكنها نَظَرَتْ إليهم كسوريين… سوريينَ يدورونَ في فلكِ رؤيتِها المعرفيةِ إلى الهويةِ السوريةِ المفترضة… الهويةِ المتصالحةِ بنظرِها قطعاً مع موروثِها العربي الإسلامي.

في هذا الفضاءِ المعرفي العربي الإسلامي المنفتحِ على المدنيةِ الديمقراطية كانت تتكونُ البداياتُ الأولى لطبقةٍ وسطى عندَ العلويين… طبقةٍ غضَّ أفرادُها الطَرْفَ عن بقايا موروثِ العُزلةِ الرث وانطلقوا دونَ موانِع إلى الفضاءِ العربي الإسلامي الأرحبِ حينَها… تَغْنَّوا بالحلاج وابنِ رشد وقراؤوا المعتزلةَ والمتصوفة… كانوا في طورِ التحولِ إلى مواطنين… مواطنينَ سوريين… سوريينَ كما نظرت البرجوازيةُ الوطنيةُ السورية حينَها إلى المواطنةِ السوريةِ.

هل كانت تلكَ تقيَّةً أخرى حداثية… أم أنها كانت تصالحاً حداثياً مع الذات ومع الموروثِ العربي الإسلامي الأرحب في سياقِ صَوغٍ حداثيٍ لهويةٍ معرفية… أم أنها كانت توهماً غيرَ أصيل وبالتالي هشاً ولاعَيوشاً في بيئاتٍ قدْ تأتي لاحقاً… بيئاتٍ أكثرَ توحشاً وأقلَّ مدنية… حسناً، ومرةً أخرى، لستُ أمتلكُ الإجابةَ على هذا السؤال الشائك… ليسَ بَعد على الأقل…

المسألة الطائفيّة في سوريا

ملفّ من إعداد وتقديم: ناريمان عامر (مراسلة الآداب في سوريا)

كالأعمى ينظر إلى نفسه في المرآة، يتراشق السوريّون تصوّراتهم عن واقعٍ بدأ يصدّرُ أزمةً مجتمعيّةً في أتون أزمته السياسيّة.

سوريٌّ يحمل السلاحَ في وجه آخر يتّهمه بالطائفيّة. سوريٌّ ينطق بكلمةٍ تفصح عن اتّهام الآخر بالطائفيّة. سوريٌّ يصمت، فيُتَّهم بالطائفيّة “المضمرة” لصمته.

ومن يضع نفسه في موقع الحكم؟

ـ سوريّون يروْن أنّ تسمية الأشياء بمسمّياتها “ستكرّسُ” المرضَ وتزيده وَبالًا.

ـ وسوريّون يروْن أنه منذ 1400 عام، ومنذ موقعة صفّين، استجدَّ على الخريطة الجينيّة لسكّان هذه المنطقة جينومٌ متحفّز، اسمه الطائفيّة، يظهر حين يضعف الجسد. وهم ينقسمون: بين قائلٍ بضرورة إبرازه لشدِّ عصبِ شريحةٍ اجتماعيّةٍ “مضطهدةٍ” منذ عقودٍ في سبيل حسمٍ سريعٍ للصراع الدائر في سوريا الآن؛ وبين من يرى أنّه لا بدَّ من علاجه لأنّ إبرازه سيكون حربًا ضروسًا لا تبقي ولا تذر.

تسعى الآداب في طرحها لهذه القضيّة الحسّاسة، وفي هذا الوقت أيضًا، إلى إضاءة بعض جوانبها. وقد توجّهتْ إلى مختلف أطيافِ السوريّين، فاستجاب بعضهم، وهو ما نعرضه في هذا الملفّ.

دمشق

المشاركون ألفبائيًّا:

باسيليوس زينو

جورج كدر

حمّود حمّود

حسام جزماتي

طارق عزيزة

تزييفُ الوعي وتطييفُ التاريخ في سياقات الثورة السوريّة

باسيليوس زينو

(إلى الصديق الأستاذ جورج طرابيشي مفكرًا فوق الطوائف، وإلى ضحايا الطوائف)

رغم الاختلافات الهائلة (ديمقراطيًّا) بين حقبةِ ما بعد الاستقلال وحقبةِ البعث، فإنّ الفترتين تتقاطعان من حيث الغياب شبه التامّ لأيّة دراساتٍ علميّةٍ للمسألة الطائفيّة في سوريا. فقد بقيتْ هذه المسألة من المحرَّمات طوال فترة حكم البعث، ومن المهمَلات طوال الفترة التي تلت الاستقلال، رغم أنّ حكومات الاستقلال المتعاقبة عاشت الطائفيّة من خلال الدويْلات الطائفيّة المجزّأة التي أنشأها الانتدابُ الفرنسيّ.

في تطييف الطيف السوريّ

منذ انطلاقة الثورة السوريّة سعى النظامُ إلى حشر الثورة، التي احتضنتْ ألوانَ الطيف السوريّ، في ساحة الصراع الطائفيّ التي يتقن اللعبَ فيها، مستفيدًا من خبرته في الحرب الأهليّة اللبنانيّة، ومستغلًّا حساسيّةَ موقع سوريا الإستراتيجيّ وتحالفاتها الخارجيّة، الأمرُ الذي سيمنحه (حسب اعتقاده) وقتًا كافيًا للحسم الأمنيّ. وفي المقابل أدّى طولُ الأزمة، المترافقُ مع تزايد العنف، إلى ردِّ فعل غريزيّ متمثّلٍ في الحاجة إلى الدفاع عن النفس، فتوجّه المنتفضون إلى السلاح، الذي سهّل النظامُ عمليّاتِ تهريبه في البداية بعد أن كان يرفضه.

لكنْ كان لأحد الأحداث دورٌ حاسمٌ في خلخلة النهج السلميّ، وتكريسِ الانقسام بين السوريّين: إنه مجزرةُ جسر الشغور (6/6/2011). فقد هاجمتْ جماعاتٌ مسلّحةٌ من المعارضة مفرزةَ الأمن السياسيّ، وأبادت عناصرَها (حوالى 120)، ومثّلتْ بجثثهم. ثم قُتل نحو أربعين آخرين في كمين.1 تلا ذلك قتلُ عسكريّين في حماة، ورميُ جثثهم في نهر العاصي، من دون أن نقرأ تصريحَ إدانةٍ من قبل الهيئات السياسيّة التي ادّعت تمثيلَ الشعب السوريّ.

لقد كانت لدى النظام ثقةٌ تامّةٌ، على ما يبدو، بأنّ مخطّطاته ستلقى استجابةً لدى غريمٍ سابقٍ، هو الإخوانُ المسلمون وفلولُ الطليعة المقاتلة المقيمون في المنفى منذ انتهاء “الجولة الأولى” من النزال الذي أودى، في بدايات ثمانينيّات القرن الماضي، بعشرات آلاف المدنيّين في حماة على أيدي قوّات سرايا الدفاع، مثلما أودى بمئات ضحايا الاغتيال الطائفيِّ الذي مارسه الإخوانُ ولم يعتذروا عنه قطّ. كما دخلتْ على خطِّ المواجهة والشحن الطائفيّ وسائلُ إعلامٍ خليجيّةٌ (الجزيرة، العربيّة) ومبتذلةٌ (الصفا، وصال..)، مستغلّةً الفراغَ الثقيلَ الذي يرافق وسائلَ الإعلام الحكوميّةِ العديمةَ الصدقيّة، لتزجّ بالصراعين الخليجيِّ ــ الإيرانيّ والإيرانيّ ــ الغربيّ في خضمِّ الثورة. كما أدّت صفحةُ “الثورة السوريّة ضدّ بشار الأسد” دورًا كبيرًا في تصدير تسمياتٍ لأيّام الجمعة أثارت حساسيّاتٍ طائفيّةً. وتعاظم الاحتقانُ مع خضوع العديد من كتائب “الجيش السوريّ الحرّ” لابتزاز المال السياسيّ، وللحاجة الماسّة إلى السلاح لمواجهة نظامٍ بات منذ اغتيال “خليّة الأزمة” (18 يوليو الماضي) يستخدم كلَّ أنواع الأسلحة الثقيلة. وتحوّلت الثورةُ في وسائل الإعلام إلى صراعٍ عربيّ ــ مجوسيّ، أو عربيّ ــ كرديّ، أو شيعيّ ــ سنّيّ، أو علويّ ــ سنّيّ، أو روسيّ/ صينيّ ــ غربيّ/أمريكيّ. أمّا على الأرض فقد وصل النظامُ والثورةُ إلى دوّامةٍ يوميّةٍ عبثيّةٍ من العنف، وأضحت الأزمةُ السوريّة ملفًّا للمساومات الدوليّة على مستقبلٍ شرق أوسطيّ جديد.

رؤى عمياء وأخرى ليست كذلك

في خضمِّ هذا الصراع والتجييش الإعلاميّ، اضطُرّ الناشطون والمثقفون إلى التصدّي لأخطار المسألة الطائفيّة التي بدأتْ تلْقي بظلالها على النسيج الاجتماعيّ السوريّ. لكنّ الرؤى التي قُدِّمتْ لم تكن على مستوى كارثيّة حضور هذه المسألة في الثورة السوريّة. ويمكن إيجازُ هذه الرؤى بثلاث:

1) إنكارُ الطائفيّة، وتكرارُ عباراتٍ من قبيل “الثقة بالشعب السوريّ،” و”التعايش المشترك،” و”التاريخ السوريّ يعكس الوحدة الوطنيّة قبل آل الأسد.” وتمّ الاستشهادُ برموزٍ وطنيّةٍ ثابتةٍ، كشكري القوتلي وسعد الله الجابري وفارس بك الخوري، في استغراقٍ نوستالجيٍّ انتقائيٍّ للأحداث والشخصيّات. ومن الطبيعيّ أن يكون أصحابُ هذه الشعارات شديدي التفاؤل باختفاء الطائفيّة مباشرةً بعد سقوط نظام الأسد!

2) القول بأنّ الطائفيّة حدثٌ طارئٌ من خارج البنية. هكذا فُسّرت الحوادثُ الطائفيّةُ التي شهدتْها سوريا عبر تاريخها (كمذبحةِ مسيحيّي باب توما في 9/7/1860، التي سقط خلالها نحو 8500 مسيحيّ وأُحرق 3800 منزل)2 على أنّها نتيجةٌ للاحتلال الأجنبيّ والاستعمار والمصالح التي تهدف إلى تحريض الشعب الواحد على الاقتتال. وهذا التيّار عمومًا يعكس ذهنيّةً قائمةً على التوجّس الدائم من “المؤامرات،” وإلقاءِ كلِّ أسباب التخلّف والفشل والهزيمة على “الآخرين” و”الغرباء” و”ضعاف النفوس” و”المغرّر بهم.” وهي لازمةٌ ضروريّةٌ لتفسيرٍ لا يبحثُ عن الأسباب الحقيقيّة، وإنّما يتهرّب من مواجهة المسؤوليّة. ولا يخرج عن هذا السياق تفسيرُ خسارة فلسطين عام 1948 و”نكسة حزيران” عام 1967.

3) الاعتراف بالحضور الكبير للعامل الطائفيّ في تصعيد الحدث السوريّ، واعتباره نتاجًا طبيعيًّا لغياب السياسة من المجتمع طوال أربعة عقود، والاقتناع بأنّ الأمور ستنحو بعد سقوط “النظام الطائفيّ” في أحد اتجاهين: أ) القبول المضمر بالطائفيّة محدِّدًا لسوريا المستقبل، يفرز عنها نظامُ المحاصصة في الحكم، الأمرُ الذي نرى تجلّياته في مشاريع المجالس والمراحل الانتقاليّة. ب) نشوء ثورة مضادّة سيكون هدفُها مطابقًا للشعارات الأولى للثورة السوريّة: “الحريّة” والديمقراطيّة” و”الشعب السوري واحد.”

تطييف التاريخ ــ وثيقة “انفصال العلويّين” نموذجًا

خلال سيطرة البعث على السلطة في سوريا منذ العام 1963 شهدت البلادُ تغييبًا تامًّا وممنهجًا للحياة السياسيّة، التي اقتصرتْ على فكر البعث ومؤسّساته، وتمّت “إعادةُ تخيّل” الشعب عبر تسطيح الثقافة الوطنيّة. وقد نتج من ذلك ثلاثةُ أجيالٍ تكاد لا تعرف شيئًا عن حقبةِ ما قبل الأسد الأب. ثم جاءت الثورةُ السوريّةُ لتبثّ الحياة في عروق التاريخ المحنّط، ونشطتْ حركةُ البحث والكتابة في تاريخ سورية المعاصر. لكنْ، على الرغم من أهميّة هذه “الحمّى المعرفيّة” التي انفجرتْ بعد نصفِ قرنٍ تقريبًا من الكبت، فإنّ لها محاذيرها حين تتبنّى أفكارًا مشوّهة ومزيّفة وتقدّمُها “حقائقَ تاريخيّةً” و”بداهاتٍ” لا مجالَ لنقاشها. ويأتي ذلك بعد “شيطنة” حقبة البعث الاستبداديّة، و”الأقليّات” عمومًا و”العلويّين” خصوصًا،3 وبعد تجاهل كلّ الأسباب التي أدّت إلى صعود طبقةِ “الريفيّين” الفلّاحيّة وسقوطِ طبقة “الأعيان” الإقطاعيّة التي أدّت دورًا بارزًا في صناعة السياسة السوريّة منذ نهاية العصر العثمانيّ مرورًا بالانتداب وحتى الوحدة مع مصر.4

ضمن هذا السياق من الثورة، وفي فترةٍ تشهد احتقانًا طائفيًّا، دخلت الوثائقُ المتبادلةُ على خطِّ المعركة الإعلاميّة. وظهرتْ مثلًا الوثيقة رقم 3547 تاريخ 15/6/1936،* التي يتمُّ تداولها على أنها “وثيقةُ العلويّين الانفصاليّين” التي رُفعتْ إلى رئيس الحكومة الفرنسيّ آنذاك، ليون بلوم. فخلال جلسةٍ لمجلس الأمن ردَّ سفير فرنسا لدى الأمم المتّحدة (جيرار آرو)5 على مندوب سوريا الدائم لدى الأمم المتحدة (بشّار الجعفري)، فقال: “بما أنّك تحدّثتَ عن فترة الاحتلال الفرنسيّ [لسوريا]، فمن واجبي أن أذكّرك بأنّ جدَّ رئيسكم الأسد طالبَ فرنسا بعدم الرحيل عن سوريا وعدم منحها الاستقلال، وذلك بموجب وثيقةٍ رسميّةٍ وقّع عليها محفوظةٍ في وزارة الخارجيّة الفرنسيّة. وإنْ أحببتَ أعطيكَ نسخةً عنها.”6 وسرعان ما احتفتْ مواقعُ المعارضة وعمومُ المدوّنات والمواقع العربيّة بالوثيقة “الدامغة” التي تثبت توراثَ “الخيانة” جينيًّا والعمالة “الفطريّة” لدى آل الأسد خصوصًا، والعلويّين عمومًا. وبذلتْ قناةُ العربيّة جهدًا أكبر للبحث عن الوثيقةِ حتى وجدتْها، فنشرتْ صورةً لما زعمتْ أنّه “صورة الوثيقة الأصليّة.”7 كما كرّس الشيخُ المثير للجدل، عدنان العرعور، حلقةً للاحتفاء بـ “الوثيقة” بندًا بندًا، ختمها بالقول: “أتمنّى من كلِّ علويٍّ شريفٍ أن يتبرّأَ من هذه الوثيقة. وأتمنّى من كلِّ ضابطٍ علويٍّ شريفٍ أن ينحاز إلى هذا الشعب، إلّا إذا كان يؤمن بهذه الوثيقة.”8 وهذه مفارقةٌ مضحكةٌ لكنّها تعكس طريقةَ القراءة الطائفيّة للتاريخ: فالعرعور يوجّه خطابَه إلى طائفةٍ كاملةٍ يفترض “بداهةً” أنّ المنتمين إليها لم يموتوا منذ العام 1936 لأنّها الكيان والجوهر ذاته جينيًّا ونفسيًّا وفكريًّا، سابقًا ولاحقًا، ولا تهمّه صحّةُ الوثيقة أو زيفُها، وما إذا كانت الشخصيّات الست** الواردة أسماؤهم صحيحةً، ولماذا ورد اسمُ سليمان المرشد بدلاً من سلمان، ولماذا لم تحمل الوثيقةُ سوى أسماءٍ مغفلةِ التواقيع أو البصمات.

الوثيقة ليست جديدةً. فقد كتب عنها الصحفيُّ اللبنانيُّ أنطوان غطاس صعب في النهار (23/10/2011) ونشر نصّها الكامل خلال حمّى الكتابة عن مشروع “الدولة العلويّة” في تلك الفترة.9 كما نُشرتْ عام 1980 في كتاب العلويّون النصيريّون لأبي موسى الحريري،10 ضمن مشروع “الحقيقة الصعبة” الذي يمكنُ اعتبارُه أحدَ أسوأ الأمثلة على القراءات الطائفيّة للتاريخ والأديان المقارنة أثناء الحرب الأهليّة اللبنانيّة. وفي 23/5/1989، نشرتْ صحفٌ لبنانيّةٌ وثيقةً وجّهها حزبُ الوطنيّين الأحرار إلى القمّة العربيّة الاستثنائيّة التي عُقدتْ، في اليوم نفسه، في الدار البيضاء، وضمّنها الوثيقة المذكورة.11 كما نُشرتْ في كتاب دانييل لوغاك، سوريا الجنرال الأسد، المنقول إلى العربيّة عن دار مدبولي.12

والسؤال الأهمّ هو: لماذا لم تُربط الروايةُ في سياقها؟ يصف أحدُ معاصري تلك الفترة، المناضل أكرم الحوراني، أنّ الحكم الفرنسيّ في دولة العلويّين ودولة جبل الدروز كان شديدَ الوطأة، وأنّه استغلَّ التخلّفَ الاجتماعيّ والوضعَ الإقطاعيَّ والعشائريّ فشكّل فيهما مجلسًا تمثيليًّا لزعماء العشائر والإقطاع، بينما كان الأمرُ مختلفًا في الدولة السوريّة، حيث لم يكن للفرنسيّين فيها هذا النفوذ.13 ومع تشكّل حكومة الكتلة الوطنيّة تجدّدت النزعاتُ الانفصاليّة في جبل الدروز واللاذقيّة، لكنّها كانت أكثر تعقيدًا في اللاذقيّة نظرًا إلى عظم عدم التجانس السكانيّ فيها. وعلى الرغم من أنّ العلويّين كانوا منقسمين داخليًّا فقد استجابوا كـ “طائفة ــ طبقة،” حسب تعبير حنّا بطاطو،14 عندما شعروا بأنّهم مهدّدون من هيمنة طبقةٍ مدينيّةٍ أكثر قوةً تمثّلتْ في الإقطاعيّين “السنّة،” مُلّاكِ الأراضي الذين دعموا الوحدةَ مع دمشق. كما أنّ معظمَ الأراضي التي كان يزرعها “العلويّون” كانت يملكلها إقطاعيّون “سُنّة” من اللاذقية وحماة، وكانوا شديدي الظلم والاستغلال لفقر العلويّين، فأسهم هذا التفاوتُ الطبقيُّ الحادُّ في مفاقمة حدّة الانقسامات الدينيّة. أمّا في جبل الدروز فكان الإقطاعيّون والفلّاحون من الطائفة نفسها (دروز)، لذا لم تكن الانقسامات بتلك الحدّة. ومع وصول الوفد المفاوض إلى باريس كان ملفُّ مصير جبل الدروز وجبال العلويّين حاضرًا بقوّة، فأطلق “علويّون انفصاليّون” حملةً دعائيّةً ذاتَ مضامين طائفيّةٍ يُعتقد أنّها من تنظيم حاكم المحافظة الفرنسيّ، شوفليه Schoeffler، المعارض للوحدة مع دمشق.15 وخلال وجود الوفد في باريس عام 1936 أسفرتْ جهودُ الضبّاط الفرنسيّين عن مذكّرةٍ من بعض أعضاء المجلس التمثيليّ العلويّ (مذكّرة إيراهيم الكنج) يؤيّدون فيها انفصالَ جبل العلويّين عن الوطن السوريِّ وبقاءَه تحت الحكم الفرنسيّ، بينما امتنع بعضُهم الآخر عن التوقيع.16 إذن، لم يتمكّن الفرنسيّون من توحيد آراء “العلويّين” تجاه الوحدة، وقام عددٌ من المثقفين والحِرفيّين بتشكيل “رابطة الشباب المسلم العلويّ” لمحاربة النزعة الانفصاليّة والدفع باتجاه الوحدة السوريّة.17 وبعد نحو شهرٍ أصدر رجالُ الدين العلويّون بيانًا أكّدوا فيه التزامَ الطائفة بالوحدة الوطنيّة السوريّة، وأنّ “كلّ علويٍّ هو مسلمٌ يعتقد بالشهادتين ويقيم أركانَ الإسلام الخمسة،” وأنّ أيّ علويٍّ لا يعترف بإسلاميّته ولا يذكر أنّ القرآن الكريم كتابُه وأنّ محمّدًا نبيُّه لا يُعدّ بنظر الشرع علويًّا ولا يصحّ انتسابه إلى المسلمين العلويّين. كما عقد وجهاء ورجالُ دينٍ علويّون اجتماعًا في قرية القرداحة في الشهر نفسه، وأرسلوا بيانًا إلى وزارة الخارجيّة الفرنسيّة يفيد أنّ كلمة “العلويّين” لا تعني ديانةً منفصلةً عن الإسلام، وأنّهم ليسوا سوى أنصارِ الإمام عليّ، ابنِ عمِّ رسول الله (ص) وصهرِه وأوّلِ من آمن بالإسلام؛ “فليس الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت سوى مسيحيّين، وليس العلويّون والسنّة سوى مسلمين.”18 ونتيجةً لنشاط رجال الدين العلويّين ودعمهم للوحدة، أصدر الشيخ أمين الحسيني، مفتي فلسطين، فتوى تصادق على أنّ “أولئك” العلويّين مسلمون، وعلى كلِّ مسلمٍ تقبّلهم بكلِّ إخلاص. وكان يَقصد باقتصار الفتوى على “أولئك،” العلويّين الذين يُعرّفون أنفسَهم سياسيًّا بأنّهم مع الاتجاه “السنّيّ” السوريِّ السائد.19 وبعد ستةِ أشهرٍ من المفاوضات الماراثونيّة وقّع الجانبان السوريُّ والفرنسيُّ مشروعَ معاهدةٍ في 9/9/1936 اعترفتْ باستقلال سوريا، وأسقطتْ اسمَ “حكومة اللاذقية” لتصبحَ “محافظة اللاذقية في دولة سوريا الموحّدة.”20

الجدير ذكرُه أنّ الكتلة الوطنيّة عيّنتْ، بعد عودة الوفد السوريّ، عزيز الهواش محافظًا على مدينة دمشق، وهو ابنُ إسماعيل الهواش، زعيمِ عشيرةِ المتاورة، إحدى كبريات عشائر العلويّين، وأحدِ قادة ثورة الشيخ صالح العلي. وقد ظلَّ إسماعيل الهواش طوالَ حياته مناهضًا للانفصال وداعيةً للاستقلال، فتعرّض لغضب الفرنسيّين واضطهادهم. الجدير ذكرُه أيضًا أنّ الشباب الوطنيّ من أبناء منطقة الجبل، من علويّين ومسيحيّين، ساهموا في النضال مع إخوانهم، أبناءِ مدينة اللاذقية والمدن الساحليّةِ الأخرى، من أجل تحقيق الاستقلال والوحدة السوريّة، وكان من بينهم شبابٌ مرموقون أمثال: منير العباس، والمحامي عبد الله العبد الله، والمحامي بولص ديبة، والشاعر الكبير نديم محمد، وغيرهم من الشباب الذين كانوا يؤلّفون مع عبد الواحد هارون (زعيم مدينة اللاذقية) الكتلةَ الوطنيّة في هذه المحافظة.21 ويورد الحوراني أنّه، عقب إقرار المفوّض السامي دستورَ تجزئة الأراضي السوريّة عام 1930، كان على “سلطات دولة العلويّين أن تجابهَ الوفودَ من سكّان منطقة اللاذقيّة الذين أعلنوا أنهم يريدون تغييرَ هويّاتهم التي تنسبهم إلى دولة العلويّين. وكان مكتبُ الكتلة الوطنيّة في حماه يستقبل العديدَ من وفود أبناء مصياف المطالبين بالوحدة، والرافضين لأن تكونَ المذاهب الدينيّة سببًا في تمزيق وحدة سورية.”22

فأيّ الوثائق تُعبّر عن “طائفة العلويّين” الذين انضمّوا عمليًّا إلى الوحدة السوريّة؟!

أعتقد أنّ تقاذفَ الوثائق، أصحيحةً كانت أمْ مزيّفةً وخارج سياقها التاريخيّ الكامل، واعتبارَها تمثّل فئةً كاملةً منذ الأزل إلى الأبد، ليست إلا ذرائعَ كراهيةٍ تعكس سذاجةً في القراءة التاريخيّة، وضحالةً فكريّةً. والحقّ أنّ أهميّة دراسة الوثائق تنحصر في أنّها تعكس مصالحَ “طبقةٍ” محدّدةٍ في “فترةٍ” محدّدةٍ و”ظروفٍ” محدّدةٍ ضمن “منطقةٍ” محدّدةٍ. ولكنْ فقط في حال دراستها ضمن سياقاتها، وربطِها ببقيّةِ المناطق والشرائح والطبقات، فذلك ما سيتيح لنا فهمًا أفضلَ لصيرورة تطوّر المجتمع وتشخيص أمراضه. وأيًّا يكن الأمر، فإنّ تاريخ سوريا ولبنان يمتلئ بالعرائض والوثائق التي تعكس حدّةَ الانقسامات التي سادت بين الطوائف، وضمن الطائفةِ نفسها، تجاه الفرنسيّين والإنكليز والروس والألمان والعثمانيّين وغيرهم، في زمنٍ لم تكن فيه أفكارُ القوميّة والوطنيّة منتشرةً بعد. ولا يمكن أبدًا الركونُ إلى تفسيرات الشارع أو وسائل الإعلام للصراعات وترديدُها من دون تدقيقٍ أو نقدٍ، بغضّ النظر عن موقف المثقف من السلطة، وسواء لامس هذا النقد أو التحليل شعارات الشارع أو لم يناسبها. وهذا أمر لم يسلمْ من الوقوع فيه حتى ثقاةُ المنافحين عن العلمانيّة قبل الثورة السورية. حتى إنّ كاتبًا علمانيًّا ولا يتساهل مع المسألة الطائفيّة، كياسين الحاجّ صالح، كتب على صفحته في الفيس بوك تعليقًا أثار استنكاراتٍ شديدة: “ليس احتمالًا أن تقود سياسةُ تحالف الأقليّات إلى التحالف مع إسرائيل. هذا محتّم، وهو مدوَّنٌ في جيناتها” ـــ وهو المثقف العارف بأنّ هذه البداهات التي تفسّر السياسة جينيًّا” أقربُ إلى التفسير الأنثروبولوجيّ العنصريّ من أيّ تفسير آخر. وبدلًا من التراجع عن هذه الفكرة، أصرّ على أنّه كتب ما يكفي من “الملْحقات” لتوضيح سوء الفهم، ولحلّ “الالتباس” الذي حملتْه العبارة! ورغم “الالتباس،” يبقى تعليقُ ياسين عاجزًا تمامًا عن تفسير أنّ جميع معاهدات الاستسلام مع إسرائيل وقّعتْها “أكثريات” (وفق مصطلحات ياسين): من الملك عبد الله، جدّ الملك حسين، إلى جميع سلالته، مرورًا بأنور السادات، وحتى اتفاقيّة أوسلو التي وقّعها ياسر عرفات.

ولا تختلف “زلّةُ” ياسين كثيرًا في الجوهر عن فكرة “الحتميّة” و”عقدة الأقلويّة” التي يسوقها أنطوان غطاس صعب، في تعقيبه على نشر “الوثيقة التاريخيّة” الآنفة الذكر. فهو يقول إنّ “مشروع إقامة الدولة العلويّة يعود إلى عشرات السنين، ولم يُطرح في ساعته، وذلك على خلفيّة الخوف من ذوبانِ الأقليّات، ومنها الطائفةُ العلويّة، واضمحلالِها. ذلك أنّ العلويين أكّدوا تاريخيًّا، كما يظهر في الوثيقة، استعدادَهم للتحالف مع اليهود على الانغماس في مجتمعاتهم العربية.”23 ننوّه هنا إلى أنّ الدولة العلويّة كانت قائمة فعليًّا، وليست مشروعًا كما يزعم صعب، ودامت أكثر من خمسة عشر عامًا!

على عكس ما سبق، يرى أسامة المقدسي، الذي حلّل المسألة الطائفيّة في القرن التاسع عشر في لبنان، أنّ الطائفيّة “ليست غريزةً، أو حتميّةً، بل تعبّر عن ترجمةٍ وتحويرٍ لفكرةٍ جديدةٍ للمساواة ظهرتْ في منتصف القرن التاسع عشر في مجتمعٍ متعدّد الطوائف وخاضعٍ لضغوطٍ خارجيّةٍ، ويفتقر على جميع المستويات إلى رؤيةٍ قادرةٍ على تخيّل مستقبلٍ أفضل.”24

الخلاصة

تعكس محاولاتُ فسير “المسألة الطائفية” في سياق الثورة السوريّة مدى تعقيدات المسألة وتخبُّط الأدوات المعرفيّة وصعوبة الفصل أحيانًا، في خضمّ الثورة، بين الموضوع (النظام) والمفهوم (الطائفة). فهذه الأخيرة لا يمكن تفسيرُها “ككيان، بل كعلاقةٍ سياسيّةٍ محدّدةٍ، يفسّر وجودَها شكلٌ من الصراع الطبقيّ، ويفسِّر إلغاءَها شكلٌ آخرُ من الصراع الطبقيّ،” كما وصفها شهيدُ الطائفيّة مهدي عامل.25

ثمّ إنه لا يمكن الركونُ إلى المعلومات التاريخيّة خارج سياقها. فمفاهيمُ “الوطنيّة” و”القوميّة” لم تكن موجودةً مجتمعيًّا قبل القرن العشرين. وحتى بعد انسحاب القوّات العثمانيّة بقي بعضُ الأعيان والمفكّرين السوريّين يتحسّرون على سقوط الخلافة.

وأخيرًا، فإنّه من الخطورة بمكانٍ الانزلاقُ إلى الأهواء التي تستحدثها الانقساماتُ السياسيّة، وتوريةُ الأحداث بالتسطيح، وتفسيرُ الآنيّ بالمطلق. ولا يكفي وصمُ الآخرين بالطائفيّة لتفسيرها. إنَّ إحياء ثقافة الطائفيّة، على حدّ تعبير المقدسي، يُحوّل الطوائفَ الدينيّة إلى طوائفَ سياسيّةٍ تخرج من الحيّز الخاصِّ إلى الحيّز العامّ لتنافس “هويّة” الدولة؛ فتشكّل بذلك تربةً خصبةً لوعيٍ مزيّفٍ، قائمٍ على مجريات الحاضر، ويؤسّس لمستقبلٍ انفجاريٍّ تكون الطائفة فيه كيانًا سياسيًّا داخل الجسم السياسيِّ للدولة وتعرّف نفسها انطلاقًا من توازن الهيمنة على البلاد.

*باحث سوريّ في التاريخ والآثار.

1- محمد جمال باروت، العقد الأخير في تاريخ سورية، جدليّة الجمود والإصلاح (بيروت: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، مارس 2012)، ص 269.

2- Francois Lenormant,

3- Histoire des Massacres de Syrie en 1860 (Paris, 1861), p 123.

4- نظرة سريعة إلى مقاطع الفيديو على اليوتيوب، والكتب الإلكترونيّة المنتشرة حاليًّا، توضح أخطار هذا الأدوات التحريضيّة الموجّهة واللاعلميّة. ويمكن الاطّلاع مثلًا على هذه الصفحة في الفيس بوك، ولديها 6000 معجب حتى الآن، وهي متخصّصة “بفضح” أسرار العقيدة النصيريّة:

https://www.facebook.com/alawayeen.secrets?fref=ts

5- قد لا يُعجب البعض أنّ البعث حقّق انتصارًا ساحقًا في الانتخابات الديمقراطيّة عام 1954، وخصوصًا في مدينة حماة، الخاضعة للعائلات الإقطاعيّة التي هزمتْها قوةُ الفلاحين المنتظمة تحت قيادة أكرم الحوراني، وذلك قبل انقلاب الثامن من آذار على حكومة الانفصال. ويمكن التوسّع بالعودة إلى مذكرات الحوراني، أو الاطّلاع على: باتريك سيل، الصراع على سورية ــ دراسة للسياسة العربيّة بعد الحرب 1945-1958، ترجمة سمير عبده ومحمود فلاحة (دمشق: دار طلاس، ط 8، 2010)، ص235، 241-245.

* يورد باتريك سيل في كتابه الشهير، الأسد، وثيقة أخرى على ما يبدو، وهي ذات تاريخ ورقم مختلفين، ولا يتطرّق إلى محتواها بل يكتفي بالإشارة إليها لكونها تحمل اسم علي سليمان الأسد (تاريخ الوثيقة 11/يونيو/1936، وثائق الخارجيّة الفرنسيّة ــ المشرق 1918 ــ 1930 ــ سوريا ولبنان ــ الوثيقة 492 ــ الملف 195) انظر: باتريك سيل، الأسد ــ الصراع على الشرق الأوسط (بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، ط 10،2007)، ص 28، والهامش رقم 14، ص 30.

6- خلطت “العربيّة” بين لوران فابيوس، وزيرِ الخارجيّة الفرنسيّ الذي كان حاضرًا في اليوم نفسه، وجيرار ارو، سفيرِ فرنسا لدى الأمم المتحدة. فالأخير هو من ردّ على الجعفري، في حين نسبت الردّ إلى فابيوس. وقد نقل عنها العديدُ من المواقع والجرائد الخطأ ذاتَه:http://www.alarabiya.net/articles/2012/08/31/235337.html

أنظر مثلاً نقل صحيفة الرياض للخبر:

http://www.alriyadh.com/iphone/article/764670

ويمكن العودة إلى النصّ الأصليّ لموجز مداولات الجلسة على موقع الأمم المتحدة، والتي تختلف ترجمتها على نحوٍ طفيف:

http://www.un.org/News/fr-press/docs/2012/CS10752.doc.htm

7- ردّ أرو على الجعفري الذي عُرض خلال بثِّ قناة الجزيرة لجلسة مجلس الأمن المنعقدة بتاريخ في (30) من أغسطس 2012:http://www.youtube.com/watch?v=Cby6nC1xfoA&feature=related

8- صورة “الوثيقة الأصليّة” التي نشرتها قناة العربية:

http://www.alarabiya.net/articles/2012/08/31/235337.html

9- رد العرعور على الوثيقة

**الشخصيّات الستّ المزعومة كما وردت أسماؤها في الوثيقة هي: عزيز آغا الهواش، محمود آغا جديد، محمد بك جنيد، سليمان أسد، سليمان مرشد، محمد سليمان الأحمد.

10- أنطوان غطّاس صعب، “وثيقة تاريخيّة عن مشروع “الدولة العلوية” في سوريا”:

http://www.centerlcrc.com/index.php?s=3&ss=4&id=3930&skw=%D8%A7%D9%84%D8…

11- أبو موسى الحريري، العلويون النصيريون، سلسلة الحقيقة الصعبة 5 (بيروت، 1980)، ص 229 ــ231.

12- تلت مقالة أنطوان صعب عدة مقالات حول الموضوع نفسه، ويمكن الاستئناس بمقالة جوزيف إلياس، “وثيقة العلويين: مزيد من النقاش،” النهار، 18/3/2012، والتي ردّ فيها على صعب. وكلاهما قبل نشر الوثيقة في مجلس الأمن!

http://www.centerlcrc.com/index.php?s=3&ss=4&id=4919&skw=%D8%A7%D9%84%D8…

13- Daniel Le Gac, La Syrie du général Assad, Editions Complexe, 1991, p 69-71.

14- أكرم الحوراني، مذكرات أكرم الحوراني (القاهرة: دار مدبولي، ط 1، 2000)، الجزء الأول، ص 159.

15- Hanna Batatu, “Some Observations on the Social Roots of Syria’s Ruling, Military Group and the Causes for Its Dominance,” Middle East Journal, Vol. 35, No. 3 (Summer, 1981), p. 331.

16- Philip S Khoury, Syria and the French Mandate, The Politics of Arab Nationalism, 1920-1945 (London: I. B. Tauris and Co. Ltd., 1987), p 520-22.

17- أكرم الحوراني، الجزء الأول، ص 159.

18- Khoury, opcit., p 522.

19- كمال ديب، تاريخ سوريا المعاصر من الانتداب الفرنسيّ إلى صيف 2011 (بيروت: دار النهار)، ط1، تشرين الأول 2011، ص 64 ــ65.

20- Gitta Yaffe-Schatzmann, “Alawi Separatists and Unionists: The Events of 25 February 1936,” Middle Eastern Studies, Vol. 31, No. 1 (Jan., 1995), p 36-37.

21- كمال ديب، ص65.

22- أكرم الحوراني، الجزء الأول، ص 159.

23- المصدر السابق، ص 104.

24- أسامة المقدسي، “من الطائفيّة إلى الوطنيّة اللبنانيّة،” مجلة الآداب، بيروت،2001 / 12 / 11، ص53.

25- عزام محمد أمين، “التحليل النفسيّ لظاهرة السلوك المؤيِّد للطاغية،” الحوار المتمدّن، العدد 3816، 11/8/2012:

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=319535

26- أنطوان غطّاس صعب، ذُكر سابقًا.

27- مهدي عامل، في الدولة الطائفيّة (بيروت: دار الفارابي، ط 3، 2003)، ص327.

في تشريح طائفيّةِ الحراك السوريّ

حسام جزماتي

في أول ردِّ فعلٍ رسميٍّ على الأحداث السوريّة، ظهرتْ مستشارةُ الرئيس، بثينة شعبان، مساءَ الخميس 24 آذار 2011، في مؤتمرٍ صحفيٍّ مرتبك، واتّهمتْ أطرافًا خارجيّةً بالوقوف وراء هذه التحرّكات، بغية استهدافِ أمن سوريا ووحدتها واستقرارها و”التعايشِ الجميل” بين مختلف طوائفها.

أمّا على المقلب الآخر، فقد كانت الإشارةُ أبكر. فمنذ الشرارة الأولى لانطلاق الحراك السوريّ، حرص الشابُّ الذي صوّر ونشر على الإنترنت مظاهرةَ سوق الحميديّة بدمشق، في 15 من الشهر نفسه، على القول مواكبًا للتسجيل: “نحن علويّون وسنّةٌ ومن كلِّ أطياف سورية.” وفضلاً عن اللهجة المميّزة، بيّن الشابُّ بوضوح: “أحكي باسم الطائفة العلويّة بكلِّ الشام، بكلِّ سوريا..” وبينما كان زملاؤه يتنقّلون في الهتاف بين “الله، سورية، حريّة وبس،” و”سلميّة، سلميّة،” كان يختم كلامَه بالدعوة إلى مظاهرةٍ لاحقةٍ في اليوم نفسه: “بعد صلاة العصر في محيط الجامع الأمويّ.”1

تقول هاتان الحادثتان، كلٌّ على حدة، الكثيرَ. غير أنهما تقولان معًا إنّ الهاجس الطائفيَّ ملازمٌ للحراك السوريِّ منذ البداية.

فالنظام، من جهته، دأب على طمس الحديث عن المسألة الطائفيّة تحت شعار “المساواة التامّة بين المواطنين،” وتحت طائلة السجن بتهمة “إثارة النعرات الطائفيّة” لمن يجرؤ على الكلام.2 أقصى ما يمكن أن يُسمحَ به من تناولٍ علنيٍّ لهذه المسألة كان كلامًا عامًّا عن “التعايش الجميل” بين طوائفَ مبهمةٍ تُمنع تسميتُها؛ فإنْ لم يكن من ذلك بدٌّ فالمسلمون والمسيحيّون هم المثالُ الوحيدُ المسموحُ بذكره، والشيخُ والقسّيسُ حاضران دومًا لالتقاط الصور التذكاريّة المشتركة. كانت المسألة الطائفيّةُ عورةَ النظام التي بالغ في إخفائها.

أمّا على الضفّة الأخرى، فقد داعبتْ أحلامُ الحريّة والكرامة مخيّلات عددٍ من الشبّان والشابّات، الذين كان تفاعلُهم مع الربيع العربيّ يتصاعد مع توالي محطّاته المتلاحقة، من تونس إلى مصر فليبيا. وكان هؤلاء طلابًّا جامعيّين أو ما يشبه ذلك من أبناء الطبقة الوسطى، من طوائفَ متعدّدة، اتفقوا على الخروج في أول مظاهرةٍ منذ عقود، وهي مظاهرةُ سوق الحميدية المشار إليها أعلاه، مؤسّسين لزلزالٍ ربّما لم يتخيّلوا حجمَه. فقد تتالت المظاهراتُ واتّسعتْ، وانتقلتْ من محافظةٍ إلى أخرى، على إيقاع اندلاع انتفاضةٍ شعبيّةٍ حقيقيّةٍ في درعا، وعلى إيقاع القتل الذي ارتفعتْ معدّلاتُه باطّراد منذ ذلك الحين.

ولما كان تصاعدُ الاحتجاجات وانتشارُها عفويًّا، ولم تكن لها قيادةٌ مركزيّةٌ، ولا روابطُ كافيةٌ بين ناشطي التظاهر في ذلك الوقت، واحتاجت إلى ممثّلين لها يعبّرون عن مطالبها في وسائل الإعلام وفي أروقة السياسة الخارجيّة والدوليّة لاحقًا؛ فقد تلقّفَ هذه الاحتجاجاتِ مثقفون ومعارضون في الداخل والخارج، تولّوْا تمثيلَها في البداية، ثم قيادتَها السياسيّة، فتشكّل “المجلسُ الوطنيُّ السوريُّ” وسواه من الهيئات والتجمّعات. وبالنظر إلى المسألة الطائفيّة، كان معظمُ هؤلاء ممّن لا يعيرون هذا الموضوع اهتمامًا كبيرًا، نظرًا إلى تحدّرهم من خلفيّاتٍ يساريّة، وتبنّيهم تقاليدَ تعتبر تناولَه عيبًا ثقافيًّا ووطنيًّا. وقد خاض هؤلاء سجالاتٍ كثيرةً على الفضائيّات، وفي المؤتمرات واللقاءات السياسيّة، منافحين عن وطنيّة الحراك ومدنيّته وبعده عن الطائفيّة. لكنّ الواقع كان يسير في اتّجاهٍ آخر.

فالحقّ أنّ الاحتكاكات الطائفيّة لم تتأخّر عن الحضور في بانياس، ثم في جبلة واللاذقية، فحمص، منذ أسابيع الحراك الأولى. وما بدأ استفزازًا أو تحرّشًا لفظيًّا، سرعان ما تحوّل إلى صدام حين ثارت ثائرةُ “شبيحة” محليّين قرّروا التطوّع بمشوارٍ سريعٍ لتأديب المتمرّدين. وكانت الهويّةُ الطائفيّة للطرفين واضحةً. غير أنّ ذلك “المشوار” طال كثيرًا، وبعضُهم لم يرجعْ منه، وما كان نزاعَ قرًى متجاورةٍ (أو أحياء “متعايشة”) تحوّل إلى صراعٍ دمويٍّ شرسٍ رفع الغطاءَ عن شرخٍ وطنيٍّ عميقٍ تزداد هوّتُه غورًا وخطورةً يومًا بعد يوم. أمّا ما كان مناكفةً كلاميّةً محدودةً بين السوريّين، فقد صار موضوعَ حديث وزير خارجيّة روسيا، سيرغي لاڤروف، حين برّر دعم بلاده لنظام الأسد بخشيتها من قيام “نظامٍ سنيٍّ”3 قد يضطهد الأقليّات.

وتصاعدت الحدّةُ الطائفيّة بشكلٍ غير مسبوق. فمن جهة، عمل النظام على رصِّ صفوف الطائفة العلويّة حوله، مستغلًّا مخاوفَ تاريخيّةً وأساطيرَ شفويّةً عن مستقبلٍ مظلمٍ ينتظرها، تلاقي فيه “الذبح،” الأمرُ الذي حرّض استجاباتٍ هيستيريّةً تفسّر كثيرًا ممّا نشاهده اليوم من قسوةٍ مفرطةٍ و”ذبحٍ استباقيّ.” كما حاول استثارة مخاوفَ تقليديّةٍ أقلّ حدّةً عند الدروز والمسيحيّين والإسماعيليّين، وتقديم نفسه ــ برسائلَ مضمرةٍ ــ حاميًا للأقليّات، فنجح بنسبٍ متفاوتة. أما لمؤيّديه السنّة فقد قدّم روايته الرسميّة عن الأحداث من دون كبير اهتمام.

ومن الجهة الأخرى، كان تحوّلُ الحراك السوريّ المحدود ذي الملمح النخبويّ إلى ثورةٍ شعبيّةٍ قد غيّر من طبيعته كثيرًا. وكانت القاعدة المتوسّعة كلَّ يوم، بدخول قرًى وبلداتٍ وأحياءٍ ومدنٍ إلى قائمة المحتجّين، تضغط باطّرادٍ على الواجهة السياسيّة للثورة، وبدأ أصحابُ ربطات العنق يفقدون مركزيّتهم لصالح قادة ميدانيّين. وبدأت الجماهير تفرض خطابَها، الذي كان الحسُّ الطائفيُّ إحدى أبرز سماته، ولكنّ الياقات البيض تجاهلتْه أو تستّرتْ عليه حفاظًا على صورةٍ رومانسيّةٍ للثورة تحاول تسويقها لدى المسؤولين الغربيّين.

لقد باتت المؤشّرات على تنامي الحسّ الطائفيّ لدى الثائرين كثيرةً جدًّا. ففضلًا عن التقارير الصحفيّة الأجنبيّة التي يتّهمها بعضُنا بالبحث عن الإثارة وتنميط الشرقيّين، فإنّ تقاريرَ متّزنةً لمراكز أبحاثٍ مرموقة، وحصائل جهودٍ استخباريّةٍ تتسرّب من هنا أو هناك، علاوةً على المعاينات المباشرة، تُجْمع على بروز حسٍّ طائفيٍّ سنّيٍّ عارمٍ لدى الثوّار. وأول ما يُلاحظ هنا هو أنّ هذا الحسّ موجّهٌ إلى العلويّين والشيعة الجعفريّين، لا إلى الأقليّة الإسماعيليّين التي نأت بنفسها عمليًّا عن “طرفي” النزاع كلّما ازدادت حدّته. فتاريخُها الطويلُ مع السنّة لا يشجّعها على الوقوف إلى جانبهم في ما صار يبدو ــ بصورةٍ متعاظمةٍ ــ أنّه ثورتهم الخاصّة؛ وتاريخُها القريبُ من الصراع مع العلويّين لا يدفعها إلى الوقوف معهم في ما بات يبدو ــ يومًا بعد يوم ــ أنه محرقتهم الخاصّة. أمّا الدروز فقد انكفأ قسمٌ كبيرٌ من شارعهم التقليديِّ عن خطابيّةٍ وطنيّةٍ متذمّرةٍ من السلطة، إلى مواقعَ طائفيّةٍ يراودها رُهابُ السنّة، سمحتْ للنظام بأن ينظّمَ في صفوفهم لجانًا شعبيّةً (شبّيحة) تولّت قمعَ مظاهراتٍ قام بها دروزٌ في السويداء وجوارها. وما لم يقم هؤلاء الشبّيحة المحليّون بالاحتكاك بجوارهم من المناطق “السنّيّة” الثائرة ــ كما حصل أحيانًا في ريف دمشق ــ فلا خطاب طائفيًّا واضحًا ضدَّ الدروز في أوساط الثوّار.

تقودنا هذه الملاحظةُ إلى تحديد ملمحٍ أساسيٍّ للطائفيّة في الحراك السوريّ، وهو أنّها طائفيّةُ صراعٍ أرضيٍّ واقعيّ. وسيفيد هنا أن نميّز بين ثلاثة أنواعٍ من هذه الطائفيّة:

أولاً ـ طائفيّة سياسيّة محليّة، يعبّر عنها التقابلُ ،السنّيّ/ العلويّ،. وهي طائفيّةٌ تجد جذورَها في سنين طويلةٍ من التمييز الذي مارسه النظام، الذي كان أغلبُ رجالاته الفاعلين من العلويّين، وما تبع ذلك من حيازة أقرباء هؤلاء ومعارفهم قسطًا من النفوذ والسلطة، في بلدٍ يعدُّ النفوذ فيه مرادفًا للقدرة على حفظ الكرامة، فضلاً عن أفضليّة النفاذ إلى سبل العيش (من أقلِّ الوظائف الحكوميّة شأنًا إلى صفقات الفساد الكبيرة).

يستند هذا النمط من الطائفيّة إلى تراثٍ متبادلٍ من الحذر أو الكره، تناوب عليه السنّةُ والعلويّون تاريخيًّا في مناطق التماس الطبيعيّة، أي القرى المتجاورة على الشريط الساحليِّ الممتدِّ إلى أرياف حمص وحماة. ولكنّه شهد تبدّلًا في خطّه الجغرافيّ بانتقال العلويّين من السكن في قراهم إلى تأسيس أحياء في مدن الساحل وحمص، مع تقدّم وسائطِ النقل، وموجةِ الهجرة العالميّة من الأرياف إلى المدن بحثًا عن متع الحياة الحديثة، وبالتوازي مع انخراطهم في الحياة العامّة السوريّة وعلى صعيد الوظائف الحكوميّة. ولقد كان لهذا الانخراط أن يؤدّي وظيفته الإدماجيّة، أو أن يقف عند حدودِ النفورِ المتبادل بين أهل المدن والمهاجرين إليها من الأرياف (ولاسيّما عندما تكون هذه المدن “سنّيّةً” محافظةً، ويكون القادمون إليها مختلفين عنها في قضايا وسلوكاتٍ اجتماعيّةٍ تراها مركزيّةً مثل عدم التزام النساء بالحجابِ وشيوع تعاطي المشروبات الكحوليّة)، لولا السلطة وطريقة ممارستها. فالسلطة هي التي صعّدت الأمور إلى حال من الصراع الخفيّ؛ بالإضافة إلى أنّها نقلتْه معها إلى دمشق، مركزِ النفوذ والعمل والثروة.

في عاصمة الأمويّين سكن ضبّاطٌ كبارٌ في أحياءٍ غنيّةٍ كانت حكرًا على عائلات وجيهة، ونشأت أحياءٌ نظاميّةٌ وأخرى مخالفةٌ كانت تستوعب المهاجرين الجدد من دون رقابةٍ عمرانيّةٍ تُذكر. وفي ريفها توسّعت الثكناتُ عبر استملاك أراضٍ زراعيّةٍ بقوّة القانون الاشتراكيّ، كما أقيمت تجمّعاتٌ سكنيّةٌ لصغار الضباط ومتوسّطيهم. وفي سوق العمل كانت المنافسةُ تنتهي لصالح الوافدين الجدد، أو بمحاصصةٍ إلزاميّةٍ يضطرُّ إليها التاجر الدمشقيُّ الشهير.

ولكن خلافًا لتقدير شائع، لم يؤدِّ الاحتكاكُ والتعارف إلى الانفتاح، بل إلى مزيدٍ من الانكماش والعداء المكظوم في خطوط التماسّ المستجدّة. وبخلاف تقديرٍ شائعٍ آخر، فإنّ هذا النمط من الطائفيّة ليس مرتبطًا بالدين بالضرورة، بل قد ينتظم في صفوفه غيرُ متديّنين، أو علمانيّون، أو ملحدون؛ وقد يضمُّ مثقفين وإعلاميّين قادتهم تجاربُ شخصيّةٌ إليه، ومسؤولين سنّةً سابقين أو حاليّين.. إلخ. إنّه صراعٌ أرضيٌّ إثنيٌّ بين جماعتين على موارد النفوذ والسلطة والثروة، ولذلك فهو موجّهٌ إلى الجماعة المستأثِرة بها. وقد يتعدّى هذا النمطُ من الطائفيّة العلويّين إلى أبناء أقليّاتٍ أخرى، كالدروز والإسماعيليّين، بوصفهم ـ في نظر كثيرٍ من السنّة ـ شركاءَ ثانويّين في سلطة الأقليّات التي صعدتْ مع حكم البعث منذ 1963؛ لكنّه قد يضمُّ دروزًا وإسماعيليّين بسبب هذه “الثانويّة” نفسها.

حين قامت الثورة، كانت مناطقُ التماسّ هذه، الأصليّة والمستجدّة، تربة خصبة لمعاداة النظام بوصفه “نظامًا علويًّا،” فشاركتْ بشكلٍ فاعلٍ فيها (بانياس، حمص، أقسام من ريفيْ دمشق واللاذقية)، أو عانت ضبطًا أمنيًّا شديدًا لمنعها من الحركة (اللاذقية وطرطوس وجبلة ودمشق). أما عمومُ العلويّين فاعتبروا الأحداثَ خطرًا يتهدّد وجودهم، لا وجودَ النظام، فأسهموا ــ حيث وُجدوا ــ بقسطٍ وافرٍ من أعمال التشبيح، بل كانوا يأخذون على النظام “رخاوته” قبل لجوئه في الأشهر الأخيرة إلى “الحسم” مستخدمًا أشدَّ أنواع القوة الحربيّة فتكًا.

بالطبع، حاول عددٌ قليلٌ جدًّا من المثقفين والناشطين العلويّين أن يقفوا في وجه هذا التيّار العاصف، لكنّ جهودهم ذهبتْ أدراج الرياح. وفضلاً عن دخولهم المعتقلات، لاشتراكهم في نشاطاتٍ معارضة، فقد عانى بعضهم نبذًا اجتماعيًّا ربما شارك فيه أفرادُ أسرته الأقربون، بوصفه خائنًا وحليفًا للذبّيحة.4 أما رسائل “التطمين” التي دأب معارضون على توجيهها إلى “الطائفة الكريمة” فكان مصيرها سلّة مهملات الذهن، بوصفها محاولةً ماكرةً للاستدراج.

هذا الموقف المتصلّب والدمويّ أعاد تفعيل طائفيّةٍ سنّيّةٍ مؤسّسةٍ على عقودٍ طويلةٍ من التمييز، وأدخل فيها أفرادًا لم يكونوا يأبهون لها بشكلٍ جدّيٍّ، وحمّلها بالرغبات الثأريّة التي تتعاظم كلما تزايد الدمُ. وشيئًا فشيئًا، صار أحدُ الشعارات الرئيسة للثورة، وهو هتاف “واحد واحد واحد، الدم السوري واحد،” يخبو، ليتقدّمَ شعار “الدم السنّي واحد” الذي رفعتْه إحدى القنوات المتخصّصة بالسجال مع الشيعة.

،ثانيًا ـ طائفيّة سياسيّة إقليميّة، يعبّرَ عنها التقابل السنّيّ/ الشيعيّ. وهي ضعيفةُ الجذور في سوريا الحديثة، بحكم ندرة وجود الشيعة (الجعفريّة، الاثنيْ عشريّة) واقتصاره على قرًى متناثرةٍ في محافظاتٍ مختلفة. على أنّ “استيراد” هذا النمط من الطائفيّة يرجع إلى الحرب العراقيّة الإيرانيّة: إذ عندما أيّد الرئيس حافظ الأسد الطرفَ الإيرانيَّ في هذا النزاع، بدا الموقفُ غريبًا لعموم السوريّين، ولاسيّما في المناطق الشرقيّة من سورية، حيث ترتبط العشائرُ والعائلاتُ بصلاتِ قربى مع العراقيين، ويجد كثيرٌ من السوريّين في صدّام حسين بطلَهم ضدَّ “الفرس المجوس.”

وكان لأجهزة الأمن السوريّة شبهاتٌ خاصّةٌ بكلِّ منطقة، وكانت تهمة الانتماء إلى البعث العراقيِّ أشيعَ التهم في مدينة دير الزور وما يتبع لها، وفي عموم المنطقة الشرقيّة. ولكنّ صدّام حسين أُعدم، بعد أن تعرّض لخيانة حلفاء إيران الذين تواطؤوا مع الأميركيّين. وكان على الأجهزة نفسها أن تديرَ تدخّلها في العراق من هذه المناطق، التي صارت باحةً خلفيّةً للمقاومين العراقيّين، البعثيّين والإسلاميّين، واتقدت فيها المشاعرُ ضدَّ الشيعة، وامتدّت إلى حيث قَدِم متطوّعون سوريّون، من أرياف حلب وإدلب وسواها؛ وعندما عاد هؤلاء، أو قسمٌ منهم، شكّل كلٌّ منهم محورَ بثٍّ ؟؟؟ مستقلٍّ ضدّ الشيعة.

ورغم صعود نجم حزب الله وأمينه العامّ في سورية، ولاسيّما في حرب تمّوز 2006، فقد كان لموقفه من الثورة السوريّة أثرٌ مدوٍّ أطاح شعبيّته بأسرع ممّا صعدتْ. وتنفّس من كانوا “يعرفون حقيقة الشيعة” الصعداء: فها هي أعلامُ حزب الله تُحرق في المدن السوريّة؛ وها هي إيران تُفرط في دعمها للنظام بشكلٍ استفزّ أكثرَ المعارضين اعتدالًا؛ وها هم السوريّون يشتمون حكومةَ نوري المالكي؛ وها هي القنواتُ السوريّة المعارضة مترعةٌ باتصالاتِ السنّة العرب، الذين يتضامنون مع “إخوانهم” السوريّين ضدّ العلويّين، “رأسِ حربة المشروع الصفويّ.”

ثالثًا – طائفيّة ذات مرجعيّة دينيّة، ويمكن التعبير عنها بالتقابل السنّيّ/ الرافضيّ. هذه هي الطائفيّة “الصلبة” إذا صحّ التعبير، وليست لها بيئاتٌ جغرافيّةٌ محدّدة بل بيئاتٌ ثقافيّةٌ خاصّةٌ، هي البيئات السلفيّة. ولقد كان التضييق شديدًا على السلفيّين في سورية طوال العقود الماضية، ولكنّ الأشهر الطويلة من عمر الثورة فتحت البلادَ المسوّرة برجال الأمن لكلّ أنواع التأثيرات، ومنها التيار السلفيّ، فسارع إلى نثرِ بذرته التي أنبتتْ بسرعةٍ قياسيّة و”تعرعرت” (نسبةً إلى العرعور).

فالشيخ عدنان العرعور هو أشدُّ رجال سورية “الجديدة” إشكاليّةً؛ إذ يجمع بين سلفيّةٍ شعبيّةٍ ذات خطابٍ مبسّط، وحسٍّ عمليٍّ واضح. وبين هذا وذاك تتناوب مواقفُه الطائفيّة بين مدّ اليد لـ”العلويّين الشرفاء” الذين يؤيّدون الثورة، وبين إدانةٍ مبدئيّةٍ للشيعة والعلويّين نتيجةً لتمرّسه في مساجلة الأولين عبر مناظراتٍ تلفزيونيّةٍ، ونتيجةً لمعايشته البعد الطائفيَّ في أحداث الثمانينيّات السوريّة، ولاسيّما في مدينته حماة، التي تعرّضتْ لأشدِّ أنواع القمع الدمويّ عام 1982.

وللعرعور شعبيّةٌ واسعةٌ في أوساط الثورة، رغم أنّه يثير أشدَّ أنواع النفور عند عددٍ من سياسيّي المعارضة ومثقفيها وناشطين في حراكها العلمانيّ والمدنيّ. ولم يخفّفْ من هذه الشعبيّة سوى انتقال جمهوره من القول إلى الفعل، وانشدادِهم إلى نموذج يمارس أمامهم ما يكتفي الشيخُ التلفزيونيّ بالحضّ عليه: نموذج القائد والمقاتل الميدانيّ، ولاسيّما الذي يجمع بين التديّن والشراسة في قتال النظام؛ نموذج “المجاهد.”

يعنينا هنا من المقاتلين الكثر تجمّعاتٌ تفصح عن هويّتها السلفيّة، أبرزها “جبهة النصرة،” وهي الأقرب إلى تنظيم القاعدة في نسخته العراقيّة التي عرفتْ تركيزًا كبيرًا على الجانب الطائفيّ (بخلاف التنظيم الأمّ الذي نظر إلى الصراع وفق سلّم أولويّاتٍ مختلفٍ). تنتشر الجبهةُ في عدة مدن سورية. ورغم قلّة أفرادها قياسًا إلى إجماليّ المقاتلين، فإنَّ عمليّاتها الموجعة ضدّ النظام أورثتْها مكانة النخبة بين المقاتلين، الأمر الذي قد يرشّح هذه الجبهةَ للتنامي، أو للتأثير في سواها من التجمّعات، كحال “كتائب أحرار الشام.”5

وتحمل أفكارَ السلفيّة جماعاتٌ أخرى، مثل “لواء الإسلام” الذي ينتشر في دمشق وريفها. أسّسه الشيخ زهران علّوش، المتحدّر من عائلةٍ سلفيّةٍ في مدينة دوما التي كانت من أبكر مواطن الاحتجاجات. ولهذا اللواء لجنةٌ شرعيّةٌ تتلقّى الاستفسارات عن شؤون القتال الدائر، عبر صفحتها على الفايسبوك.6 وقد أثارت فتواها بجواز استهدافِ نساء الخصوم وأولادهم، إذا لم يمكن الوصول إلى خصومهم إلّا معهم، مخاوفَ واسعةً.

*                    *                    *

من الواضح أنّ هذه الأنماط الثلاثة من الخطاب الطائفيِّ متداخلةٌ ومترافدةٌ الآن في مزيجٍ انفجاريّ. غير أنّ التمييزَ بينها وعزلها ربما كانا الطريقَ الوحيد إلى الحلّ، الذي يبدو الآن شديدَ الصعوبة أو شبه مستحيل. فإذا كان منطلق النمطين الأوّليْن سياسيًّا، فإنّ أداءً سياسيًّا ما يمكنه تطويقُهما أو التخفيفُ منهما، مثل انشقاقٍ جديٍّ في الطائفة العلويّة بالنسبة إلى النمط الأول وهو حلم المعارضين السوريّين منذ قيام الثورة. ورغم أن هذا الحلَّ يزداد بُعدًا بارتفاع فاتورة الدم والوالغين فيه، فإنّه لا يزال يبدو الحلَّ الوحيد لتجنّب حربٍ أهليّةٍ لا تبقي ولا تذر.

ومن شأن موقفٍ جادٍّ تتخذه قطاعاتٌ شيعيّةٌ واسعةٌ في تأييد الثورة السوريّة أن يفكّك النمط الثاني من الطائفيّة الذي بات يَنظر إلى الشيعة ككتلةٍ صلدةٍ واحدةٍ معادية. هذا رغم أصواتٍ قليلةٍ لبعض رموز الشيعة، وصل أحدُها، وهو المرجع الدينيُّ العراقيُّ آية الله السيد محمود الصرخي، إلى حدِّ التصريح بأنّ هتاف المتظاهرين السوريّين “الموت ولا المذلّة” هو تجسيدٌ واقعيٌّ حيٌّ لشعار الإمام الحسين في كربلاء “هيهات منّا الذلّة.”7 ولكن هذه الأصوات ظلّت قليلة التأثير في الشارع الشيعيّ العريض، ولاسيّما أنّها جاءت من رجال دينٍ عرب هم على خلافٍ أصليٍّ مع مرجعيّة قم وإيران وامتداداتها الإقليميّة. وهنا تقع مسؤوليّةٌ تاريخيّةٌ على عاتق المعارضة الإصلاحيّة الإيرانيّة، التي ظلّت مواقفُها خافتةً في هذه المسألة، وهي تَرْقب تعرّض السوريّين للعنفِ المنفلت من عقاله بدعمٍ من الحكومة، التي اضطهدتهم عام 2009 وتهدّد الآن بجرّ بلدهم وراء النظام السوريّ إلى حربٍ إقليميّة.

أما النمط الثالث من الطائفيّة، فلا “حلّ” جديًّا له إلا بتوقّف السياسة عن مدّه بالأدلّة على صدق رؤيته. أي إنّ الحلولَ المطلوبة لأجل النمطين السابقين ستخفّف من المصداقيّة المتصاعدةِ التي بات يحظى بها هذا الخطابُ. وفي حال توافر الحلول السياسيّة التي ستنزع فتيل الانفجار، فإنّ الذين سيظلون مقتنعين بهذا الخطاب يجب أن يُحال بينهم وبين أن يتحوّلوا إلى الفعل، فلا يتعدّوا على الأرواح أو الممتلكات، بل أن يبقوا ضمن حدود القانون في سوريا الجديدة (؟)، التي يجب أن تتعايش مع وجودهم كما تتعايش المجتمعاتُ المعاصرةُ ما بعد الحديثة مع نزوعاتٍ مماثلة.

دمشق

*كاتب سوري.

(1) الڤيديو على الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=VNeFs0nQXo0

(2) وُجّهتْ هذه التهمة إلى عددٍ كبيرٍ من الناشطين السياسيّين. ويرى كثبرون أنّ سبب دخول ميشيل كيلو السجن (2006 ـ 2009) لم يكن بسبب نشاطاته في “ربيع دمشق” وما تلاه، وإنما بسبب مقال يشير إلى هذه المسألة، بعنوان “نعوات سورية.”

(3) http://arabic.rt.com/news_all_news/analytics/68807

(4) وهو المصطلح الذي ابتدعه ثائرون مسلّحون سنّة، في مقابل مصطلح الشبّيحة

(5) http://www.ahraralsham.com

(6) https://www.facebook.com/liwaaislamlejnaelmia

(7)http://www.al-hasany.net/News_Details.php?ID=2802

العلويّون: مسألةٌ طائفيّة أم اجتماعيّة؟

محمد ديبو

إلى ختام غبش في “مشفاها” القسريّ

لِمَ تقف الطائفة العلويّة ككتلةٍ اجتماعيّةٍ إلى جانب النظام، وهي التي ساهمتْ في صناعة استقلال سوريا على يد الشيخ صالح العلي، وكانت مشاركةً في كلِّ تفاصيل الحياة السياسيّة منذ الاستقلال وحتى بداية السبعينيّات، وحاضنًا لأهمِّ الحركات اليساريّة والعلمانيّة التقدّميّة بين الخمسينيّات وبداية الثمانينيّات؟ وهل تمتلك أفقًا للخروج من عنق الزجاجة الذي ترقد فيه؟

نحاول هنا تناول “المسألة العلويّة” مبتعدين عن الأحكام المطلقة، حيث تصبح مفردةُ العلويّ مرادفًا للشرِّ المطلق أو الخير المطلق كما في الدراسات الدينيّة. فالعلويّون كتلة اجتماعيّة تعرّضتْ لمجموعة عوامل أثّرتْ فيهم، وليسوا “مجرمين وملتحقين بالسلطة” بالفطرة (مع الأخذ في الاعتبار أنّ نسبة السنّة الموالين للنظام أكبرُ من نسبة العلويّين الموالين). وخيرُ توصيفٍ للحالة التي نحن في صددها قولُ ثائر ديب: “السواد لا يفسّر الجريمة، ولو كان جميعُ المجرمين سودًا… مع ترك أذهاننا مفتوحةً على احتمال أن يُجْرِم بعضُ البيض أو جميعُهم ربّما. هذا يجب أن يدفعَ إلى طريقةٍ في التعامل مع الإجرام وأسبابه خارجَ السواد تمامًا… لبُّ المشكلة: بين تحليلٍ طائفيٍّ للطائفيّة، إذا جازت تسميته تحليلًا، وبين تحليلٍ علميٍّ لها…”(1)

ولتوضيح الأمر، يمكن أن نتساءل: لو فشل انقلابُ الأسد عام 1970، واستطاع رجلٌ من طائفةٍ أخرى الاستحواذَ على السلطة، فهل كان العلويّون في هذا الموقع الآن؟ كتب محمد كامل الخطيب: “منذ عشر سنواتٍ تقريبًا، سألني صديقي المخرج السينمائيُّ رياض شيّا: ماذا كان سيحدث لو استلم سليم حاطوم السلطةَ بدل حافظ الأسد؟ أجبتُ ضاحكًا: لا شيء مهمًّا. الفرق الوحيد أنّ أكثر شباب السويداء وحوران كانوا سيعملون في المخابرات، بدل الذهاب إلى أمريكا اللاتينيّة والخليج وليبيا، وأكثر شباب الساحل كانوا سيذهبون إلى أمريكا اللاتينيّة والخليج وليبيا بدل المجيء إلى العمل في المخابرات في دمشق.”(2) على البحث إذن أن يتجاوز الطائفة كطائفة، فيبحث في جملة العوامل السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تعرّضتْ لها ككتلةٍ اجتماعيّة. وهذا ميدانُ بحثنا الأساس.

في التطييف السياسيّ للعلويّين

ثمّة نقطةٌ فاصلةٌ في تاريخ العلويّين الحديث قد تكون نقطة الارتكاز التي أدّت لاحقًا إلى صيرورتهم طائفةً شبه ملتحقةٍ بالسلطة، ومرتبطةً معها بمصير حياةٍ أو موت:

“في آب/أغسطس 1980، اختار حافظ الأسد الاحتفالَ برمضان في القرداحة، مسقطِ رأسه، بدلًا من جامع بني أميّة الكبير في دمشق كما كان يجري التقليدُ. وجمع إليه، بهذه المناسبة، أهمَّ زعماء الطائفة العلويّة الدينيّين، وأوصاهم برصِّ الصفوف لمواجهة الأزمة، حاضًّا إيّاهم على تحديث العدّة الدينيّة لإحكام قبضتها على الطائفة، وتثبيتِ دعائم الروابط المنحلّة، على مستوى السرائر على الأقلّ، التي تربط بالأرومة الشيعيّة المشتركة التي خرجتْ منها تاريخيًّا.”(3)

المقطع السابق يسجّل أولَ واقعةٍ تاريخيّةٍ تثبت توجّهَ الأسد إلى طائفته بشكلٍ رسميٍّ وعلنيٍّ لأجل حماية حكمه، بعد أن حاول خلال السنوات العشر الأولى ترسيخَ أسسِ حكمٍ وطنيٍّ/ “علمانيٍّ” في مواجهة الإخوان المسلمين: فاستمال تجّارَ المدن، وأسّس “الجبهة الوطنيّة التقدّميّة” من أغلب الأحزاب السائدة، واصطدم عدّةَ مرّاتٍ مع الإخوان على خلفيّةِ “علمنة الدولة.”

لم يَحدث اتجاهُ الأسد نحو طائفته بمثل هذا الشكل العلنيّ إلّا بعد دعمه لوجود العلويّين في السلطة، رابطًا مصيرهم به تدريجيًّا. ففي المؤتمر القطريّ السابع (كانون الأول 1979)، “شُكِّلتْ لجنةٌ مركزيّةٌ تضمُّ ثلاثين علويًّا من خمسة وسبعين.”(4) وفي حين لم تُصب “حلاوةُ” السلطة في عهد الانتداب سوى أعيان العلويّين، أبناءِ المشايخ والإقطاعيّين، فإنها بدأتْ في عهد حافظ الأسد تصل إلى القطاعات الشعبيّة والكتلِ الاجتماعيّة المهمّشة، فزادت من ارتباطها به.

وساعدتِ الأسدَ في شدِّ عصب الطائفة إليه شعاراتُ الإخوان الطائفيّةُ في ثمانينيّات القرن الماضي، من قبيل “إسقاط الحكم العلويّ.” وبعد خروجه منتصرًا، أدرك أهميّة استخدام الطائفة في معركته للسيطرة على السلطة بشكلٍ مطلق، فبدأ يؤسّس لسياسةٍ أمنيّةٍ مختلفةٍ عمّا بدأ حكمَه به. كانت الفرصة مواتيةً لجذب الطائفة إلى مركبه، بعد أن توزّعتْ في السابق على تياراتٍ متنوّعةٍ، بعضها يعلن عداءه المطلق لنظامه ــ كحال “حزب العمل الشيوعيّ” الذي كان أغلبُ مؤسّسيه ونشطائه، ومنهم المناضلُ المعتقل (حاليًّا) عبد العزيز الخيّر، من العلويّين، بل من قرية الرئيس نفسها (القرداحة).

هنا بدأ النظامُ العمل على عدّةِ محاور، وهي:

أ ـ الجانب الدينيّ: قبل حكم حافظ الأسد وخلال العقدِ الأوّل منه، لم تكن للعلويّين مؤسّسةٌ دينيّةٌ ترعى شؤونهم أسوةً بالطوائف الأخرى، بل كان شيءٌ من هذا يتمُّ بالعرف الاجتماعيّ وبطريقةٍ عفويّةٍ غير منظّمة. وضمن هذا السياق نذْكر الشيخ سليمان الأحمد (والد الشاعر بدوي الجبل)، والشيخ صالح العلي، وآل الخير، وغيرَهم ممن كان يلجأ إليهم أهلُ الطائفة لحلِّ مشكلاتهم الدينيّة والاجتماعيّة.

لكنْ، في العام 1936، وبشكل مفاجئ، على ما تقول المؤرّخة شانتال فيردل، “عمدتْ جماعةٌ علويّةٌ تحت زعامةِ الشيخ سليمان الأحمد إلى إعلان نفسها عربيّةً ومسلمة. وبعد سنةٍ أصبح الإقليمُ العلويُّ جزءًا من الدولة السوريّة الجديدة. وما بين عاميْ 1939 و1942 تمَّ دمجُ الإقليمُ في سورية التي كانت في طريقها إلى الاستقلال.”(5) وهذا يعطينا فكرةً عن الدور الذي كان يلعبه رجالُ دين الطائفة سابقًا، دامجين الوطنيَّ بالدينيّ.

منذ ثمانينيّات القرن الماضي، سيعمل النظامُ تدريجيًّا على تفريغ الطائفة من مراجعها الدينيّة المتفق عليها، لصالح مراجعَ أخرى يشرفُ على صناعتها. ومنذ تسعينيّات القرن الماضي، ستشهد الطائفة تحوّلَ الضبّاط والمساعدين في الجيش إلى الدين، ولاسيّما بعد انتهاء خدمتهم. كما سنشهد قيام ضبّاط، على رأس عملهم، بزياراتٍ إلى مشايخَ مقرّبين إلى السلطة، وربّما صنيعة السلطة ذاتها ضدَّ مشايخَ آخرين لم تتمكّن السلطةُ من تدجينهم ولكنّها قطعتْ جذورَهم الاجتماعيّة. إنها، إذن، ظاهرةُ تدخّل الدين في السياسة بطريقةٍ تُظهرُ الأسدَ الأب وكأنّه “وليٌّ من أولياء الله الطاهرين.”1 وهذا الأمر، على مدى العقدين الأخيرين، ساهم في ربط الطائفة بالأسد دينيًّا. وتجلّى ذلك لحظة وفاته، إذ انتشرتْ شائعةٌ في مناطق العلويّين تقولُ إنّ وجهَه على القمر، أسوةً بالإمام عليّ. ولا نستبعد أن يكون مصدرُ تلك الإشاعة الأجهزةَ الأمنيّةَ من أجل إحكام القبضة على الطائفة من الجهة الدينيّة.

الجانب السياسيُّ: زمن الانتداب، انخرطتْ عائلاتٌ علويّة كثيرة في العمل السياسيّ (يخصّ كمال ديب بالذكر أسماء علويين ناشطين من عائلات كنج، والعبّاس، وجنيد، وخير بك، والأحمد، والحواش، والمرشد).(7) وبين الثلاثينيّات والثمانينيّات توزّع العلويّون في تيّاراتٍ سياسيّةٍ عديدة (بعثيّة، شيوعيّة، قوميّة، ناصريّة،…). لكنّ هذا التنوّع انحسر مع انتصار النظام في الثمانينيّات، ليبدأَ بجرف كلِّ من لم يتمكّنْ من احتوائه في “جبهته الوطنيّة التقدّميّة.” وقد طاولتْ حملتُه كلَّ معارضي النظام العلويّين، ولاسيّما ضمن حزبَي العمل الشيوعيّ والبعث الديمقراطيّ، لتخلوَ الساحةُ الاجتماعيّة العلويّة من أيِّ معارضين. وترافقَ هذا مع اجتثاث السياسة كليًّا من المجتمع السوريّ، لتتحوّلَ سوريا إلى “مملكةِ صمتٍ” وفق تعبير المعارض الشهير رياض الترك. هذا الفراغ ملأته السلطةُ بإجبار الناس على الانتساب إلى البعث عبر ربط قبولهم في وظائف الدولة والجيش والأمن ـ وهي أبوابُ الرزق الوحيدة أمام العلويّين ـ بموافقةٍ أمنيّةٍ تتطلّب أن يكونوا بعثيّين.

في العقود اللاحقة سيزيد عددُ العائلات العلويّة المنخرطة في السياسة بفعل انتشار الأحزاب السياسيّة، التي ستُسحَقُ بعد ثمانينيّات القرن الماضي. وهذا يعني خلوّ الساحة من أيّ نشاط سياسيّ يمكن أن يجمع العلويين بعيدًا عن السلطة.

الجانب الاقتصاديُّ/ الأمنيّ: تاريخيًّا لم يكن للعلويّين أيُّ مصدر رزقٍ خارج الزراعة والرعي. فهم أبناءُ الجبال الخائفون من النزول إلى المدن بسبب تعرّضهم لمجازر تاريخيّةٍ على يد العثمانيّين لا تزال تستوطن الذاكرةَ الجمعيّة، وتحصّنُهم في الجبال حماية لهم من الآخر/ السنّيِّ الذي لم يكن في لاوعيهم إلّا عثمانيًّا قاتلًا لا يتورّعُ عن فعل أيِّ شيءٍ بهم لكونهم “علويّين” فحسب.

لم تُكسَر هذه القاعدة إلّا مع مجيء الفرنسيّين الذين استغلّوا فقرَ العلويّين، ففتحوا لهم أبوابَ الجيش الفرنسيّ، ليحصلوا لأول مرة على راتبٍ من غير الأرض التي لم تكن تكفي إلّا لمنع الموت عنهم. واستمرَّ هذا الأمر حتى الاستقلال وبدايةِ حكم البعث، حيث أصبح الموردُ الوحيدُ للرزق هو الجيشَ والزراعة. لكنْ حصل أمرٌ جديد، هو ظهور نخبٍ علويّةٍ، إقطاعيّين ورجال دين حصرًا؛ إضافةً إلى ظهور أحزاب يساريّة وقوميّة، وحصول نشاطٍ سياسيٍّ مكثّفٍ عمل على استمالة الأقليّات وسكّان الأرياف، ليساهمَ هؤلاء في افتتاح مدارسَ هنا وهناك، وليبدأ التعليمُ في الدخول إلى نسيج الطائفة. هكذا تخرّجتْ أولُ دفعاتِ المتعلّمين، من حافظ الأسد وصلاح جديد وغيرهما، وذهب أغلبُهم إلى الجيش لعدم قدرته الماديّة على إكمال دراسته الجامعيّة.

بيْد أنّ الأمر سيتغيّر بعد دخول الدولة أزمتَها الاقتصاديّة في الثمانينيّات. وترافق ذلك مع زيادة عدد سكّان المتعلّمين في الأرياف بسبب تحسّن مستوى التعليمِ وانتشاره وتقديم تسهيلاتٍ لطلاب الجامعات (ومنها سياسةُ الاستيعاب الجامعيِّ، والتعليم المجّانيّ، والسكن المجانيّ). فراحت أجيالٌ جديدةٌ من أبناء الأرياف تهجر الأرضَ باتجاه المدينة، لتُرمى في سوق البطالة لعجز الدولة عن المزيد من الاستيعاب. هنا بدأت السياسة الاقتصاديّة ـ الأمنيّة للرئيس الأسد لتسهم في شدِّ الأقليّات. فبعد أن أدركت السلطةُ أهميّةَ الطائفة في حمايتها، أخذتْ تبني كلّ سياساتها على أن يكونَ للعلويّين النسبةُ الكبرى في الجيش والأمن، فامتنعتْ عن القيام بمشاريع تنمويّة تمتصُّ أفواجَ الشباب الخارجةِ إلى سوق العمل في تلك الأرياف والمناطق، وعمدتْ إلى تحديث الأرياف (شوارع، مدارس، بلديّات، مراكز زراعيّة، مستوصفات…). الأسوأ كان تراجعَ الدولة في حماية الزراعة، وعجز الرعي بعد ذلك اليوم عن تلبية متطلّبات الحياة، وهو ما أفقد العلويّين عمومًا جملةً من مسبّبات العيش التي اعتمدوا عليها تاريخيًّا لصالح وظائفِ الدولة، وتحديدًا الجيش والأمن. ما سبق ذكرُه، مضافًا إليه حدوثُ تغيّرٍ في وعي ابن الريف الذي بات يفضّلُ الوظيفةَ وراتبَ آخر الشهر على عملٍ زراعيٍّ غيرِ مستقرّ، أنتجا وعيًا يعتمد على الدولة في كلِّ شيء.

السياسة السابقة أدّت إلى بروز الجنرال/ الإقطاعيِّ الجديد نموذجًا يُحتذى. وهنا نلمح أوّلَ التشوّهات التي حصلتْ في الوعي الاجتماعيّ: فبعد أن كان الطبيبُ والمهندسُ هما حلمَ أيِّ عائلةٍ لابنها، تراجع الأمرُ لصالح صعود العسكريِّ بسبب ظهور معالم الرخاء على الضبّاط. وإذا كان لجوءُ أجيال الستينيّات والسبعينيّات والثمانينيّات إلى الجيش بسبب الفقر (وبسبب السلطة بالنسبة إلى الثمانينيّات)، فإنّ التسعينيّات ستشهد عاملًا آخرَ، هو الحلمُ السريعُ بالثراء؛ حتى إنّ عائلاتٍ قادرةً على تعليم أبنائها باتت ترسلهم إلى الجيش طمعًا في الثراء السريع… والوجاهةِ الاجتماعيّة التي انتقلتْ من الطبيب أو المتعلّم إلى الجنرال، خصوصًا بعد أن بات الضبّاطَ ورجالُ الأمن أصحابَ الكلمة العليا في البلد.

وإلى الثراء السريع والوجاهة أضيفت إلى هؤلاء العسكريّين ميزةُ  “التوسّط” إلى أقربائهم للتوظّف في سلك الدولة. وقد تمَّ استغلالُ الحاجة إلى الوظيفة، فباتت “الواسطةُ بمقابل” هي الوسيلةُ الوحيدة للوصول إليها. وهنا سيصبُّ المقابلُ الماديُّ في يد هؤلاء الجنرالات في أغلب الأحيان. ومن هنا يمكن أن نفهمَ سرَّ التضخّم الكبير للعلويّين في جهاز الدولة المدنيِّ صعودًا من العام 1985، وبخاصّةٍ بعد ارتباط الوظيفة بموافقةٍ أمنيّةٍ تتطلّب أن يكون المرءُ بعثيًّا. ولمّا كان العلويّون أقرب إلى السلطة طائفيًّا، وأحوجَ إليها اقتصاديًّا، فقد كانوا أكثرَ طواعيةً لقبول قراراتِ السلطة الجديدة.

هكذا أصبح أكثرُ العلويّين مهدّدين بالولاء الكامل للسلطة، أو الجوع بالمعنى الحرفيّ للكلمة. وهذا يفسّر جزئيًّا عدمَ نجاح الدعوات إلى الإضراب بشكلٍ كاملٍ، بسبب خوفِ الموظّفين (من كلِّ الطوائف) على مصدرِ رزقهم الوحيد.

الخوف من السلطة ومن الآخر

وصل العلويّون إلى أعلى مناصب الدولة، وانتشروا في المدن الكبيرة، لكنّ خوفهم الأقلويُّ ظلّ على حاله. فقد بقيت ذاكرتُهم الجمعيّةُ تحملُ المجازرَ التي تعرّضوا لها على يد العثمانيّين، وزادتها تأجّجًا أحداثُ الثمانينيّات التي أحسنت السلطةُ استخدامَها وتضخيمَها ليصبحَ الإخوانُ المسلمون، بل السنّةُ ككلّ ـ في أذهان العلويّين ـ “عثمانيّي العصر الحديث.” وغذّى ذلك كلَّه الخلافُ التاريخيُّ بين السنّة والعلويّين حول حادثة السقيفة، التي لم تزل تحكمُ أذهانَهم على المستوى الدينيِّ واللاوعي الاجتماعيّ.

وقد تجلّى ذلك في تعبيرات العلويّين عن المستقبل. فعباراتٌ من قبيل “إذا قلبوا [أي السّنّة] الحكمَ وحكموا يومًا ما” و”الرمل سيجرُّ البحص” كانت دائمةَ الترديد في مجالس العلويّين وبيئتهم. العبارة الأخيرة تُنسَب إلى الإمام عليّ كتنبّؤٍ مستقبليّ، وترديدُها يعكس خوفَ العلويِّ المزمن من “الآخر،” ومن العودة إلى الجبال، ومن توقّعه الدائمِ (وإنْ كان في السلطة) من عودة الماضي.  ولعلّ مغادرة بعض العلويّين دمشقَ سريعًا عند وفاة الأسد باتجاه الساحل السوريّ تعكس ذلك الخوفَ الأقلويَّ المزمن. وهو ما تؤكّده أيضًا عبارةُ “أمّ أيهم” في الشريط الذي تمَّ تداولُه مؤخّرًا “بسْ لا تغدروا فينا”(8)؛ فهي ما كانت لتلجأَ إلى “الآخر” [المقصود الجيش الحرّ والسنّة] لولا مواجهتُها الموتَ مباشرةً.

وقد عملتِ السلطةُ على رفع منسوب الإحساس بهذا الخطر عند كلِّ منعطف، ومنعتْ حدوثَ الاندماج الاجتماعيّ (المفترض أنّه من أولى مهامِّ الدولة)، لإبقاءِ الأمر في إطار “حسن جوارٍ طائفيٍّ” بلغة ياسين الحافظ.  لقد غذّت السلطة الشأنَ الطائفيَّ وعاشت عليه، ولكنّها لم تخلقه. وإلى أن يحين رحيلُها، فإنّ سوريا تحتاج إلى سياساتٍ دمجيّةٍ تعمل على كسر الجدران اللامرئيّةِ بين الطوائف الدينيّة والإثنيّة.

إلى جانب خوف العلويّين من الآخر، هناك خوفٌ قلّما تمَّ تناوله، وهو خوفُهم من السلطة لأنهم الأعرفُ ببطشها وفاشيّتها لكون أغلبِهم يخدمون في أجهزتها الأمنيّة وينقلون إلى بيئتهم الاجتماعيّة ما يجري في الفروع الأمنيّة من تعذيب. ولعلّ عبارةَ “الدبين [أي الذباب] الأزرق ما بيعرف وينو” التي تتواتر كثيرًا في الأحاديث العامّة هي نتاجُ الاحتكاك اليوميّ بين عناصر الأمن ومحيطِهم الاجتماعيّ، وهو احتكاكٌ عمل على خلق خوفٍ دائمٍ من السلطة التي تحميهم وتذلّهم في آن. وساهم في ترسيخ هذا الخوفِ ما تعرّض له السجناءُ السياسيّون العلويّون، إذ قضوا سنواتٍ في السجن ليخرجوا إلى بيئةٍ مختلفةٍ كليًّا عن البيئة التي عرفوها من قبل، معانين النبذَ والإقصاء، ليكونوا عبرةً للطائفة وللسوريّين في آن. والحقّ أنّ السلطةَ كانت تتشدّد في شأن السجناء العلويّين أحيانًا؛ ولعلّ الحكمَ على د. عارف دليلة بالسجن عشر سنوات في “ربيع دمشق،” في حين حُكِمَ أغلبُ أصدقائه آنذاك بين ثلاثِ سنوات إلى خمس، يعطي مؤشّرًا في هذا السياق.

هكذا يعيش العلويُّ عامّةً بين خوفين: الخوف من السلطة، والخوفِ من السنّيّ. الفرق بين الخوفين يتمثّل في أنّ الأول حديثٌ وسطحيٌّ وغير متجذّرٍ في الذات ويبرز على ساحة الوعي، في حين أنّ الثاني قديمٌ وعميقٌ ومتجذّرٌ في الذات ويبرز على ساحة اللاوعي، قافزًا إلى الوعي في لحظة الأزمات كما هو الحال الآن.

نتائج العوامل السابقة

كان تأثيرُ العوامل السابقة في العلويّين واضحًا لجهة إنتاج كتلةٍ مرتبطةٍ بالسلطة في أغلبها، على الصعد السياسيّة والدينيّة والاقتصاديّة، مرفقًا بخوفين يتناوبان على ساحتَي الوعي واللاوعي، ويتسبّبان في عصابٍ جماعيّ. هذا العصاب يظهر أحيانًا في المبالغة في الوفاء للسلطة، من خلال تعابير مثل: “أبيدوهم” و”بدنا نزرع حمْص ودوما وبانياس بندورة وبطاطا.” وهنا تستغلُّ السلطةُ هذا الأمر ليبدو وكأنّ العلويّين يعنون ذلك ويريدونه، في حين أنّهم في حقيقة الأمر عاجزون ومصابون بفقدان مناعةٍ تجاه السلطة، وتجاه آليّاتها التي باتت تنتجُ نفسها بنفسها من الداخل، إلى درجةٍ يصعب معها فهمُ ما إذا كانت الطائفة تحتمي بالسلطة أمْ أنّ السلطةَ هي التي تحتمي بالطائفة!

في وضعٍ كهذا، أين يلجأُ العلويُّ المعترض؟ وكيف يؤسّس لحالةِ نضالٍ ضدَّ سلطةٍ تشكّلُ بيئتُه الاجتماعيّةُ أحدَ أعمدتها؟

إنّ استخدام بعض المعارضة السوريّة للورقة الطائفيّة يصبُّ في خدمة السلطة نفسها، محرّضًا الطائفة العلويّة على المزيد من الالتجاء نحوها بفعل صعود الخوفِ من الآخر/ السنّيّ (المغروس في الذاكرة الجمعيّة) إلى سطح الوعي، مغيّبًا الخوفَ من السلطة إلى دائرة اللاوعي. وقد عمد النظامُ، في تصدّيه لحركة الشارع السوريّ منذ بدايتها، إلى العزف على الوتر الطائفيّ مباشرةً، مستغلًّا امتلاكَه أدواتِ اللعبة التي خبرها طوال عقود حكمه. فبدأ الكلامَ على الإمارات السلفيّة، والسلاح، والإخوان القادمين لاستلام السلطة، والعراعرة، وكلِّ ما من شأنه استثارةُ خوف الأقليّات. وترافق الأمرُ مع بعض الحوادث التي جرت في بداية الانتفاضة، مثل مقتل العلويّ نضال جنود في بانياس، ومقتل العميد التلاوي مع أبنائه في حمص. فاستغلت السلطة الحدثين لإثارة شائعاتٍ كانت تعرف أنّ أحدًا لن يصدّقها في البداية، ولكنّها كانت تدرك أيضًا ـ نتيجةً لخبرتها الطويلة ـ أنّها سترفع منسوبَ الخوف عند العلويّين من الآخر لصالح تراجع خوفهم من السلطة. وهو ما حدثَ فعلًا.

في بداية الانتفاضة (نيسان 2011) ظهر شريطُ فيديو، من قرية البيضا في بانياس، يبيّن رجالَ أمنٍ يصيحون بشعاراتٍ طائفيّةٍ وهم يضربون متظاهرين (سنّةً على ما يوحي الشريط). إنّ إعادة التفكير في الشريط وطريقةِ ظهوره، وفي النتائج التي ترتّبتْ عليه، تجعلنا نخمّن أنّ السلطة هي التي سرّبتْه، وهي التي نفت نسبته إليها في الوقتِ نفسه: فقد أرادت من تسريبه تأطيرَ الحراك الشعبيّ ضمنَ سنيٍّ/ علويٍّ، وفي الوقت نفسه رفْعَ منسوبِ إحساسِ السنّة بسنّيتهم بدلًا من مواطنيّتهم في مواجهة العلويّين. السلطة تدرك، بخبرتها الطويلة، ما تختزنه المجتمعاتُ من طائفيّةٍ كانت واثقةً بأنّها ستظهر في نهاية المطاف. ورغم أنّ سياستها في تأليب الطوائف بعضِها على بعض فشلتْ طوال الأشهر الأولى من الانتفاضة، فإنّها بدأتْ تؤتي أُكْلَها بعد حادثةِ جسر الشغور ضدّ رجال الأمن، وزادها لاحقًا دخولُ السلاح عنصرًا فاعلًا في الأزمة بدعم دولٍ تقوم على الطائفيّة.

بالتوازي مع ذلك، وضعت السلطةُ في أولويّة اهتماماتها الناشطين المنتمين إلى الطائفة العلويّة لأنّها تدرك أنهم الأخطر، لكون مجال نشاطهم هو البيئات التي تُعتبَرُ ظهرًا لها. فعملتْ على عزلهم عن بيئاتهم هذه عبر سلسلةٍ من الخطوات: تبدأ من السجن، ولا تنتهي عند الشائعات ضدّهم في قراهم ومدنهم وأحيائهم بغيةَ تخويف الناس من التعامل معهم.(9)

المكمّل الثاني لسياسةِ السلطة هذه هو أداءُ المعارضة بأطيافها كافّةً، إذ كشفت الانتفاضةُ أنّ المعارضة أكثرُ الناس جهلًا بطبيعة نظامهم. مثلًا لم يُعرَفْ للمعارضة أيُّ بيانٍ ضدَّ أحداثٍ مفصليّةٍ كان لها تأثيرٌ كبيرٌ في دفع الطائفة العلويّة إلى محض النظام مزيدًا من التأييد، وكان من شأن انتباه المعارضة إلى أمورٍ كهذه أن يَسْحبَ ورقة السلطة تلك. مثلًا حين تكلّم النائبُ السابق مأمون الحمصي بكلامٍ طائفيٍّ قذرٍ في القاهرة، لم يصدرْ بيانٌ رسميٌّ (على حدِّ علمنا) عن أيّة جهةٍ سياسيّةٍ معارضةٍ ترفضه وتستنكره؛ وحين تحدّثَ رياض الشقفة عن كسر “المحور الشيعيِّ” من منتصفه، لم يقلْ له أحدٌ أنّ هذا كلامٌ طائفيٌّ لا يناسبُ الانتفاضة السوريّة الوطنيّة. وثمة أخطاءٌ أخرى أدّى تراكمُها إلى دفع العلويّين، يومًا بعد يوم، نحو النظام، وبخاصّةٍ حين تأتي الأخطاءُ على شكل تصريحاتٍ مصدرُها الإخوان المسلمون، الذين هم في أذهان غالبيّةِ العلويّين “عثمانيّو العصر الحديث.”(10) وهذا ما دفع ثائر ديب إلى القول:

“كان على الثورة، مثلًا، أن تبقى حتى النهاية، ومهما حصل، فاتحةً حضنَها لكلِّ من لم ينضمَّ إليها. لكنها اختارت، بل اختار أدعياؤها الذين لهم المنابرُ الإعلاميّةُ جميعُها، شتمَ الجيش والعلويّين، كما شتموا حلبَ وغيرَها قبل انضمامها إلى الثورة. ونحن ندفعُ الآن ثمنَ كلِّ ذلك بسبب النظام الوحشيّ أولًا وثانيًا وثالثًا، وبسبب هذه الأخطاء أو الخطايا رابعًا وخامسًا. وبالمناسبة، كثيرٌ من ‘ثوريّينا الكبار’ منطقُهم طائفيّ. ناهيك بالمهسترين الثوريّين، ولاسيّما أولئك الذين كانوا حتى هذا الصباح في قفا النظام أو في جبهته ‘الوطنيّة التقدّميّة،’ وفي ظنّهم أنهم أفاقوا على ‘الحقيقة،’ لكنّهم لم يفيقوا سوى على وهمٍ هو مقلوبُ وهمهم السابق ووجه عملته الآخر.”(11)

وزاد الطينَ بلّةً البياناتُ والدعواتُ التي وجّهها بعضُ معارضي الطائفة إلى الطائفة نفسها بصفتهم “نشطاءَ علويّين.” إضافةً إلى البيانات الخبيثة التي أصدرتها الدولُ الكبرى “المصرّة على حماية الأقليّات” بهدف استغلال الخوفِ الأقلويّ للتدخّل في الحالة السوريّة، على نسق ما فعلتْه في الإمبراطوريّة العثمانيّة؛ فالبيانات زادت من إحساس العلويين بأقليّتهم وتمسّكهم بالنظام. وهذا ما انتبه إليه جيّدًا عمر قدّور حين كتب:

“ومع أنّ النظام هو المسؤول الأوّل عن دفع التخوّفات الأقلويّة إلى العتبة الحاليّة، إلا أنّ الكثير من القوى الدوليّة قد شاركه في تعزيزها. لا يقتصر هذا على الروس، الذين أعلن وزيرُ خارجيّتهم بوقاحةِ معارضته لتولّي ‘السنّة المتطرّفين’ الحكمَ، بل واظبتْ دوائرُ غربيّةٌ فاعلةٌ، ولاسيّما الأميركيّة منها، على العزف على وتر الأقليّات والحصول على ضماناتٍ لها في مرحلةِ ما بعد الأسد. واستسهلتْ قوًى معارضةٌ ‘معتدلةٌ’ هذه النغمة، واستخدمتْها بمنطقٍ كيديٍّ للنيل من القوى المنافسة الأكبر عبرَ اتّهامها بالطائفيّة. لا يوازي هذا الرخصَ في الأداء سوى أداءِ بعض المتطرّفين حقًّا الذين هدّدوا بالانتقام من العلويّين، واسترجعوا بتشفٍّ مرويّاتِ الطائفةِ ذاتها عن مرحلةِ الاضطهاد، مهدّدين بإعادتها إليها.”(12)

ما سبق هو المشهدُ الأبرزُ في المعركة السوريّة الدائرة الآن، وترتّبتْ عليه عودةُ جثامين علويين بالطائرات إلى جبال الساحل السوريّ، واختطافُ جنودٍ علويين مقابلَ طلب فدياتٍ يعجز أهلوهم الفقراءُ عن دفعها. وأسهم ذلك كلّه في إيصال الكتلة الاجتماعيّة العلويّة إلى مرحلة فقدان المناعة بشكلٍ كلّيٍّ تجاه ما يحدث… إلّا في حالاتٍ خارجيّةٍ تحتاج بحثًا مستقلًّا.(13) وهذا كله يرتّب على المعارضة  مسؤوليّةَ العمل الجادِّ والحريص لتلافي ما سبق. فالعلويّون، ككتلةٍ اجتماعيّة، أشدُّ الناس حاجةً إلى الحريّة، حتى وهم إلى جانب النظام، لأنّهم أسرى هذا النظام، وأسرى المعارضة الطائفيّة، وأسرى الدول الكبرى التي تتاجرُ بهم. وهو ما أشار إليه أيضًا عمر قدّور حين قال:

“ينبغي الاعترافُ بأنّ الطائفة العلويّة، على نحوٍ خاصّ، تمَّ تهجيرُها رمزيًّا من المجتمع السوريّ. ولقد ساهم، في هذا، النظامُ، وبعضُ القوى الدوليّة، وجزءٌ من المعارضة. لكنّ أمر إعادتها إليه واجبٌ وطنيٌّ لا يخصُّ أبناءَ الطائفة وحدهم، بل يستدعي المساعدةَ في إخراج من عاد منهم إلى حضن الطائفة إلى الفضاء الوطنيّ العامّ.”(14).

ويبقى السؤال: هل تغيّرُ المعارضةُ إستراتيجيّتها، أمْ فات الأوان؟

خاتمة

انطلاقًا ممّا سبق، كان تأكيدُنا اليوميُّ على النضال السلميِّ لأنه الأقدرُ على تفكيك بنية السلطة من جهة، وبنيةِ هذه التخرّجات الطائفيّة التي أحدثتْها سياستُها في الداخل. ذلك لأنّ النضال السلميّ يَبني تدريجيًّا وهو يخوضُ عمله على المدى الطويل؛ وأمّا النضال المسلّح فيَهدم وهو يخوضُ صراعه الطويلَ ضدّ الدكتاتوريّة، مدمّرًا تلك البنى الاجتماعيّةَ، ومعيدًا إيّاها إلى ما دون الوطنيّ. ومن هنا أيضًا كان تأكيدُنا على ضرورة إسقاطِ النظام بدلالة الدولةِ المدنيّة الديمقراطيّة العلمانيّة، لا إسقاطَ النظام وليكن بعده الجحيم كما تسير المعارضةُ المسلّحة اليوم. فالخطاب الأول يتوجّه إلى الناس كمواطنين أحرار؛ وأمّا الخطاب الثاني فيتوجّه إليهم كطوائفَ وأقليّاتٍ، فيزيدُ من نفورهم وغربتهم.

 والأهمُّ من كلِّ ما سبق أنّ الخطاب الثاني، وإنْ نجح في إسقاطِ النظام، فسيسقطه طائفيًّا لا وطنيًّا. وهذا ما سيضعنا مرّةً أخرى أمام إشكاليّةِ بناء دكتاتوريّةٍ جديدةٍ، وإنْ قال الناطقون بها عكس ذلك. فالمقدّماتُ الخاطئة توصل إلى نتائجَ خاطئة، لأنّ الوعي الجمعيّ للمضحّين في سبيل إسقاطِ هذه الدكتاتوريّة هو ما سيحكمُ في نهاية المطاف. ولقد علّمتنا التجاربُ أنّ أسوأ الدكتاتوريّات هي التي تأتي بعد التضحيات الجسام التي تقدّمها طائفةٌ ما. ولعلّ مسارَ الأسد الأب في السلطة يدلُّ على ذلك، إذ لم يكنْ في وارد بناء دولةٍ تعتمد الطائفيّة، ولكنّ اعتمادَه عليها بعد إدخال البعدِ الطائفيِّ/ العائليّ أوصله إلى الطريق المسدودِ الذي تدفع ثمنَه سوريا اليوم. فهل يعيدُ التاريخُ نفسه على يد الطائفة المنتصرة هذه المرّة، أم تكون الفرصةُ متاحةً لبناء دولةٍ وطنيّةٍ ديمقراطيّةٍ علمانيّة؟

دمشق

المراجع

(1) ثائر ديب، “عــن الطـائـفـيــّة ومثـقـفـيـهـا والـثــــورة فــي ســـوريــا،” http://arabi.assafir.com/article.asp?aid=231&refsite=arabi&reftype=artic…

(2) محمد كامل الخطيب، مئة عامٍ من العذاب (بيروت: منشورات0021، 2011)، ص71.

(3) آني ـ شابري شابري ولورانت شابري، سياسة وأقليّات في الشرق الأدنى، الأسباب المؤدّية للانفجار  ترجمة د. ذوقان قرقوط (القاهرة: مكتبة مدبولي، ط 1، 1991)، ص 249-250.

 (4): المرجع السابق، ص 245.

(5): فيردل شانتال، “العلويّون عام 1930 : ثورةٌ اجتماعيّةٌ وتأثيراتٌ يسوعيّة،” ترجمة صلاح نيوف http://syria-politic.com/ar/Default.aspx?subject=960#.UNGEiuRg_ms

(6)http://webcache.googleusercontent.com/search?q=cache:mady6CFwvGsJ:www.ikhwan.net/forum/showthread.php%3F156776-%25DF%25E1%25E3%25C9-%25C7%25E1%25C8%25E6%25D8%25ED-%25DD%25ED-%25CA%25C3%25C8%25ED%25E4-%25CD%25C7%25DD%25D9-%25C7%25E1%25C3%25D3%25CF+%D9%83%D9%84%D9%85%D8%A9+%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%88%D8%B7%D9%8A+%D9%81%D9%8A+%D8%AA%D8%A3%D8%A8%D9%8A%D9%86+%D8%AD%D8%A7%D9%81%D8%B8+%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D8%AF&cd=2&hl=ar&ct=clnk

(7) كمال ديب، تاريخ سوريا المعاصر (بيروت: دار النهار، ط 2، 2011)، ص51-52.

 (8) http://www.youtube.com/watch?v=SKYylLUmDvI

(9) ولعلَّ ما حصل مع صاحبِ هذه السطور من كتابة شعاراتٍ  على حائط المنزل (“يسقط الخائن العميل محمد ديبو”)، وإرسال رسائل إلى القنواتِ الغنائيّة (“أهالي قرية العنازة يتبرؤون من الشاعر محمد ديبو”)، وما تعرّض له أحدُ الأساتذة في مدينة بانياس من ضربٍ على يد طلّابه أمامَ أعين الأمن وبتحريضٍ منهم لأنه تظاهرَ مع “الآخرين/ السنّة،” وكذلك إطلاق شائعاتٍ عن الناشط  محمود عيسى في حمص وفي قريته الدردارة وجوارها تزعم أنّه “يتحدث من بيته كشاهد عيان ويلفّق الأحداث، والإشاعات التي ظهرتْ في دير ماما تزعم أنّ مروان ابن الشاعر ممدوح عدوان يهرّب سلاحًا إلى مدينة دوما، تدلُّ على سياسةٍ ممنهجةٍ لعزل النشطاء عن بيئاتهم بغيةَ إبقاء الطائفة بعيدةً عن أيِّ تأثير.

(10) ليست الحقيقة في ذاتها هي ما يهمّ، بقدر تمثّلها في أذهان الناس. فقد يقول قائلٌ: “ما ذنبُ الإخوان أو المعارضة إنْ كانت الطائفة العلويّةُ تفكّر هكذا؟” وهو سؤالٌ يساهم في ترسيخ الحالة لأننا إذا كنّا نريد حلولًا فعلينا فهمُ الأمور بشكلٍ صحيح؛ وأمّا إذا كنّا نريد تسجيل موقفٍ سياسيٍّ وفق صيغة السؤال السابق، فإنّ الأمور ستزداد تأزّمًا. وهذا ما تسير عليه المعارضة السوريّة!

(11) ثائر ديب، مصدر سابق.

(12) عمر قدور، “ما تُنذر به مجزرة عقرب،” الحياة 18/12/2012، الرابط: http://alhayat.com/OpinionsDetails/462972

(13) مثل انقلاب داخليّ، وهو أمرٌ مستبعدٌ لمن يعرف تركيبة الجيش والأمن السوريّين، إلّا في اللحظات الأخيرة، وبترتيبٍ روسيٍّ/ إيرانيّ، أو قيام جنرالات النظام الأقوياء في عهدِ حافظ الأسد بفعل شيءٍ ما. وقد ذكر مؤخّرًا موقعُ سيريا بوليتيك خبرًا قد يكون مؤشّرًا في هذا السياق(http://syria-politic.com/ar/Default.aspx?subject=1202#.UNGD6uRg_ms ). وهؤلاء يمكنهم فعل شيءٍ ما، وبخاصّة أنّ البيئات العلويّة كما ذكرنا تمَّ تجريفُها من كلِّ شيءٍ لصالح الجنرالات؛ أو حدوث ردِّ فعلٍ اجتماعيٍّ ما تجاه بعض المجازر التي تحدث بشكلٍ غريبٍ كمجزرة عقرب.

(14) عمر قدور، مصدر سابق.

هندسة الفتن: في المسألة الطائفيّة والإثنيّة وما بعد ربيع العرب

جورج كدر

نمطان من النظم السياسيّة لاقيا دعمًا منقطعَ النظير من قبل الولايات المتّحدة وإنكلترا، منذ الثلث الثاني للقرن العشرين: الإسلامُ المتطرّف، والديكتاتوريّة.

حالنا هذه يختصرها نعوم تشومسكي، أحدُ أبرز ناقدي السياسات الخارجيّة الأمريكيّة: “كانت أمريكا وإنكلترا الداعمَ التقليديَّ للإسلام المتطرّف في وجه المدّ القوميّ…” ويضيف: “إسرائيل وأمريكا تريدان من الشعوب العربيّةِ أن تبقى تحت سيطرتنا؛ لذلك نرضى بديكتاتورٍ حليفٍ لنا يَحْكمها حتى نتمكّنَ من فعلِ ما يحلو لنا…”(1)

في عالمنا العربيِّ نلاحظ كيف نما حكمُ الديكتاتوريّات العرب بالتزامن مع نموِّ الحركات الإسلاميّة المتطرفة. وعلى مدى نصف قرن، أصبح الإخوان المسلمون (نظام اليوم في دول “الربيع العربيّ”)، وأنظمةُ الحكم الديكتاتوريّة (نظام الأمس) وجهين لعملةٍ يعتاش كلٌّ منهما على الآخر. وكادت الساحة العربيّةُ في عمليّة الصراع على السلطة تخلو إلّا من ديكتاتورٍ ومتطرّفٍ،وما عداهما مصيرُه السحقُ (على مستوى الحياة السياسيّة) أو التهميشُ (كما حصل للأقليّات الضعيفةِ على المستوى الاجتماعيِّ والديمغرافيّ).

ثم إنّ الصدامَ الذي حصل بين الديكتاتور والإسلاميِّ المتطرّف كان المبرّرَ الأبرزَ الذي أطلق يدَ الأوّل في مقدّراتِ البلاد والعباد لعقودٍ طويلةٍ، وجعل الغربَ الذي احتضن الإسلاميَّ المتطرّف الهاربَ من الديكتاتور يغضُّ النظر عن أفعالِ الأخير بحجّة الحفاظ على “الاستقرار.”

يمثّل شبحُ هذا الواقع، الذي وضعنا فيه النظامُ العالميُّ الجديدُ، مأزقًا خانقًا لتطوّر الحياة السياسيّة لدى النظم العربيّة. فالمنطقة العربيّة مهدّدة في تنوّعها الثقافيّ والإثنيّ والطائفيّ، في عمليّةٍ أشبهَ بتفريغ المنطقة وجعلها أقرب إلى أن تكون خاليةً إلّا من ديكتاتورٍ أو متطرّفٍ. وقد عمد واضعو خرائط النظام العالميِّ الجديد إلى رسم خرائط المنطقة بما يخدم ذلك؛ وهو ما تحدّث عنه هنري كيسينجر، أحدُ أبرز مهندسي النظام العالميِّ الجديد، إذ قال:

“تمَّ التلاعبُ بحدود الكثير من الدول العربيّة في المعاهدات التي فرضتْها القوى الأوروبيّةُ المنتصرة في الحرب العالميّة الأولى. ولم تعطِ تلك القوى الاهتمامَ الكافي للتنوّع العرقيِّ والمذهبيّ عندما رسمتْ حدودَ دول المشرق العربيّ… فأسسُ وقيمُ معاهدة ويستفاليا عام 1648، التي أرست مفهومَ الدول الحديثة المستقلّة ذات السيادة، لم تطبّق قطّ بشكلٍ كاملٍ على دول العالم العربيّ. وقد تعرّضتْ هذه الحدود – الجديدة نسبيًّا- إلى تحدّياتٍ متعدّدةٍ، أغلبُها عسكريُّ الطابع.”(2)

هندسة الفتن

يقول هيكل: “كان زمنُ الحرب الباردة جامعةً كبرى تعلَّمتْ فيها القوى هندسةَ الفتن. وأكثر من ذلك، فإنّ البراعةَ في ‘الهندسة’ وصلتْ أحيانًا إلى إعادة هندسة الماضي وإعادة تركيب تاريخ المجتمعات بما يوافق مقاصد الأقوياء!” ويلفت من خلال حديثه ما يأتي:

“في ظروف اشتدادِ الحرب الباردة، تأكّد أنّ السياسة الأمريكيّة، ابتداءً من عصر الرئيس آيزنهاور، راحت تعتمد سياسةً خارجيّةً يؤدّي الدينُ فيها دورًا بارزًا… وكان جون فوستر دالاس، وزيرُ خارجيّة آيزنهاور، قد وضع سياستين متوازيتين… والخلاصة فيها أنَّ الولايات المتّحدة ترى ثلاثَ دولٍ محوريّةٍ يلزم أن يرتكز عليها الحلف لتكتملَ فاعليّته [في مواجهة الماركسيّة الملحدة…] وهي:باكستان، وهي بالتعداد أكبرُ بُعدٍ إسلاميٍّ (وقتها)؛

وتركيا، وهي بالسلاح أقوى بلدٍ إسلاميٍّ (وقتها أيضًا)؛

ومصر، وهي بالأزهر أهمُّ مرجعيّةٍ إسلاميّةٍ (وقتها كذلك).أمّا السياسة الثانية… فهي إنشاءُ ما سمّي باسم مجلس الكنائس العالميّ، وكان الغرضُ من إنشائه جمع كلِّ الكنائس من المذاهب المسيحيّة المختلفة في تنظيمٍ واحدٍ لمواجهة الدعاوى الماركسيّة.

وعليه فإنّه في الوقت الذي كانت فيه العسكريّة الأمريكيّة تحاول إنشاءَ حلفٍ إسلاميٍّ واسعٍ من كراتشي إلى القاهرة إلى أنقرة، فإنّ الديبلوماسيّة الأمريكيّة وضعتْ ثقلها وراء مجلس الكنائس العالميّ…”

الربيع العربيّ

لئن أطاحت ثوراتُ هذا “الربيع” بعض رموزَ الديكتاتوريّة، فإنّ الحكومة الأمريكيّة دعمت الإسلامَ المتطرّفَ، بمساعدة الأموال السعوديّة كما يقول تشومسكي، وذلك عن طريق تأسيس مدراسَ لتعليم القرآن. والواقع أنّ هذه المدارس لم تكن للتعليم، بل لتحفيظِ القرآن عن ظهر قلب، ولزرع عقيدة الجهاد في النفوس.

ثم إنّ المرحلةَ الأولى بعد هذا “الربيع” اختُصرتْ في حكوماتٍ إسلاميّة، ولاقت دعمًا منقطع النظير من قبل الولاياتِ المتّحدة والدول الغربيّة. ولكننا اليوم أمامَ انعطافٍ جديدٍ يتجلّى في الصدام بين الليبراليّين والإسلاميّين (مصر)، وبين الليبراليّين/ العلمانيّين والسلفيّين (تونس).

وبالعودة إلى حديثِ تشومسكي فإننا نجد أنّ خيطَ الانتقال بين حكم الإسلام المتطرّفِ والنظام الديكتاتوريّ يجري ضمن لعبة. وخطّة اللعبة تطبّق نمطيًّا ولا تحتاج إلى عبقريّةٍ لفهمها: “فإنْ واجه ديكتاتورُك المفضّل مشكلاتٍ، قفْ إلى جانبه حتى آخر مدى؛ وعندما يستحيلُ الاستمرارُ في دعمه، ابعثْه إلى مكانٍ ما وأصدرْ تصريحاتٍ رنّانةٍ عن حبّك للديمقراطيّة، ثم حاولِ الإبقاءَ على النظامِ القديم ربّما بأسماء جديدة… وهذا ما وجدناه في مصرَ وتونس والدول المثيلة.” ولذلك ليس غريبًا أن نجدَ خلال الاحتلال الأمريكيّ للعراق، وفي ثورات “الربيع العربيّ،” كيف رُفعتْ عبارة GAME OVER لتكونَ أشبه بشفيرةٍ لعمليّة التغيير.

تفريغ المنطقةِ من ثقافاتها

منذ أواخر القرن التاسع عشر شهدتْ بلادُ الشام هجرةً واسعةً للمسيحيّين، لكنّ الهجرةَ الكبرى كانت على مدى السنواتِ الثلاثين الماضية. فثمّة إحصائيّة تقدّر المسيحيّين في سوريا عام 1980 بـ 16.5% من عدد السكّان. وهناك إحصائيّةٌ نشرتْها وزارةُ الإعلام السوريّة في العام 1982 قدّرتْ نسبتَهم بـ 13.5 %. أمّا الباحث الهولنديّ نيقولاوس فاندم فيشير إلى أنّها 14.1%.(4) ويقول الباحثُ السوريّ منير درويش إنّ هجرة المسيحيّين السوريّين بلغتْ ذروتها في فترةِ الأحداث التي اندلعتْ بين السلطةِ والإخوان المسلمين منذ عام 1980 وبعدها: “ففي هذا العام كانت نسبتهم نحو 16.5 %، وانخفضتْ خلال ربع قرنٍ إلى 8 ـ 10 %، ولم تكن النسبةُ هي التي انخفضتْ فقط بل العدد نفسه أيضًا، إذ كان عدد المسيحيّين في تلك الفترة 2 مليون، بينما الآن لا يتعدّى هذا العدد1.5 مليون.”(5) وهناك إحصائيّاتٌ أخرى تشير إلى أنَّ نسبتهم اليوم تترواح بين 4.5 و 10%.

الأرقام تقول إنّ أكبر هجرة للأقليّات كانت في عهد الديكتاتوريّة التي ادّعت حماية الأقليّة، والخوف من أن يكون اجتثاث الديكتاتوريّة سببًا آخر في هجرتها (العراق وسوريا نموذجًا). فقد انخفض عدد المسيحيين منذ وصول حافظ الأسد إلى السلطةبشكل كارثيّ؛ فبعد أن كانت نسبتهم 16.5 بالمئة مطلع السبعينيّات، قد تصل اليوم إلى أقلّ 6 بالمئة اليوم.

يتحدّث عيسى المهنّا عن ظاهرةٍ خطيرةٍ تتفاقم في منطقتنا، هي هجرة الثقافات بكلِّ ما تحمله من تاريخٍ وتراثٍ ولغةٍ وعاداتٍ وتقاليدَ تُصوّر “بكلِّ تفاصيلها ودقائقها حقائقَ ذلك الزمان الغابر الضروريّة لاستمرارنا.” ويضيف:

“بهذه الهجرة تتحقّق الأرضيّة الممهّدة لأعدائنا ليحقّقوا أهدافَهم ويحوّلوا طبيعة الصراع في المنطقةِ بما يخدمهم ويخدم مصالحَهم من خلال مخطّطاتٍ رُسمتْ للمنطقة ويُراد تنفيذُها، ويأتي في أولويّتها تفريغ المنطق ثقافيًّا. ونذكر من الأمثلةِ على ذلك:

هجرة أكثر من 500 ألف سريانيّ وآشوريّ وكلدانيّ من الشمال السوريِّ والعراقيّ، استقّروا في السويد وهولندا وألمانيا ودولٍأخرى؛ هجرة أكثر من 126300 كلدانيٍّ عراقيّ إلى الولايات المتّحدة من تلِّ فائق شمال العراق قرب مدينة نينفة القديمة (مقرّ الآشوريّين والبابليّين)؛ تهجير أكثر من 113 ألف يهوديٍّ يمنيّ على يد بريطانيا والوكالة اليهوديّة بين عاميْ 1810 و1950 معظمهم رفض الذهاب إلى إسرائيل.”(6)

المؤرّخ الفرنسيُّ والخبير في الديانات آودون فاليه يحذّر في تقريرٍ نشرتْه وكالةُ الصحافة الفرنسيّةِ من “هوّةٍ كبيرةٍ بين ضفّتي المتوسط”: بين غربٍ يوسم بالمسيحيّة، وشرقٍ يوسم بالإسلام. ونقلت الوكالة عن الأب روفائيل زغيب قوله: “لطالما كان المسيحيّون أقليّةً في الشرق، لكنّهم أقليّةٌ فاعلةٌ. والخشية هي أنْ يصبحوا أقليّةً مشلولةً بالخوف”. ويبدو أنَّ التجربةَ المرّة التي ذاقها مسيحيّو العراق شكّلتْ عنوانًا جديدًا لمستقبلٍ قاتمٍ يحيط بالوجود المسيحيِّ في المنطقة. واليوم، ومع تصاعدِ سيطرة الإخوان المسلمين على مقاليد الحكم في دول “الربيع العربيّ،” والحال التي وصلتْ إليها الثورةُ السوريّةُ عبر حصر الصراع بين “واجبٍ جهاديٍّ” تحدّث عنه الأمينُ العامُّ لحزب الله وبين “جهاد مقدّس” أعلنته الجماعاتُ الإسلاميّةُ المتطرّفة في سوريا، نكون أمام صدامٍ خطيرٍ شيعيّ ـ سنيّ سيمتدُّ تأثيره على الأقليّات التي تميّز هذه المنطقة، وبالمقام الأولِ الوجود المسيحيّ. وقد يتطوّر الأمر إلى حربٍ أهليّةٍ، لا ترى القوى الخارجيّةُ أيّة مشكلةٍ في اندلاعها ما دام المنتصرُ سيخرج منها ضعيفًا ومفكّكًا وطيّعًا لتأدية الدور الذي يراد له أن يؤدّيه ضمن الإستراتيجيّة الجديدةِ للنظام العالميّ الجديد. (7)

مستقبلنا

قد تكون الرؤيةُ التي رسمناها تشاؤميّةً، لكنّلها ما يبرّرها. وتطوّرُ الأحداث في مصرَ وتونسَ وليبيا واليمن بعد ثورات “الربيع العربيّ” بات شبه واضحٍ: فالعملُ يجري بسرعةٍ كبيرةٍ على انقسام الشارع إلى إسلاميٍّ متطرّف ـ علمانيٍّ ليبراليّ. فبعد ابتلاع ثقافات المنطقة، وتهجيرها، أو تخويفها وقوقعتها، تنقسم اليوم إلى شارعين أو ساحتين، وتبدأ عمليّة تفكيك المجتمع بعد تفكيكِ النظم السياسيّة.

وفي ضوء المعطياتِ التي خلص إليها حديثنا، علينا أن نقرأ بتمهّلٍ ما ختم به هيكل فصل “المسلمون والأقباط” في كتابه كلام في السياسة، إذ يتحدث عن “قلقٍ حقيقيٍّ” يتعلّق بمسيحيّي الشرق (في فلسطين، ولبنان، وسوريا، والعراق، وحتى تركيا)، فيقول: “هناك ظاهرةُ هجرةٍ بينهم يصعب تحويلُ الأنظار عنها، أو إغفال أمرها، أو تجاهلُ أسبابها. وأشعر… أنّ المشهد العربيّ كلّه سوف يختلف إنسانيًّا وحضاريًّا… أيُّ خسارة لو أحسَّ مسيحيّو المشرق ـ بحقٍّ أو بغير حقٍّ ـ أنْ لا مستقبل لهم أو لأولادهم فيه، ثم بقي الإسلام وحيدًا في المشرق لا يؤنس وحدتَه غيرُ وجود اليهوديّة الصهيونيّة ـ بالتحديد ـ أمامه في إسرائيل؟!”

1. نعوم تشومسكي، ندوة “النظام العالمي الناشئ والربيع العربي” 23/10/2012؛ ومقابلة مع قناة الجزيرة 24/3/2012.

2. هنري كسينجر، “الربيع العربي يخلّ بالنظام العالميّ،” موقع الجزيرة نت 3/6/2012.

3.محمد حسنين هيكل، كلامٌ في السياسة، عامٌ من الأزمات 2000-2001، ط 4 (القاهرة: الشركة المصريّة للنشر، 2001).

4. نيقولاوس فاندام، الصراع على سوريا، النسخة الإلكترونيّة.

5. منير درويش،”الهجرة الواسعة للمسيحيين المشرقيين وتهميش حضارة المنطقة”(ألقيتْ في حلقةٍ نقاشيّة، 23/3/2005).

6.عيسى سامي المهنا،”آثار هجرة وتهجير العلماء والمهنيين العرب،”المركز العربيّ للدراسات الإستراتيجيّة، آب 2004، ص 15.

7. أ ف ب، بيروت، 14/9/2011.

*كاتب وإعلاميّ سوريّ.

البعث الإسلاميُّ “طائفيًّا”: الحالة الإخوانيّة السوريّة

حمّود حمّود

“ربما سيجد الإخوان أنه من الصعوبة إقناعَ الأقليّات، المسيحيّة والدرزيّة والإسماعيليّة والكرديّة والعلويّة، وطيفٍ من السنّة، بأنّ الإسلامويّة ستكون أفضلَ لحفظ حقوقهم من نظام البعث.” (ريتشارد ديكمجيان، سنة 1985)(1)

إذا كان محتّمًا لأيّة حركةٍ حداثيّةٍ أن يولدَ معها أعداؤها؛ وإذا اعتبرنا الأصوليّة البروتستانتيّة التي قامت في الولايات المتحدة أثناءَ الحرب العالميّة الأولى ردًّا على الحداثة والعلمانيّة، فكيف نصفُ البعثَ الإسلاميَّ(2) الذي بدأتْ معالمُه مع عبده والأفغاني، ولاحقًا مع رضا والبنّا وقطب؟ لا شكّ في أنّ معالم الثيمة الأساسيّة في ذلك البعث الإسلاميّ تشترك مع الأصوليّة البروتستانتيّة في العودة بالتاريخ إلى الوراء، إلى الأصول الذهبيّة، ردًّل على ما اعتُبر مناقضًا لأسس الدين. لكنْ إذا جاز لنا أن نضيف مَعْلمًا آخر ميّز البعثَ الأصوليّ الإسلاميّ من البروتستانتيّ، فإنّه يكمن في إشكال الهويّة، وعقدةَ الانتماءِ والاغتراب ـ الاغترابِ عن اللحظة الحداثيّة، وعن الأصول الدينيّة نفسِها.

فمع ارتفاعِ أصوات الحركات الإسلاميّة في الربع الثاني من القرن العشرين – في ظلِّ الفشل الذريع للنهضة العربيّة – أصبح الصوتُ الإسلاميُّ هو الهويّة، والبديلَ من الدستوريّة الليبراليّة الوليدة.(3) صاحبتْ هذا التأزّمَ الهويّاتيَّ ولادةُ حركةِ الإخوان المسلمين والخطاب الدينيّ في مصرَ (1928)، الذي سيرثه إخوانُ سورية عن طريق الشيخ مصطفى السباعي، مرشدِهم الأوّل في سورية، في ثلاثينيّات القرن الماضي وأربعينيّاته. لكنّ الولادةَ الإخوانيّة في سورية ستسير وفق الاستحقاقات “الجغرافيّة الطائفيّة” للداخل السوريِّ. فإذا كان صِدَامُ إخوان مصر مع السلطة السياسيّة للدولة، فإنّ صدامَ إخوان سورية سيكون مع سلطة الدولةِ عسكريًّا ومع الفسيفساء الطائفيّةِ الواسعة إيديولوجيًّا. أيْ إنّنا سنكون أمام بعث إسلاميٍّ، ستتحدّد خطوطُ عمله أ) وفقًا للإيديولوجية الطائفيّة الدينيّة نفسِها، التي لم يقدّم إخوانُ سورية حلًّا لها إلى الآن (فقه الأقليّات المسلمة وغير المسلمة مثلًا)(4)؛ ب) ووفقًا للإشكالات السياسيّة والثقافيّةِ التي تفرضها تلك الجغرافيا الطائفيّة.

هكذا، سيغدو تسييسُ أيِّ طائفةٍ في تلك الجغرافيا إعادةَ إنتاجٍ للطائفيّة وسط التعدّد الطائفيّ. هذا ما حدث مع “سنّة” سورية بالنسبة إلى الإخوان المسلمين (أنجحوا في تمثيل السنّة أمْ لا)، وهذا ما يحدث مع “شيعة” لبنان بالنسبة إلى حزب الله، وما يحدث في العراق…الخ. وبذلك فإنّ تسييس الطائفة سيشكّل هدفًا مهمًّا من أهداف الإسلام السياسيِّ، السنّيّ والشيعيّ، وستغدو “الطائفيّة” سمةَ ملازمة له. أيْ إنّ الحديث لن يكون عن “بعث إسلاميٍّ” وحسب، بل عن “بعث إسلاميٍّ طائفيٍّ.”

***

درج معظمُ الباحثين على تنميط الهويّات الطائفيّةِ بمقابلاتها، بحيث لا يمكن الحديثُ عن هويّةٍ طائفيّةٍ من دون “آخر.” ربما هذا هو سببُ إغفال إخوان سورية قراءة الطائفيّة منذ لحظةِ تأسيسهم، إذ إنّهم ـ في أحسن الأحوال ـ لم ينتبهوا إليها إلّا مع صعود البعث إلى السلطة وصدامه معهم، ولم يكلّفوا أنفسَهم درسَ الإيديولوجيا الدينيّة نفسها، التي يشكّل الميكانيزمُ الطائفيُّ أحدَ مقوّمات وجودها واستمرارها. هذا الميكانيزم الطائفيَّ لا يعادُ إنتاجه إلا وفق خرائط الطوائف الأخرى، وإخوانُ سورية منذ لحظةِ التأسيس يحملون على كاهلهم ثقلًا تاريخيًّا إيديولوجيًّا تجاه الأقليّات والآخرين المخالفين لهم. وهم لم ينظروا إلى سورية إلّا بكونها “دولةَ السنّة،” ويسكنها “منشقّون،” و”غرباء” هم “الأقليّات.” وهذه سياسةٌ يُراد الآن إحياؤها ثقافيًّا، عن طريق الإخوان أو من يشاركونهم ذهنيًّا وباراديغميًّا.

فمع وصولِ البعث إلى السلطة، أعيدت هيكلةُ الميكانيزم الطائفيِّ المتأصّل في الإيديولوجيا الإخوانيّة. وهكذا فإنّ البعث الإسلاميّ، الذي ابتدأ في مصر، أُعيد خلقُه في سورية طائفيًّا وفقًا لحدود الموزاييك الطائفيّ السوريّ، في محاولةٍ لإعادة مأسسة الطائفة السنّيّة. لهذا لا يمكن النظرُ إلى الإخوان المسلمين على أنهم طيفٌ وطنيٌّ بل حركةٌ سياسيّةٌ سنّيّة الطابع، الأمرُ الذي وضعهم على الدوام في مواجهةٍ ضمنيّةٍ مع الأقليّات الأخرى. وإنها لإعادةُ خلقٍ، ستقابلها، بعد سنواتٍ طويلةٍ، حركةُ بعث شيعيّةٌ على يد الخميني.(5) ومن هنا أهميّةُ الربط بين التوتّرات الطائفيّة وبين الصعود الإسلامويّ، بشقّيه السنّيِّ والشيعيّ. وللأسف لم تُدرسْ هذه النقطة المهمّة إلى الآن.

لقد غدا إخوانُ سورية على الشكل الآتي: حركة إسلاميّة تنتمي إلى الأغلبيّة السنيّة، تقاتل نظامًا بعثيًّا قوميًّا ينتمي إلى أقليّةٍ دينيّةٍ غير معترفٍ بإسلامها إخوانيًّا، حسب ما تفيد به أدبيّاتُهم الثمانينيّة. ولا حاجة إلى التدليل على أنّ إخوان سورية ونظامَ البعث في السبعينيّات والثمانينيّات كانوا يخوضون معركةً “تاريخيّةً” في رأيهم، معركةً ستحدّد مصير “بعث” كلٍّ من الفريقين: البعث الإسلاميّ والبعث السوريّ (كانت الغلبة، كما هو معلوم، للبعث السوريّ). الأمر نفسُه حدث في العراق: حركةٌ إسلاميّةٌ تنتمي إلى الأغلبيّة الشيعيّة تقاتل نظامًا بعثيًّا قوميًّا ينتمي إلى طيفٍ أقلّويٍّ سنّيٍّ (مقارنة بالشيعة).(6)

سورية والعراق حُكما بالبعث، لكنّ الإسلامويين وصفوا حُكْمهما بأنه طائفيٌّ- أقلّويٌّ. وربّما من المهمِّ تذكّرُ العبارات التي انتشرتْ في كتاباتهم في ظلّ أزمة الثمانينيّات وما بعدها من قبيل: “البعث العلويّ،” “البعث الطائفيِّ،” “بعث الأقليّات،” “بعث الأرياف”…، لكي ندركَ حجم المأزق الطائفيِّ حينها، والذي استعر اليوم من جديد. وفي هذا المناخ الطائفيِّ، دَعم “بعثُ” صدّام إخوانَ سورية(7) في ثورتهم الإسلاميّة المعلنة ضدَّ “بعث” سورية (1978-1982).(8)

يعلن سيد قطب أنّ إحياء العقيدة الإسلاميّة “لا تُعارض النزعة القوميّة أو الوطنيّة، بل تغذّيها أو تزكيها.”(9) والحقّ أنّ المرتكزات الإيديولوجيّة لإخوان سورية أقربُ إلى إيديولوجيا الاستبداد القوميّ العراقيّ منه إلى إيديولوجيا استبداد البعث القوميّ السوريّ. وهذا عائدٌ، من بين أسبابٍ كثيرة، إلى تماهي الإبستيمات الفكريّة العميقة للإيديولوجيا الإخوانيّة السوريّة مع ثقافة الأكثريّة العربيّةِ. فالقوميّةُ الإخوانيّة، في أحلى صورها، معطًى عربيٌّ- إسلاميٌّ سُنّيٌّ صرفٌ، كحال القوميّة الإيرانيّة الشيعيّة الصرفة التي أراد الخميني إحياءها عن طريق أدلوجة الثورة الإسلاميّة. ويكفي أن نقرأ عن “وحدة” الإخوان العربيّة (السنّيّة بطبيعة الحال) لكي ندركَ ذلك؛ وبيانُ الإخوان السوريّين عام 2004 يقول بهذا.

الجوهريّ في الإيديولوجيا الإخوانيّة السوريّة من الناحيةِ الطائفيّة أنّ بعثَ العراق القوميّ لا يمكن أن يساوي بعثَ سورية القوميّ: فالبعثُ العراقيّ، في هذه الإيديولوجيا، بعثٌ للأكثريّة العربيّة السنّيّة، بعثٌ للسيادة السنّيّة التي فُقدتْ؛ في حين أنّ البعث السوريّ بعثٌ للأرياف والأقليّات من “هوامشها” التاريخيّة والاجتماعيّة والدينيّة والسياسيّة. ولهذا، كثيرًا ما نقرأ عند بعض الإسلاميّين، في ظلِّ اشتداد التوغّل الطائفيّ الإيرانيّ في العراق، تحسّرًا على إسقاط صدّام “السنّيّ.” وعلى ذلك الأساس، فإنّ نزع الإخوان السوريّين للشرعيّة عن النظام السوريّ لم يكن لأنه نظامٌ توتاليتاريّ، بل لأنه نظامٌ طائفيٌّ، نظامُ أقليّةٍ تحكم أكثريّةً هي “المخوّلةُ شرعيًّا” لأن تحكم. وعلى هذا الأساس قاتلوا النظامَ في السابق، معتقدين أنّ إستراتيجيّة نزع الشرعيّةِ عنه ستسرّع عمليّة إطاحته.(10)

لهذا فإنّ الفراغ الذي سيخلّفه انهيارُ النظام الإيديولوجيّ للبعث القوميّ السوريّ سيشكّل الحاضنةَ الأمَّ للبعث الإسلاميِّ.(11) فكما كانت بلادُ المشرق يومًا ما ممثّلةً في سورية لكونها الحاضنةَ الأمَّ للبعث القوميّ، فهي اليوم كذلك بالنسبة إلى البعث الإسلاميِّ، لكنْ بأبشع أشكاله: الشكل الطائفيّ. وهذا مرهونٌ بقدرة كلّ طرفٍ على السيطرةِ على سورية في ظلّ الصراع الإقليميّ(12) والدوليّ. إنّ المعركة السوريّة، وفقًا لهذا التطييف الإخوانيّ، ليست معركةَ الحريّة، بل معركةُ “أمويّي دمشق” ضدَّ “عباسيّي بغداد”؛ معركةٌ وصفها أحد معلّقي هذا المناخ الطائفيّ بوصفها “معركة القادسيّة” ضدَّ شيعة إيران. والمستغرب أننا ما زلنا، إلى الآن، نقرأ مثقّفين يهلّلون للهلال السنّيّ في مقابل الهلال الشيعيّ، بدلًا من مواجهة التطييف السنّيّ- الشيعيّ بالحداثة والعلمانيّة.

إنّ أحدَ المثالب الخطيرة التي يحتكم إليها ذهنُ الإخوان هو اعتبارهم المعركة السوريّة معركةً تاريخيّةً استُؤنفتْ من جديدٍ بمكانيزماتٍ طائفيّةٍ قديمةٍ ضدَّ البعث السوريّ، وتحديدًا ضدّ “بعث الأقليّات”؛ معركةً لا ترتبط استحقاقاتُها بسوريا، بل باستحقاقات “بعث إخوانيّ” بدأ يسطعُ نجمُه في المنطقة. وهذا من شأنه وضعُ سُنّة سورية في مجابهة الأقليّات الأخرى، وخصوصًا إذا وضعنا في الاعتبار أنّ الإخوان يسعوْن إلى حصر تمثيل السنّةِ بهم وحدهم، وذلك بواسطة المساعداتِ اللوجستيّة والماديّةِ من الدول ذات التوجّه “السنّيّ” ـ وهو ما سوف يؤدّي إلى خلق عنصريّاتٍ طائفيّةٍ قوميّةٍ في مقابل الهويّات الوطنيّة الكرتونيّة التي صنعها نظامُ البعث ونحصد ثمنَ كرتونيّتها اليوم في سورية.

هنا تجبُ الإشارةُ إلى أنّ الخرابَ الذي تصنعه أنظمةُ التوتاليتاريا (كالنظام السوريّ) هو الميدان الحقيقيُّ لعمل الإسلاميّين الطائفيّين على الأرض. أنستغرب مثلًا ألّا نقرأ إلى الآن ما هي “الوطنيّة السوريّة” عند الإخوان بنحوٍ جدّيٍّ، لا توفيقيّ، ولا اعتذاريّ؟ إننا في أحسن الحالات لا نقرأ عنها إلّا بحدودٍ مائعة لا تُضبط بحدود سورية الدولة بكامل طوائفها، لأنّ الحدود “الوطنيّةَ” الإخوانيّة مضبوطةٌ سلفًا ووفقًا للكتب التراثيّة والسلطانيّة. وحتى هذه اللحظة لم ينجح الإخوانُ في إقناع الشعب السوريّ، ولاسيّما الأقليّات الدينيّة والإثنيّة، بأنهم لم يعودوا “إخوانًا” كما هم مرسومون في الأذهان على الأقلّ.

من المهمِّ أن نعلم أنّه في مجتمعٍ تسكنه أغلبيّةٌ طائفيّةٌ، كالطائفة السنّيّة السوريّة، غالبًا ما يكون الشعورُ الطائفيُّ أقوى عند الأقليّات منه عند الأكثريّة (التي لا تشعر بأنها مهدّدةٌ طائفيًّا). فما بالنا إذا حاولت جماعةٌ من الأكثريّة “مأسسة الطائفيّة” سياسيًّا، والأخطر ثقافيًّا؟ عند هذه النقطة، ستجد الأقليّاتُ نفسها أكثر انقباضًا على ذاتها، وأشدّ تمسّكًا بهويّتها الطائفيّة. والإخوان حيال هذه المسألة لم يفعلوا سوى تقديم وعود ترضويّة، من دون التطرّق إلى حلّ المسائل العقديّة الدينيّة والوطنيّة ومسألة تكفير الآخر. ولا نعني بالتكفير إطلاق اتهامات الهرطقةِ وما إليه، بل إلغاء النديّةِ الدينيّة والوطنيّة من خلال السعي إلى هيمنة المجموع السنّيِّ سياسيًّا.

الإشكال ناجم عن سعي الإخوان المسلمين إلى تحويل الإسلام السنّيّ إلى هويّةٍ للدولة، سياسيًّا وثقافيًّا، في مجابهة الأقليّات الدينيّة الأخرى، بل وربطِ هذه الهويّة السُنّية بما يتجاوز الحدود السوريّة، باتجاه تركيا. إخوانُ سورية لم يعطوا توضيحاتٍ نقديّةً بهذا الشأن على الإطلاق إلى الآن، بل العكس تمامًا هو الجاري على الأرض.

ما يوضّحه سلوكُ الإخوان منذ بداية الانتفاضة السوريّةِ أنهم، بتمييعهم للحدود الوطنيّة السوريّة، يرتهنون إلى “بعثٍ قوميّ” في طور التشكّل على المستوى الإقليميّ، لكنه بعثٌ مملوءٌ بألوان الطاقة التاريخيّة الطائفيّة، بعثٌ تريد أطرافٌ إقليميّةٌ كثيرةٌ تثبيته كـ “انبعاثٍ سُنّيٍّ” في مجابهة البعث الشيعيّ الطائفيّ الإيرانيّ، بدل بناء هويّاتٍ علمانيّةٍ حداثيّة، وبخاصةٍ في المنطقة المشرقيّة.(13) وإنّ من شأن ذلك أن يزيد في تعقيد المسألة الطائفيّة السوريّة. ذلك لأنّ كلّ طائفةٍ في سورية تمتلك تاريخًا من القوة الرمزيّة الهائلة والطاقة الدينيّة لا يؤهّلها لإشعالِ طائفتها وتحويلها إلى مؤسّسةٍ طائفيّةٍ فحسب، بل إلى ثكنة حربٍ في مجابهة طائفةٍ أخرى كذلك!

دمشق

*كاتب سوريّ.

(1) R. Hrair Dekmejian, Islam in Revolution: Fundamentalism in the Arab World (Syracuse, 2nd ed, 1995), p 118.

(2) لكي لا يُشوّش على القارئ بما يخصّ كلمة “بعث،” فإننا نرفق معها لفظة “إسلاميّ” أو “إخواني” أو “أصولي”…الخ، وذلك تمييزًا لها من البعث العراقيّ أو السوريّ

(3) R. Hrair Dekmejian, “The Anatomy of Islamic Revival: Legitimacy Crisis, Ethnic Conflict and the Search for Islamic Alternatives,” Middle East Journal, vol. 34, no. 1 (Winter, 1980), pp. 1-12.

(4) لمزيد من التفصيل:

Uriah Furman, “Minorities in Contemporary Islamist Discourse,” Middle Eastern Studies, Oct., 2000, p 1-20.

(5) لدينا إحصاء يقول إنه، بين 1970 و1990، أنشئتْ 175 حركة إسلاميّة، مختلفة المشارب القوميّة والمذهبيّة…الخ. انظر:

Badlihisham Mohd Nasir, “The Influence of Middle East Islamic Movement on the Extremist Thought in Malaysia,” Tawarikh: International Journal for Historical Studies, 3 (1) 2011.

(6) R. Hrair Dekmejian, op.cit, p. 106.

(7) Anoushiravan Ehteshami and Raymond A.Hinnebusch, Syria and Iran Middle powers in a Penetrated Regional System (Routledge, 1997), p. 92.

(8) انظر بخصوص الثورة الإسلاميّة السوريّة:

Samer A. Badaro, The Islamic Revolution of Syria (1979- 1982) (Ohio State University, 1987).

(9) شريف يونس، “سيّد قطب والأصولّية الإسلامّية،” (منقول عن قطب، اللواء الجديد، 9 أكتوبر 1951، سيّد قطب، “درس من إيران” عدد 26) ص 361-362.

(10) Liad Porat, The Syrian Muslim Brotherhood and the Asad Regime (Crown Center for Middle East Studies, December 2010 No. 47).

(11) Raymond Hinnebusch, “Syria From ‘Authoritarian Upgrading’,” International Affairs, 88, no. 1 (2012), p. 95-113.

(12) من التقارير المبكرة التي تحدثتْ بوصف سورية، بمناسبة ثورتها، “أرضًا للصراع،” هذا التقرير:

“Syria as a Battleground for Saudi Arabia and Iran,” Stratford Global Intelligence Reports, August 5, 2011

وانظر بنحو متصل:

Josef Olmert, “State and Sectarianism in Syria: The Current Crisis and its Background,” SPME, April 15, 2012, No. 8674.

(13) حول الإحياء الشيعيّ، وكيف أنّ تجديد الصراع السنيّ ــ الشيعيّ داخل الإسلام هو الذي سيتحكّم بصورة المستقبل، انظر:

Vali Nasr, The Shia Revival: How Conflicts within Islam will Shape the Future (W. W. Norton & Company, Reprint ed, April 17, 2007).

    عدد خريف ٢٠١٢

الطائفيّة الليّنة كوقودِ للطائفيّة العنفيّة

دمشق ـ طلال المَيْهَني

قام الاستبداد الذي حَكَمَ سوريا باستباحةٍ ومُصادَرةٍ كامِلَةٍ للحقل العام في هذا البلد، وعلى كافة المستويات. وقد أثّر ذلك سَلْباً على الحراك الفكري والسياسي الحر، وعلى النضج المفاهيمي لقضايا ذات أهميةٍ عَمَلِيّةٍ وبالغةٍ كالوحدة الوطنية، والانتماء، والهوية، وغيرها. وقد عبَّر هذا الواقع الأليم عن ذاته في أزمةٍ ثقافيةٍ واجتماعيةٍ وسياسيةٍ، كان حضور “الطائفية” واحداً من أبرز تظاهراتها المَرَضِيّة.

وأطْرَحُ في سياق الحديث عن الطائفية تمييزاً أوليّاً بين “الطائفية الليّنة” و”الطائفية العنفية”. فالأولى أكثر شيوعاً مما نَظُن، خصوصاً في المجتمعات غير المتقدمة، ذات البنية السُّكّانية المتنوعة والخصبة، كما هي الحال في سوريا. وهي، أي “الطائفية الليّنة”، انعكاسٌ مباشرٌ لحالة الانفصال والانعزال الاجتماعي الساذج للمُكوّنات السكانية عن بعضها البعض، وغياب التعارف الحقيقي فيما بينها، وتَغْييب النيّة لهذا التعارف، مما يَضْمَن تَحَقُّق قاعدة: “الإنسان عدوّ ما يجهل”، حتى لو لم تُتَرْجَم هذه العداوة في عنفٍ جسديٍ مباشر. ويزداد تعقيد الصورة بوجود نظامٍ مستبدٍ وتناقضاتٍ شاقوليةٍ وأفقيةٍ تَتَمَحْوَرُ حول الطبقي والمناطقي والثقافي، كان قد أسهب في شرحها الصديق “جان عبد الله” في مقالٍ نشره مؤخراً (ملحق نوافذ، جريدة المستقبل، 14 تشرين الأول/أكتوبر 2012). حيث تتقاطع كل هذه التناقضات مع “الانتماء إلى الطائفة” الخاضع نظرياً للقناعة والإيمان، والقابل بالتالي للانسحاب/التبديل على المستوى الفردي (على عكس الانتماء العرقي والإثني الموروث جسدياً) إلا أنه يتم إلغاء أو التغاضي تماماً عن إمكانية الانسحاب/التبديل عبر استلهام “عصبيةٍ جمْعيةٍ” تضمن تحول “الانتماء إلى الطائفة” إلى حالةٍ ثابتة عبر الزمن، لتتشابك مع ثقافةٍ متمايزةٍ تسفر عن نفسها في “طائفية لينة”. ويؤسس ذلك لسيْروراتِ فرْزٍ اجتماعيٍ انتقائيٍ خَفِيٍ وغير مُعْلَن، حيث تتظاهر هذه السيرورات على شكل عَقْدٍ تَوَاطُئيٍ يعزّز من الإقصاء، ويتعامل معه كعلامةٍ فارقةٍ وطقسٍ مقبول. وهكذا تتجاوز العلاقة المتبادلة بين الطوائف حدود الفوارق الشعائرية والعقائدية، وتصبح النظرة المتبادلة في ما بينها مَوْسومةً بالازدراء أو الفوقيّة أو التمايز أو الكره، واللاثِقَة. كما يصبح الانتقال أو الانصهار بين الطوائف المتقاطعة طبقياً وثقافياً قضيةً تخضع لمبادئ الرّيْبة أو الترقّي أو الرفض أو المقاومة أو السكوت. وككل المجتمعات المتخلّفة يكثر الحديث عن أغلبيات وأقلّيات، مما يعيق الانسجام الوطني، ويُعَزِّزُ من الاصطِفافات الرّجعية، ويفتح الباب لتَدَخُّل القوى الخارجية بحجّة حماية الأقليّات المضطهدة، مما يزيد من تعقيد المشهد.

هذه “العصبية الجمعية”، التي تضمن جمود “الانتماء إلى الطائفة” عبر الزمن، هي عصبية غير واعيةٍ وبدائية ومُكْتَفِيةٍ بنفسها، لا تبذل أي جهدٍ في الدفاع عن ذاتها، أو تبريرها. كما أنها لا تحاول أن “تُعَقْلِن” خطابها وممارساتها أو تُشَرْعِنَها، فهذا غير مطروحٍ أساساً لأنها تقوم، بالتعريف، على منهجٍ غرائزيٌ لاعقلاني (بالمعنى السلبي العَدَمي لمفهوم اللاعقلانية). ويمهد تأجيج هذه “العصبية الجمعية” لتشكل “الطائفية العنفية” التي بات المشهد السوري مَسْرَحاً حافلاً بأمثلةٍ مؤلمةٍ وواضحةٍ عنها، حيث تحولتْ سوريا إلى نموذجٍ صارخٍ لدور النُظُم المستبدة، والأطراف العنفية، في أخذ الدولة وشعبها رهينةً، وفي خلق بيئةٍ عنفيةٍ توقِظُ الغرائز ومشاعر الانتقام، بين مختلف المكونات السكانية، عن طريق الاعتداء على مقدساتهم، أو السخرية منها، أو تبنّي خطاب وممارسات الوعيد والتنكيل. وقد انعكس ذلك سلباً على السوريين كافةً، لكننا نراه بشكلٍ خاصٍ على مستوى التجمّعات السكانية المُهَمّشة والفقيرة والمُوغِلة في بساطتها وتَقَوْقُعِها. ويتأزَّمُ ما سبق بوجود تدخلاتٍ سافِرَةٍ سَعَتْ كي يأخُذَ المشهد، وبطريقةٍ انتقائية، طابعاً طائفياً معيّناً ما يسهّل تصفية حساباتٍ إيديولوجيةٍ إقليميةٍ ودوليةٍ، ويُتيحُ سوقاً رائِجَةً للسلاح، وفرصةً للمتسلّقين والمُرْتزقة من كل الأطراف العنفية، وتحت مسمّياتٍ مختلفة.

ولا ينبغي، في سياق حديثنا عن الطائفية، أن نغفل عن الموقع الجيوسياسي لسوريا، وعن طبيعة المكونات السكانية السورية وانتشارها واستمراريتها عبر الحدود السياسية للدول الإقليمية المجاورة. إذ تتوضع سوريا في نقطة التقاطع الشرق أوسطية بين محورين: محورٌ شاقوليٌ يمتد من تركيا إلى الخليج، ومحورٌ أفقيٌ يمتد من إيران إلى لبنان، حيث يحمل كلُّ محورٍ بنيةً طائفيةً وسكانيةً معينةً تتصل وتتماهى مع المكونات السكانية السورية. وهكذا تتحول سوريا، مع تَغَوُّل عقليةٍ لاحداثيةٍ وانتشار خطابٍ تأجيجيٍ، إلى ساحةٍ خلفيةٍ لتفريغ التناقضات والتوترات المتراكمة في هذين المحورين.

وكالطائفية اللينة” لا تحتاج “الطائفية العنفية” إلى سَرْدِيّاتٍ عقلانية، ولكن من التبسيط أن نَرُدَّها فقط إلى الظروف المباشرة والآنية. “فالطائفية العنفية” تزاوجٌ مُشَوَّهٌ ومُعَقَّدٌ بين موروثاتٍ ثقافيةٍ واجتماعيةٍ معينة، وغرائز دفينةٍ متضخمةٍ بطريقةٍ لاشعورية، أو مُضَخّمةٍ بطريقةٍ مُمَنْهَجةٍ (واعية أو لاواعية) نتيجةً للألم المزمن. أما الألم الحاد، والقمع المُفْرِط، والدور السائد لوسائل صنع الرأي العام، فلا تُشَكِّلُ سوى إعلاناً عن لحظة الانفجار والانزلاق التي لم يتم العمل على تفاديها. ولا يجب التغاضي عن حقيقة أن “الطائفية العنفية” تستند قبل كلِّ شيءٍ إلى “طائفيةٍ لينةٍ” وإلى “عصبيتها الجمْعية” التي كانت تعيشها المكونات السكانية تحت الرماد، إلا أنها كانتْ، بسبب الظروف المحيطة، في منأىً من أن تأخذ منحىً عنفياً.

كما يسهم في تأجيج “الطائفية العنفية”، بعد انفلاتها من عِقالها، وُجودُ حاضِنٍ مُتَعَالٍ لها يتمثّلُ في تمجيد عبادة الوثن/الفرد، أو في قراءةٍ مُعَيّنةٍ وانتقائيةٍ للموروث الديني الغيبي، حيث يتم إسقاط كل ذلك على الواقع المعاش عبر “عقلية المقدس/المدنس” التي تسود في منطقتنا، وتَكْتَسِح نظرتنا إلى الذات والعالم والزمن، والتي سبق وناقشتُها باختصارٍ في مقالٍ سابق (عقلية المقدس والمدنس، صحيفة القدس العربي، 29 تشرين الأول/أكتوبر 2012). وهكذا تُصادَرُ الحقيقة الدنيوية و/أو الأخروية، ويُعْلَنُ عن امتلاكها المُطْلَق عُنْفِياً من قبل طائفةٍ أو فئةٍ معينة. ثم يتماهى، في مرحلةٍ لاحقة، “الانتماء إلى الطائفة” مع التَّمَوْضُع في الحيّز السياسي، بصورةٍ مُشَوَّهةٍ ومُخالِفَةٍ لما يجب أن يكون عليه الواقع والصراع السياسي.

لقد كان للاستبداد الحالي، المُتَمَثِّل في النظام السوري، دورٌ أساسيٌ في استمرار “الطائفية اللينة” (وتأجيج العنفية)، سواء بسبب تغاضيه عنها، أو تشجيعه اللا مباشر لها، أو عدم إدراكه لمخاطرها. وعملياُ فكلُّ ما فَعَلَه النظام السوري هو السَّيْر على نهج من سَبَقَهُ من المستبدين، لكنه زاد على ذلك ربما بأخذ طائفةٍ معيّنة رهينةً لبقائه وتسلّطه، من دون أن يكون لتلك المُقَارَبة أي غاياتٍ تبشيريةٍ أو دَعَوِيّة. وهذا ما يجعل من طائفية النظام طائفيةً دُنْيَوِيّةً، وغير تقليدية، وغير مَعْنِية بالخلاص الغيبي لطائفةٍ ما، أو بنشر أو حماية عقيدةٍ خاصة بها. فطائفيةُ النظام “مَصْلَحِيّةٌ وانتهازيةٌ” تُسَخِّرُ الطائفة كقُرْبانٍ على مذبح “كرسي الحكم”. ونضيف إلى ذلك أن شبكة المصالح المرتبطة بالنظام لم تَكُنْ حِكْراً على فئةٍ معينة، وعليه فمن الخطأ القول بأن قاعدة النظام مقتصرةٌ على طائفةٍ ما، بل هي قاعدةٌ مؤلفةٌ من “تركيبةٍ سكانيةٍ” معقدةٍ ومتعددة وعابرةٍ للطوائف والإثنيات. وفي سياق مرحلة التحوّل الحالي، فقد تم التركيز المُفْرِط على جزءٍ مُعَيّنٍ من “التركيبة السكانية” المرتبطة بالنظام، مما أدى إلى تضخيم الإرْث المؤلم والمشحون، وتزويد الذاكرة الجمْعيّة، المتشظيّة أصلاً، بجرعاتٍ من البغض والحقد بما يكفل استمرار التشوّه والتدهور واللاثقة.

لا شك أن الحَدَّ من الطائفية والاستعار الطائفي في سوريا ليس بالمُهِمّة السهلة، كما أن إنجاز ذلك سيأخذ الكثير من الوقت، خصوصاً وأن للطائفية أسباباً تتجاوز حدود الصراع السياسي الحالي. إذ لا يجوز إنكار الغبن التاريخي، القديم والحديث، الذي أصاب شرائح عديدة من “المجتمع السوري”. فهذا الغبن ما يزال حَيّاً في الذاكرة الجمْعية لتلك الشرائح على شكل إرْثٍ منقولٍ شفوياً، ومُمَجَّدٍ عِرْفياً، ومَسْكوتٍ عنه تقريرياً. كما أن سَرْدِيّاتِه المشحونة ما فَتِئَتْ تُغَذّي، وعلى مدى قرونٍ وعقودٍ، حالةً من التمايز الوجودي المُبَطّن عن “الآخر”. ومع أن الارتهان لهذا الإرْث المؤلم، وإعادة تشكيله على نطاق الفولكلور الشعبوي المَحْكي، لن يفيد، إلا أن غضَّ البصر عنه، دون معالجة جذوره ثقافياً واجتماعياً، لن يفيد أيضاً، لا بل سيزيد من اسْتِعَارِه واسْتِفْحَاله. ولهذا فقد انتهى بنا المَطافُ الوطني إلى خليطٍ من التراكُمات التاريخية التي تتجاوزُ النظام بنُشُوئِها وتَشَكُّلِها وتَجَذُّرِها وحُضورِها واسْتِمْرارِها.

لكن هذا الموروث الاجتماعي/الثقافي السردي والتضحوي ليس سوى استمراريةٍ لجذورٍ أكثر عمقاً تستند إلى موروثٍ تراكميٍ من قراءاتٍ انتقائيةٍ للفكر الديني تُرَسِّخُ “اللاثقة” كقيمةٍ أزلية بين المكونات السكانية.

لا يمكن تجاوز الطائفية عبر حلولٍ تلفيقيةٍ جزئيةٍ تنطلق من الأمر الواقع كمُسَلّمَةٍ عَصِيّةٍ على الاستنطاق. إذ تفرض مثل هذه الحلول الجزئية محاصصاتٍ طائفيةً ديمغرافيةً في السياق السياسي تحت عناوينَ ديموقراطيةٍ. إلا أنها عملياً تُجَذِّرُ الأزمة، وتضمن استمرارها وفق صِيَغٍ “قانونيةٍ” تصوّر “الطائفية” كفضيلةٍ يتم من خلالها تقييم المواطن وتحديد أهليته للمناصب والأدوار. ولا شك أن أي معالجةٍ تتطلب مقاربةً جذريةً تتضافر فيها نُخَبٌ سياسيةٌ/ثقافيةٌ تنويريةٌ مع نخبٍ دينيةٍ من داخل البنية في عمليةٍ شاملةٍ لإصلاح الفكر الديني بعد قرونٍ من الجمود الفكري والإبداعي، وتفكيكه إلى عناصره الأساسية ووضعه في سياقه التاريخي؛ من دون أن ننسى أن تشكل الطوائف، وعلى خلاف الميول الطائفية المُجَمّدة، هو نتيجةٌ لصراعٍ تاريخيٍ خَلّاقٍ في حقل الأفكار، في ظل تفكيرٍ تنافسيٍ وإبداعيٍ في المُقَدّس وفي علاقة الإنسان مع المُقَدّس.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى