صفحات الثقافة

مقالات تناولت قطع رأس ابي العلاء -2-

الجزء الأول من هذه المقالات على الرابط التالي

مقالات تناولت قطع رأس ابي العلاء -1-

ثمة رأس كان هنا

حسان عباس

قد ينطق بهذه الجملة باحث في علم الآثار يعاين تمثالاً قديماً ضاع رأسه في حِدثان الدهر، فلا تحيل سوى إلى حقيقة أن التمثال لم يجد المنقبون رأسه. غير أن سياقا آخر، كالسياق السوري الراهن يحمّل الجملة ذاتها دلالات متعددة.

في صورة أولى نرى ثلاثة رجال مصابين بالدهشة، يرفع أحدهم بين يديه إلى مستوى نظره جسداً لطفلة ترتدي ثوباً أزرق. كل ما في الصورة عادي لولا أن جسد الطفلة بلا رأس. كان له رأس، لكن قذيفة أطلقها عنصر من القوى المدافعة عن النظام عقابا لمواطني بلدة “كفر عويد” محتْ الرأس وتركت أشلاء من لحم ودم تشير إلى أنه كان هنا.

الصورة ليست عادية. وليست فريدة أو مثيرة. إنها لا تحتمل أي توصيف لأنها نفي الصورة، اللاصورة.

منطقياً، وُجدت الصور كدليل على وجود موضوعها. وإن أظهَرَت فإنّما تُظهر شيئاً موجوداً، موضوعاً، يبئّر نظرات المشاهدين، يجمعها في نقطة محرق ويردّها إدراكاً ينطبع في العقل، ويطلق آليات معينة من آليات التفكير والتذكر والتصنيف…

لكن صورتنا هذه نفي للصورة لأنّها تجهد لإظهار الغائب، اللاموجود، الذي كان موجوداً، فتبئر نظرات المشاهدين في الخواء.

أمام صورة طفلة “كفر عويد” تحيل جملة “ثمة رأس كان هنا” إلى شوهة استثنائية لم يسبق لها أن سجلّت في مصنف التوحّش البشري.

في صورة ثانية وثالثة وعاشرة…. وتاسعة وتسعين، نرى جثثاً ملقاة على الأرض. نقرأ في النص المكتوب المرافق، أو نسمع في الشريط المصاحب، أن بعض هذه الجثث كانت قد حُزّت عنها رؤوسها. تختلف نبرات النصوص المقروءة أو المسموعة، بعضها يستثمر الموضوع لإظهار وحشية المتهم بإتيان هذه الفعلة النكراء، والذي يكون مرّة “النظام الوحشي”، ومرّة أخرى “العصابات الإرهابية”. وبعض النبرات يستثمر الصورة لتجييش الأنصار، ورفع معنوياتهم فتصبح الجثث مرةً “لفطايس جرى دعسها”، وتصبح مرة أخرى “لعملاء جرت تصفيتهم”. وقد حدث أكثر من مرة أن جمعت الصورة ذاتها بين كل هذه المواقف مجتمعة.

في صورة أخرى، من سياق آخر، نرى تمثالاً نصفيا للشاعر الفيلسوف “أبي العلاء المعري”، في بلدته المعرّة، وقد أطيح برأسه. ونقرأ على جانب الصورة أن جماعة قامت بقطع رأس التمثال لأن صاحبه كان زنديقاً، بينما نقرأ في مكان آخر وللصورة ذاتها أن جماعة قطعت رأس التمثال لأنه صنم، ويجب أن ينتهي، في سورية، زمن الأصنام.

شتان ما بين وحشية حزّ رأس آدمي، خاصةً إن كان طفلاً، وقطع رأس تمثال. بل لا تجوز المقارنة بالمطلق بين الفعلين، (حتى لو كان قطع رأس التمثال فعلا مجازياً يرمز إلى حزّ رأس الزنادقة، والملحدين، والماأدريين، والعلمانيين…). لكن ثمّة قاسم مشترك بينهما، لا يمكننا إنكار وجوده، إنه الهمجية بكل ما تعنيه من وحشية ودموية وقساوة وجهل.

مثلت عملية قطع الرأس في بعض الحضارات سمة من سمات التطور الأخلاقي لأنها اعتُبرت عملية إعدام رحيم مقارنة مع الموت البطيء الذي كان يسببه الإعدام شنقا. بل كانت بعض السلطات تخصصه لإعدام النبلاء في حين تخصص الشنق لإعدام الرعاع. وقد بقيت “المقصلة” وسيلة إعدام المدنيين الوحيدة في فرنسا حتى إلغاء حكم الإعدام نهائيا عام 1981.

أما في هذه المنطقة من العالم فيعجّ التاريخ بحكايات قطع الرأس بدءا من يوحنا المعمدان والقديس بولس وشهداء كربلاء وانتقامات العباسيين حتى أحكام الإعدام في السعودية.

ولم تعرف سورية، على ما يبدو، هذه العملية البربرية، أقلّه خلال القرن الماضي، لكن ثمة رؤوس كثيرة تسقط هذه الأيام وثمة من يصعد المنابر حاملا سيفا ليسترجع قول الحجاج: إني أرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها، متوعدا بحفلات قطع رؤوس جماعية…

أتراها فقدت سورية عقلها ؟؟

المدن

رأس المعــري ورأس عمــر عزيــز

عباس بيضون

ربما في اليوم الذي أطيح فيه رأس المعري ورأس طه حسين أطيح أيضاً رأس عمر عزيز. ليس عمر عزيز في مصاف المعري ولا المتنبي. ليست له شهرة المتنبي المدوية ولا اسم المعري. لم نكن لننصب له تمثالاً أو نرفع له شعاراً. لكن المتنبي مجرد اسم والمعري ليس أكثر من شهرة. نتخيلهما ونصنعهما على مقاس خيالنا، أما عمر عزيز فعرفناه وألفناه وسمعناه، بل قضي لنا أن نسمعه ونحادثه قرابة أشهر قبل اعتقاله. لم نعرف فيم اعتقل عمر عزيز. إذا كان النظام في حال حرب فعمر عزيز ليس محارباً وليس وقد أربى على الستين مقاتلاً ولم يعد إلى دمشق ليحارب وينتظر طوال هذا الوقت ليبدأ في الستين حربه، ولست أظنه من الذين آمنوا بالقتال أو استعدوا له، وعلى الأرجح كان في الشام من نخبة تسعى إلى ان تحول الحرب المندلعة إلى نظام وان تدخل عليها قدراً من الترتيب وقدراً من الاتساق. كان هم عمر عزيز هو هذه الحرب العاصفة وكأن هدفه أن يتدخل هو ويتدخل أفراد مثله إلى هذا العصف الهائل فيتركوا فيه لمسات تعقل ويمنعوه من أن يتدهور إلى جحيم لا يبقي ولا يذر، ويحولوا دون أن يتحول إلى جنون وإلى هذيان وإلى شطح بلا حدود. لم يعد عمر عزيز إلى سوريا ليحارب، لم يكن بعد في عمر المحاربين وليست له سابقة في القتال، بل إن الرجل نأى بنفسه هو المثقف الكبير، نأى بنفسه هو الذي لم ينقصه وعي متقدم ولا معرفة كافية ولا متابعة متأنية ولا التزام حقيقي. نأى بنفسه عن ان يمارس السياسة أو ينتمي إلى حزب من الأحزاب، ربما لأن السياسة كما هي كانت أقل رحجاناً من وعيه، وربما لأن الأحزاب المعروضة كانت أقل أحكاماً وعضوية من إدراكه. نأى بنفسه لأن نفسه لم ترضها الجماعات ولم تكفها الأحزاب ولا الجماعات ولأن التزامه كان لشعب ولتاريخ، وحين آذن هذا الشعب بالخروج وحين آذن ذلك التاريخ بالانبثاق. تسلل الرجل الذي لم ينخرط يوماً في حزب ولا في حركة أو نضال وعاد إلى بلده وإلى وطنه وإلى شعبه. مثل عمر عزيز لا يوالون جماعة أو فئة، مثله لا ينتمون إلى حزب أو مجموعة، مثله لا يخوضون السياسة من طريق فرعي ولا يلتحقون بها من مفرق ضيق ولا يلتزمون كرمى لطائفة، أو انحيازاً لعائلة، أو طلبا لمصلحة خاصة. هذه أمور تنصل منها عمر عزيز حين عاد ما ان احتدم وطنه. أمور لم تكن في بال رجل لم يسع يوماً ليكون له موقع أو مكان خاص. كان هم عمر عزيز أن يكون في مستوى شعبه ومستوى وطنه. وحين قام الشعب وقام الوطن لم يتردد لحظة في أن يعود. وأن يعود في أضيق الأوقات وأشدها خطراً، ان يعود حينما كان يغتنمون فرصة لينأوا ما بأنفسهم عن الخطر.

عاد عمر عزيز إلى بلده حينما غدا هذا البلد في محنة، عاد هو الذي لم يكن له حزب ولا جبهة ولا مجموعة ولا يسأل عنه أحد غاب أم حضر. عاد حينما عجت أطراف الأرض بالهاربين والفارين والخارجين، لم يعد ليحارب ولم يكن رجل حرب، عاد لأن ثمة أموراً غير الحرب ولا تقل أهمية عن الحرب تحتاج إلى رجال، عاد لأن مجتمعاً متشققاً ينبغي أن يبقى مجتمعا، ولأنه في فلتانه ينبغي أن يتدرب على السياسة، وان يملك خطة وأساليب رد وخطة عيش. ما هم عمر عزيز ليس القتال بل خارطة طريق أثناء القتال ولكي لا يغدو القتال مجرد تصفية عمياء، لكي لا يكون القتال مجرد مختبر دموي ولكي لا يكون مجرد قطع رؤوس ولكي تكون هناك مطالب عدا القتل تنبغي رعايتها، دخل عمر عزيز إلى سوريا متغيباً عن عمل مربح في السعودية، كانت له حجته ليبقى خارجاً، له حجته فهو من سنين خارج سوريا. لكن الالتزام الأخلاقي كان أقوى. عاد عمر عزيز إلى سوريا في شبه خفية، لم يشعر به أحد، عاد لأن التزامه كان لسوريا كلها، لأنه التزام لشعبه ووطنه، لا يمكننا أن نجد التزاماً أعظم وأقوى. لا يمكن ان نجد ارتباطاً أصرح وأشد شفافية. لا يسعنا ان نعثر على ولاء بهذه الرفعة وبتلك النزاهة وبذلك السمو، ان يكن هناك تعريف للبطولة فهو هذا. كان في وسع عمر عزيز ان يبقى بعيداً عن بلده وان يخدمه حيث هو. كان في وسعه ان يشارك المئات بل الآلاف التي خرجت. لكن الرجل الستيني لم يرض بكل هذه الخيارات المقبولة والمحترمة. لقد شاء ان يعيش بجلده وبنفسه وبأعصابه مع شعبه. شاء ان يكون جسدياً ونفسياً وروحياً مع شعبه. الرجل الذي لم تكن له تجربة سياسية ولم ينزل مرة إلى الشارع، ينتظر حتى يخوض في الستين. ينتظر حتى ينهض الشعب، حتى يتكون الشارع، ينتظر حتى يقوم البلد، حتى ينتفض الوطن عندئذ يقف مع شعبه مع وطنه. حينئذ يحمله دافع رومنسي ليندمج في شعبه وفي بلده، حينما تغدو التضحية هي العنوان. حينما يلقي الناس بنفوسهم على الموت، عندما توازي الحياة الحرية، عمر عزيز يعود إلى دمشقه، عمر عزيز يستلم مصيره ويتمسك بمصيره ويحمله هذا المصير البطولي إلى منتهى الوعي، منتهى الإحساس. منتهى النزاهة. منتهى الشفافية. منتهى التضحية.

لا يجهل أحد ما بين طه حسين وأبي العلاء المعري من صلة، ليس العمى هو القاسم الوحيد بين الاثنين، لكن ما بينهما يبدأ من هنا ويتعداه فيكاد العمى أن يكون في أساس سلسلة من المقابلات حتى لنكاد نشعر أن طه حسين الذي كتب عن المعري غير مؤلف كان يجد نفسه فيه، بين الاثنين أكثر من مقابلة. الشك هو المنطلق الفلسفي لكليهما والشك كان الدعامة الأولى لبناء عقلاني مفتوح قابل للمراجعة وللتحول مطبوع بديناميكية ومرونة. أن يذهب التعصب برأس المعري ورأس طه حسين في مكانين مختلفين ولكن بالمنطق نفسه والرؤية نفسها، لا نستطيع القول إن في هذا ما يعتبر تقدماً، لا نستطيع القول إلا أن في هذا ما ينذر بالويل، اننا إذ نطيح رأس الأول والثاني، نطيح أيضاً بما تبقى لنا من عقل وما كان أمامنا وما استشرفناه من أفق. لم يحاكم أحد المعري في حياته ولم يجازه أحد على شكوكه. كما ان محاكمة طه حسين انتهت نهاية مشرفة للقضاء، وبعد كل هذا الوقت نجد من ينتكس إلى ما ننتكس إليه يوما بعد يوم، فكأن رأس المعري ورأس طه حسين المقتلعين هما رأس عقلنا المغدور والمتراجع والمنتكس.

المعــري يحســد أم كلثــوم

خيري الذهبي

يتداول المصريون نكتة على لسان أم كلثوم هذه الأيام، فحين وجدوا تمثالاً لها وقد غطي تماماً بحجاب أسود أسفوا وغضبوا، ولكن أم كلثوم علقت بروح نكتتها المعهودة: الحمد لله…. يعني الحجاب أهون من قطع الرأس زي ما عملوا بالمعري.

أما أنا فكنت أتساءل دائماً ما الذي أغرى المعري بتجشم كل هذا العناء لصناعة هذه اللغة التي نقرؤها في رسالة الغفران، ونقرؤعا في ديوانيه : لزوم ما يلزم، ولزوم ما لا يلزم. لماذا ؟ لماذا هذه اللغة التي تتعبك حتى الرهق لتصل إلى المعنى فلا تصل إلا إلى بعضه، فإذا ما وصلت وجدت ما وصلت إليه منقوصاً، أذهب كماله البحث عن تمام المعنى.

ما الذي أغراه وهو الكفيف بتجشم كل هذا العناء وكان بإمكانه أن يكتب جماليات شعره بلغة أبي تمام، أو البحتري، أو حتى المتنبي وهو من يحبه، فقد كتب عنه «معجز أحمد»، وأحمد هو المتنبي الذي كتب مضمناً شعره أيضا كثيراً من فلسفات الإغريق الذين سبقوا وجوده في سوريا بمئات قليلة من السنين؟

وكان يمكن لهذا السؤال أن يظل ضمن الأسئلة التي تترك على رف جانبي في انتظار الوصول إلى إجابات، وكان يمكن ألا أصل إلى جواب إلى أن قرأت كتاباً لمؤرخ مصري معاصر هو عبد الرحمن عزام حفيد عبد الرحمن عزام أول أمين لجامعة الدول العربية، وكان الكتاب عن صلاح الدين، وقد تحدث المؤلف عن صلاح الدين وأنه وجد نصوص الفاطميين ومكتبتهم الشهيرة مكتوبة بالخط الكوفي، والخط الكوفي خط لا يمكن للقارىء العادي فهم رموزه بسهولة إلا إن كان يعرف النص أو السياق قبل البدء في قراءته، ولذا فقد كان هذا النوع من الخط يخدم سرانية المذهب، فهو مكتوب ومحجوب عن العامة في الآن نفسه، ولذا فحين قرر صلاح الدين تغيير المذهب بعد سقوط الخلافة الفاطمية اضطر إلى تغيير الخط الذي يحجب المكتوب عن القارئ العامي أو العادي، فجاء صلاح الدين بخط النسخ سهل القراءة واستقدم خطاطين وكتاباً من بغداد ليعلموا المصريين الخط النسخي.

حين قرأت هذه الملاحظة شديدة الذكاء من عبد الرحمن عزام أضاءت ملاحظته لي تفسير سؤالي المعلق : لماذا كان المعري يكتب بهذه اللغة الصعبة المعقدة التي تضيع على القارئ المتسرع التذاذه بقراءة شعرية الشعر في أثناء بحثه اللغوي عن تفكيك معاني الكلمات، وهكذا كان المعري يكتب نصوصاً نثرية وشعرية مكتوبة محجوبة غلى الطريقة الفاطمية !

ولكن لماذا ؟… وما الذي أغرى الفاطميين وهم من أسسوا مدرستهم الفكرية، واستقوا كثيراً من معارفهم من مدرسة السلمية القريبة من أفاميا والمتخفية في الصحراء بعيداً عن سطوة بغداد المحاربة لكل فكر منشق عن السنة القويمة، وكانت (وهذا رأي شخصي ) الإشراقية أو الأفلوطينية التي ظهرت في الاسكندرية في مصر وفي أفاميا في سوريا في نهايات العصر الهلنستي وبدايات العصر اللاتيني قد انتشرت في الشرق الأوسط انتشار النار في الهشيم وهي التي تجعل العرفان عطية إلهية يوصل إليها بالقلب وليس بالعقل فهي بالتالي ليست ثمرة دراسة وتعب وإنما هي هبة من الله وسنرى أحد تجلياتها لدى الإمام الشافعي السني وهو يقول:

إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده

ولما جاءت المسيحية وبطشت بالوثنية المشرقية بعد انتصارها عليها، بطشت بكل النحل والمذاهب المغايرة للمسيحية الصاعدة، فتخفت هذه الأديان أو المذاهب ولكنها لم تمت، ولما جاء الإسلام ظلت على تخفيها حتى أخذت الدولة العباسية في الضعف والتفكك، فبدأت في العودة إلى الحياة متشحة برداء إسلامي، ولنستمع إلى المتنبي يقول:

تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم إلا على شجب والخلف في الشجب

فقيل تخلص نفس المرء سالمة وقيل تشرك جسم المرء في العطب

فكان شعره هذا من أوائل الإشارات إلى ما سماه العرب بالدهرية وهي الفناء بالموت، و… التقمص،وتجدد الحياة في قميص جديد، أما المعري فيقول :

تحطمنا الأيام حتى كأننا زجاج، ولكن لا يعاد له سبك

ليتبدى دهرياً ولا بعث لديه بعد الموت، ثم يقول في قصيدة أخرى :

وإن صدئت أرواحنا في جسومنا فيوشك يوماً أن يعاوده الصقل

ليتبدى أمامنا فيثاغورثياً ممن يؤمنون بخلود الروح وتقمصها قميصاً إثر قميص، ولكن كثيراً من الباحثين يرون أنه كان ريبياً شكاكاً لم يصل إلى قناعة ما كما وصل الفاطميون، وكما وصل المنشقون عنهم «الموحدون» زمن الحاكم بأمر الله، ومع ذلك فقد ادعى الفاطميون الاسماعيليون أنه منتم لهم، وادعاه الموحدون «الدروز»، وادعاه السنة فهو من لم يعلن الانتماء إلى مذهب آخر غير السنة، فهو مسلم سني إذاً !!

المهم. عادت الأديان الإشراقية والفيثاغورية ملتفة بغشاء رقيق من الإسلام. في الوقت ذاته كانت الخلافة العباسية تعاني من ضعفها العسكري والإداري المريع كخلافة تحت سيطرة السلاطين السلاجقة الاقوياء، في ذلك الوقت ظهر خليفة ذو همة عالية وعجز سياسي هو القادر بالله الذي ولد في العام 363 ه = 956 م، وتوفي في العام 403 ه = 1023 م، وكان معاصراً للخليفة الفاطمي الإشكالي الحاكم بأمر الله الذي ولد في العام 985 م وتوفي في العام 1021 م.

كان القادر شديد التدين قريباً من المذهب الحنبلي، ولذا اعتزل لزمن طويل يدرس ويؤلف حتى أطلق مانيفيستوه السني والذي سيسمى فيما بعد بالقادري، وراسل الفقهاء والوعاظ، وأخذوا في نشر الهيكل الاساسي للمذهب الذي كان قبله عقيدة، فصار بعده مدرسة ممنهجة، وحين ظهر على المسرح الوزير نظام الملك عام 1105 قرر نشر المذهب السني «القادري» الصحيح، فأنشأ المدارس في الشرق الإسلامي كله تحت اسم المدارس النظامية، فالتصق اسم النظامية بالمدارس منذ ذلك الحين بغض النظر عن المذهب الذي تدافع عنه، ولكنها في ذلك الحين كانت مدارس أقيمت لنشر المذهب السني وإ بعاد الرعية عن المذاهب الأخرى.

مسرح الصراع

كان القرن الحادي عشر هو قرن الصراع المرير بين المذهب السني الرسمي وبين الباطنية الإشراقية في مصر الفاطمية التي كان الضعف قد بدأ يدب فيها بعد «اختفاء» الحاكم بأمر الله عن المسرح السياسي، ولن ينتهي هذا القرن قبل أن يظهر على المسرح كارثة جديدة هي الغزوة الصليبية التي اخترقت الشام اختراق السكين للزبدة في ألف فارس وعشرة آلاف من المشاة، وحين سيفتحون المعرة بعد حصار طويل سيدمرون كل قائم فيها، ويقول المؤرخ ستيفن رانسيمان: إنهم أكلوا لجوعهم وغضبهم بعض أهالي المعرة بعد فتحها مدمرة بالكامل، وكان من حسن حظ المعري أنه كان قد توفي قبل حوالي نصف قرن.

رسالة الغفران

تقع مدينة المعرة في مكان وسط بين أهم مدينتين هلنستيتين في الشام، فهي تقع بين أنطاكية عاصمة سوريا السلوقية فيما مضى وعاصمة الكنيسة السورية بمختلف تجلياتها اليوم، وبين مدينة أفاميا عاصمة الإشراقية الباطنية الفيثاغورية، ومن المعتقد أن المعري قد درس اليونانية في أنطاكية وتأثر بالفيثاغورية من أفاميا التي ستدمر تماماً بزلزال أصاب الشرق الأوسط كله عام 1157 أي بعد حوالي ستين عاماً من الاحتلال الصليبي، ولما كانت واقعة بين خطوط المسلمين وخطوط الصليبيين الحربية، فلم يعمرها ثانية أي منهم، وكيف يعيد عمارتها والعدو متربص به وبها.

كتب المعري رسالته الشهيرة «رسالة الغفران» وأنا أعتقد أنها السبب الأهم في بقائه في الذاكرة العربية، فشعره ليس شعبياً وربما كان أشهر بيت له :

خفف الوطء ما أظن أديم الأر ض إلا من هذه الأجساد

يذكرنا ببيت للشاعر الهلنستي السوري ملياغروس من مدينة غادارا «أم قيس».

وشعر المعري تغلب عليه الحكمة والمعاظلة اللغوية، ولكن رسالته بما تثير في النفس من تساؤلات،وأحكام نقدية،وسخرية من البعث والجنة «وعد المؤمن النهائي الحق» والحور العين، والملذات الحسية بلا نهاية، جعلت قراءة هذا الكتاب يحتوي نوعاً من خرق للمحرمات تلذ كثيراً للشكاكين والريبيين والبين بين.

وربما كانت معرفته بالإغريقية ما جعله يقرأ بعض كتابات المفكر والكاتب السوري العظيم لوسيان،أو لوقيانوس من مدينة سميساط، والذي كتب ما يمكن اعتباره الرواية الأولى في العالم والتي سماها «قصة حقيقية»، وفي هذه القصة الرواية سيقدم لنا في جزئها الثاني زيارة يقوم بها الراوي إلى السماء، فيقابل الشعراء والفلاسفة من الإغريق والسوريين الهلنستيين الموتى ويأخذ في مجادلتهم وتصويبهم وتخطئتهم، وسيجد الحسناوات والخدم والغلمان في السماء. ألا يذكرنا هذا النص برسالة الغفران؟ طبعاً يمكن لآخرين أن يذكروا أرستوفانيس ويمكن لآخرين أن يذكروا الإسراء والمعراج، ولكن ما يعنيني الآن هو الحديث عن التواصل السوري الذي لم ينقطع ما بين أجيال الإسلاميين والهلنستية التي لم تكن قد اندثرت بعد.

المهم كتب لوقيانوس روايته هذه وكانت ملمحاً من ملامح الانفتاح الفكري زمن الهلنستية، ولم تكن المسيحية قد أحكمت سيطرتها على الإمبراطورية بعد، فقد ولد لوقيانوس في العام 120 ميلادي، وربما وضع كتابه في العام 160 ميلادي، ولم تكن الكنيسة قد بدأت حربها ضد الوثنية ومعابدها وفلاسفتها وتماثيلها… أما المعري فقد كان يعرف أنه في تحديه للقادرية وللفاطمية في كتابه هذا قد أباح دمه، فنكر نصه باللغة الكاشفة الساترة.

ورغم تنكره هذا فقد قيل إن متعصباً من المعرة صمم على كشف سر هذا الأعمى، فأقام على درس رسالة الغفران وكشف أستارها سنوات، وحين فهمها وفهم رسالتها أيقن أنه أمام رجل ملحد، فحمل اكتشافاته ومضى إلى شيخه ومعه أدلة اتهامه، فغضب الشيخ وأفتى بقتل هذا الملحد.

حمل هذا المتعصب فتوى الموت ومضى في بعض من صحبه لتنفيذ حكم القتل في حق الشيخ الأعمى، ولكنه فوجىء عند اقترابه من البيت بزحام خفيف، فتوتر، فالقتل لا ينسجم مع الشهود، ومع ذلك سأل المتزاحمين عما هنالك، فأخبره أحدهم أن شيخاً جليلاً يدعى أبو العلاء قد توفي ليلة أمس.

اصفر وجهه مرتعداُ، فلقد نجا الرجل إذاً، وهرب من حكم الموت0 عاد إلى شيخه يحدثه عن نجاة ملحد المعرة، فلم يكترث الشيخ، وطلب من الرجل نسخة الفتوى، فأعطاها له، وعندئذ أمر بنسخها في عدة نسخ وتوزيعها في الأقطار، فإن كان المعري صادقاً، وظهر في قميص من لحم جديد لاحقه حكم الموت.

لم يظهر المعري، ولكن الدارسين انكبوا على قراءته، ومدينته اكتشفت أن شهرتها وأهميتها تنبعان من ولادة ووفاة هذا الرجل فيها، فأقاموا له تمثالاً وأقاموا له مهرجانات أدبية تتدارس آثاره وتحيي ذكراه وفي أحد الأيام نكتت مجموعة من المتعصبين مخطوطات قديمة قرؤوا فيها الفتوى، فقرروا تنفيذ حكم القطع في حق هذا «الملحد» ولو في تمثاله… ونفذ حكم القطع في تمثال سماه صانعه : أبو العلاء المعري الشاعر الكبير ومؤلف رسالة الغفران.

(كاتب سوري)

تحطيـم التماثيـل والتطهّـر الدينـي والسياسـي

احمد زين الدين

تمعن اليوم فئة من المسلمين والعرب إمعاناً مقصوداً في تدمير التماثيل والنصب التذكارية، وتخريب الجداريات والمجسمات تدميراً وتخريباً متعمدين، ليس آخرها تحطيم تمثال الحكيم والشاعر أبي العلاء المعري، في مدينته معرّة النعمان. كذلك سرقة رأس تمثال عميد الأدب العربي طه حسين من مدينته التي وُلد فيها. ووضع النقاب على الوجه السافر لتمثال أم كلثوم في مسقط رأسها أيضاً.

ولا يقتصر الاعتداء على الرموز الفنية والثقافية الذي يشغل بال المتأدبين. إنما يتعداه إلى تماثيل الزعماء والقادة والحكام الذين أفل نجمهم، وانحسر سلطانهم ونفوذهم في بلادهم. فالشائع عند الشعوب إزالة تماثيل سياسييها، لا سيما الطغاة والمستبدين منهم، كمحصّلة مألوفة يستوجبها التخلّص من آثارهم، والتطهّر السياسي المعنوي والرمزي عقب الانتفاضة او الثورة عليهم، اوالانتقال من حقبة إلى حقبة. وهذه الخطوة تعدّ بمثابة بادرة طبيعية لقطع كل صلة مع الماضي، والتحرر من ذاكرة الخوف، ومن الغبن والظلم والاستبداد، وكل ما عاناه الناس على مدى عقود طويلة، مما تمثله هذه الأشكال الماثلة أمام أنظارهم.

وفي حين ان المفكر او الفنان لا يد له في صنع تمثاله، وإنما يأتي تكريماً له في حياته او بعد وفاته، فإن الحاكم أو الزعيم يحاول في المنحوتة أن يُشبع، وهو حي، رغبته في تخليد نفسه، واستمراره من خلال صلابة الحجر وديمومته. بل تدل هذه التماثيل أوالنصب على مدى بسط نفوذه، وعلى قدرته على فرض الوئام والسيطرة. وإذ تحتل هذه الرموز الشاخصة الميادين وساحات المدن الكبرى، إنما لتمثل شكلاً من أشكال الهيمنة المعنوية على أفكار الناس وخيالاتهم، وعلى رقابة يتخيلها المواطن الوجل والمقموع منبعثة من عيني الحاكم الساهر على الفضاء العام. تماثيل اُقيمت لتمجيد الطغاة وتعظيمهم، لا سيما أن النصب التذكارية توفر عنصر البقاء الذي يفتقر إليه العمل السياسي دائماً، وتوحي بالمشاعر السامية النبيلة، وتعبّرعن القيم المطلقة. ونجد أصل هذه المعاني كامنة في البنية الميتولوجية السحرية، التي تتشكل صورتها المنحوتة وفق حاجات الديانة، أوالفكرة اللاهوتية، قبل أن يُعاد توظيفها في خدمة الغاية السياسية والإيديولوجية الدنيوية.

السيطرة المعنوية

وقد غالى الرئيس الأميركي جورج بوش، في الأيام الأولى من احتلاله بغداد، بأهمية ما يمثله نصب الرئيس العراقي صدام حسين في ساحة الفردوس، من رهبة وتوجس أراد إزالتهما بالإيعاز الى جنوده بإزالة التمثال. وكان منظراً فريداً في حدوثه، وفي دلالته على هذا الانقلاب النفسي الذي حصل في قلوب العراقيين، حين حطموا التمثال ودحرجوا رأسه على الأرض، وداسوه بأرجلهم، وضربوه بأحذيتهم. حدث تحول رغم عفوية العديد من المشاركين، إلى مشهد مسرحي هدف إلى إسقاط هيبة صدام حسين معنوياً ورمزياً، قبل أن تنهار هيبته واقعياً، وتستباح فيما بعد تماثيل الزعماء السابقين والتاريخيين وتسرق محتويات المتاحف. كذلك عمدت الثورة الشعبية في سوريا، في اللحظات الاولى من نشوبها، إلى تحطيم السيطرة المعنوية التي مثلتها في أذهان السوريين نُصب الرئيس السوري حافظ الأسد، لعقود طويلة من حكم بلاده. فكانت حركة الناس البديهية تدمير تمثاله الأشهر والأضخم في مدينة الرستن الذي وصلت إليه إيديهم، رغم تخصيص عدد من الجنود لحراسته.

عديدة هي الأسباب السياسية التي تكمن خلف عملية هدم النُصب وتدميرها، لا سيَما حين تمر البلدان بثورات وتحوّلات من عهد إلى عهد، كما هو حاصل اليوم في البلاد العربية. تحوّلات تستدعي بالطبع إلغاء ما سلف، وإقامة اللاحق من رموز وشعارات وإيديولوجيات. فلقد ذكرت الوكالات، منذ أيام، أن لواءً عسكرياً ليبياً دمر النُصب التذكاري الذي أقامه العقيد الليبي معمر القذافي تكريماً للزعيم المصري في شارع عبد الناصر، الذي أُعيدت تسميته باسم شارع الاستقلال، لا لشيء إلا لأن عبد الناصر كان في نظر القذافي قدوة تُحتذى. كما طلب أحد الفقهاء العراقيين، على سبيل المثال، إزالة تمثال ابي نواس لأنه فارسي مجوسي، على ما يذكر رشيد الخيون.

علل وأسباب

وفي لبنان أُزيلت تماثيل مثَلت الفترة السياسية السابقة، ورُفعت مكانها الصور والأنصاب والمجسمات البديلة في عملية تنظيف وتطهير واستيلاء على الأرض. وكانت القوى الإسلامية الأصولية، السنية والشيعية، هي السبّاقة في هذا المضمار، حيث وضع إسلاميو الشمال عبارة الله في ساحة عبد الحميد كرامي بدلاً من صورة الرجل. وأزال حزب الله تمثال عبد الناصر في ساحة برج البراجنة المسماة باسمه، واستبدلها بصور زعمائه الدينيين وشهدائه، وكذلك أزال تمثال الزعيم المصري المنصوب على مدخل بعلبك، ووضع مكانه مجسماً للقدس. كل هذه الاستبدالات ذات دلالة معبّرة عن تدهور أو اضمحلال الحقبة الناصرية والقومية، وصعود التيار الديني الذي يمثله حزب الله والأحزاب الدينية الأخرى. كما كانت أنصاب وتماثيل حافظ الأسد في لبنان، قبل أن يُحمل بعضها إلى سوريا، عقب جلاء الجيش السوري، تكريساً لفترة الوصاية على الدولة اللبنانية.

يمكن للباحث عن الأسباب والعلل التي من أجلها تُغتال التماثيل، وتُقطع رؤوسها أو أيديها، أن يعدّدها، بدءاً من السبب السياسي إلى السبب الديني والعرقي والأخلاقي. في حين أن الاقتصار على الخلفية الدينية من دون سواها، التي تعتمدها وسائل الإعلام، في تفسير عملية التدمير والهدم والتشويه التي أصابت بعض هذه التماثيل، لا سيما تماثيل الأدباء والمفكرين والفنانين المعروفين بمواقفهم الحرة، إنما مرده عاملان: أحدهما بروز الجماعات الإسلامية في ساحات التغيير الحاصلة في العالم العربي، وما ينطوي فكر بعضها على ايديولوجيات متطرفة، أو مواقف متزمتة. وثانيهما، وهو الجوهري: العامل العقائدي الذي يحتاج إلى مقاربة متأنية، واستبصار عميق للكشف عن موقف الفكر الإسلامي المعاصر، من مسألة التصوير والتجسيم والتجسيد، وتمثل الجمال في بُعده المادي، وسبب إيثاره الدائم لمنحى التجريد أو الرمز. وأستطيع القول إن المقاربة الحقة تكشف عمق المأزق الراهن، او الإشكالية الدينية التي ما تزال حبيسة الأحاديث والمنقولات الموروثة التي تصطدم اليوم بغزارة الصور المتنوعة التي تبثها وسائل الاتصال، من تلفزة وحواسيب وشبكات تواصل وصحافة وإعلان، والتي تسيطر على عقول الناس. والحقيقة أن محاربة الصورة، أو التمثال كفرع من الصورة، ليست بدعة إسلامية في الأصل. بل تمتد جذور هذه العدائية في صلب تاريخ الأديان التوحيدية، ابتداءً باليهودية، وصولاً إلى المسيحية التي شهدت في عهد الإصلاح الديني، خلال القرن السادس عشر، موجة من تحطيم الأيقونات ورسوم القديسين في بعض الكنائس الأوروبية، بتأثير من المرجعية اليهودية وتحريماتها المتشددة حول موضوع الصورة، انتهاء بالإسلام الأولي الذي لم تسجل مرحلة الأوثان والأصنام لديه الكثير من التحفظات، لأن الجزيرة العربية لم تكن راسخة القدم في صناعة هذه الأصنام، بل يُقال إن العرب كانوا يستوردونها من خارج الجزيرة العربية. وربما كان الحديث الذي رواه البخاري عن رسول الله: «إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون» هو مدار التأويل الدائم بين الفقهاء وعلماء الدين الذين تباينت آراؤهم على مر العصور، في تحديد الصورة او تعريفها، اوالتفريق بين أصنافها، والحكم عليها، وعلة النهي عن صنعها، أو اقتنائها، أو التأمل فيها. وبينما رخص القاضي عياض، وهو من علماء المالكية، اتخاذ لعب البنات تماثيل، مثل العرائس من الحلوى أو القطن أو نحوه. وُجد من تشدّد في التحريم.

وفي العصر الحديث قارب الإمام المتنوّر محمد عبده القضية بموضوعية، وتفهّم طبيعة الصورة ودور الفن عموماً، في وقت تبدّلت فيه أحوال العصر وظروفه، وابتكر عبده مقارنة لطيفة بين الصورة المادية والصورة الشعرية. حيث الشعر ضربٌ من الرسم يُسمع ولا يُرى، والرسم شعرٌ يُرى ولا يُسمع. والصور والتماثيل ليست في كل حال، مظنة للعبادة والتبرّك، ولا هي شاغلة عن الله، أو ممهدة للإشراك به. فنحن لسنا قريبي عهد بالوثنية. أما السلفية اليوم، فهي ترتدّ إلى ما دون منطق التطور التاريخي، وتخرج عن واقعية المجتمع وعقلانيته، وعن إدراك أهمية ما طرأ على وظيفة الصورة وطغيانها في هذا العصر، وما تفرع عنها. والسلفيون إنما يعتدون على التماثيل لأنهم يجردونها من بُعدها الفني، ولا يرون فيها إلا عمقها الديني. وهذا دأبهم في مقاربة الأدب والفنون والتاريخ البشري. فهم لا يجدون أمامهم إلا هذا الجانب الديني الوحيد، ولا يحركهم إلا هذا الهجاس الذي يتحوّل إلى عصبية قاتلة. فقد أصموا الآذان عن كل من نصحهم، بمن فيهم الفقهاء الذين يتعاطفون معهم، بعدم ارتكاب حماقة تهديم تحفة عالمية، مثل تمثال بوذا في دميان، الذي احتضنه الأفغانيون أحقاباً طويلة، واحتضنوا عُبّاده من البوذيين، قبل أن يهيمن عليهم الفكر الطالباني، وقبل أن يسيروا في ركاب المُلا عمر وفتاويه المدمّرة. فالنحّات في منظورهم اللاتاريخي عابد ينحت معبوده على صورة وثن، وليس فناناً ينحت في الحجر إحساسه بالجمال. ولا تقف ثورة السلفيين على تحطيم التماثيل، وإنما أيضاً على تهديم الأضرحة ونبشها، وتهديم المقامات والمزارات الدينية، وعلى الدعوة إلى هدم الأهرام وتماثيل الفراعنة، وكل ما عجز عنه عمرو بن العاص أو أبقاه قائماً. وموقفهم من النحت أو الصورة، لا يختلف عن موقفهم من المسرح والسينما والموسيقى والغناء وفلسفة الجمال، ووظيفة الفنون البصرية وأساليبها وغاياتها.

وفي هذا الزمن الراهن، الذي تبدّلت فيه الأذواق والأمزجة والاتجاهات الفكرية والجمالية، ما عادت وثنية العصر في حجارته المنحوتة، بل في المال والمناصب، وفي الهوس بالسلع والاستهلاك، وفي عبادة الممثلين السينمائيين الذين أصبحوا في نظر المشاهدين أصناماً مؤسطرة، وباتت هوليوود مصنع الآلهة الجدد. من آفا غاردنر إلى إليزابيت تايلور وصوفيا لورين ومارلين مونرو وبريجيت باردو وأنجلينا جولي، إلى مارلون براندو والآن ديلون وسواهم، ممن يضاهون آلهة اليونان والرومان، لما يتمتعون به من ألق وجاذبية، وما يمثلون من شباب وجمال خالدين. وبات هؤلاء، وقد احتلوا أفئدة أجيالٍ من الشباب والشابات، وسطاء جدداً بين سماء الشاشة والأرض، وبين عالم الأحلام الخيالي وبين الحياة الدنيا، على حدّ تعبير إدغار موران.

 اكتتب الشعب لإقامة تمثال واليوم يجري هدم التماثيل

طــه حســين مطلــوب حيــاً وميتــاً

محمد شعير

«إنني رجل فقير جداً، اشتغل بهندسة السكة الحديد الأميرية بوظيفة فاعل، ويوميتي 70 مليماً ومتزوج بيتيمة الأب، وأم زوجتي تبيع ترمساً، ولي شغف بقراءة الصحف في عهد النهضة المصرية الأخيرة، وبينما كنت جالساً أقرأ جريدتكم الغراء بكيت، وعندما سألتني زوجتي عن سبب بكائي أخبرتها عن التبرع لتمثال نهضة مصر، ولم يكن معي نقود سوى 200 مليم فقــالت زوجتي إنها تتبرع بمئة مليم أيضاً، وقالت أمها مثلها، وكــذلك فعل أخوها البالغ 15 سنة، ولي طفل عمره سنة ونصــف وفرت له أمه 50 مليماً فأحضرتها…أرجو أن تتقــبلوا منا هذا المبلغ القليل لتوصيله إلى أمين صنــدوق تمثــال نهضة مصر..».

هذه واحدة من الرسائل التي أرسلها مواطنون عاديون إلى المثال محمود مختار أثناء الاكتتاب الشعبي في أعقاب ثورة 1919 لعمل تمثال نهضة مصر، الرسائل التي نقلها الناقد الراحل بدر الدين ابو غازي في كتابه «المثال مختار» تكشف كيف كان اعتزاز المصريين بالفن باعتباره «وسيلة للإعلان عن القضية المصرية بطريقة تلفت الأنظار أفضل من غيرها»، وكذلك من أجل إقناع العالم بأن مصر لا تزال تعنى بالفنون الجميلة، فهي ساعية إلى استعادة مجدها القديم»، كما جاء في مقالات جريدة الأخبار وقتها في الدعاية للتمثال. والمدهش أيضاً أن خطباء الأزهر كانوا يقفون كلٌ عقب كل صلاة جمعة يدعون للتبرع لإقامة التمثال. وهذا التكاتف جعل مختار يكرر دائماً: «لست صاحب التمثال بل الشعب هو صاحبه».

حدث هذا في وقت لم تكن قد تأسست بعد جماعة الإخوان المسلمين ولا انتشرت الحركة الوهابية وهيمنت وحرمت التماثيل. كيف وصلنا إلى مرحلة هدم التماثيل كما جرى لتمثال طه حسين منذ أيام، وتنقيب تمثال أم كلثوم؟ كيف انتقلنا من مرحلة اكتتب فيها الشعب من اجل إقامة تمثال إلى مرحلة تدمير التماثيل؟

يوضح الدكتور عماد ابو غازي حفيد المثال مختار: «ما جرى يشبه الفرق في بداية العشرين عندما أصدر الإمام محمد عبده فتوى قال فيها إن الفن حلال ينمي المشاعر والروح الإنسانية، والنحت والتصوير والموسيقى والغناء لا حرمة فيها وأن هناك فرق بين إقامة التماثيل للتعبد، وإقامتها كعمل فني وجمالي».

هذا ما جري بين زمنين وعهدين..كيف وصلنا إلى ذلك؟ ولماذا تعمّدت هذه الشخصــيات تحديــداً طه حسين وأم كلثوم في مصر..المعــري في ســوريا، وبلعــيد في تونس؟

يوضح الباحث الدكتور شريف يونس: «يبدو لي إن هذه التصرفات ناتجة عن عمليات شحن شباب الإسلاميين لفترة طويلة ضد هذه الشخصيات وغيرها، على اختلاف زمانها ومكانها. المشروع الإسلامي هو في أساسه مشروع ثقافي استبدادي يقوم على فرض أفكار معينة وتعميمها بالقوة. وهو في صيغته الدولتية يرمي لاستعمال الدولة في هذا الغرض. لكنه لا يقتصر في أدواته على الدولة، لا عملياً ولا نظرياً. بالنسبة لمن قاموا بمثل هذه العمليات المحدودة، الفكرة هي «تغيير المنكر» باليد. وهو أمر متاح في ظروف اضطرابات الثورات. وحتى مع وجود حكم إخواني، فإن عملا كهذا يمكن أن يصدر من أطراف إسلامية أخرى، يضيف يونس: «يبدو تصرف هؤلاء غبياً وعجيباً. فلا طه حسين ولا المعري يعيشان في الثقافة من خلال تماثيلهما، ولا هما مقدسان مثلا. لكن بالنسبة للعقليات التي قامت بهذه التصرفات، تدور كل القضايا في سياق القداسة/ النجاسة، إن جاز التعبير. ويبدو لهم إن النيل من التمثال هو نيل من الأفكار والتاريخ. أو ببساطة هذا هو ما أتيح لهم الآن، ولو استطاعوا محو تراثهما لمحوه. لكنهم غالباً لا يعرفون شيئا عن هذا التراث، سوى أنه بشكل ما تراث فاسد، مثله مثل كل تراث لا ينبع من عقائدهم المغلقة، بما في ذلك معظم التراث الإسلامي نفسه. الخلاصة إن هذا الفعل على تفاهته إنما يكشف عن البنية الاستبدادية العميقة للحركات الإسلامية وكراهيتها الغريزية لفكرة الثقافة نفسها بما تنطوي عليه من جدل وصراع وإبداع، بحثاً عن سكونية واحدية تتفق مع عقولهم التي نحتها لهم مشايخهم على هذا النحو».

ومن جانبه يري القاص والكاتب احمد الخميسي أم كلثوم التي أخفوا رأسها هو الذي أنشد: «أصبح عندي الآن بندقية»، إن وجهها الذي غطوه هو وجه فلاحة مصرية بكت عيناها على نكسة 67، وانشغلت بجمع التبرعات للمجهود الحربي متضرعة لله عز وجل أن ينصر أم الدنيا، بينما كانت رؤوس بعض الشيوخ محنية تشكر على الهزيمة التي حاقت بنا، هم أنفسهم الشيوخ الذين نسمعهم من شاشات التلفزيون من يتوعدنا جهاراً نهاراً بنسف الأهرامات وأبي الهول.

يضيف الخميسي: «الموضوع أبعد من نسف التماثيل والنصب التذكارية أو إخفاء رؤوسها، لأن أصحاب هذه النظرة يمدونها لتشمل تحريم كافة أشكال التعبير الفني من تصوير ونحت وأدب وموسيقى ومسرح وسينما. وهذا يعني من ضمن ما يعني إهدار كل توثيق بصري وسماعي لثورة 25 يناير، وكل توثيق مماثل لتاريخ الشعب المصري وحياته الاجتماعية، وثوراته، بل وإهدار تاريخ الفن الإسلامي ذاته الحافل بالكثير من رسوم الطيور والحيوانات في عصور سلاطين بني عثمان التي تملأ متاحف الفن الإسلامي في العالم».

طه حسين سيظل مطلوباً حياً وميتاً من فئة تدّعي امتلاكها الحقيقة المطلقة، فقد هاجم كما يقول الدكتور حازم أحمد حسني الأستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية – بعنف ما رآه في زمانه سفهاً لا يستقيم، وكتب في صحيفة «المقطم» ساخراً: «يقول الوفديون لا رئيس إلا سعد كما يقول المسلمون لا إله إلا الله»!! كتب طه حسين هذه الكلمات في «أيام» لم تكن فيها قبة برلمان يُرفع تحتها الأذان، ولا كان فيها «شيوخ» فضائيات ينشرون الحنبلية التيمية الوهابية في مصر، ولا كان فيها مادة ثانية بالدستور يتقاتل عليها الناس، بل وكان فيها زعيم اسمه سعد تهتف باسمه جحافل الجماهير! فماذا تراه كان يكتب اليوم وقد تغيرت الأيام، وصار الخلط فيها بين ما تقول به الزعامات الدينية في الشوارع وبين مقولة «لا إله إلا الله» واقعاً نعيشه لا مجرد مجاز يسخر به صاحب «الأيام» ممن يفسدون على مصر وعلى المصريين أيامهم بتقديس ما لا يجوز تقديسه؟!

يوضح: تقديس ما لا يجوز تقديسه… هذا هو سر الأزمة التي تعيشها مصر هذه الأيام، كما هو سر الأزمة التي عاشها في زمانه صاحب «الأيام»؛ ففي «الشعر الجاهلي» قرر طه حسين أن يضع الحدود العقلية التي تفصل بين التاريخ والقصص، وبين الأصيل والمنتحل، وبين المعقول والمنقول، وبين المعلوم بالضرورة والمفروضة على الناس معرفته بغير ضرورة؛ وكلها قضايا اختلطت الأمور فيها بأن صار المقدس مطية من لا برهان عنده، وبأن صار العقل حافظاً لا مبدعاً، والضمير مثقلاً لا متحرراً؛ وحتى بعد محنته مع «الشعر الجاهلي»، وتحوله للكتابة في الإسلاميات، ظل شيخنا وفياً لعقله النقدي. كل المقدس انتحالاً كان يتداعى بفعل ما أملى الشيخ على كاتبه، ثم وصل إلينا ما أملاه مكتوباً نطالعه، فيعيد بما رتب من الكلمات ترتيب الأفكار في رؤوسنا وربط المعاني في ضمائرنا؛ وليس من حديث يروي عنده إلا وأخضعه للنقد، إن مباشرةً في دراسات نقدية تخاطب العقل، أو تسللاً إلى الضمير بنحت رواية أدبية، أو خليطاً بين النقد والرواية في غير دراسة تاريخية».

يضيف حسني: ينبغي التأكيد على أن الأساس الذي تركه لنا طه حسين، وتركه لنا غيره من آباء ثقافتنا المؤسسين، إنما يقوم على الربط بين ماضينا وحاضرنا وصولاً إلى متن المستقبل، لا على الربط بين ماضي غيرنا وحاضرهم وصولاً إلى هوامش التبعية التاريخية لغيرنا؛ ومن ثم كان من الضروري أن نبدأ في البحث عما لم يعره طه حسين اهتماماً كبيراً، أعني مستقبل «الثقافة المدنية» في مصر، لا مجرد مستقبل الثقافة فيها؛ فثقافة مصر على عهد طه حسين، رغم كل ما شابها من قصور ومن كوابح، إنما كانت ثقافة مدنية، أو هكذا افترض طه حسين وهو يبحث في مستقبلها؛ فالمدينة في اللغة هي الهجرة من البدو، أو هي المهجر الذي ينتهي إلى المقام فيه من هجر البادية، ولهذا سميت يثرب بمدينة الرسول، وهو ما يعني ضمنياً أن الرسول إنما كان يعتبر مكة من البدو وإلا ما كان قد جعل من يثرب مدينته! مصر تسير اليوم في الاتجاه العكسي، فهي تهاجر إلى البدو لا منه، ومن ثم صارت الثقافة المدنية هاجساً دينياً في مصر كما هي هاجسها السياسي».

الدكتور علي مبروك استاذ الفلسفة في جامعة القاهرة يرى من جانبه تكرار هدم التماثيل في مراكز الثورة ليس مصادفة ولا ضربة حظ، بل مقصود، وإذا كان الشاعر نزار قباني يقول إننا «لبسنا قشرة الحضارة وظلت الروح جاهلية» فإن الإسلاميين المحدثين يريدون تجريدنا من هذه القشرة، شعارهم لنكن خارج هذه الحضارة الإنسانية، وهذا مجرد مؤشر على نوع الممارسة التي يمارسونها في كل المجالات لا في الفن وحده».

يرى مبروك أن كل النماذج التي قصد الإسلاميون تدميرها متفقة على أن تكون جزءاً من الحضارة الإنسانية، الحس الإنساني لدى المعري وضعه في مكانة تليق به كشاعر ومفكر إنساني لا يخص ثقافة محددة، وكذا الأمر بالنسبة لطه حسين الذي كان مشروعه الهام محاولة ليخرجنا من جهالات القرون الوسطى، وانتقد التدين الزائف، كما أن شكري بلعيد ينتمي إلى تيار تقدمي يساري يمثل عداءً لهذا التيار الديني». هذه التيارات الدينية ضد الروح التي ظهر بها الإسلام في بداياته، ومن يقرأ كتب تفسير الولي سيدرك تعدد الأفكار وثراءها، ولم يكن عبثاً أن تخرج هذه الثقافة المنفتحة شاعرا مثل المعري. هؤلاء أصبحوا خطراً على الإسلام ذاته، وتفكيرهم سيمتد إلى المجالات كافة، وخاصة السياسي والاجتماعي، وهذا هو الخطر الأكبر.

(القاهرة)

.. تعددت الرؤوس والهدف واحد

عمر يوسف سليمان

لم تكن صدفة أن يتم قطع رأس تمثال أبي العلاء في سوريا بشكل متزامن مع تغطية رأس تمثال أم كلثوم بالنقاب في مصر، فالشخصيتان اللتان يفصل بينهما تسعمئة عام من التطور البشري لا يفصل بين معاديهما أي زمن، فهو يتبنى ذات الخطاب وذات السلاح في أي مكان وأي زمان.

بين رهين المحبسين وكوكب الشرق ثورتان عربيتان خذلهما كثير من المثقفين، ولا أعني هنا مثقفي السلطة بل مثقفي الثورات أنفسهم ـ إن صحت التسمية ـ ، ففي حين بقي المثقف السوري لاهثاً وراء الشارع ظناً منه أن الشارع المقدس يقود المثقف الجديد بدلاً من أن يقوده المثقف ويستشرف مستقبله وينبهه إلى الأخطار الإخونجية واللعبة التي استمسكت بأدوات النظام السابق، وعندما برر المثقف السوري ـ الثائر ـ أفعال جبهة النصرة بل وخون كل من يقف في وجهها ويحذر من كوارثها، بدعوى حماية الثورة والتوجه إلى العدو الحقيقي وتأجيل الخلافات الداخلية ـ وكأن جبهة النصرة شيء من صلب الثورة! ـ ، غض كثير من مثقفي مصر الطرف عن فعائل الإخوان بدعوى أنهم يريدون تجريبهم، لأن الشارع حقل تجارب!.

دائماً يصل المثقف العربي متأخراً، فالمثقف السوري لم ينتبه للخطر التدميري والدموي لجبهة النصرة إلا بعد أن وقع فأس الجبهة برأس مفكر المعرة، والمصري لم ينتبه إلى تمثال المنصورة ـ بما p align=”right”يمثله من نهضة فكرية وفنية ـ إلا بعد أن غطى وجهه السواد، المثقف السوري شبَّه العدوَّين: النظام الأسدي وجبهة النصرة، بإسرائيل والنظام الأسدي، ووجه الشبه لديه أننا لا نستطيع محاربة العدوين في وقت واحد، من دون أن يدرك أن جبهة النصرة تتغلغل داخل المجتمع، وأن التأخر في محاربة الأمر سيؤدي إلى فقدان زمامه غداً، هذا يوضح لنا كمَّ الخراب الهائل الذي خلفته كل من الأنظمة الديكتاتورية والأيديولوجيا الدينية في المنطقة العربية بأسرها: مثقفين يجرؤون على مقارعة النظام الظلامي راضين بنظام ظلامـي آخر، بل وممالئين له!.

نعلم أن من شوهوا التمثالين ينتمون إلى جهة واحدة: قامعي الحرية والفكر والعقل، وما في الأمر من شيء جديد، لكننا نعلم أيضاً أن هؤلاء واضحون في التعاطي مع كل من يخالفهم الرأي: العدوانية الشديدة وصولاً إلى القتل من أجل إرضاء عقيدتهم المريضة، أما المثقف العربي، الليبرالي سابقاً والإسلامي لاحقاً، فلا رأي ولا عقيدة واضحين لديه!، فهو منجرف مع التيار الجديد، ويخاف أن يعترف بأخطائه أمامه، فقد يلومه المطبلون والمزمرون لمخالفته رأيه الحاذق.

لم يؤجل أبو العلاء معركته مع الإسلاميين ـ الذين شفوا غليلهم منه اليوم ـ، ريثما ينتصر على عدوه الصليبي القادم، أما أم كلثوم فقد مثلت ثورة المرأة على السلطة الذكورية، وفي ذات الوقت مثلت ثورة الفن على السلطة الدينية، لكن يبدو أن ما فعله كل من روح كل من الأب والأم لم تعودا سوى نموذج تاريخي للدراسة، وليس للفعل والتطبيق، تماماً كما أن التفكير الثوري بات مدفوناً تحت أرض كل من المعرة والمنصورة متمثلاً في جسدي الأب والأم، في حين ساد التكفير والإرهاب فوق الأرض.

يقول الأب (المعري):

فلا هطلت عليَّ ولا بأرضي

سحائب ليس تنتظم البلادا

وتقول الأم، (أم كلثوم):

أرض الجدود لا برحت للهوى

منازلاً يخطر فيها القمرُ

أرضُ الجدود والليالي سيرٌ

ما أشرقت إلا عليك السِّيرُ

كأن أم كلثوم تخاطب أرض المعري، لقد كان هذا في زمن سابق، ولم يكن مجازاً شعرياً فقط، بل كان واقعاً أيضاً.

(كاتب سوري)

السفير

من شكري بلعيد.. إلى المعري وطه حسين

عريب الرنتاوي

في تونس.. لم يكتف “الظلاميون” بقتل شكري بلعيد، بل هددوا بتدنيس مثواه الأخير.. وآخر أفعالهم الشنعاء، تدمير تمثال خاص بالراحل، أقيم لتكريمه وتخليد ذكراه وتعبيراً عن الرفض الشديد للهجمة الهمجية.. الظلاميون الذين أرادوا إطفاء روح بلعيد الوثّابة، وقتل فكره التنويري الحداثي، أشعلوا من حيث لا يريدون ولا يدرون، مليون شمعة في عقول وقلوب شباب تونس وشاباتها، والمؤكد أن المستقبل لن يكون للمتحدرين حديثاً من الكهوف.

في معرة النعمان، قضى الظلاميون أياماً في شحذ سيوفهم، بانتظار لحظة الانقضاض على رأس شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء، أبو العلاء المعري، ابن المدينة السورية الجميلة، التي أشاع المجرمون في جنباتهم، مظاهر القتل والأشلاء والدمار والخراب، وأرادوا أن يستأصلوها من التاريخ باستئصال تمثال الرجل، الذي منح المدينة، بل وسوريا والمشرق، بعضاً من إرثه وذائقته ولونه.

وأعترف، بأن إحساساً شخصياً بالخسارة قد أصابني وأنا أقرأ فَزِعاً هذا الخبر، كيف ولا وقد تشربت قصائد الرجل في سنّ مبكرة، على يد ولسان الوالد يرحمه الله، الذي لم يتأثر بشاعر أو فيلسوف مثلما تأثر بأبي العلاء، ولم يحفظ لشاعر عربي مثلما حفظ للمعري.

في المنيا، وعلى مقربة من النيل العظيم، كان فقهاء الظلاميون يتحينون الفرص للانقضاض على قامة فكرية وأدبية سامقة، أحد أهم رموز الحداثة العربية، طه حسين ابن المدينة والمحافظة.. حيث استفاق الأهلون، ليجدوا أن مدينتهم قد فقدت روحها، ودائماً تحت جنح فكر ظلامي تكفيري، يعرف كيف يشيع القتل والخراب والكراهية، ولم ينجح في بناء مدماك واحد في صرح حضارتنا وثقافتنا ومقاومتنا وتقدمنا.

وما أن سمعت الخبر، حتى قفزت إلى ذاكرتي، أول تجربة في مجال “البحث والدراسة والنشر”، عندما نجحت في جمع كوكبة من خيرة العقول العربية، حول “مشروع عيبال للدراسات والنشر”، وأصدرنا كتاباً دورياً حمل اسم “قضايا وشهادات”، خصصنا العدد الأول منه، لطه حسين، أو مدرسة العقلانية والحداثة والتنوير، بمبادرة من كل سعدالله ونوس وفيصل دراج وجابر عصفور وعبدالرحمن منيف وإسهام نشط من لدنهم.

في تونس، كما في مصر وغيرها من دول العالمين العربي والإسلامي، جعل الظلاميون من مراقد الأئمة والصالحين والأولياء، هدفا لسيوفهم وعبواتهم الناسفة، بدعوى التوحيد، والواحد منهم براء.. وقبلها فعلوا شيئاً منكراً في “باميان” والهند والباكستان، وفي كل مكان حلّوا فيه وارتحلوا.

واقترح أن تتنبه دولنا ومجتعاتنا لما ينوي هؤلاء فعله في البقية الباقية من إرثنا الفكري والأدبي والثقافي والروحي.. اقترح أن نحذو حذو تونس، فنسيّر الدوريات الراجلة والمؤللة، دفاعاً عن تماثيل عظمائنا وما تركه لنا الآباء والأجداد المؤسسون، وما خلفته على أرضنا، أمم وحضارات سادت ثم بادت.

اقترح أن ترابط وحدات من الجيش المصري حول تمثال أبي الهول، وأن نصطف طوابير للدفاع عن “البتراء”.. وأن ينهض العراقيون لحماية كنوز “ما بين النهرين”.. وأن يتحول الصوفيّون منا إلى “ميليشيات مسلحة” ذوداً عن الأضرحة والمزارات والمقامات.. فالخطر داهم، وهؤلاء الذي لم يكرم الله وجوههم بقتل جندي إسرائيلي واحد، يعلنون النفير العام، ضد إرثنا وثقافتنا وذاكرتنا.

أصدقكم القول، أن صوراً من فيلم “فهرنهايت 451” تداعت إلى مخيلتي وأنا أتابع أخبار هذه الاعتداءات الآثمة.. صورٌ تحكي عن مجتمع يخضع لنظام شمولي عبر جهاز التلفاز، وتقوم فرق فاشية سوداء، بالبحث عن الكتب -كل الكتب- لحرقها، و451 هي درجة الحرارة الكافية لحرق أي كتاب على أية حال، مهما كان حجمه أو نوعية المادة المصنوع منها.. أما الرد فيأتي من فرقة طليعية، تقرر تكليف كل فرد منها بحفظ كتاب على ظهر قلب، حتى لا يضيع تراث الإنسانية وفكرها، وهكذا كان، صار كل واحد منهم، يحمل اسم الكتاب الذي يحفظه غيباً.. قضى النظام وانصرف، وظلت التراث الإنساني حياً في عقول وصدور وقلوب من قرروا حفظه وتوريثه للأجيال التالية من الإنسانية.

نقلاً عن “الدستور الأردنية”.

 

اغتيـــال رمـــزي

وارد بدر السالم

اغتيال رأس المعري؛ وقبل أن تستتب إمارة الإسلام المزعومة في معرّة النعمان الأدلبية السورية؛ هو اغتيال رمزي لعقل مفكر وشاعر متفلسف. خرج عن نطاق عصره العباسي كثيراً وشغلته أسرار الحياة والديانات والوجود والكون والمحسوسات والأساطير والخرافات. استطاب الشعر في سن مبكرة كما استطاب الجدل المعرفي في فلسفة التشكيك المغمورة بالتشاؤم واليأس، فكان الشاعر الفيلسوف وصاحب المقدرة الاستثنائية في تطويع بصيرته عبر العقل الجدلي وافر الحجة والقوة.

لكن قبل أن يحط إسلاميو المعرّة رحالهم الأخيرة في كابوس الحياة سبقهم أبو العلاء المعري قبل أكثر من عشرة قرون حينما تنبأ بهم وخلص يومها الى أن البحث عن السلطة تحت ستار الدين هو ما سيضعف الدين ورسالاته المختلفة، من أولئك الذين يركبون مطية الدين لينشروا الرعب في مسارب الحياة ويسوّدوا بياضها.ولأنهم كذلك فقد قطعوا رأسه.. لكن بقي الشاعر وبقي الفيلسوف بشكوكه القديمة التي أثبتت أخيراً أن» الزنديق» على حق !

(1)

هي نبوءة بلا شك.

سقط رأس المعري في مسقط رأسه، وبعد أن كان رهين المحبسين ثم الثلاثة ويمكن القول أنه رهين المحابس الأربعة الآن : فقْد النظر / لزوم البيت / كون الروح في الجسد الخبيث / وأخيراً غربة الجسد في مكان الروح. وهذه رباعية امتدت من محبسين لهما مبرراتهما العضوية والنفسيىة (العمى الاعتكاف) الى محبسين آخرين فيهما يتعلقان في الروح (في الجسد الخبيث) والجسد (مقطوع الرأس) ليكون فيلسوف الشعراء آخر من يتنبأ بالحدس والظن بنهايته الثانية، فالشك الذي خالجه طوال حياته وتعرضه الى المقدس بطريقته المثيرة، يتحقق في القرن الحادي والعشرين سهلاً ممتنعاً ولكن تحت حِراب الأخوة الأعداء ومروجي الفتن الطائفية ومتشددي السلوك الجامد تلك التي حذّر منها المعري واستعابَها وتنكر لها طوال حياته.

الغريب، كما قال الرواة، أن المعري لا يتذكر من الألوان إلا اللون الأحمر بسبب عماه المبكر! وكأن هذا اللون نبوءته أيضاً في أن تكون خواتيمه الحجرية الرمزية دماً أحمر، لكن هذه المرة لم تسقط من رأسه قطرة دم في معرّته، بل امتلأ تمثاله بالبارود فسقط رأسه خجلاً عند أقدام الغزاة الجدد وشخصت وصيته الفريدة « هذا ما جناه عليّ أبي» لكنّ أباه لم يجنِ عليه ولم يقطع رأسه، سوى أنه ارتكب جريمة ولادته.

لو أن الملك الحلبي صالح بن مرداس هو الغازي لمعرّته لتشفع عنده أبو العلاء ولأنشدنّه شعره ولقال له : الأمير لانَ مسُّهُ وخشُنَ حدّهُ وكالنهار الماتع قاظَ وسطهُ وطابَ أبردهُ. خذِ العفوَ وأمُرْ بالمعروف وأعرض عن الجاهلين.

(2)

تشاء المشيئة أن يفقد أبو العلاء بصَرهُ لتحل البصيرة محله، وهي الطاقة التعويضية في مثل هذه الحالات التي تعمل على وفق نسق مختلف عن الرؤية المباشرة، فتجمع ذخيرتها في باطنها السري وتتكتم عليه حتى تجد منافذها لاحقاً. البصيرة تجرّد الأشياء من ماهياتها الثابتة وتتوغل في رؤياها كثيراً وتستجلي صورها القريبة من ذائقة البصير وعلمه وثقافته وموضوعيته، ولأن اللون الأحمر له دلالاته الرمزية المعروفة فقد احتفظ به المعري وهو ابن السن الرابعة ولم ير لوناً غيره أو لم يكترث لغير هذا اللون في إضماماته الروحية والتفسية. وكما لكل بصيرٍ بَصَرَه الاستثنائي في رؤيته للحياة ومتفرعاتها وإشكالياتها، فإن أبا العلاء أشكلت عليه كثير من قضايا الوجود والدين والعلاقة الروحية بينهما فتشكك وصامَ وتجرأ على المقدس وزهد ولبس خشن الثياب وطلّق المباهج اليومية معتكفاً ( فالأعمى عورة كما قال ) ورأى من منظور شخصي الكثير مما اعترض عليه في حياته، لاسيما اعتراضاته على مدّعي السلوك الديني وشعائر الأديان.

طبعت حياته فلسفة تشاؤمية سوداء قلَ نظيرها في التشاؤم، فكان كثير السخط على المجتمع والرعاع التابعين الى الأديان من دون أن يتفحصوا طريق الحق بنقاء ويبددوا أعمارهم في أوهام من صنع السلاطين، وهذه الفلسفة المعقدة جعلته يتشكك في أعقد الأمور وأكثرها حساسية، وأولها تشكيكه في الأديان، فالدين عنده بدعة ابتدعها القدماء ليقبضوا على السلطة وهو الذي خبرَ أمراء بغداد وحلب والمعرّة، ولعل إثاراته الكبيرة في عصره هو انتقاده لبعض عقائد الإسلام كتشبيهه الحج برحلة الوثني أو تقبيل الحجر الأسود الذي عدّه صورة من صور الجاهلية وهذا ما جرّ عليه غضب رجال الدين المتشددين من ذوي الركائز الثابتة العمياء، وبلغ به السخط من الواقع والحياة ما طلب في وصيته أن يُكتب على قبره ( هذا جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد ) في إحالة قدرية يستنكرها كونه انوجد في حياة لا تنفتح كثيراً على الجمال والحركية وأنساق الجدل، بل يريد عصرُهُ منها أن تتقولب في جماد الدين وثوابت السلف التي يعترض عليها بشدة ووضوح وجرأة كبيرة. بل في كتابه الوعظي « فصول وغايات» الذي نسجه شعراً قلّد فيه طريقة الكتابة في القرآن الكريم كما لو يريد أن يقول أن لغة القرآن ليست إعجازية الى هذا الحد وهو يقترف سلوكاً مغايراً لكتّاب جيله من حيث اقترابه ودخوله في النص المقدس الذي لا يمكن التّماس معه أو الإقتراب منه أو تقليده.

هذه الجرأة هي رديفة رسالة الغفران المتخيلة التي يحتفظ بها التراث السردي العربي كأثرٍ روائي غريب في تجلياتها الروحية والنفسية واللغوية والنقدية أيضاً، والتي انطوت على فرضية زيارته الى الجنّة ولقائه بشعراء الجاهلية والإسلام ومحاورتهم عبر شخصية (ابن القارح) بما يذكر بكوميديا دانتي الإلهية وفردوس ميلتون المفقود، ويذكّر أيضا بالإسراء والمعراج في رحلة الرسول الى السماء؛ وتجلت بلاغته الكبيرة حيّة وفلسفته ممكنة في رصده لمنافذ الحياة ونوافذها في الشمولية والإتساع والمنطق والمخالفة والرأي الآخر والوصف واللغة الباطنية والعلم والفلسفة والولوج الى مكمن المقدس بروح معرفية حتى لو نعترض على سياقاته الفكرية وجماليات التأويل المعرّية.

هذا الخيال العجيب جعله يفيض بعلومه بأنساق ومتواليات كثيرة بين النقد والتاريخ والتفسير واللغة والتوصيف القرآني وهو يتنقل بين الجنة والنار عبر تلك الشخصية القارحية التي كشفت عن سعة ثقافة معرّيّة لا مناص من الإعتراف بأهميتها التاريخية، فكان الرجل الشاعررالفيلسوف والفيلسوف الشاعر في ثنائية لم يكتسبها الكثيرون في عصره أو حتى العصور التي سبقته أو اعقبته، فالنظر الى الحياة من خلال الشعر قد لا يكون حاسماً في إذكاء جذوة التمرد بين مجموعات بشرية جبرية في خياراتها، وبالتالي سيكون الشعر غواية من غوايات كثيرة يعج بها الفضاء المتحول من جاهليته الى دينه الجديد الذي للمعري فيه وجهة نظر في بعض تفصيلاته الحيوية، بل في بعض طقوسه وأركانه الأساسية.

لذا فالنسق الفلسفي سار بوتائر متصاعدة في يوم الحشر الغفراني ومترابطة بين إيقوناتها المعرفية من نقد ووصف وتاريخ وفلسفة وبلاغة وبراعة تحت ركائز يسودها الشكل العام للحياة في منطق الشك وصيرورته، تعززه نظرة تشاؤم عميقة الغور في روحه.

قال المعري في رسالة الغفران ما لم يقله في كل كتبه، فالشاعر الأعمى الذي يتحسس وجوده في كتلة الظلام ابتعد عن جسده مسافة طويلة في إشكالية نفسية ذاتية صنعها مرض الطفولة الذي أفقده علاقته المباشرة مع مجتمعه وبالتالي مع الحياة عامة. لذلك ابتعد حرجاً عن جسده ولم يتزوج كي لا ينجب أطفالاُ بجنايته الذاتية، فقمع رغبة الذكورة فيه الى أقصى حال؛ وظل هذا الرجل النباتي يتنقل بين النثر والشعر وبصيرته تحقق في مجريات الحياة

وهو ما جعل من طه حسين (البصير مثله) أن يتقصى روح الفيلسوف والشاعر والزاهد والمتشكك؛ إرث المعري في رسالة الى أبي العلاء المعري كأول حادثة أكاديمية عربية لفتت الأنظار الى هذا الرجل المتشائم والسوداوي والقدري والعاجز عن الإصلاح.، يومها كان طه حسين شابا في مقتبل عمره (1914) وهو أول كتاب له، بعدها توالت إصداراته عن أبي العلاء وهي معروفة.

(3)

بلا تردد نقول أن المعري فيلسوف وجودي قرأ الحياة من زوايا مختلفة بعقلية ناضجة، لكن الفلسفة تتطلب نظرية وتنظيراً واسئلة وأجوبة وشكوك معرفية، وهو ما لم يكن سائداً في عصره بالشكل الأكاديمي الذي عليه اليوم، غير أن المعري بث وجوديته وقدرياته في أشعاره ونثره ومحاججاته المتينة التي انطوت على مقدرة لغوية وفكرية فذة في برهانه النظري العقلي الذي ينطوي على المنطق والشمولية في استقراءاته الكثيرة، حتى كان اختلافه عاصفاً في خلخلة الثابت من الشعائر والأديان والطقوس والمقدس المتفق عليه والتشكيك فيه، فالعصر العباسي الذي عاشه المعرّي كان عصراً حافلاً بالمعارف والعلوم والآداب في ازدهاره وفرادته التي أنتجت خير ما أنتجته من اسماء لامعة في مختلف العلوم.

كان المعري أحد أوتاد الحياة الثقافية العباسية شعراً ونثراً وتمكن من إعادة صياغة الكثير من المفاهيم السائدة في عصر بروح العقل الذي يمتلكه والإنسانية التي تسري بين كتبه مهما قيل عنه من تقاطعات فكرية ودينية. فالاجتهاد المعرّي له ما يبرره ويواسيه أيضاً..

كما نواسيه اليوم بقطع رأسه !

(كاتب من العراق)

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى