صفحات العالم

نزاع استراتيجي في الشرق الأوسط على الهيمنة والريادة/ هنري لورنس

 

 

 

نشب نزاع استراتيجي في الشرق الأوسط لا يقتصر على نزاع بين السنّة والشيعة فحسب. ويبدو أن طهران تسعى إلى بلوغ البحر المتوسط، وإلى إنشاء «حزام أمني» يحمي إيران، من طريق نقل مسارح النزاع إلى خارجها. فهي اجتيحت ثلاث مرات في قرن واحد: في الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، والحرب الإيرانية– العراقية، وتكبدت خسائر بشرية بالغة. ويعود تحالف إيران مع نظام بشار الأسد إلى رغبتها في توسع جغرافي أكثر مما يعود إلى «تضامن» مزعوم بين الشيعة. ومع السيطرة على قسم من العراق وسورية ونفوذها الراجح في لبنان، أفلحت إيران في بسط هذا الدرع أو الحزام الأمني. ويرى من هم في السلطة في طهران اليوم، وسبق لهم المشاركة في ثورة 1979، أن الهيمنة الإقليمية الإيرانية هي إحياء للحظة الثورية. وتبعث هذه الهيمنة ردود الدول العربية التي تشعر أنها مطوقة.

ويغلب على المنطقة نازع إلى التسلح. وعديد قوة إيران مئات آلاف الرجال، ولكن وفاضها خال من عتاد عسكري متطور تكنولوجياً. وعلى رغم أنها صدعت بوقف السعي إلى سلاح نووي، الردع النووي في متناولها في أشهر قليلة. فهي حين أوقفت برنامج التسلح النووي كانت على قاب قوسين من حيازة القنبلة الذرية، أي في مرحلة «ما تحت العتبة (النووية)»، أي القدرة، في آن، على التزام مبادئ عدم الانتشار النووي وعلى تصنيع قنبلة في ستة أشهر. ولا شك في أن المفاوضات النووية شابها التباس. ورأت طهران أن المضمر في المفاوضات مفاده «لن تصنعوا (من جهتكم) القنبلة ونقرّ (من جهتنا) بمكانتكم قوة إقليمية كبرى». ودعت واشنطن إسرائيل ودولاً عربية إلى القبول بمقتضيات الاتفاق هذا ومترتباته، والتزمت تزويدها بعتاد حربي أميركي وازن لطمأنتها. ولكن الجنرالات الإيرانيين فاقموا التوتر، ولم يمسكوا أنفسهم عن التغني بقوتهم، واستفزاز قوى عربية. وواحد منهم تبجح في وسائل الإعلام بأن بلاده تسيطر على أكثر من عاصمة عربية: صنعاء، ودمشق، وبيروت وبغداد…

وعلى خلاف الإيرانيين، يملك القطب العربي أحدث التكنولوجيات العسكرية. وتدور في اليمن حرب في مقدور أطرافها تدمير البلاد، ولكن الطرف العربي يحجم عن سياسة الأرض المحروقة هناك. واليوم، النزاع مع قطر وإيران ظهر إلى العلن. والولايات المتحدة التي رجعت عن الاضطلاع بدور شرطي المنطقة، خلفت فراغاً مخيفاً. وعودة إيران المتوسلة بالقناع الشيعي إلى الساحة الديبلوماسية الدولية مصدر قلق. ولذا، على قطر التي تنتهج سياسة مهادنة إزاء إيران حسم أمرها وتبديد موقفها الملتبس: فإما أن تنحاز إلى المعسكر العربي وإما إلى المعسكر الإيراني. وتحاول الدوحة توسل مواردها المالية الكبيرة الى ترسيخ موقع خاص في الميزان الاستراتيجي الإقليمي العربي. ومن أدواتها استعمالها كتلة «الإخوان» المنتشرة في شبه الجزيرة. وهذه المجموعة (الإخوان) هي صاحبة نهج سياسي يخالف مناهج معظم الجماعات السياسية الحاكمة وغير الحاكمة. وفي أزمة 1990-1991، انحاز «الإخوانيون» إلى صدام حسين، واستمالوا جزءاً من الرأي العام. وفي الأردن، يشارك «الإخوان» في الانتخابات، وهم تارة مع المعارضة وتارة أخرى مع النظام.

وأبرز أدوات نفوذ قطر هي قناة «الجزيرة» التي تستدرج المتكلمين واصحاب المواقف المتعاكسة شرط ألا تتناول النظام الحاكم في الدوحة. وهذا الضرب الجديد من الإعلام لم يكن مألوفاً في عدد من بلدان الشرق الأوسط. وعلى رغم اعلامها غير الموثوق، على الدوام، استقطبت القناة جمهوراً متعدداً. وفي مستهل الربيع العربي، أيدت «الجزيرة» محمد مرسي في مصر، و «النهضة» في تونس.

وحملت تركيا على تأييد قطر في الأزمة اليوم، عوامل، منها الاقتصادي- انتشار شركاتها هناك- ومنها السياسي: إبراز نفوذها في المنطقة، وإن كان بسطها نفوذها في العراق وسورية مسألة شائكة ومعقدة. ودفاع أردوغان عن قطر وجه من محاماته عن «الإخوان». فهو، حين بلغ هؤلاء السلطة في مصر وتونس، أدى دور الشقيق الأكبر المتمرس وصاحب الخبرة. ولكن استراتيجيته اليوم تشكو مرض أناه المتضخمة. وشاغله المباشر هو جواب سؤال: ما السبيل إلى حماية حدود بلاده الجنوبية– الشرقية في وقت يعاني جيشه من تبدد صفوف القيادة منذ انقلاب صيف 2016. ويفتقر سلاحه الجوي إلى طيارين. وعلى وقع تعاظم المصاعب، يتفاقم اضطراب خطواته. ولم يعد شريكاً «أطلسياً» موثوقاً. وانتهى به الأمر إلى الوقوف موقف المتفرج من عملية استعادة الموصل والرقة.

ولا يرغب أحد في اشتعال نيران البركان اللبناني. فثمة نوع من توازن رعب هناك ومصالح اقتصادية كبيرة. وأي خطوة تساهم في تغير موازين القوى هي في مثابة انتحار. فأميركا تدعم الجيش اللبناني، وهذا يهيمن عليه «حزب الله» الإيراني الولاء. وشريان حياة الدولة اللبنانية هو المساعدات السعودية، والمسيحيون منقسمون. وعليه، تغض واشنطن النظر عن أعمال «حزب الله» في لبنان على رغم احتجاج الإسرائيليين. ولم يتمدد داعش إلى لبنان، على رغم المخاوف من انتقال عدوى النزاع السوري إلى لبنان.

وموقف الرئيس الأميركي من أزمة قطر يغفل أن 10 آلاف جندي أميركي يرابطون في قطر، وأن قيادة الجيش الأميركي، «سنتكوم»، في المنطقة مركزها في الدوحة. ومنذ هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، لم تعد السياسة الأميركية في الشرق الأوسط واضحة المعالم. ففي عهد بوش، ظهرت أميركا في صورة المحارب المنتقم. وفي عهد أوباما، لعبت أميركا دور «الاسكندينافي»، أي المُسالم. واليوم، سياسات ترامب مضطربة. ومع اضطراب الدور الأميركي أو غموضه في المنطقة، تبسط إيران جناحيها. وترامب لا يفقه شيئاً في المنطقة. وديبلوماسيوه في حيرة من أمرهم، على خلاف العسكريين الذين يعرفون المنطقة من كثب. فهم حاربوا في أفغانستان أو العراق. ومنهم من يريد الانتقام. ومنهم من لم تندمل جروحه الناجمة عن هزائم بوش ويرغب في الانسحاب من الشرق الأوسط والنأي عن لهيب المنطقة هذه.

والاتحاد الأوروبي شريك تجاري وازن في المنطقة. والكل يلجأ إلى أوروبا حين تتوتر علاقاته بالولايات المتحدة. واستثمرت قطر في القارة القديمة أكثر من 400 بليون يورو. وتعرض إيران على أوروبا عقوداً اقتصادية مجزية. ولكن أوروبا لا ترغب في أكثر من هذا الدور التجاري في الشرق الأوسط. فالغرب لا يريد الانزلاق إلى أتون المنطقة هذه. لذا، يكتفي بإرسال منظمات غير حكومية إلى أزمة اليمن فحسب. وتراجع الدور الغربي بارز في سورية والعراق. فإثر حربي أفغانستان والعراق، أدركت الدول الغربية أنها لا تملك موارد الإمساك بالأرض. ونموذجها العسكري الجديد اسمه «حرب عصابات متطورة التكنولوجيا»، وأدواته هي جمع معلومات استخبارية وطائرات من غير طيار، وعمليات قوات خاصة تدعمها ميليشيات حليفة.

* مؤرخ، عن «لوبــوان» الفرنسية، 29/6/2017، إعداد منال نحاس

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى