صفحات الثقافة

حوار مع ألبرتو مانغويل عن بورخيس: ما لن يحدث.. قد يكون هو الفعل الجمالي!


أجرى الحوار : الكسندر غيفن (Alexander Gefen)

ترجمة : الحسن علاج: يستعيد ألبرتو مانغويل (Alberto Manguel) ـ في هذا الحوار ـ إلى أي مدى قام مرشده ببلبلة نظرية الأدب، لكن أيضا ‘إلى حد ما كان بورخيس عاطفيا’، فيما وراء اهتمامه بالفكر المجرد.

روائي، كاتب مقالات، صحافي يمتلك معرفة هائلة وابتكارية خارقة، كان ألبرتو مانغويل واحدا من بين أولئك الذين، ابتداء من الستينات، قاموا بالقراءة لصالح بورخيس الذي أصيب بآفة العمى. مؤلف لكتاب مديح جديد للجنون المدهش في سنة 2011، قام ألبرتو مانغويل بسرد لقاءاته بالمعلم الأرجنتيني في كتاب عن بورخيس (2003 ).

نمتلك في الغالب رؤية فلسفية عن بورخيس، تم تقديمه كمؤلف تجريدي. خلافا لذلك، فأنتم تلحون على العمل الأسلوبي، الحساسية.

ألبرتو مانغويل. ثمة مظهران اثنان لبورخيس. في بداءة الأمر، هناك الوجه المهني الصرف، الجانب الحرفي، الساعاتي، الميكانيكي. فعلى سبيل المثال، يلاحظ أن بورخيس، في جريدة بيوكساريس، وهو يحلل نصا من وجهة نظر البناء، التركيب، اللغة. فعندما عنون بورخيس كتابه بـ (El Hacedor) والذي يحمل عنوانا بالفرنسية هو المؤلف ونصوص أخرى، و ( El Hacedor) هو ترجمة حرفية لعبارة الصانع، وهي ترجمة حرفية أيضا لعبارة الـ ‘شاعر’ في اللغة الأنجلو سكسونية القديمة، لكن ضمن معنى الحرفي. فما كان الأصوب أن تكون الترجمة المؤلف، بل ‘الحرفي’، وهو الشخص الذي يصنع شيئا ما بيديه، بشكل غاية في الحسية، ومن جانب آخر، هناك ذلك البورخيس الغارق في التجريد، حيث كل شيء يصدر عن تفكير فلسفي، ميتافيزيقي، على أنه لاينبغي أن ننسى إلى أي درجة كان بورخيس رقيق المشاعر. شغوفا ببعض الأجناس كالملحمة، فقد كانت له جاذبية غريبة لصالح نوع ما من العنف المادي : ثمة بعض حكايات كيبلينغ أحبها بورخيس كثيرا والتي أرعبت بيو ( Bioy) بفظاعتها.

ومع ذلك فإن هذا الحرفي ذا المشاعر الرقيقة قد غير فكرتنا عن الأدب.

ربما قد يكون المظهر الأكثر إثارة للاهتمام أو الأكثر أهمية لعمل بورخيس ضمن ما نسميه تاريخ الأدب أو تاريخ القراءة يكمن في أنه لا يحمل شيئا جديدا. فهو يعمل على استعادة اكتشافات وابتكارات تمت على امتداد تواريخنا الأدبية، وذلك بهدف إعادة نشرها، وتمكيننا من اكتشافها، وبغية توظيفها في تركيبات مختلفة. فإلى حدود بورخيس، كان الأدب مكونا من جزر يلجها القراء : كانوا يقومون بجولة حول الجزر، ثم إنهم كانوا يقفلون راجعين بهدف اكتشاف جزيرة أخرى . فبورخيس هو الذي جعلنا ندرك أن كل هذا ينتمي إلى المكان نفسه. فهو يعمل على استعادة استعارة قديمة، وهي القائلة بأن العالم مثل كتاب نكتبه وننكتب فيه. إن فكرة زيارة الأدب ليس بوصفه جزرا صغيرة بل مثل مكان عام تم التعبير عنها بواسطة شيلي ( Shelley)، الذي تحدث عن كل الشعراء مسهما في إيجاد قصيدة كونية. كما نجدها [ الفكرة ] عند فاليري، الذي يتحدث عن نص واحد كتبته ربة الفن أو كتبه الروح القدس ثم دانتي ونحن نساخ لذلك النص. ثمة مؤلف واحد مثلما يوجد نص واحد وقارئ واحد بأوجه متعددة. أعتقد أن هذا هو ما منحه إيانا بورخيس: ذلكم السخاء الهائل للقراءة… فمنذ بورخيس، لن نستطيع الكتابة أبدا كما لو أننا كنا نكتب شيئا جديدا. لأنه، فحتى لو أنكم لم تدركوا ذلك، فقد يوجد قارئ بورخيسي يكتشف أن في عملكم ارتباطا مع البقية المكتوبة برمتها.

وإذا فما الحاجة إلى الكتابة مادمنا نفتقد القدرة تماما على الإتيان بما هو جديد ؟

مع كثير من التواضع من أجل البداية، وبكبرياء أقل بكثير. فقد أودع بورخيس القراء رسائل شرفه. فالكاتب، من بعده، لن يكون الوحيد المسؤول عن ترتيب الأدب. ولم يكن هذا في يوم من الأيام صحيحا، لكننا كنا نعتقد ذلك. أو الاعتقاد بأن تاريخ الأدب قد تم البت فيه من قبل هوميروس، شكسبير والآخرين يشكلون اختياراتنا، الاختيارات التي قمنا بها، كقراء، أمام ما كان متوفرا لنا. أعتقد أن رؤية الأدب، هذه، قد منحتني، بوصفي قارئا وكاتبا، حرية لا محدودة. وقد حمل لنا ذلك انفراجا هائلا، كون أننا نقول: لم نعد بحاجة أبدا إلى تشييد جمهوريتنا الخاصة بقوانين جديدة، بلغة جديدة ؛ نحن ورثة تقليد يمتد في الماضي والمستقبل، والذي يجعل من الأدب كله معاصرا.

كذلك فإن عمل بورخيس حافل بعدد من الأفكار يكون بالإمكان العثور فيها على الجديد في الأدب، بيد أنه صاغها من كلمات بطريقة جلية كفاية حتى تصبح من بنات أفكاره. فعلى سبيل المثال، في نهاية ذلك النص القصير الموسوم بـ ‘السور والكتب’، في بداية تحقيقات أخرى، فقد حاول تعريف التأثير الجمالي ؛ انطلق من كون أنه اكتشف يوما أن الإمبراطور الصيني الذي شيد سور الصين أيضا هو من رغب في تدمير الكتب التي تقدمته. اقترح فرضيات عدة كي يتوصل إلى معرفة ما الذي يستهويه وما الذي يعنيه ذلك، وقد توصل إلى عدم معرفة لماذا هو مرتهن إلى ذلك جماليا. فتلفظ الجملة التالية : ‘إن ذلك الحدوث القريب لتجل ما، لن يحدث، قد يكون هو الفعل الجمالي ربما’. وبالنسبة لي، إنه التعريف الأكثر وضوحا لماهية الفن، ولما يجذبنا في الفن.

*هل كان بورخيس واعيا، في آخر أيامه، بما أحدثه عمله من تعدد القراءات وإعادة القراءات ؟

*يوجد لدى بورخيس، وربما أكثر لدى بعض الكتاب، وعي أكثر صفاء للفرق بين الإنسان الذي كانه، شخصية بورخيس التي أبدعها، وبورخيس الكاتب. إني أقوم بتمييز بين الشخصية والكاتب، لأن الشخصية تعتبر كاتبا، غير أن الشخصية ليست منعكسة تماما في كتاباته. فالشخصية التي ابتكرها كانت إنسانا متواضعا جدا، ذا أخلاقية عالية، قارئا كان يعترف بأذواق معينة، بتقزز معين، وكان يندهش باستمرار عندما يتم الاهتمام بعمله. كان بورخيس الإنسان يعرف تماما أنه بصدد كتابة عمل على الأهمية بمكان، ومنذ شبابه، كانت تأخذه سورة غضب ضد غباوة من كانوا يجهلون ذلك، نوعا ما على طريقة دانتي. كان دانتي يعرف تماما كونه كان كلاسيكيا : ففي ما قبل ـ الجحيم، حيث يخرج هوميروس والشعراء الآخرون لاستقبال فرجيليوس ودانتي بين أحضانهم، وذلك ما جعل من فرجيليوس مبتسما، وكأنه يقول في نفسه: ‘ومع ذلك، يوجد هوميروس، هوراس والآخرون’. على أنه، بالنسبة لدانتي، فذلك هو ما كان هناك، بالضبط. وبالنسبة لبورخيس كذلك، فمكانه كان هناك، ليس لدي أدنى شك بخصوص ذلك. لكن، بالنسبة للشخصية بورخيس، فلا. فالشخصية التي احتمى بها كانت تقول باستمرار: ‘إنكم تبالغون في تشريفي ملتمسين مني مخطوطا. لماذا تبدون اهتماما بأبيات هذا الشيخ الأعمى؟’ على انه لو قمتم بنقل شيء عنه وارتكبتم أدنى خطأ، سيعاتبكم على الفور، لأنه يحفظ عمله عن ظهر قلب. يخاطبكم بالقول: ‘لا، لا، توجد فاصلة وليس نقطة’. كذلك، فقد كان على دراية ابتداء من الستينات أنه كان يقرأ في العالم قاطبة. فكيف به لا يكون على علم بذلك؟ إنه كان أثرا حقيقيا تجب زيارته فور الوصول إلى بوينس آيرس. كما قال دريو لاروشيل: ‘بورخيس أهل للزيارة’.

*هل تعتقدون أنه كان يؤمن صادقا بهذا في آخر أيامه، في محاضراته حول الخلود؟ او هل كان ذلك يشكل جزءا من تلك الشخصية التي كان يرغب في خلقها؟

*إن ذلك شيء غير مألوف، كما تعلمون. فهو يجيب عن ذلك بنفسه، لكنه بمجرد ما يقدم جوابا على ذلك، فجوابه ينتمي إلى بورخيس الشخصية التي ابتكرها. ففي نهاية ‘التفنيد الجديد للزمن’، أكد بأن: ‘الزمن نهر يحملني، لكني أنا الزمن ؛ إنه نمر يفترسني، لكني أنا النمر ؛ إنه نار تحرقني، لكني أنا النار. من أجل تعاستنا، يعتبر العالم واقعيا، وأنا، من أجل تعاستي، فأنا بورخيس’. إنه يخرج من الدائرة التي رسمها، لكن بخروجه منها، فهو يصوغ ما خرج به من كلمات، ثم إنه يعود ثانية إلى الدائرة. يقول بعدم الإيمان بها، وبقوله بعدم إيمانه بها، فإنه يتحول إلى أدب.

عن المجلة الفرنسية : ( Le Magazine Litt’raire) عدد: 520 يونيو 2012

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى