صفحات العالم

التغيير السكاني القسري في سوريا وتداعياته الداخلية والإقليمية/ د. خطار أبو دياب

 

_211 التدمير الذي قام به النظام، لا ينم فقط عن أطماع عقارية مستقبلية أو عن انتقام من حاضنات الحراك الثوري، لكنه يؤكد على التغيير الديمغرافي لإعادة تركيب البلاد إداريا واقتصاديا وسياسيا.

يطرح ابن خلدون عنصر الشعب كأحد العناصر الهامة للدولة، وهو لا يكتفي بذلك بل يؤكد أولوية هذا العنصر على السلطة بشكل خاص عندما يقول: “إن الملك والسلطان من الأمور الإضافية، فالسلطان من له رعية..” (من كتاب المقدمة).

بيد أن الأكاديمي الفرنسي ايف لاكوست يعتقد أن ابن خلدون يقصد القبيلة القائدة عند ذكره للشعب والسكان مستندا إلى نظريته في العصبية كأساس للحكم. وفي هذا الجدل غير المباشر حول الشعب والرعية والعصبة الموالية تبرز ثغرات تكوين الدولة العربية المعاصرة ومساعي الحكام في تشكيل تركيبات سكانية تسمح ببسط نفوذهم. وإذا كان هذا الأمر لا يقتصر على سوريا وجوارها، فإن تطورات النزاع فيها منذ أكثر من ثلاث سنوات تبين بجلاء خطورة ما يحدث من فرز سكاني وتطهير يستهدف فئات بعينها في مسعى لتغيير وجه البلد وربطه بمشروع امبراطوري إيراني متغلغل من العراق إلى لبنان، دون أن يزعج ذلك القوتين غير العربيتين أي إسرائيل وتركيا.

عبر التاريخ لم تكن الحدود الجغرافية لبلاد الشام مستقرة، وهي تختلف جوهريا عما هي عليه التقسيمات السياسية والإدارية الراهنة والتي هي وليدة اتفاق سايكس- بيكو ووعد بلفور. هكذا منذ نكبة فلسطين إلى حروب لبنان (1975-1990) والحروب حول العراق وعليه (1982-2014)، حفلت هذه المنطقة من العالم بالعديد من الانقلابات والتغييرات وأبرزها النزوح الفلسطيني ومشاكل الأقليات القومية والدينية من لبنان إلى العراق، لكن ما حصل في سوريا منذ 2011 ينذر بمخاطر كبيرة نتيجة حجم التغيير في التركيبة السكانية وآثاره المحتملة على وحدة الأراضي السورية وتوزع السكان فيها، بالإضافة إلى امتدادات هذا الوضع إلى دول تركيبتها الديمغرافية هشة في الأساس مثل الأردن أو لبنان، أو العراق الذي لم تحسم فيه المسألة الكردية بعد.

يشكل المسلمون الغالبية العظمى من سكان سوريا الذين يقاربون 23 مليون نسمة، وتقدّر إحصائيات موثوقة أن نسبة أهل السنة تبلغ أكثر من 74 بالمئة من إجمالي السكان (إلى جانب العرب السنة هناك المكوّنات غير العربية وأبرزها الأكراد ثم التركمان والشركس والشيشان والبشناق (البوسنيون) والأرناؤوط (الألبان). تعيش في سوريا أقليات إسلامية أكبرها العلويّون (11 بالمئة) والموحِّدون الدروز(3 بالمئة) والشيعة الجعفريون (1 بالمئة) والإسماعيليون (0.5 بالمئة). وهناك بالطبع أقلية مسيحية متنوعة منتشرة على امتداد الأرض السورية.

وحاليا تشير الأرقام التقديرية للتهجير واللجوء داخل البلاد (من منطقة إلى أخرى)إلى نحو ستة ملايين نسمة، أما الأرقام التقديرية للنزوح واللجوء خارج البلاد فتقدر بنحو ثلاثة ملايين نسمة. وبالنسبة إلى المدن الأكثر تضررا فهي حمص وحلب والقصير ودرعا ودير الزور وضواحي دمشق، أما المناطق الريفية الأكثر تضررا فهي ريف حمص وريف إدلب وريف حماه وريف درعا. وتدل هذه البانوراما المختصرة على استهداف طال الأكثرية السكانية من العرب السنة ومراكزها العمرانية الكبرى، وكأن المقصود بعد بغداد وبيروت والقدس استكمال تهميش هذه المدن التاريخية وتغيير وجهها الأساسي. وبما أن الغالبية الساحقة من المهجّرين والنازحين تنتمي إلى الطائفة السنية، يطمح دعاة تحالف الأقليات إلى تركيب قاعدة أكثرية بديلة للحكم.

الأمثلة الساطعة منذ السبعينات تبين لنا تعمد تدل عليه خطط التمركز حول دمشق وحمص على سبيل المثال. ومن الأمثلة الحديثة المرسوم التشريعي رقم 66 بتاريخ 19 سبتمبر 2012 القاضي بإحداث منطقتين تنظيميتين في نطاق محافظة “دمشق” ضمن المصور العام لمدينة دمشق، ومن الواضح أن خطط الهدم تطال الأحياء الثائرة في جنوب دمشق وصولا إلى حرستا. وهناك ما تعرضت له تسعة أحياء في حمص ومخيم النازحين في درعا وريف مدينة السلمية.

إن التدمير المنهجي، الذي قام به النظام وتخطى في بعض الأمكنة الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الثانية، لا ينم فقط عن أطماع عقارية مستقبلية أو عن انتقام من حاضنات الحراك الثوري، لكنه يؤكد على التغيير الديمغرافي لإعادة تركيب البلاد إداريا واقتصاديا وسياسيا. إن عملية التفريغ الديمغرافي الممنهجة تهدف إلى فرض أمر واقع على الأرض في سوريا الحيوية أو المفيدة للنظام عبر السيطرة على ريف دمشق والعاصمة والقلمون مرورا بحمص للوصول إلى الساحل السوري.

والحيز الجغرافي المذكور يحافظ على مركز القرار في دمشق، وعلى خطوط التماس مع إسرائيل كما يشكل امتدادا طبيعيا لمنطقة البقاع اللبناني، حيث معقل حزب الله وقواته المسلحة. وهكذا تبرز مصلحة إسرائيل في استمرار السيطرة على الجولان وعلى الجار المنهك ذي النظام الأقل سوءا حسب التعريفات، كما يخدم هذا الواقع الجديد مصلحة إيران ومشروعها الإمبراطوري عبر المحور الممتد من طهران إلى بغداد ودمشق وصولا إلى البحر الأبيض المتوسط كما كشف منذ أيام دون لبس مستشار خامنئي الجنرال يحيى رحيم صفوي. ويخدم هذا التبديل الديمغرافي والجيوسياسي مصالح روسيا للحفاظ على قاعدة طرطوس ومراكزها على الساحل السوري.

وأتت معركة كسب الأخيرة وكأنها تسهم في تركيز خط فصل بين العلويين في سوريا ونظرائهم في تركيا، مما يعطي أيضا منفذا بحريا صغيرا لأية تركيبة إدارية جديدة في حلب أو جوارها. ومن يلقي نظرة على إحكام الكرد السيطرة على مناطق تواجدهم وما يجري من حروب النفط حول دير الزور، أو معارك جوار خط التماس مع الجولان ومسعى إقامة جدار طيب، وهو ما يُذكّر بما جرى في جنوب لبنان، يستنتج بسرعة أن الانقلاب الديمغرافي والاهتراء السياسي والتشتت سيطيل عمر المأساة السورية وسبل حلها وتركيب البلاد على أساس الفدرالية أو الكانتونات أو الوصول إلى التقسيم بحد ذاته. وبما أن التوصل إلى ترتيب داخلي وإقليمي ودولي يحل مكان اتفاقية سايكس بيكو ليس في متناول اليد على المدى المنظور، يبدو أن الكيان السوري كما كيانات بلدان الدول المجاورة سيكون قيد الدرس أو الانتظار. والمريع أيضا الإصرار على إجراء انتخابات رئاسية في ظل غياب التغطية البشرية في حدها المقبول، والاستهتار بحق المغتربين والنازحين بما يذكر بالتغريبة الفلسطينية وتتماتها.

أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك- باريس

العرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى