صفحات الرأي

مديح الهرب


    محمد العبدالله

في كتابه “مديح الهرب”، يعتبر النفساني وعالم الاحياء هنري لابوريت ان الانسان، حين تواجهه تجربة صعبة أو يواجه تحدياً ما، يتصرف بواحد من ثلاثة خيارات: الأول خيار المواجهة، الثاني اللامبالاة أو “لا يفعل شيئاً”، والثالث هو خيار الهرب.

المواجهة هي الخيار الأكثر طبيعية. فعبرها لا يقع الفرد في مضاعفات نفس – جسدية (بسيكوماتيك). فالضربة التي يتلقّاها، يردّها بضربة يوجّهها، لكن هذا السلوك له سيئاته، اذ يؤدي الى الدخول في دورة من العنف والعنف المضاد. ثم لا بد ان تواجه، اخيراً، من هو اقوى منك، فتخسر الجولة.

اللامبالاة هي ان نبتلع غضبنا ونتصرف كأننا لم نشاهد العنف أو نشعر به. هذا السلوك هو الأكثر قبولاً وانتشاراً في المجتمعات الحديثة. ما يسمّى “اماتة الفعل”، واذ تكون لدينا الرغبة في تحطيم وجه الخصم، ولكن ندرك أخطار الدخول في مواجهة، فنتلقى الضربات المضادة وندخل في دورة العنف. لذلك نبتلع غضبنا. عندئذ فإن الضربة التي لم نوجّهها الى الخصم، تُردّ الينا، وفي هذه الحالة تزدهر الامراض النفسية العديدة.

الخيار الثالث وهو الهرب، يعبّر عن نفسه بأشكال عدة:

1- الهرب الكيميائي الى الكحول، المخدرات، التدخين، الحبوب المهدئة، الحبوب المنومة. هذه الوسائل تقدر ان تمحو، او، على الاقل، تخفف وطأة العنف الذي وقع علينا. اذ ننسى، نهذي، ننام… ويمر الأمر. لكن هذا النموذج من الهرب يدمّر ما هو حقيقي، بحيث لا يعود في استطاعتنا احتمال العالم المادي.

2- الهرب الجغرافي. ومفاده الانتقال الدائم من مكان الى مكان آخر. تغيير العمل. تغيير الاصدقاء، تغيير الأحباء، تغيير اماكن العيش. هكذا نهجر مشكلاتنا، لا نحلها البتة، ولكن نغيّر الديكور، ثم يصبح تغيير الديكور مطلباً في حد ذاته.

3- الهرب الفنّي، ومفاده تحويل الغضب والألم أعمالاً فنية. أفلام، موسيقى، روايات، نحت، لوحات. فكلُّ ما لم نفعله تجاه الخصم، نحوّله كلاماً وأعمالاً وأبطالاً متخيّلين، وهذا يمكن أن يُحدث، تالياً، مفعولاً استبدالياً للحياة الحقيقية. إن الذين يشاهدون ويخلقون الأبطال الذين ينتقمون في مواقف مشابهة للمواقف التي هربنا منها، يستمتعون بهذا الانتقام البديل، ويجعلون منه دورةً موازية للحياة الواقعية.

هذا التحليل الذي يسوقه صديقنا هنري لابوريت، على رغم وجاهته، إنما يدخل في ما يسمّى “المنهج الميكانيكي” الذي يعزل العناصر والامور بعضها عن بعض، بينما معاينة العناصر والامور معاينة واقعية، تؤدي بنا الى المنهج الديالكتيكي. في هذا المنهج، فإن خيار المواجهة قد يصل، بسب الظروف، الى اللامبالاة أو الهرب.

فالمقاتل يواجه خصمه، من حيث أن مهنته هي القتال (الجندي مثلاً) ولكن، في ظروف غير مؤاتية، يركن الى المفاوضة أو الانسحاب مهما تكن خطورة القضية التي يقاتل من أجلها. اللامبالي يصل، أحياناً، الى “حشرة” لا يستطيع معها اللامبالاة، فلا يهمّه حساب الخسائر والارباح ويقول: “طاب الموت”. هذا ما تعوّل عليه حركات التغيير والحركات الثورية، أي استجلاب اللامبالين والمحايدين الى صفوفها، كلما تصاعد الضغط عليهم وافتقدت لامبالاتهم الحدّ الأدنى من التحمّل والاستمرار. الفنان قد يكون، أحياناً، عنيفاً ومواجهاً وفي قلب “المعركة”، وترى غوغان عنيفاً ويدخل في مواجهات جسدية، بينما صديقه فان غوغ أكثر هدوءاً ويحوّل العنف الى نفسه. ترى أن ماوتسي تونغ الذي قلب الصين رأساً على عقب وصاحب نظرية “لا نستطيع أن نصنع الثورة بالشوكة والسكين”، ويقصد ضرورة “العنف الثوري”، تراه شاعراً ولا بد أن مجموعته الشعرية كانت الأكثر مبيعاً، في الصين على الاقل. كذلك هوشي منه، الذي هزم الولايات المتحدة الاميركية هزيمة نكراء، كان شاعراً ايضاً. أما صدام حسين ولا داعي أن أخبرك عن نوع عنف صدام حسين، فقد كان روائياً، وكذلك القذافي. وترى أن القبائل العربية التي عاشت، غالباً، في الصحراء فترة الجاهلية، كانت دائمة الانتقال لضرورات التفتيش عن واحات جديدة، بينما قبائل أخرى استقرت في الحَضَر (مكّة، يثرب، الطائف، إلخ…). وكانت قليلة الانتقال إلا لضرورات التجارة (رحلة الشتاء والصيف) وكانت كلها بدواً وحضراً، منتقلين ومقيمين، تمارس في ما بينها العنف اليومي وأعلى درجات العنف. وترى أن الفارس والشاعر عنترة بن شدّاد العبسي يؤسس لنظرية في هذا المجال الديالكتيكي حين يقول: “كنتُ أقدمُ حين أرى الإقدام عزماً وأُحجم حين أرى الإحجام حزماً”. أما الهرب الكيميائي الى الكحول وما شابهها، فإن جوزف ستالين الذي أسس الاتحاد السوفياتي فوق المجازر وجثث الملايين، كان سكّيراً موصوفاً، ومثله بوريس يلتسين الذي فرط الاتحاد السوفياتي. أما فرقة “الحشاشين” المشهورة، حين توزّع الاسلام فِرَقاً، فقد كانت أكثر هذه الفِرق عنفاً وهجومية، على الرغم من دخان الحشيشة المتصاعد.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى