صفحات مميزةنبراس شحيد

إلى قايين السوري


في حكايات “البداية”

    نبراس شحيّد

أمام حالة التوحّش المستشرية اليوم في سوريا، وأمام تفشي القتل والتلذّذ في التعذيب، يفرض “الشر” ذاته علينا سؤالاً، معضلةً لا نستطيع حلّها، وفي الوقت عينه لا يمكننا تجاهلها. من أجل هذا، حاولتُ في مقال سابقٍ أن أسلط ضوءاً خافتاً على بعض ملامح القاتل، من خلال مقاربة البنية الاجتماعية، السياسية، الثقافية التي تحتضنه، ليتجلّى “الشر”، بعضه، حالةً مجتمعيةً تُحكم بنظامٍ ديكتاتوري شمولي، يعمل على تدمير الوعي الفردي للإنسان فينا، فيصير القتل للقتل أمراً “عادياً” (ملحق النهار، 30/6/2012).

أعود اليوم إلى إشكالية “الشر” ذاتها، لكن لأطرحها من زاوية جديدة تحاول الغوص، هذه المرة، في رغبة القتل الدفينة في الإنسان. لكي أجد إلى ذلك سبيلاً، سأتناول بشكل سريع حكايات التكوين بحسب الكتب المقدسة، لأن حكايات “البداية” تقول، من خلال رموزها وسرديتها، الكثير ممّا لا يستطيع الخطاب “العادي” قوله، حين تحاول أن ترجعنا إلى “لحظة الصفر” الهاربة، فتضيء شيئاً من عتمة “الأصول”. من المنظور هذا، لا يقدم المقال هنا قراءةً دينية لـ”النص المقدس”، بل فلسفية بسيطة قد يتفق على بعضها المتدين وغير المتدين.

في العودة إلى رحم القتل

تحاول حكاية القتل الأولى، الواردة في القرآن الكريم، كما في الكتاب المقدس، أن تعود بنا إلى رحم القتل، لترسم الرغبة المتأصلة في الإنسان في إلغاء الآخر، فتحدد لنا شكلاً جديداً من آليات “الشر” العاملة فينا: غيرة “أوّل” أخٍ من أخيه، قايين من هابيل! تروي الحكاية كيف نظر “الله” إلى قربان هابيل بعين الرضا، من دون أن ينظر إلى قربان أخيه. تقلب نظرة “الله” هذه، على الرغم من غموض دوافعها، موازين القوى السائدة في الحكاية، لأنها تقلب نظرة الأم التفضيلية: “وعرف آدم حواء امرأته فحبلت وولدت قايين، وقالت اقتنيت رجلاً من عند الرب، ثم عادت فولدت اخاه هابيل”. حواء اقتنت رجلاً وتهلّلت عندما ولدت قايين الكبير، في حين غابت كلماتها مع ولادة الصغير. قايين إذاً مُلكٌ لأمٍ اقتنته، أما هابيل فبعيدٌ عنها، مغيّبٌ في لغتها، وله اسمٌ يرسم حالته في الوجود: “هابيل”، ويعني البخار! هو إذاً من دون كثافة وجودية، بل مجرد دخانٍ عابرٍ لا يهم أحداً! هنا تدخل نظرة “الله” في الحكاية لتقلب الموازين، وتجعل من بخار الشخص شخصاً، فيستفيق الوحش في قايين، لأن هابيل الذي لم يكن له من الوجود إلاّ الهباء، صار إنساناً له قيمة، لهذا صار خصماً!

في العودة إلى رحم الأم

عندما أُحيط هابيل بنظرة، فصار شخصاً مستقلاً لا شبحاً أو دخاناً، لم يعد في وسع قايين الكبير أن يكون مطلقاً في الوجود، كما كان في عيني أمه، ومن أجل هذا قَتَل من انتزع منه مطلقيته! المقصود بالمطلق هنا حالةٌ من التضخّم الذاتي، يتموضع فيها شخصٌ ما في مركز العالم، محتلاًّ المساحة كلها، فلا يُبقي مكاناً لآخر، لأنه لا يقبل الحدود. لكن هذه الحاجة إلى المطلق التي دفعت قايين إلى قتل أخيه، كانت هي نفسها حاجةَ أمّه حين أكلت من ثمر “الشجرة الممنوعة”، التي لم تكن إلا شجرة “التألّه” الذاتي (النص التوراتي) أو شجرة “الخلود” (النص القرآني)! تحيلنا رمزية الشجرة المحرَّمة، كما يشير بعض الفلاسفة كبول ريكور (“رمزية الشر”، 1960)، على غيرة الإنسان من “الله”، ورغبته المتأصلة في أن يصير إلهاً مطلقاً، يؤلّه ذاته نافياً كيان الآخر. هكذا، تنسج حكايات التكوين ذاتها من صنّارة الغيرة، فإبليس يغار من آدم، والإنسان من “الله”، والأخ من أخيه، لأنهم يرغبون جميعاً أن يصيروا كلاً في كل! بهذه الطريقة فهمَت حكايات “البداية” أصل القتل الأول، وعلى هذا النحو رسمت لنا شيئاً من ماهيته، ليتجلّى وجهٌ أساسيّ من وجوه “الشر” فينا: الانسياق وراء الحاجة إلى المطلق، على نحوٍ لا يعترف بكيان الآخر، فيبرّر قتله منذ “قديم الزمان” وصولاً إلى حاضرنا السوري، حيث يفرض النظام الحاكم ذاته كمطلقٍ منافٍ لمبدأ الآخرية (إلى الأبد… أو نحرق البلد)!

في مطلقية الألم

لا يجتمع النصان، التوراتي والقرآني، فقط على مقاربة القتل الأول انطلاقاً من الحاجة إلى المطلق، بل على مقاومة الحاجة إلى الانتقام من القاتل أيضاً: “لئن بسطت يدك لتقتلني ما أنا بباسطٍ يدي لأقتلك”، يقول النص القرآني على لسان الأخ لأخيه؛ أما النص التوراتي فيقول: “جعل الرب لقايين علامةً لكي لا يقتله كل من وجده”! ترسم الحاجة إلى الانتقام هنا شكلاً آخر من أشكال الحاجة إلى المطلق، فعندما تستولي علينا الحاجة الانتقامية، لا الرغبة في العدالة، يتمحور الإنسان ألمه، فلا يرى إلاّهُ، ليصير الألم كلاً في كل. هنا، تُختزل الحياة في الحاجة إلى رد الصاع صاعين على نحوٍ يُفقد الإنسان حريته، مستسلماً إلى شعور المرارة وإلى غيرة “المقتول” من قاتلٍ لا يزال حيّاً! من غيرة القاتل من المقتول إذاً، إلى غيرة “المقتول” من القاتل، مروراً بغيرة الإنسان من “الله”، ترسم حكايات “البداية” حاجتنا إلى المطلق، وترى فيها محركاً أساسياً من محركات القتل المجاني، تالياً، وجهاً رئيسياً من وجوه “الشر”.

رسالة إلى قايين السوري

“قايين، أنا أخوك هابيل الذي تقتله. هابيل الذي أحرقت محلّه في إدلب، ونهشت جثّته في دوما، واغتصبته في درعا، وأطلقت عليه النار في حمص، وقتلت أطفاله في الحولة، واعتقلته من أمام البرلمان لأنه قال لك: “أوقفوا القتل”! نعم، هابيل الذي كان هباءً، صار له صوتٌ واسمٌ وكيان! تصوّر يا قايين، هابيل اليوم يتظاهر لأنه يريد أن يكون حراً، تصوّر بعد صمت السنين! لي إخوةٌ قتلتَهم أنت أيضاً، وهم الآن يريدون الانتقام منك، يريدون أن يصيروا قايين مثلك، أمّا أنا فلا. استيقظتُ من موتي لأذكّركَ فقط بأنك لن تستطيع أن تستأصلني من تربتي! قبل أن تطلق النار عليَّ، كنتَ تستطيع أن تحصرني في المكان، هناك في الشارع أتظاهر حاملاً جهاز التصوير، أو متسكعاً في أحلامي. نعم، كنتُ سابقاً هناك في مكانٍ ما، أما اليوم فأنا في كل مكان. لقد صرت المكان، صرت الوطن، لا لأرعبك، بل لأقول لك إني ما زلت موجوداً، هنا باقياً. المُخلِص هابيل”.

 (راهب يسوعي سوري)

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى