صفحات الثقافة

الضيق


نديم جرجورة

بات أفق العيش اليومي في بلد ممزّق ضيّقاً. الضيق متنوّع. حاضر هو بقسوة شديدة في المجالات كلّها. في الأزقّة والعلاقات والعمل والمتع المنقوصة. في التواصل والعزلات. في الأمكنة العامّة والحيّز الخاص. في الكتابة والتفلّت من رقابة الجسد وسلطة العقل. الأفق ضيّق للغاية. لم يعد مجرّد نزوة عابرة. لم يعد مجرّد حالة مؤقّتة. لم يعد مجرّد تعبير عن لحظة، أو بوح ذاتي. المأزق أن اتّساع الجغرافيا أمام الفعل العشوائي سمح بتحوّل الضيق إلى نمط حياة. إلى سلوك إنساني مفرّغ من كل إحساس عفوي. إلى أسلوب خطاب وحوار. المأزق أن اتّساع الجغرافيا على أمكنة اللهو والسهر مثلاً سمح بانتشار الغضب والتوتر والغليان، المنزّهة كلّها عن أي همّ بتبديل أحوال ذات، أو بلد.

بات أفق العيش اليومي ضيّقاً. الإقامة في فوهة بركان مؤجّل اندلاعه أشبه برحلة في اليباس، لشدّة ضيقها. أو لقوّة حدّتها في مواكبة دقائق الزمن. أو لقسوة بطشها في دفع الجميع إلى هوّة اللاعودة. البركان لا يندلع. اليباس لا ينتهي. دقائق الزمن أبطأ. الحكايات مفقودة. ترف الانشراح على شرفة العالم مسيّج بحديد ونار. متعة السهر داخل أروقة اللانهاية منحورة على مذبح الجنون. بهاء العزلة سوطٌ لا يرحم. فرح الانكفاء عن العالم صوتٌ صارخ بضجيج من أجل لا شيء. الزهوّ بتحقيق أحلام طريقٌ إلى كوابيس وأوهام. لم يعد الضحك حقيقياً. لم تعد الصداقات خلاصاً. لم يعد الحبّ ملاذاً من جحيم الأرض.

بات أفق العيش اليومي ضيقاً. النفس أيضاً. الروح. الجسد. كل شيء ضيّق. والضيق، إذ يجعل من نفسه ثقافة عيش متكامل، يُموضع المرء عند انفلات في اتجاهات متضاربة. والمرء، إذ يخضع لشقاء كهذا، يُغني الضيق بأمزجة ملعونة، وبانفتاح دائم على جراح لا تندمل. الشارع حكرٌ على من جعل أفق العيش اليومي ضيقاً. المدينة منغلقة على براعة الكذب في كتابة تاريخها الجديد. البلد ذاهبٌ إلى أقصى الاعتكافات. الضيق سيّد اللعبة. قادرٌ هو على جعل النفاق أصدق من الحكايات. أو أبرع من النهايات في خَتم البدايات. كأنه مفتون بدهائه في إقامة حدّ عازل بين متعة مفقودة، وغريزة الاندغام في فراغ الزحمة. كأنه معقودٌ على مناكفة الوحدة. أو مهووس بمحاصرة ضوء أخير في نفق أبديّ.

بات أفق العيش اليومي ضيّقاً. اللعنة. من أين تأتي التفاصيل المُشعِّة داخل هزيمة اللحظة؟ من أين تأتي حكايات الشقاء؟ معالم الفناء؟ مطارح الأنس المغيّبة؟ ملامح الوجه الطيّب الهارب من قصر الأشواق إلى متاهة الأقبية المزنّرة بالفراغات؟ مجالس الخيبات؟ توهان الأصحاب؟ من أين تأتي العيون المكسورة، المعلّقة على خدود مفتوحة على أنهار من أوجاع؟ من أين تأتي عتمة الأشياء المُظلِمة؟ من أين يأتي التهالك العظيم؟

اللعنة. بات أفق العيش اليومي ضيّقاً.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى