رضوان زيادة

فلاسفة التشكيك أو الثائرون على الحداثة


د. رضوان جودت زيادة

كان بول ريكور أول من أطلق على كل من ماركس وفرويد ونيتشه لقب أساتذة التشكيك، ويشرح ذلك قائلاً (لو عدنا الى القصد المشترك في ما بينهم لوجدناه في اعتبار الوعي أولاً وفي مجموعه وعياً “زائفاً”، ان الفيلسوف المكوّن في مدرسة ديكارت يعرف ان الأشياء قابلة لأن يُشك فيها، وانها ليست بالشكل الذي تظهر فيه، غير انه لا يشك في ان الوعي ليس كما يظهر لنفسه، ففي الوعي يتطابق المعنى مع الوعي به، منذ ماركس ونيتشه وفرويد أصبحنا نشك في ذلك، فبعد الشك في الأشياء، دخلنا في مرحلة الشك في الوعي نفسه) فقد كان فرويد قد تحدث في مقالة له عام تحت عنوان “صعوبة أمام التحليل النفسي” عن الجراح النرجسية التي مُني بها الانسان منذ نشأته، فكوبرنيكوس قلب معادلة المركزية الأرضية في النظام الكوني وقرر ان الأرض هي التي تدور حول الشمس وليس العكس كما كان شائعاً في النظريات التقليدية واليونانية القديمة، مما جعل مركزية الانسان باعتباره سيداً للكون تتعرض للاهتزاز والاختلال، اذ أصبح تابعاً للنظام الشمسي وليس مركزاً للكون والنظام الفلكي. ثم جاء داروين ليصيب الانسان بجرح آخر عندما اكتشف ان أصله ليس سامياً أو إلهياً وانما يعود أصله الى السلالة الحيوانية. فالإنسان الذي اغتر بنفسه معتبراً انه سيد البشرية وأصلها على هذه الأرض وجد ان نسله يعود الى القرد. أما ثالث الجراح فكان مع فرويد نفسه عندما اعتبر ان الانسان ليس سيد نفسه ومالك قراره، فالنفس لم تعد مع فرويد مركز ذاتها، اذ تحت سطح الوعي يكمن اللاشعور حيث تصنع قرارات الانسان الأكثر مصيرية، وهكذا فأصيب الانسان بجرح نفسي بعد الجرحين الكوني والبيولوجي. فالإنسان الذي طالما تباهى بحيازته ملكة الوعي، ها هو يفقد امتيازه ذاك عندما أكد فرويد ثورة في الوعي والتأويل، ولم يتحقق ذلك عن طريق اختراع غير المألوف أو غير المتخيل بقدر ما أعطوا معنى جديداً لشيء أبرزوه وأظهروه، فمعهم تغيّرت علاقتنا مع الطبيعة والذات والأصل، مما أضفى رؤية مغايرة عززت مشروعية الانسان الغربي نفسه في مشروعه الحداثي على الرغم من انه أصيب بجراح نرجسية آلمته لكنها فتحت أمامه آفاقاً جديدة مختلفة كلية عن السابق، فالشك والنزعة النقدية كلاهما جعلاً ديكارت يؤسس ترسيخ الذات الانسانية ويدشن مشروعه العقلاني الذي ستنبت منه بذور الحداثة في أولى خطواتها. لذلك من الطبيعي ان تكون بذور ما بعد الحداثة تبتدئ من الشك. فما قام به ماركس ونيتشه وفرويد الذين هم فلاسفة التشكيك كما يطلق عليهم مفكرو ما بعد الحداثة أسسوا لإمكانية قيام تأويل جديد على حد تعبير فوكو، فهم لم يضفوا معنى جديداً على أشياء لم يكن لها معنى، وانما غيّروا في الحقيقة طبيعة الدليل، وبدّلوا الكيفية التي كان بإمكان الدليل ان يؤول بها، وهنا يدخل فوكو في عملية تأويل للتأويل الذي قام به كل من ماركس ونيتشه وفرويد في قراءتها للمشروع الحداثي، فمفهوم السطح شديد الأهمية عند ماركس، ذلك ان ماركس بيّن ان كل ما يوجد من عمق في مفهوم البرجوازية عن النقود ورأس المال والقيمة ليس في الحقيقة إلا سطحيات، وهنا يتقاطع ألتوسير مع فوكو في قراءتهما أو تأويلهما لماركس، فحسب ألتوسير لا تعترف النظرية التاريخية لماركس بوجود الذات ولا الفاعل التاريخي على عكس ما يشيع لدى الماركسيين الأرثوذكسيين، وهو لذلك يستعير مصطلح القطيعة المعرفية (الإبستمولوجية) من غاستون باشلار ليعيد توظيفه في التطور الفكري لماركس، اذ يقسم حياته الفكرية الى مرحلتين كبيرتين لا توجد بينهما استمرارية بقدر ما تترسخ القطيعة. فالمرحلة الأولى والتي هي مرحلة الشباب تمتد الى كتاب (الإيديولوجيا الألمانية) عام حيث كان ماركس واقعاً تحت تأثير الفلسفة الهيغلية مركزاً على الانسان بوصفه وعياً وإرادة، وعلى التاريخ بوصفه غاية وتقدم، أما في مرحلته الثانية أو مرحلة النضج فقد أعاد ماركس النظر في العلاقة الجدلية بين الإيديولوجيا والواقع، فلم تعد الإيديولوجيا مجرد وعي زائف أو غير مطابق للواقع تكفي إعادة تصويبه حتى يتم التخلي عنها ونبذها مثلما تبشّر بذلك النظرية الوضعية استناداً الى سلطة العلم، بل هي علاقة متينة بالوجود الاجتماعي للأفراد وليست مجرد بنية فوقية مضافة اليها، وسيخضع ماركس اذاً لعملية التأويل المضاعف كما يسميها امبرتو ايكو، سيصر الفلاسفة الجدد (لا تحيل هنا عبارة الفلاسفة الجدد الى التاريخ الزمني بقدر ما تعبر عن ممارسة جديدة للفلسفة وإعادة قراءة لمفهومها ووظيفتها بشكل مختلف مع دولوز وفوكو ودريدا وغيرهم بحيث لم تعد الفلسفة تلك الأبنية المعرفية الكبرى التي تجعل من مهماتها اعادة تفسير العالم والبحث في أسئلته الميتافيزيقية، وإنما أصبح دورها يتحدد في اجتراح المفاهيم والأدوات المعرفية بوصفها وسيلة التعرف على الذات والآخر بما يؤكد في النهاية نزعة الاختلاف ويرسخ التعدد والتنوع والمغايرة) على قراءة ماركس بوصفه ناقداً للحداثة ومقوضاً لأسسها، بل ان دريدا سينعش طيف ماركس بوصفه روحاً متجددة علينا ان ندعو الى تكاثرها والنهل من ينبوعها، وبمحاذاة ماركس سيُعاد اكتشاف فرويد من أجل تأويلها أو بالأصح تأوّله، ذلك ان فوكو يصر باستمرار على قراءة فرويد بوصفه نيتشوياً.

استيهامات

حيث لم يقرأ المرض على انه نتيجة صدمة بل حاول ان يبحث عن الاستيهامات الكامنة في منطقة اللاشعور الخفي الذي يحكم الانسان، وبذلك أهمية الانسان من وجهة نظر فرويد لا تكمن في كونه كائناً عاقلاً، ولا في كونه ذاتاً قاصدة وواعية متحكمة في نفسها، ولكن بوصفه كائناً حيوياً له حاجاته ورغباته المرتبطة بدوافع الغريزة ودوائر اللاوعي، ففرويد هزئ من الحداثة ومشروعها القائم على العقلانية والأنسنة عندما ردّ العقل نفسه الى دائرة اللامعقول باعتباره أحد منتوجاته ومفاعيله، فالمعقول أصبح طريقاً للامعقول وهذا ما دفع جاك لاكان لوصف التحليل النفسي الفرويدي بأنه يكشف لنا عن البيانات اللاشعورية التي تتحكم بسلوك الانسان الذي لطالما اعتبر نفسه أنه الأكثر تحكماً بحركاته والأشد عقلاً لها ووعياً بها. أما نيتشه نبي ما بعد الحداثيين ورسولهم ـ كما يصفه البعض ـ فقد تعرض الى عمليات بعث وإعادة تأويل واستعادة مستمرة، فالنقد النيتشوي للحداثة أسس لتيار خاص به، تيار يسعى الى تقويض بداهات العقلانية الغربية وكل القيم الملازمة لها عن طريق رفضه للقول بمنطقية الوجود أو الإيمان بغائية الكون، ذلك ان النماذج المنطقية التي يثبتها فلاسفة الميتافيزيقا لا تعدو سوى ان تكون أوهاماً يصرّون على معايشتها من أجل حفظ تماسكهم الوجودي، وهكذا فيمكن التأكيد بكامل الشرعية على حد تعبير جياني فاتيمو ان فلسفة ما بعد الحداثة انما ولدت في كتابات نيتشه، وبشكل أخص عن مجموعة الأعمال التي كتبها بعد كتابه (إنساني مفرط في انسانيته) وهي تشتمل على كتابي (الفجر) في عام وكتاب (العلم المرح) عام .

ان نيتشه في نصه (إنساني مفرط في انسانيته) ينظر الى الحداثة بوصفها انهياراً، ولكنه لم يعد يبحث عن الخروج من الحداثة باللجوء الى قوة مخلّدة، بل يسعى الى إحداث انحلالها عن طريق تحذير النزعات التي تتسم بها، وذلك بإجراء نقد للقيم العليا في الحضارة مما يؤدي الى تلاشي مفهوم الحقيقة وانعدام كل أساس للاعتقاد بأساس، أي لواقع يتأسس على الفكر وهذا ما يسميه نيتشه (إرادة الحقيقة) اذ لم يتبق للحياة والعالم معنى سوى إرادة القوة المحضة. لذلك لن يكون بالإمكان الخروج من الحداثة بتجاوز نقدي من داخلها، بل وجب البحث عن مخرج آخر، وهنا نصل الى اللحظة التي يمكن تحديدها بوصفها لحظة ميلاد ما بعد الحداثة على غرار إعلان موت الإله في كتاب (العلم المرح) وهنا يمكن المماثلة بين صرخة نيتشه في (موت الإله) التي كانت بمثابة الاعلان عن تصدع جميع الضمانات التي كانت تسمح بتعقل العالم، وتطويحاً بجميع المرتكزات والماهيات، بما في ذلك الانسان نفسه الذي أصبح مجرد لعبة للتشتت والاختلافات في وجود عرضي لا ماهية له وبين مفهوم نيتشه عن (العود الأبدي) اذا تأولناه على انه الكشف عن ماهية الحداثة بوصفها حقبة إرجاع الوجود الى الجديد، فموت الإله كان ضرورياً بالنسبة لنيتشه لأن الانسان لا يتحمل ان يترك شاهداً عليه على قيد الحياة وبتعبير نيتشه نفسه (لقد وجب للإله حقاً ان يموت، لأنه كان يرى عمق الانسان وخلفيته، كل عاره وقبحه المخفيين، كانت شفقته بلا حياء، كان يتسلل الى الثنايا الأشد قذارة، هذا الفضولي، هذا الفاقد للتحفظ، محسوس الشفقة هذا، لقد وجب ان يموت فقد كان ينظر اليّ بلا انقطاع، أردت الانتقام من هذا الشاهد أو ان أكف عن الحياة.

غائية

بعد موت الإله سيكتشف الانسان ان هذا العالم لن يكون حقيقياً، انه عالم وهمي واختراع قائم ما وراءه، فالعالم ليس مبنياً إلا على حاجات الانسان النفسية الخاصة به، فهو ليس مؤسساً إطلاقاً على الإيمان به، لكن المرء لا يتحمل هذا العالم الذي لم تعد له الإرادة لنفيه، لذلك فقد وصل المرء الى الشعور بانعدام قيمة الوجود حين فهم انه لا يمكن تفسيره في مجمله لا بواسطة مفهوم “الغاية” ولا بواسطة مفهوم “الوحدة” ولا عبر مفهوم “الحقيقة” لا يصل الى شيء، لا يبلغ شيئاً بهذه الطريقة، ان الوحدة الاجمالية مفتقدة في تعدد الصيرورة، اذ ليست ميزة الوجود في ان يكون “حقيقياً” بل ان يكون “زائفاً”، فلم يعد للمرء أي مبرر لإقناع نفسه بوجود عالم حقيقي، باختصار، ان مقومات الغاية والوحدة والكينونة التي أعطينا بفضلها قيمة للعالم انما نستعيدها منه، ويبدو العالم كما لو انه فقد كل قيمة. فإرادة القوة كما يرى بيير بودو تمثل آخر جهد نيتشوي للسيطرة على الزمن، فالانسان والعالم اللذان تحركهما إرادة القوة يخلقان العودة الأبدية في الوقت نفسه الذي يعطيانها فيه، فلا تعود بناهما الزمنية تتعاقبان في التطور، فهما يقفان جامدين متناغمين مثل خواء مليء بالوعود، مهدّدين مثل كائنات كاملة على وشك الدمار لهذا السبب فإنهما اذ يجمدان نفسيهما في الحيّز، يحاولان ايضاً ان يجمد الزمن فيهما لكي يعيدا تقويمه، لإفقاده دواماً كان يحركهما، وكذلك لأجل اعادة الزمن لجوهره ولعدمه الأولين، فكل شيء يحدث كما لو كانت إرادة القوة أولاً رفضت لتلويث الزمن والحياة، وكما لو كان المقصود من الحياة ان تتوقف في الزمن لإفقاده معنى حضوره ووجوده، وهكذا بات الزمن البعد المطلق لإرادة القوة التي ليست كذلك إلا بفضل وجود نوع من الغائية تصطدم بالزمن الكوني الذي يصبح “زمناً من دون هدف” في الوقت نفسه الذي يكون فيه محتوماً لكي تبقى إرادة القوة في حالة التوتر، ان نعرف ان جهدها محكوم عليه بالفشل وان تعرف انها محكومة بالبقاء أيضاً خارج الزمن، فما يمتلكه المرء بالفعل لا يعود يمكنه ان يريده وتستغرق فلسفة نيتشه العدمية لتضع الانسان في حكم البعث الأبدي حتى في حال النجاح، فمسعاه لا معنى له لأنه ينزع نحو مماهاة مستحيلة بين إرادة القوة والزمن المنفصلين، وهذا ما يمد فلسفة ما بعد الحداثة بالمشروعية الفلسفية عن طريق اتصالها التأويلي المستمر مع نيتشه بوصفه العدمي أو العبثي الأول، فالتأويل كما انتهى الى ذلك فوكو في قراءته لنيتشه تجربة أساسية، اذ كلما أغرقنا في التأويل نقترب، في الوقت نفسه، من منطقة شديدة الخطورة لا يرتد عندها التأويل على أعقابه فحسب، بل يختفي كتأويل، محدثاً معه اختفاء المؤوّل نفسه، فبما ان النقطة النهائية للتأويل تظل دوماً نقطة تقريبية، فإن ذلك يعني وجود نقطة انفصال، تلك النقطة التي ينتهي اليها التأويل ليصبح مستحيلاً، عندها نصل الى شيء شبيه بتجربة الحمق أو الجنون كما انتهى نيتشه تماماً الى ذلك في أيامه الأخيرة حيث بدأ الهذيان رفيقه الدائم وخمدت روحه أو اضطربت التي لطالما بحثت عن المجد والعظمة، واذا كان نيتشه قد عاش أفكاره وهذا قلما يتحقق للفلاسفة فإن عدميته الوجودية كانت مصداق خطابه العدمي الذي لم يقرأ فيه دعوة الى مجرد السلب او العبث بقدر ما أراد احصاء مظاهر المرض او الانهاك التي تعرضت لها القيم والمجتمعات الحديثة، لقد أراد نيتشه ان يبعث الروح في خواء الانسان، ان يخلق معنى وجوده ويتحمل مسؤوليته في ادارة مصيره ووضع مستقبله بصورة لا تأسره فيها هوية مسبقة او تعريف حاسم ونهائي وهذا ما يجعل نيتشه معاصراً لفكر المعاصرين او ما بعد حداثياً اكثر من الذين يعيشون العصر لكنهم لا يمتلكون روحه مما يجعل الحاجة لاستعادته ليست مشروعة فحسب وانما جزء من مشروع الوصل الفلسفي القائم على ابتعاث الرواد من اجل اجتراح الجديد والكشف عن السابق لكي يكون اللاحق وارثاً شرعياً ومالكاً لنبوءة الماضي التي لا يحدسها إلا رواد الذاتية وليس نيتشه إلا أولهم ونبيهم المتجدد، ولذلك لن نرى غريباً ان يصر هيدغر على اعتبار نيتشه ميتافيزيقياً ولكن بمظهر جديد، حيث ستعني الميتافيزيقا عند هيدغر الانطولوجيا، فارادة القوة التي اعلنها نيتشه يستعيدها هيدغر في ارادة القدرة اذ لم يعد الوعي تصوراً نظرياً بل صار حساباً تابعاً للقدرة، قدرة المرء في تحويل الوعي الى معرفة لا تقيم حساباً إلا لذاتها، وعندها يتم تحقيق تجاوز الميتافيزيقا الاشكالية الرئيسية التي حكمت تفكير هيدغر في معظم أعماله، فقد كان يصر على ان نوجه ضرباتنا الى الميتافيزيقا داخلها، لان حلم تجاوزها لن يتحقق بدون ذلك. فتطور فكر هيدغر الذي بدى واضحاً في كتابه “الوجود والزمان” قاده الى ضرورة العمل من اجل تدمير تاريخ الانطولوجيا مما جعله يؤكد على التطابق الجذري بين مهمة الفكر وعمل التدمير او التفكيك، وهنا ستكون نقطة البداية لدى دريدا الذي سيعيد قراءة هيدغر وفقاً لادواته المعرفية والمنهجية الجديدة.

ان الوضوح الكبير في تقارب مراحل السيرة الفكرية لكل من نيتشه وهيدغر يكشف ان النتيجة العدمية للانحلال الذاتي لمفاهيم الحقيقة والأساس لدى نيتشه تجد ما يوازيها في “اكتشاف” هيدغر للسمة “الحقبية” للوجود عند هيدغر، اذ ما عاد بإمكان الوجود ان يعمل بوصفه أساساً لا بالنسبة للأشياء ولا بالنسبة للفكر، فإذا انتقلنا الى الاشكالية المركزية لدى النقاد ما بعد الحداثيين في هجومهم على الحداثة لوجدناها تتمحور في اعتبارهم ان الحداثة تفتقد الاساس الذي انبنت عليه او انطلقت منه، بمعنى غياب الأسس الموضوعية لافكار التقدم والعقلانية والتنوير وغيرها، فهذه القيم تجد شرعيتها من حقلها الميتافيزيقي وليس من أساسها الموضوعي الذي تفتقده، وما زالت الحداثة بعد قرون تبحث عنه، لذلك ظهر الفكر ما بعد الحداثي وكأنه فكر الهية او متعة على حد تعبير فاتيمو، ذلك ان القيمة المحررة في فعل التفكير والتذكير تغيب عنه، ويظهر على الدوام بوصفه مجرد اعادة دفاعية للموروث الميتافيزيقي، فالفكر ما بعد الحداثي يأخذ على الحداثة عدم ادراكها لأسسها القائمة عليها، إلا انه بالمقابل لا يمكنه ان يقدم أساساً لتغيير عملي “للواقع” مع تحفظ كبير في استخدام هذا اللفظ، الذي يبدي ما بعد الحداثيون وخاصة ليوتار أهمية خاصة له وتوظيفاً معرفياً مختلفاً عن ما ظهر في سياق النظريات العلمية والوضعية، ولذلك يجد هؤلاء في هيدغر مبدع أسئلة الميتافيزيقا لانها تطرح معها طبيعة الانسان، ولأن سؤال تجاوزها يتعلق بمصير الواقع الانساني لقد قدم هيدغر مقاربة لذلك اثناء قراءته لتصورات العالم الحديث، فاعتبر ان الميتافيزيقا تؤسس عصراً، وتمنحه من خلال تأويل محدد للوجود، ومفهوم معين للحقيقة مبدأ تشكله الأساسي، وهذا المبدأ يقلب رأساً على عقب، جميع الظواهر التي تميز هذا العصر، ويتحكم فيها، ذلك ان الظواهر الأساسية للأزمنة الحديثة التي يتجلى فيها هذا العصر تقوم على أساس العلم والتقنية، وتحول الفن الى موضوع للتجربة الانسانية المعاشة، وظهور التأويل الثقافي للحضارات، وأخيراً الانسلاخ عن المقدسات واستبعادها، ولا يعني ذلك مجرد تنحيتها ونكرانها، بقدر ما أصبح العالم ينظر الى نفسه باعتباره لامنتهياً ولا مشروطاً ومطلقاً.

لقد وصل هيدغر اذاً الى لحظة تجاوز الميتافيزيقا بعد شعوره بأن الميتافيزيقا قد بلغت أوجها وان تاريخ الميتافيزيقا هو ضروب من الأوهام والأخطاء الأساسية، إلا انه مع ذلك فلا يمكن تصور مرحلة من مراحل التفكير الانساني من دون ظلال ميتافيزيقية لأنها قدر الوجود ومأواه، ولا سبيل الى التخلص من ذلك سوى تفكيك الميتافيزيقا بما يؤدي في النهاية الى تقويض جميع مرتكزات الوجود الانساني، عندها لن يبقى سوى الانسان عارياً من الأوهام أمام حقيقة الوجود وبذلك تكون الأرضية المعرفية والنقدية التي يشتغل عليها كل من نيتشه وهيدغر متقاربة ان لم تكن موحدة، وستكون تربة مناسبة لتنبت على آثارها أفكار ما بعد الحداثيين الذين يصرّون على العدم بوصفه حقيقة الوجود ومعنى الحياة.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى