مراجعات كتب

إيلينا فيرّانتي: العالم النسائي المشحون بالعنف/ طارق أبي سمرا

 

 

لنقُل الأمور كما هي، ببساطةٍ وذاتيّةٍ مُطلقة، بسذاجةٍ وحتى بشيءٍ من السفاهة: إن “صديقتي المُذهِلة”(*)للإيطاليّة إيلينا فيرّانتي أجملُ رواية راجعتها حتّى الآن.

كنتُ قد سمعتُ بـ”رباعيّة نابولي”–السلسلة الروائية الضخمة التي تُشكِّل “صديقتي المُذهِلة” أوَّل أجزائها–من أصدقاءٍ نصحوني بقراءتها، كما اطّلعتُ على بعضٍ من المديح منقطع النظير الذي أغدَقته الصحافة الأميركيّة على هذا العمل وعلى مؤلِّفَتِه مجهولة الهويّة، المتوارية خلف الاسم المستعار إيلينا فيرّانتي، فقلت لنفسي بشيءٍ من الإستخفاف والتعالي: “قد أحاول يوماً قراءة هذه الكُتُب… لكن كلّ هذا التمجيد… وكلّ هذا الرواج الشعبي… إن الضجّة المفرطة حول عملٍ ما ليستنذير خير”.

وكم كنتُ على ضلال! فبعد أن استجبْتُ أخيراً لإلحاحِ شخصٍ أثِقُ برأيه، وقرأتُ الصفحات الخمسين الأولى من “صديقتي المُذهِلة” في ترجمتها الفرنسيّة، وجدتُ نفسي عاجزاً عن التوقف، فأنهيتُ الرواية سريعاً وانتقلتُ توّاً إلى الجزء الثاني فالثالث من “رباعيّة نابولي” (أما الجزء الأخير، فلم يُترجَم إلى الفرنسيّة بعد). كانت تلك أيامُ قراءة محمومة، تملّكتني خلالها نشوةٌ قلّما اختبرْتُها بعد سنّي المراهقة. ففيرّانتي تُتْقِن شيئاً صار نادراً، يتجنَّبُه الكثير من الكُتّاب باعتباره لا يليق بالأدب الرفيع: روايةُ الحكاياتِ بطريقةٍ مُشوِّقة للغاية، تدفعُ القارئ إلى التهام الصفحات بنهم لمعرفة ما الذي سيحدث لاحقاً. حتّى إن فيرّانتي لا تتوَّرعُ في الـ”رباعيّة”، عن اللجوء إلى التقنيّات السرديّة الخاصّة بالمسلسلات التلفزيونيّة الدراميّة الطويلة، فتتبَّعُ، على مدى فترة زمنيّة تتجاوز نصف قرنٍ، مصائر حوالي أربعين شخصيّة روائيّة، موليةً عناية بالغة في نقل صغائر شؤون عيشها وكبائرها: من الحياة المنزليّة اليوميّة وما تنطوي عليه من شجارات صاخبة وعنيفة، مروراً بالصداقات والخصومات والنميمة؛ بالغراميّات والزواج، الخيانات والفضائح، الإنفصال والطّلاق؛ الإنجاب وتربيّة الأطفال؛ الإرتقاء الإجتماعي أو الإنزلاق نحو الفقر المدقع؛ وصولاً إلى وفاة بعض الشخصيّات وارتكاب بعضها الأخر جرائم قتل. وخلال لحاقه اللاهث بكل هذه الأحداث والتقلّبات – بكل هذه الحبكات المتناسلة والمُتداخلة –، يشعر القارئ أنه على وشك اكتشاف شيءٍ لم يُقَل من قبل: شيء يصعُب تحديده، عَثَر، في أعمال إيلينا فيرّانتي، على شكله الأدبي والروائي لأوّل مرّة. وها هو معاوية عبد المجيد، الذي نقل “صديقتي المُذهِلة” إلى العربيّة، يمنحنا فرصة الكتابة عن هذا الشيء الغامض والجديد، علّنا ننجح في الإهتداء إلى بعضٍ من ملامحه.

***

لنَعُد أدراجنا الآن ونبدأ، مرّة أخرى، من “صديقتي المُذهِلة”. تتمحْوَر هذه الرواية، كما “رباعيّة نابولي” بأكملها، حول علاقةِ صداقةٍ بين امرأتيْن (إيلينا وليلا)، موضوعٌ أقلّ ما يُقالُ فيه إنه نادرٌ جدّاً في الأدب. حين تختفي ليلا، البالغة من العمر 61 سنة، بشكل مفاجئ، ماحِيَةً كلّ أثرٍ لها – ثيابها، أغراضها، صورها، إلخ–، تُقرِّر إيلينا أن تستعيد، كتابةً، قصّة الصداقة التي جمعت بينهما منذ أيام الطفولة حتّى الآن، آملةً بذلك أن تجد تفسيراً ما لهذا الإختفاء. هكذا تعود بنا الراوِيَة إلى حيٍّ عمّالي فقير من أحياء مدينة نابولي، في الخمسينات من القرن المنصرم، حيث نشأت، بين فتاتيْن في السابعة من عمرهما، صداقةٌ اتّسمت، منذ اللحظة الأولى، بهوسِ كلا طرفيْها واحدهما بالآخر، حدّ أن مفردة “الصداقة” تتبدّى مُقصِّرة في توصيف هذه العلاقة توصيفاً دقيقاً. فما يربُط بين ليلا ابنة الإسكافي، وإيلينا التي يعمل والدها بوّاباً في مبنى البلديّة، أمْتَنُ من أيّ صداقةٍ، وأشدُّ ولعاً واضطراباً من أيّ عُشْق.

في واقع الأمر، إن كلّ ما نعلمه عن هذه العلاقة يقتصر على وجهة نظر إيلينا؛ أما ليلا، فتبقى، في كثيرٍ من أفعالها وجوانبِ شخصيّتها، عصيّة على الفهم حتّى للراوِيَة نفسها. منذ تعارُفهما، تُفتتَن إيلينا بليلا، بهذه الطفلة العبقريّة والمُشاكسة، العنيدة والبريّة، التي تكاد أن تكون خارقة: فهي قد تعلّمت القراءة لوحدها، وتفوقّت على جميع أترابها في المدرسة دون بذل أي جهدٍ يُذكر؛ هي لا تخاف أحداً، لا المُعلِّمة وعقوباتها، لا صبيان الحيّ الذين تُقاتلهم بالحجارة، ولا والدها الذي ينهال عليها ضرباً لأتفه الأسباب؛ كما أنها سليطةُ اللسان، يهابها حتّى الكِبار، إذ تبدو وكأنها تمتلك قدرات سحريّة تُخوِّلها تحقيق أيّ شيء تبتغيه، ما يدفع البعض– ومن ضمنهم إيلينا أحياناً –إلى وصفها ب”الشريرة”.

بالنسبة إلى إيلينا، ليلا هي المثال الأعلى الذي تقتدي به، ما تطمح أن تكونه وما يحثُّها على محاولة تخطّي نفسها باستمرار، بالرغم من يقينها أنها لن تتقدّم أبداً على صديقتها، وأنها ستحتلّ دوماً المرتبة الثانية، في المدرسة كما في الحياة. إلا أن غرابة هذا الإفتتان تَظْهر حين تتخطّى إيلينا صديقتَها في السعّي وراء حلمهما المُشترك بمُغادرةِ حيِّهِما الفقير، ومع ذلك يُلازمها الإحساسُ بأن ليلا تتصُّدر السباق. فمهما تعاظمت نجاحات إيلينا، ومهما اشتدَّ بؤس ليلا، تبقى هذه الأخيرة، في عينيّ الراوِيَة كما في عينيّ القارئ، مُمْتلكةً لشيءٍ مجهول وسحري– أو ربما شيطاني –، يحيلها بعيدة المنال حتّى وهي في الحضيض.

منذ سنّ مُبكر إذَن، تحلم هاتان الفتاتان بالهروب من هذا الحيّ حيث يسود المُرابون ومافيا الـ”كامورا”، وحيث يتفشّى العنف بأشكاله الصريحة، كالعراك في الشوارع والحانات، وضرب الرجال لزوجاتهم وأولادهم، والإغتيال أحياناً؛ كما بأشكاله المستترة التي تتغلغل في جميع علاقات الأهالي ببعضهم البعض، فتخلق جوّاً من الإحتقان الدائم. أضف إلى ذلك الضائقة الماديّة الشديدة التي يعاني منها معظم سكّان الحيّ، وشعورهم بإحباطٍ وعجزٍ مُزْمِنَيْن، فتتّضح حينها صورة هذا المكان الذي تسعى بطلتا الرواية للتحرّر منه. سبيلهُما الوحيد إلى ذلك التفوُّقُ في المدرسة، ما تُحققه ليلا بسهولة كبيرة، وإيلينا بجهد مضنٍ. إلا أن دربيْهما يفترقان بعد نيلهما الشهادة الإبتدائيَّة، إذ لا يرى والديّ ليلا مبرراً لمتابعتِها تعليمها، فتترك عندها مقاعد الدراسة لتشرع في مساعدة أمّها في تدبير شؤون المنزل، والعمل مع أبيها في محلِّه لتصليح الأحذية. وحين تُصبحُ مراهقةً فاتنة ومثيرة، لا تجد مخرجاً من مأزقها سوى الزواج من أحد شباب الحيّ الأغنياء والنافذين، فتقبل بـ”ستيفانو”، البقّال الثريّ الذي تربطه علاقاتٌ بمافيا الـ”كامورا”، خطيباً لها.

ينتهي الجزء الأوّل من “رباعيّة نابولي” بحفل زفاف ليلا؛ إيلينا التي بين الحضور، تتهيّأ للذهاب إلى الجامعة، وتشعر أنها صارت غريبة عن الحيّ وأهله الذين تصفهم بالرعاع. هما لم تبلغا السبعة عشر عاماً بعد : ما زالت أمامهما حياة بأكملها، سيكتشفها القارئ في ثلاثِ رواياتٍ لاحقة.

***

إن إحدى أبرز السمات التي تشترك فيها كلّ روايات فيرّانتي دون استثناء، أكانت “رباعيّة نابولي” أو الأعمال السابقة كـ”أيّام االهِجْران”(**)، هي تمحوُّرها حول الشخصيّات النسائية. في هذه الروايات، مكان الرجال في الخلفيّة: صحيحٌ أنهم قد يلعبون أدواراً ذات أهميّة من حيث تأثيرها على تطوّر الحبكة، لكنّها أدوارٌ تظلّ دائماً ثانويّة. لا يعني ذلك أن هؤلاء الرجال شخصياتٌ مُسطّحة أو كاريكاتوريّة، بل أن حيواتهم ودواخلهم ليست موضِع تساؤل روائي، لا من قبل المؤلِّفة ولا الراوِيَة (في عالم فيرّانتي، ثمة فقط راوِيَات)، ولا حتّى من قبل القارئ. بهذا، تكون فيرّانتي قد قلبت رأساً على عقب معادلة سائدة عند الكثير من كبار الروائيين الرجال، حيث الشخصيات النسائية، حتّى لو رُسِمَت بعانية، مجرّد أدواتٍ لتسيير أحداثٍ وحبكةٍ بطلها رجل.

هذا العالم النسائي الذي خلقته فيرّانتي، عنيفٌ إلى حدّ لا يُطاق. ليس المقصود هنا العنف الجسدي، بل ذلك الذي، في رواياتها، يشوب العلاقات بين النساء كما علاقتهنّ بأنفسهّن. هناك طبعاً عنف المجتمع الأبويّ والذكوري، المتمثِّل، في “صديقتي المُذهلة”، بحيّ مدينة نابولي غير المُسمّى الذي هو دوماً على وشك سحق البطلتيْن؛ لكن ثمّة طبقات أخرى من العنف، متواريّة وغامضة، تتبدّى، مثلاً، في نفور الابنة من والدتها، كما هي حال إيلينا (وغيرها من شخصيّات فيرّانتي) التي تمقت أمّها وتقرف من جسدها، إذ أكثر ما تخشاه هو أن تصبح على صورتها في يوم من الأيّام. هناك أيضاً قرف المرأة من الأمومة، من الحبل والإرضاع والعناية بأجساد الأطفال، أمورٌ تصوِّرها فيرّانتي أحياناً (في “أيّام الهِجْران” كما في الجزء الثالث من “رباعيّة نابولي”) على أنها وظائف محض حيوانيّة. وقد يصل نفور الأمّ من أولادها، وحقدها عليهم نتيجة العبوديّة التي يفرضونها عليها، حدّ رغبتها بالهروب منهم أو تمني موتهم. أما العنف الداخلي، ذلك الذي يشوب العلاقة مع الذات، فيظهر بشكل أساسي في أسلوب فيرانتي، في جملها القصيرة والهادئة التي، فجأةً، تطول وتنفلت من عقالها حين تتزعزع حياة راوِيَاتها. ذلك ما يحدث لـ”أولغا”، بطلة “أيّام الهِجْران”، التي تُطلِعُنا، منذ الجملة الأولى، أن زوجها قرر أن يهجرها: ما يلي مجرّد وصفٍ لهذا الزلزال الذي يهدم حياة أولغا، لكنّ الأخيرة تنقل لنا إحساسها أنها صارت على حافة الجنون، بوحشيّة تُشعِرُنا أن الكَوْن برمَّته استحال حطاماً.

وأخيراً، ثمّة عنف الصداقة. فما لم نُشِر إليه سابقاً، هو أن الحقد والحسد والكراهيّة، إلى جانب المودّة والإفتتان، جزءٌ لا يتجزّأ من العلاقة بين ليلا وإيلينا. هذا ما قدّ يُفسِّر أن صداقتهما أقرب إلى العشق والولعمنها إلى الصداقة بين الرجال. تقول فيرّانتي في إحدى المُقابلات الخطيّة التي أجرِيت معها: “الصداقة بين النساء حيِّزٌ تُرِك دون قوانين. لم تُفرِض عليه قوانين الرجال: هو لا يزال حيّزاً تحكُمه قواعدٌ هشّة، وحيث الحبّ[…]، بطبيعته، يَجُرُّ معه كلّ شيء، المشاعر النبيلة كما الغرائز الوضيعة”. والمُدهِشُ في العلاقة بين هاتيْن البطلتيْن، أن المشاعر السلبيّة والإيجابيّة لا تبدو متناقضة بتاتاً، مهما اشتدّت حِدَّتها، بل تظهر وكأنها تُشكِّل كلّاً متكاملاً وعضويّاً، حيث الكراهيّة والمحبّة، أو الحسد وتمنّي الخير للآخر، وجهان لعلمة واحدة. هذا ما ينطبق أيضاً على أنماط العلاقات الأخرى التي تتطرّق إليها فيرّانتي: فتصويرها لأمٍّ تمقت أولادها حدّ تمنّي موتهم، ليس وصفاً لحالة إستثنائيّة وشاذة، بل لما تنطوي عليه الأمومة– وجميع الروابط العاطفيّة القويّة – من أحاسيسٍ عنيفة ومتضاربة، لكن متزامنة ومتداخلة. إن هذه الإزدواجيّة المتواصلة والهائلة في مشاعر البشر تجاه بعضهم البعض باتت أمراً معلوماً، أقلّه نظرياً، منذ نشأة التحليل النفسي؛ إلّا أن تجسيدها بهذا الشكل الحسّي والملموس، الفجّ والصارِخ، نادرٌ للغاية.

(*) “صديقتي المُذهِلة”. إيلينا فيرّانتي. “دار الآداب”، 2017. ترجمة معاوية عبد المجيد. 440 صفحة.

(**) صدرت الترجمة العربيّة لرواية “أيّام الهِجْران” عن دار “شرق غرب” الإيطاليّة العام 2007.

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى