صفحات العالم

غير معقول! أو هذا الانفصام الذي يجتاحنا / نهلة الشهال

 

لماذا كان يتعين الإبقاء على السجينة مريم إبراهيم مكبلة القدمين بينما هي تلد في السجن نفسه وليس في المستشفى؟ إذلالاً وانتقاماً؟ وممَ؟

المذكورة هي الطبيبة السودانية التي اعتقلت في شباط (فبراير) الماضي بتهمة الزنا ثم الردة، لأنها تزوجت رجلا مسيحياً (الزنا) ولأنها بعد ذلك أنكرت أنها كانت يوماً مسلمة (الردة)، فقد ولدت لأب مسلم وأم مسيحية وهجر الأب العائلة بعد ولادتها وتربت كمسيحية. ومريم التي غدت في الأيام الماضية شهيرة، حُكمت الشهر الماضي بالإعدام، وعلق القاضي الرؤوف تنفيذ الحكم، بداية حتى تلد، ثم لسنتين بعد الولادة بحكم أنها مرضعة. وهي رفضت ما تسمّيه «تغيير دينها»، أي إشهار إسلامها. ولعل منطلق رفضها يتعلق بالجانب الإيماني الذي يخصها، أو لاعتبارها المطلوب منها تعدياً على كرامتها بصرف النظر عن الإيمان، لما فيه من قسر، أو لأنها تخشى تبعات هذا التغيير القانونية كالعودة إلى تهمة الزنا الموجهة إليها ابتداء. ويقول بعض المجانين أنها انما رفضت «التسوية» طلباً للشهرة، فقد تحولت مريم بطلة عالمية تتدخل من أجلها البعثات الديبلوماسية الكبرى، وتتناول قصتها كبريات الصحف، وتجمع منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان مثل «هيومن رايتس وتش» وسواها مئات آلاف التواقيع لإطلاقها… ولعل غلاةً سيطالبون بمحاسبة أم المرأة لأنها خطفت بنتاً من الإسلام إذ ربتها على غير دينها، ومسؤوليتها قد تتجاوز مسؤولية مريم تلك عن نفسها!

من زاوية براغماتية بحتة، القصة بأكملها ورطة كان الأجدر بالسلطات السودانية التملص منها بأي طريقة! أما أنها لم تفعل، فهي تواجه الاستعصاءات القائمة في الواقعين الثقافي والقانوني، وهي خانقة. وقد تختار السلطات تحويل قصة تلك المرأة إلى معركة تسوي عبرها ملفات أخرى، او تمتطيها لنيل رضا فئات والظهور بمظهر الغيور المتشدد. وقد تدفع مريم ثمن ذلك، وليس من أحد يمكنه الجزم في الاتجاه الذي ستأخذه قضيتها بحكم دخولها في تعقيدات تلك الاحتمالات المتناقضة.

لكن الأمر الأساس والأول ها هنا يتعلق بتلك الحاجة لتأكيد «تماسك العقيدة» من ناحية شكلية كلما طُرح أي موضوع مشابه، يحضر إما بسبب المصادفات الفردية في الحياة، أو خصوصا بسبب دخول عوامل ومعطيات حديثة تفرض نفسها واقعياً، بينما المُقرّ والمطبق لا يلائمها، ومنها اختلاط الفتيات نتيجة الدراسة والعمل والسفر، ما يجعل خياراتهن في الزواج غير منضبطة بالأطر التقليدية لبيئتهن، ويجعل تلك البيئات أصلا رجراجة (ألم نقل لكم أن لا داعي لتعليم البنات أصلاً أو بما يتجاوز الحد الأدنى؟!).

معروف مثلاً أن هناك زيجات عدة لفتيات مسلمات بمسيحيين، محليين وأجانب، يتم الالتفاف على تحريمها بإشهار الرجل لإسلامه عبر نطقه بالشهادتين أمام الشيخ ثم إبرام عقد الزواج وفق الشرع الإسلامي. يتواطأ في ذلك أهل المرأة ورجل الدين والمحكمة الشرعية. كما أن هناك زيجات متكاثرة، خصوصاً لمن يعيش في بلدان أجنبية، تتم وفق القوانين المدنية من دون تلك التسوية الشرعية. وأزعم أن عدداً لا يحصى (ولا يرغب أحد في إحصائه) من العائلات المسلمة في لبنان مثلا، السنية والشيعية، خصوصاً في الطبقات العليا والمتوسطة، خبِرت ذلك ومارسته. ويكفي للتأكد قراءة إعلانات الوفيات في الصحف، وهي هواية أمارسها بانتظام، توفر لي واحداً من مصادر المعرفة الثمينة بشبكات النسيج الاجتماعي.

وقد يقال إن لبنان استثناء حيث توجد نسبة كبيرة من السكان المسيحيين، ما يجعل نصيب المصادفة أكبر (وهي هنا واقع إنساني من جهة، ومرتبط بممارسات الحداثة من جهة أخرى، بمعنى أن الأمر لم يكن كذلك حتى أمس قريب). لكن الظاهرة موجودة في كل مكان وإن بنسب أدنى، وهذا هو الأصل.

هذا من جهة. وهو لا يمنع من جهة ثانية بروز اتجاهات تناقض الظاهرة السابقة وتذهب إلى عكسها، منها انتشار أفكار تعيد النظر في تعليم البنات وعملهن، وتقيم بيئات مغلقة و»آمنة»، فيجتمع في أحياء سكنية واحدة من كان منسجماً فكرياً وحتى ســياسياً. وهناك دراسات تتعلق ببعض أحياء القاهرة والإسكندرية على سبيل المثال، تشير إلى حدوث تلك الحركية التي تعني تبدلاً بطيئاً في هوية الساكنين، نبذاً واستقطاباً، أو نجاح أفكار وقناعات معينة في غزو بيئات محددة والتحول إلى وضعية مهيمنة فيها. وقد وقعتُ بالمصادفة على شريط لداعية إسلامي مصري شهير جدا، يجيب فيه عن أسئلة موجهة إليه حول حكم زواج المسلم من كتابية (وهو المجاز شرعاً بلا لبس) وعن عواطفه تجاهها بينما هي غير مسلمة، فيبدأ بمزاح فج، لعل صاحبه اعتبره طريفاً، لكنه غالباً ما يُدلى به ويتم تقاسمه في أجواء من التعاطف الذكوري: «يا راجل، هو فيه رجالة بتحب زوجاتهم أصلاً؟ هو يعني انت عشان اتجوزتها لازم تحبها؟». ثم يضيف في ما يخص الكتابيات: «قد تكون اتجوزتها لمالها أو جمالها وجسدها، وفي هذه الحالة تحتفظ بكراهيتك لها»، من دون أن يرى حرجاً في إعلاء شأن تلك الاعتبارات المادية جداً (والانتهازية) التي حملته على الزواج من تلك المرأة تحديداً، وهي المال والجمال والاستمتاع بهما. وهذا ما يثير في نفسي سؤالا معكوسا عن السبب الذي قد يحمل صاحبة مال وجمال على القبول بالزواج من رجل على هذه الشاكلة!

ثم يسترسل الرجل وقد أخذته العزة بالإثم: «عادي جداً. زيها زي المغتصبة. يعني كل واحد بيغتصب واحدة بيحبها؟». يا للهول! ها قد وصلنا إلى تشريع الاغتصاب، ما يمثل اجتهاداً خاصاً بالشيخ الداعية صاحب النفوذ الواسع، والذي يستمع إلى تسجيلاته على يوتيوب مئات ألوف الناس على الاقل إن لم يكن الملايين (بعدما انتشرت تسجيلاته تلك في الثمانينات والتسعينات على شكل كاسيتات). الرابط للمقابلة المذكورة http://www.youtube.com/watch?v=C9oTlQ36XR8

ألا يقع ذلك كله تحت طائلة القانون؟ أم أن مريم إبراهيم السودانية تلك، ذات الوضعية الملتبسة أصلاً بحكم ظروفها الخاصة، وحدها تقع تحت مقصلته؟

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى