صفحات العالم

مقالات تناولت الموقف الروسي من الثورة السورية

التغيير الروسي المرتقب حيال سوريا

عبد الوهاب بدرخان

 السؤال الملتبس والمحيّر طرح نفسه طوال الشهور الماضية: هل لروسيا نفوذ على النظام السوري؟ قد يكون الجواب: نعم، لكن موسكو لا تمارس هذا النفوذ على طريقة الولايات المتحدة التي لم تتأخر في تأييد خلع رئيسي مصر وتونس عندما ثار شعباهما عليهما، وكانت لها مساهمة ملموسة في إطاحة زعيم ليبيا وفي دفع الرئيس اليمني إلى التنحي، وأتيحت لروسيا فرص عدة لإيضاح أنها لا تتدخل ولا تؤيد التدخل لتغيير الأنظمة، وهو ما يبدو ظاهرياً موقفاً محموداً بل موقفاً مبدئياً يصلح لأن يرسخ في السياسة الدولية لو أن موسكو سعت فعلاً إلى إطلاق نقاش دولي حوله بغية تعزيز سياسة الدول واحترام الشعوب.

غير أن شيئاً من هذا لا يشغل فعلاً الروس، إذ بذلوا ما في وسعهم لاستثمار الأزمة السورية في نيل مصالح ومكاسب كانوا ينتظرون اللحظة المناسبة لتحصيلها في صراعهم مع الدول الغربية. ثم أنهم قدموا للنظام السوري كل الدعم الممكن للحيلولة دون سقوطه وتغييره من الداخل وبفعل كفاح الشعب السوري.

وقد يكون الجواب: لا، ليس لروسيا نفوذ يسمح لها بأن تضغط على النظام السوري لحمل رئيسه على التنحي أو الرحيل، لكنها رأت أن تستغل “الفيتو” الذي تتمتع به في مجلس الأمن لتعرقل أي جهد دولي منسق يمكن أن يتوصل إلى إسقاط النظام السوري. ووجدت مصلحة في الاختباء وراء الموقف الروسي، وكذلك إيران، وادّعت الدول الثلاث أن لها مصالح في سوريا، ولابد من التفاهم معها كي تؤيد التغيير الذي تعتبر أنه ملزم بالحفاظ على تلك المصالح، وإذا تعذّر هذا التفاهم فإنها ستعمل على إطالة الأزمة إلى ما لا نهاية، لكن إذا لم يكن لروسيا النفوذ الذي يمكنها من تقديم “إطاحة النظام” لقاء رزمة المصالح، فعلام تدور المساومة بينها وبين الولايات المتحدة؟

المعلوم أن هناك مفاوضات أمريكية – روسية تتم على مستوى الخبراء منذ فترة وبعيداً عن الأضواء، وهي تتمحور حول مسائل غير مرتبطة مباشرة بالشأن السوري، بل بالشأن الاستراتيجي الشامل، بدءاً بالدرع الصاروخية في أوروبا ومروراً بالتعامل مع الأزمة النووية مع إيران وصولاً إلى الأمن الاستراتيجي في وسط آسيا، بالإضافة إلى ملفات اقتصادية، ذاك أن اللقاء المرتقب بين باراك أوباما وفلاديمير بوتين يفترض أن يتوصل إلى تفاهم بين الدولتين الكبريين يغطي معظم خلافاتهما ويحاول تفعيل التوافقات التي تتحدثان عنها في مختلف المناسبات، ولا يبدو أن مواقفهما من سوريا هي المقياس المناسب لتقدير تقاربهما أو تباعدهما، وإنما تستخدمانها إما للتعبير عن تقدم أو تعثر في التفاوض الجاري بينهما، أو للتعتيم على التقائهما الفعلي بشأن سوريا، إلا أن الظروف لم تنضجه بشكل كافٍ كي يُصار إلى إعلانه.

قبل عشرة أيام التقى وزيرا الخارجية هيلاري كلينتون وسيرغي لافروف في دبلن (أيرلندا) وشارك المبعوث الدولي – العربي الأخضر الإبراهيمي في جانب من محادثاتهما، لم يُفهم شيء، أي شيء محدد مما صرّحا به، لكن الإبراهيمي أشار إلى أنهما لا يزالان يؤيدان “تسوية سياسية” في سوريا، وقيل إن اقتراح إرسال “قوات لحفظ السلام” كان مدار بحث، ثم أن مساعديهما وليام بيرنز وميخائيل بوغوانوف تابعا التفاوض في جنيف وأشركا أيضا الإبراهيمي، وفي هذه المحطة اتضح أن تنقيح “اتفاق جنيف” 30 يونيو سيعكس تقارباً بين الدولتين وأنه يمكن عندئذ الذهاب إلى مجلس الأمن بمشروع قرار مستند إلى ذلك الاتفاق لإلزام الطرفين بوقف إطلاق النار وإطلاق “عملية نقل السلطة”.

كانت روسيا ذهبت إلى أقصى حد في استغلال قضية “التدخل الخارجي” في سوريا، والمقصود هو التدخل العسكري، رغم علمها بأنه لم يكن مطروحاً في أي وقت، لا بالسيناريو العراقي (الاجتياح والاحتلال)، ولا بالسيناريو الليبي (تدمير القدرات العسكرية للنظام)، ولعل ما سحب هذه الورقة من الاستغلال الروسي إعلان رئيس “الائتلاف الوطني السوري”، إن المعارضة لم تعد تحتاج إلى قوات دولية لمساعدتها ضد النظام وفي الوقت نفسه، كانت روسيا تراهن على أن يحسم النظام الموقف العسكري لصالحه، فهذا يقوي موقفها التفاوضي، ويمنحها الوقت الكافي لخوض المساومة الكبرى مع أمريكا، لكنها فوجئت، مثل الأمريكيين، بأن الإنجازات الميدانية للمعارضة تنافس كل المساومات وتسابقها، حتى أصبح همّ الدولتين التعجيل بالتفاهم قبل أن تفرض عليهما الأرض أمراً واقعاً يصعب التعامل معه.

وفيما أعلنت واشنطن اعترافها بـ”الائتلاف” ممثلاً شرعياً للشعب السوري، بادر نائب وزير الخارجية الروسي إلى القول إن المعارضة تكسب “ويمكن أن تنتصر”، لكن الأمريكيين استبقوا الاعتراف بوضع “جبهة النصرة” على قائمة الإرهاب، ثم أن الروس نفوا كلام نائب الوزير بوغوانوف مؤكدين أن موقفهم “لم ولن يتغير”، ولا يعني هذا التذبذب الزئبقي سوى أن الدولتين لم تقفلا ملفاتهما الأخرى لحسم موقفهما حيال الوضع السوري، وطالما أن موسكو تعرف أن الأمريكيين لا يحبذون تدخلاً عسكرياً، وواشنطن تعرف أن الروس لا نفوذ فعلياً لهم على رأس النظام السوري، فإن “التغيير” المرتقب لابد أن يصاغ في قرار لمجلس الأمن.

وحين يتبلغ النظام في دمشق أن روسيا ستؤيد قراراً ملزماً بوقف النار والشروع في نقل السلطة سيعرف أن اللعبة الروسية التي ارتكز عليها لمقاتلة شعبه قد انتهت.

الشرق

                      البريئان بوتين وأوباما

    محمد ابرهيم

بدوره تبرّأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مؤتمره الصحافي الاخير، مما يحصل في سوريا. تغيّرت اللهجة قليلا بشأن عدم التمسك بالرئيس السوري بشار الاسد، وبتفهم الحاجة الى التغيير بعد اربعين سنة من حكم العائلة. لكن لم يتغير الموقف “البريء”، الحاجز للتسوية، والذي يقول “ليجلس السوريون وليتفقوا على المستقبل”. ثم يتبين عند الانتقال الى الخطوة التالية ان المقصود جلوس النظام، بتركيبته الحالية، مع المعارضة، بتركيبتها المتغيرة. اما كيف يمكن ان يتفق النقيضان، فلم يشرح لنا الرئيس الروسي ذلك.

نقطتان بارزتان في المؤتمر الصحافي لبوتين لا تؤيدان اعطاء وزن كبير لتغيّر في موقفه من بقاء الاسد. فشاهده الاول على الخطأ الذي ارتكب بإزاحة معمر القذافي بالقوة من السلطة، فيه مقارنة بين ما آلت اليه ليبيا وما كانته، لمصلحة الماضي بقيادة القذافي. وشاهده الثاني على الخطأ الذي يمكن ارتكابه بإزاحة الاسد بالقوة، وما سيؤدي اليه ذلك من حرب اهلية معكوسة، فيه تهديد اكثر مما يعكس اقتناعا بضرورة التغيير.

قبل بوتين كان الرئيس الاميركي باراك اوباما تبرّأ من الحرب الاهلية الدائرة في سوريا. فروسيا تتحمل قسطا كبيرا من المسؤولية باصرارها على بقاء الاسد. واميركا لم تلوّث يديها لا بالتدخل العسكري، ولا حتى بالتسليح. وقطعا لكل الشبهات اصدرت الادارة الاميركية قرارا باعتبار “جبهة النصرة” منظمة ارهابية.

الموقف الاميركي “نظيف” تماما، فهو يؤيد الثورة، ويعتبر ايام الاسد في السلطة معدودة. لكنه في المقابل لا يؤيد الذين يتولون، على الارض، جعل “العدّ” ممكنا. وحتى تكتمل “النظافة” حُصر التدخل الاميركي بمصير “الكيميائي” السوري. وحتى على هذا الصعيد تدحرجت الوعود بالتدخل، من رد الفعل الفوري الى تنسيق الجهود الاقليمية للخطط الطارئة.

وبعد ان تأكدت براءة الراعيين الكبيرين للحرب الاهلية السورية، يستطيع الرعاة الاقليميون الاصغر الاستمرار في ادوارهم “القذرة”… بصمت، تاركين المؤتمرات الصحافية والتصريحات المبدئية للبريئَين، اوباما وبوتين، وممثليهما.

لكن ما الذي يجعل الصفقة الاميركية-الروسية بشأن سوريا بعيدة الى هذا الحد؟ وهل الوضع السوري معقد الى هذه الدرجة؟ وهل المصالح المرتبطة به ضخمة بهذا المقدار؟

الجانب الثاني من المؤتمر الصحافي للرئيس بوتين وهو المتعلق بالوضع الداخلي الروسي، يمكن ان يقدم جوابا. فما زال الرئيس الروسي يشتكي من المحاولات الاميركية للتدخل دعما للمعارضة الروسية، بدعوى ان الحكم في روسيا ينتهك حقوق الانسان. وهو دعم مادي وليس مجرد تصريحات موسمية. والى ان يتفق اوباما وبوتين على… روسيا، لا شيء يحجز سوريا عن حربها الاهلية.

النهار

سوريا.. الآن المخرج الروسي!

طارق الحميد

الواضح أننا وصلنا الآن إلى مرحلة إيجاد مخرج للروس في الأزمة السورية، وليس مخرجا لبشار الأسد من سوريا، فالتصريحات الروسية الأخيرة، ومنها تصريحات الرئيس الروسي نفسه، تقول إن موسكو بدأت عملية النزول من السلم السوري، كما قال لي أحد المطلعين على هذا الملف.

الروس يحاولون الآن الظهور بأنهم يقدمون ما بوسعهم، دبلوماسيا، لتقديم حلول في الأزمة السورية، بينما يظل الرافض لكل ذلك هو الأسد نفسه. وعليه، يكون بمقدور الروس حينها الإعلان عن تحول جذري في موقفهم تجاه الأزمة السورية، وهذا تقريبا رأي من تحدثت إليهم من المتابعين للملف السوري، وخصوصا العلاقة مع روسيا. فهناك إجماع بين من تحدثت معهم على أن هناك موقفا روسيا متطورا، خصوصا أن الأوضاع على الأرض باتت تسير بسرعة كبيرة ضد النظام الأسدي.

ومن ضمن التحركات الروسية حديث عن مقترح روسي لتشكيل مجموعة مكونة من الدول الإسلامية، ودول ذات علاقة بالملف السوري، لمباشرة تشكيل حكومة انتقالية في سوريا، مع تشديد روسي على أن موسكو لن تقبل باستضافة الأسد! كما أن موسكو تتواصل الآن مع الأميركيين، من خلال اجتماعات جنيف، وأيضا مع الأتراك، مع الدفع بضرورة إعطاء فرصة للممثل الأممي السيد الأخضر الإبراهيمي، الذي سيلتقي الأسد، رغم اقتناع موسكو بأن الأسد سيرفض كل الحلول. وبحسب من تحدثت معهم، فإن الهدف الروسي هو من أجل أن يتسنى لهم القول بأنهم قد فعلوا كل ما بوسعهم مع الأسد، ثم تقوم موسكو بتغيير موقفها علنا. ويقول لي مسؤول مطلع على الملف، وعلى تواصل مع الروس إن «الروس يريدون النزول من السلم بكل هدوء، لكن بعد أن يقولوا، ويظهروا فعليا، بأنهم قد استنفذوا كل ما بوسعهم لإقناع الأسد»، مضيفا: «يجب عدم إغفال أن لدى الروس حلفاء آخرين، ولا بد أن يكون التحول بالموقف الروسي مقنعا لهؤلاء الحلفاء، وليس تحولا وحسب».

وبالطبع فإن هناك أسئلة مستحقة ستواجه الروس، في الداخل والخارج، وهو لماذا أطالت روسيا في الوقوف مع الأسد؟ وما الثمن لذلك؟ ولماذا تتخلى عنه الآن؟ وما الثمن لذلك أيضا، أي ما هي معايير الربح والخسارة في هذا الأمر؟

ولذا، فمن الواضح اليوم أن الروس هم الذين في حاجة إلى مخرج من الورطة السورية، وليس البحث عن مخرج للأسد من سوريا، خصوصا أن طاغية دمشق بات أقرب من أي وقت مضى للسقوط، سواء بوساطة روسية، أو من خلال فتح روسيا الطريق لقرار بمجلس الأمن، أو من خلال الثوار السوريين على الأرض، والذين يحققون تقدما مذهلا على قوات طاغية دمشق.

محصلة القول إنه من الواضح، وكل المؤشرات تقول ذلك، أن الروس هم من بحاجة لمن يوجد لهم مخرجا، وليس الأسد، في الأزمة السورية، ونحن هنا لا نتكلم عن ثمن، بل عن مخرج يحفظ ماء الوجه لموسكو، ويبرر إعلان تغير الموقف الروسي في سوريا بشكل جذري. وعليه، فمن الذي سيقوم بتوفير هذا المخرج للروس، هل هم الأميركيون، أم العرب، وتحديدا الخليجيين، أو قل السعوديين؟

الشرق الأوسط

فيمَ يفكر الروس؟

    سميح صعب

إذا ما عطفنا كلام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن ان موسكو لا تدعم بقاء الرئيس السوري بشار الاسد في السلطة بأي ثمن، على كلام مبعوثه الشخصي الى الشرق الأوسط ميخائيل بوغدانوف قبل أيام عن ان النظام السوري يفقد المزيد من الأرض وان المعارضة  المسلحة يمكن ان تنتصر عسكرياً وان روسيا أرسلت سفناً لاجلاء محتمل لرعاياها، فإننا نتلمس بداية انتقال في الموقف الروسي قد يكون مبعثه ملاقاة المواقف الاميركية والاوروبية والعربية والتركية التي ترفض أي تسوية في سوريا تتضمن بقاء الأسد في السلطة.

وقد لا تكون ملاقاة الغرب والعرب وتركيا، هي الباعث الوحيد وراء اللغة الروسية الجديدة حيال سوريا. فروسيا ربما تأثرت بالتطورات الميدانية التي حصلت على الأرض السورية منذ صدور بيان جنيف في 30 حزيران الماضي. يومذاك كانت موسكو تقدم قراءة مختلفة لبيان جنيف. وردت واشنطن وأوروبا وتركيا والعرب المتحمسون لحسم عسكري (ولعل أكثرهم حماسة الامين العام لجامعة الدول العربية نبيل العربي) بدعم المعارضة السورية المسلحة التي حققت مكاسب على الارض أملت على موسكو تقديم قراءة مختلفة لذلك البيان.

وتبدو القراءة الروسية الجديدة لبيان جنيف أقرب الى تطبيق الحل اليمني في سوريا، الامر الذي كانت موسكو ترفضه بشدة منذ نشوب الأزمة في سوريا. لكن السؤال الأكثر إلحاحاً في لحظة التحول الروسي، هل ان الكرملين مقتنع بان أي تسوية سياسية للأزمة السورية  تنص على رحيل ولو تدريجياً للاسد عن السلطة، يمكن ان تضمن الحفاظ على المصالح الروسية في سوريا؟

ذلك انه من الصعب تخيّل اعارة الحكم الجديد الذي سيقوم في سوريا أي انتباه للمصالح الروسية. فالحكم الناشئ سيكون مديناً للولايات المتحدة وتركيا وأوروبا وقطر والسعودية، وموالياً لهذه الدول التي أتت به الى الحكم.

ومن هنا  يبرز التباس في الموقف الروسي المستجد. هل هو مجرد مناورة في انتظار انقلاب في الموازين العسكرية في سوريا، ام هو بداية تغيير فعلي حيال النظام في سوريا املاً في ألا تخسر موسكو في سوريا بالقدر الذي خسرت فيه في ليبيا بعد سقوط معمر القذافي؟

وما يزيد الامر التباساً ان الغرب لا يقدم القدر نفسه من التنازل الذي تقدمه روسيا من أجل التسوية في سوريا. ومنذ بداية الازمة قال الغرب إن لا حل إلا باسقاط الاسد وإنه يمكن التفاهم على بقاء البعث في السلطة كما بقي حزب المؤتمر الشعبي في الحكم بعد علي عبدالله صالح. وأي تنازل روسي الآن سيفسره الغرب بأنه علامة ضعف وتالياً لا مكان للضعفاء في الصراعات الدولية. ولا بدّ ان بوتين يدرك ذلك أكثر من غيره.

النهار

لماذا يمانع بوتين في إنهاء الحرب الأهلية في سورية؟

سليم نصار *

السبت ٢٢ ديسمبر ٢٠١٢

في رسالته السنوية أمام المشرعين الروس، تحدث الرئيس فلاديمير بوتين عن برنامجه الاستراتيجي في ظل الأوضاع المقلقة والتناقضات الكبرى التي يشهدها هذا العصر. وقال إن بلاده، مثل سائر بلدان العالم، تواجه مرحلة انعطاف خطيرة داخل فلك دولي جديد تكثر فيه المتغيرات والهزات السياسية الشاملة.

وبعدما رسم بوتين ملامح المرحلة المقبلة، شدد على ضرورة تحديث المؤسسة العسكرية التي وصفها بأنها ضمانة أمن روسيا وعنوان استقلالها. وفي تعليقه على مطالب المعارضة أكد أن روسيا في عهده لن تتخلى عن الديموقراطية. ولكنه اشترط أن تكون ديموقراطية غير مستوردة من الخارج، وإنما مرتكزة على تقاليد الشعب والقوانين المطبقة.

وقرأ زعماء المعارضة في هذا الخطاب سلسلة مشاريع عسكرية ضخمة يصعب على الخزينة تحملها. كل هذا من أجل بناء ترسانة عسكرية ضخمة يمكن أن تحقق هدفين: الأول، إقامة نظام قمعي يحيي مبادئ مؤسسة الاستخبارات (كا جي بي) التي خدمها بوتين في برلين طوال فترة الحرب الباردة. الثاني، تشكيل حلف إقليمي قوي في الفضاء السوفياتي السابق، بهدف منع الغرب من اختراق دول الجوار وتطويق روسيا.

قادة المعارضة الروسية اعترضوا على مشاريع التسلح لاقتناعهم بأن المنافسة على خطة «حرب النجوم»، التي أطلقها الرئيس الأميركي رونالد ريغان، كانت بمثابة مطب اقتصادي دمر منظومة الاتحاد السوفياتي. وهم يلوحون بالإضرابات والاضطرابات في حال قرر بوتين تحدي دول الحلف الأطلسي وإرهاق البلاد ببرامج التسلح وحرمان المواطنين من فرص التنمية والازدهار.

المخاوف التي تعلنها المعارضة الروسية ضد سياسة بوتين الداخلية ليست أقل من مخاوفها حيال سياسته الخارجية في الشرق الأوسط. ذلك أن احتضانه لموقف النظام السوري في المحافل الدولية ومجلس الأمن يمكن أن ينعكس في شكل سلبي على مستقبل العلاقات مع دول المنطقة. لهذا كان الرهان على اجتماع بوتين ورجب طيب أردوغان، لعل الزعيمين، الروسي والتركي، يتمكنان من المساهمة في حل المعضلة السورية.

ومع أن المعلومات التي تسربت عن ذلك اللقاء كانت شحيحة إلا أن مصادر موثوقة، في موسكو وأنقرة، أعلنت عن بعض الإيجابيات والسلبيات بما يمكن اختصاره بالآتي:

أولاً، أعرب بوتين عن استيائه من تثبيت منصات صاروخية على الأراضي التركية، مذكراً بأن أزمة كوبا عام 1962 كانت بسبب نشر صواريخ على الحدود التركية المحاذية لروسيا. وأنكر اردوغان أن تكون نوعية الصواريخ هجومية، وقال إن الحلف الأطلسي وضعها على سبيل الاحتياط، أي في حال قرر النظام السوري استعمال أسلحته الكيماوية ضد تركيا أو ضد معارضيه. وفي نهاية اللقاء وعد أردوغان بسحب الصواريخ عقب انتهاء الأزمة السورية.

ثانياً، اتفق الرئيسان على زيادة التبادل التجاري والسياحي بحيث تحقق العائدات للبلدين كمية تصل إلى مئة بليون دولار، أي بنسبة ضعفي كمية التبادل لهذه السنة. كذلك وعد أردوغان بزيادة واردات بلاده من روسيا في مجال الطاقة، مقابل الحصول على تسهيلات لوجيستية في مضيق الدردنيل.

ثالثاً، بالنسبة إلى الأمور السياسية المتعلقة بدور روسيا في سورية، ظهر الخلاف واضحاً بين الزعيمين. ولم ينكر بوتين المكاسب الاستراتيجية التي وفّرتها لأسطوله تسهيلات الدولة السورية. واعترف بأنه لا يريد التخلي عنها لأسباب عسكرية، كونها أمنت له موقعاً جغرافياً متقدماً على البحر الأبيض المتوسط. وهذا ما يجعله شريكاً مع الولايات المتحدة في إيجاد تسوية مقبولة للقضية الفلسطينية أولاً… ولمستقبل سورية ثانياً.

رابعاً، لم يخفِ بوتين حذره من احتمال منح حزب «الإخوان المسلمين» دوراً مركزياً في النظام البديل لنظام البعث العلماني. خصوصاً بعد ظهور مجاهدين من القوقاز تطوعوا للقتال إلى جانب «الجيش السوري الحر.» وقال بوتين لأردوغان إن وجود التنظيم الإسلامي على رأس الحكم سيجدد القتال ضد قواته في الشيشان. وأكد في الوقت ذاته أن الصين تشاركه في هذه المخاوف لأن امتداد الإسلام السياسي إلى دول البلقان وآسيا يشكّل خطراً على استقرار دولتين كبيرتين.

المعارضة الروسية تدّعي أن موقف بوتين حيال أزمة سورية نابع من منفعة تجارية بحتة. ووفق تفسيرها، فهي ترى أن إطالة أمد الحرب الأهلية السورية تعود بالفائدة الاقتصادية على روسيا. ذلك أن الدول المستوردة للطاقة باتت تخشى من تورط دول مجلس التعاون الخليجي في الحرب القريبة من حدودها. وهذا ما دفع بعض الدول الآسيوية، مثل اليابان والهند وتايلند، إلى توقيع عقود مع موسكو بزيادة كميات إيراداتها النفطية. ورفض بوتين هذا التفسير، واتهم المعارضة بتضليل الرأي العام وحرف الحقيقة.

الطرف الآخر المعني بقضية الشرق الأوسط منذ أكثر من ستين سنة أبعدته مجزرة نيوتاون عن الاهتمام بالمسألة السورية، الأمر الذي وفَر للرئيس بوتين فرصة إضافية لاستغلال عزلة الرئيس بشار الأسد. علماً أن أوباما كان يسعى في مطلع ولايته الثانية إلى منع بنيامين نتانياهو من الإقدام على مغامرة حربية ضد إيران عقب فوزه بالانتخابات المقبلة (21 كانون الثاني – يناير– المقبل).

الصحف الإسرائيلية فسرت قرار رئيس الوزراء بإعلان تحالفه مع زعيم حزب «إسرائيل بيتنا»، أفيغدور ليبرمان، بأنه قرار متهور وخطير. وتوقعت أن ينتهي بفصل السياسة الخارجية لدولة اليهود عن سياسة راعيتها وداعمتها الولايات المتحدة. وهذا ما فعله مناحيم بيغن قبل أن تتخذ حكومته عام 1981 قرارها بموعد ضرب المفاعل النووي العراقي. ذلك أنها جمدت تعاونها مع واشنطن، ورفضت إبلاغ الرئيس ريغان بساعة الصفر (الساعة 3 بعد ظهر 7 حزيران (يونيو) 1981). وقد نشرت إدارة الرئيس ريغان في حينه بياناً للرأي العام، قالت فيه إنها علمت بالأمر بعدما شكت الحكومة الأردنية من أن سرباً من الطائرات الحربية الإسرائيلية قد اخترق أجواءها.

يقول نتانياهو إن حربه مع ايران هي حرب وجود ضد نظام يُفاخر بأنه سيمحو دولة اليهود من الوجود. وعليه قرر مع حليفه ليبرمان استفتاء الشعب في انتخابات مبكرة على أمل استقطاب قاعدة شعبية واسعة تؤيدهما في عملية ضرب المفاعل النووي الإيراني. خصوصاً أن نتانياهو يصنف دوره بين أدوار المؤسسين من أمثال ديفيد بن غوريون ومناحيم بيغن. وهو دائماً يردد هذه العبارة: إذا كان المؤرخون يعتبرون بن غوريون… المؤسس. فأنا مستعد لأن أقنعهم بأنني المخلص. أي مخلص الدولة التي تهددها إيران بقنبلة الفناء.

الصحف الأميركية تشير إلى احتمالات حدوث خلاف آخر بين أوباما ونتانياهو، يتعلق بمستقبل الدولة الفلسطينية. ففي حين يرى الرئيس الأميركي أن نشر المستوطنات حول القدس الشرقية يعرقل مساعي التسوية مع الرئيس محمود عباس فإن نتانياهو يعتبر نفسه في حل من شروط استئناف العملية السلمية. وهو يتمنى لو أن أبو مازن تحالف مع خالد مشعل في غزة، لكان قاسمه شرعية النصر السياسي الذي أحرزته «حماس» في معاركها الأخيرة. أي شرعية الاعتراف بسلطة «حماس» في قطاع غزة. وكانت الوزيرة الأميركية هيلاري كلينتون قد فاوضت على إنهاء وقف العنف بدعم من الرئيس المصري محمد مرسي.

وعندما أعلنت إسرائيل عن وقف عملية «عمود السحاب»، جاء خالد مشعل من قطر إلى غزة ليشارك إسماعيل هنية فرحة الاحتفال بالنصر. وبعد أن قبَّل الأرض عند معبر رفح أعلن أن طريق المقاومة هي أقصر الطرق لاسترداد ما سلبته إسرائيل من حقوق وأرض.

وترجمت منظمات الأمن الإسرائيلية، «الموساد» و «الشاباك» و «أمان»، كلام مشعل بأنه دعوة لتفجير انتفاضة ثالثة داخل الضفة الغربية. وقد عزز هذا التصور اكتشاف بعض الخلايا الناشطة في منطقتي نابلس والخليل. كذلك ضبط الجيش الإسرائيلي، خلال هذا الشهر، عناصر من المجاهدين تخطط لانتفاضة ثالثة بقصد إرباك حكومة نتانياهو ومنعها من إجراء انتخابات هادئة وسليمة.

والمعروف أن ظروفاً مشابهة حدثت في مثل هذا الشهر من عام 1986، هي التي أطلقت الانتفاضة الفلسطينية الأولى. وربما وجد أبو مازن أن الفرصة مواتية لتقديم مشروع قرار إلى مجلس الأمن يدين عمليات الاستيطان الإسرائيلية في القدس الشرقية المحتلة والعمل على وقفها. كما هدد أيضاً باللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية بعدما وافقت لجنة التخطيط على بناء 2610 وحدات سكنية في حي «جيفعات هامتوس».

وترى السلطة الفلسطينية أن مشروع البناء في هذه المنطقة المحتلة هو جزء من مشروع أوسع أقرته حكومة نتانياهو. أي المشروع الذي يتألف من 9600 وحدة استيطانية، ويفصل وسط الضفة الغربية عن جنوبها بطريقة تمنع التواصل في دولة فلسطين.

مرة أخرى كررت «حماس» رفضها كل مشاريع التوطين، وأعلنت أن أهدافها لا تتحقق إلا باستئناف عمليات الكفاح المسلح. وذكّرت بالكلام الذي نقله نتانياهو عن صديقه آرييل شارون، بأن إسرائيل أخطأت يوم ساعدت الأردن على التخلص من منظمة التحرير عام 1970. وبما أن رئيس الوزراء يُعتبر من مؤسسي جمعية «الأردن هو فلسطين»، فإن المحاولة التي أقدم عليها عام 1997 لقتل خالد مشعل بواسطة السم، لم تكن أكثر من شرارة لإحراق مشروع الدولتين. وهو حالياً يؤكد موقفه الداعم لمشروع «الأردن هو فلسطين». وليست سياسة تكثيف المستوطنات فوق الأراضي الفلسطينية المحتلة أكثر من تثبيت عملي لتلك السياسة.

وعليه، ترى «حماس» أن رئيس السلطة الفلسطينية يضيع وقته في الجمعية العامة ومجلس الأمن، لأن إسرائيل لا تفهم إلا بلغة البندقية لا بلغة غصن الزيتون. وهذه هي العبرة الوحيدة التي أخذها معه ياسر عرفات إلى القبر!

 كاتب وصحافي لبناني

الحياة

موقف بوغدانوف: رأس الأسد بعد الحل السياسي؟

جورج سمعان

الموقف الذي أطلقه نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف حمّال أوجه؟ بعضهم قرأ فيه بدايةَ تحولٍ في موقف روسيا من القضية السورية، فيما لم يجد فيه آخرون خروجاً على تمسكها باتفاق جنيف الذي تبنته الدول الخمس الكبرى في حزيران (يونيو) الماضي، لكنها اختلفت في تفسير نصوصه وأقامت على هذا الخلاف، الذي وفّر لها فرصة للتنصل من مسؤولياتها، ومزيداً من الوقت للقعود عن أي مبادرة أو تحرُّك جدي.

لم يستبعد المسؤول الروسي انتصار المعارضة، وهو ما اعتُبر جديداً، وهو كذلك، لأنه أُطلق علناً للمرة الأولى، أو سُرّب لا فرق. ولكن هل كان أحد يعتقد بأن موسكو توقعت أو كانت تتوقع غير ذلك؟ وهل يعقل أنها هي الأخرى كانت ولا تزال تعيش، مثل نظام الرئيس بشار الأسد، في عالم افتراضي بعيداً مما يجري في الشارع؟ لا شك في أنها كانت منذ أشهر بعيدة تتابع تراجع قدرة النظام على فرض الاستقرار.

الناطق باسم الخارجية الروسية استعجل الرد على ترحيب واشنطن بالموقف الجديد، ليؤكد أن بلاده لم تغير موقفها! وفي هذا كثير من الصحة، ففي التصريح ذاته، نبّه بوغدانوف إلى أن النزاع يمكن أن يستمر شهوراً وأن يوقع آلاف الضحايا. لذلك جدّد التمسك بحل سلمي وبمرحلة انتقالية وحكومة موقتة تلتزم ما اتُّفق عليه في جنيف، وهو موقف موسكو منذ بداية الأزمة. الجديد هو أن روسيا، التي ظنت منذ اندلاع الثورة أنها ستكون قادرة، بسلاح «الفيتو» في مجلس الأمن وبسلاحها الذي لم ينقطع عن سورية، على حماية مصالحها في هذا البلد، تبين لها في ضوء تقدم المعارضة إلى قلب دمشق، أن الحسم آت مهما طال الزمن، كما توقع وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري، لكنه حسمٌ لن يبقي ولن يذر، وهو ما لا تريده، مثلها مثل واشنطن، التي جددت القول إن البيت الأبيض والكرملين «يتشاركان هدفَ التوصل إلى حل سياسي في أسرع وقت».

المهم أن الجميع مقتنعون الآن بأن الرئيس الأسد لن يبقى في السلطة، وبأن المطلوب حل سياسي، أي وقف القتال، الذي سيخرّب استمرارُه البلاد ويدمّر كل مقومات الدولة. وينطلق الجميع من مقررات جنيف للدعوة إلى مرحلة انتقالية توفر انتقالاً سلمياً للسلطة، ولو لم تكن واشنطن تلتقي مع موسكو بالحرص على مثل هذا الحل لما تأخرت في دفع الراغبين إلى تسليح المعارضة لحسم معركة دمشق. الواضح أن العاصمتين يسكنهما هاجس الحسم العسكري وتداعياته، والعقدة -أو المأزق- هنا هي الخلاف بينهما على مفهوم المرحلة الانتقالية وآليات تنفيذ الحل السياسي، والعقدة أيضاً أن طرفي الصراع يرفعان شعار الحسم الميداني، وأنه لا يوجد فصيل معارض واحد يقبل بالجلوس إلى طاولة الحوار مع النظام، وهذا ما يجعل الرئيس الأسد يشعر بأنه محشور في زاوية «يا قاتل يا مقتول»، ولن تطمئنه أي ضمانات روسية أو غير روسية، وهو ربما يأمل في النهاية بضمانات دولية، فطيفا الرئيسين حسني مبارك ومعمر القذافي يقضّان مضجعه بالتأكيد. وستتضاعف مخاوفه كلما شعر بأن الكرملين يبحث عن بدائل للحفاظ على مصالحه.

صحيح أن روسيا على موقفها، لكنها باتت تؤمن بأن لا رهان منطقياً وواقعياً على النظام، الذي بدوره يحشد كل قواته في العاصمة. وتخشى واشنطن أن يكون الحسم النهائي مكلفاً ومدمراً في الأرواح والممتلكات وصنوف المجازر والتنكيل والانتقامات والثأر.

والسؤال اليوم: كيف تترجم العاصمتان رغبتهما في الحل السياسي؟

لا شك في أن التلكوء الأميركي الذي طال عشرين شهراً مرشح للاستمرار حتى نهاية الشهر المقبل، أي موعد ولادة الإدارة الجديدة، وأن المبادَرة غائبة عن القيادة في أميركا هذه الأيام، لذلك تطرح بريطانيا أن تتولى هذا الدور بنفسها، بعدما حصلت على تفويض الاتحاد الأوروبي لمتابعة موضوع تسليح المعارضة باشتراط أمور، أهمها إبعاد العناصر الجهادية المرتبطة بـ «القاعدة»، وقد أعدت (بريطانيا) لذلك ورقة للبحث، وبالتأكيد لن تكون الطريق معبدة أمامها للتوصل إلى تفاهم لترجمة اتفاق جنيف، أو الانطلاق من بنوده الصالحة، وأولها حكومة انتقالية تتوافق عليها المعارضة مع بعض أركان النظام الذين لم تتلطخ أيديهم بالدماء، علماً أنها لا يمكن أن تنوب عن الولايات المتحدة في التفاوض الشامل مع روسيا.

ومما لا شك فيه أيضاً، أن واشنطن نجحت في استنزاف موقف موسكو في سورية، فليس في حسبانها أبداً الجلوس إلى الطاولة مع روسيا لإبرام صفقة تتناول القضايا الإقليمية، كما كان يأمل الكرملين، وهي لم تكتف بنشر معدات الإنذار المبكر في تركيا، في إطار الدرع الصاروخية الأطلسية، بل أرسلت بطاريات «باتريوت» والجنود المشغِّلين لها إلى الحدود مع سورية… والحدود الجنوبية لروسيا! وهذا التحرك الميداني ترافَقَ مع اعترافها بالائتلاف الوطني المعارض ممثلاً شرعياً للشعب السوري. ولم يعد أمام إدارة بوتين سوى محاولة الحد من الخسارة، أو انتظار الخسارة الكاملة في سورية، وهي خسارة تتجاوز موقع بلاده في هذا البلد إلى فقدان مقعد مقرر وفاعل في النظام الإقليمي الذي يتشكل في المنطقة على أنقاض أنظمة عربية متهاوية. لقد دفعت موسكو وتدفع ثمن ترددها ووقوفها عند «عقدة ليبيا»، ولم تدرك منذ البداية أن ما صممت عليه أميركا وأوروبا هو إسقاط نظام دمشق، لأن سقوطه يعني زعزعة ما يسمى حلف الممانعة، وبات عليها اليوم أن تخشى على إيران، التي تصر واشنطن على وقف مشروعها النووي وترفض البحث معها في قضايا تخص دورها وطموحاتها وأحلامها في المنطقة!

يبقى أن ما يقلق موسكو اليوم هو نفسه ما يقلق باقي أعضاء المجموعة، وهي تنظر إلى القضية السورية من منظار أنها أكثر تعقيداً من مجرد رحيل الأسد، كما أنها تشعر بعجز دولي عن وقف الاقتتال، على رغم أنها المصدر الرئيس لسلاح النظام وتتحمل المسؤولية الأخلاقية الأكبر عما يحدث. إن روسيا تعرف تركيبة المؤسسة العسكرية السورية أكثر من غيرها، وهي من دون شك تتساءل عن مصير أكثر من ثلاثين ألف ضابط علوي وأكثر من مئة ألف جندي نظامي علوي أيضاً، فضلاً عن عناصر من أقليات أخرى مسيحية ودرزية، وهم من يقفون اليوم وراء هذه الحملة التي يشنها النظام قتلاً وتدميراً، وترغب انطلاقاً من هذا الواقع، في أن يتولى المجتمع الدولي إيجاد حل يسمح لهؤلاء بالابتعاد عن النظام. مفهوم تماماً أن هذا لا يشمل القيادات العليا من الحلقة الضيقة التي تخطط وتدير مسرح العمليات، كما أنها ترغب طبعاً في ضمان مصالحها المعروفة في سورية، وعلى رأسها القاعدة البحرية في طرطوس… وفي هذا الإطار ثمة من يطرح فكرة قيام مجلس عسكري موقت، بدعم دولي، يتولى ترتيب خروج الرئيس ووقف القتال، تمهيداً لقيام حكومة توافُق موقتة تدير المرحلة الانتقالية وتشرف على إعادة تركيب الجيش والأجهزة الأمنية من «الجيشين» المتصارعين، بهدف الحفاظ على المؤسسة العسكرية، ولئلا تتعرض البلاد لانهيار أمني، كما حصل في العراق وفي ليبيا، كما تتولى إعداد دستور جديد للبلاد تطمئن إليه كل مكونات المجتمع، طوائفَ وأعراقاً.

أمام روسيا فرصة في لقاء إسطنبول بعد يومين لممثلين عن مجموعة جنيف (الدول الخمس الكبرى والسعودية وتركيا وقطر والأردن والمبعوث الخاص الأممي-العربي)، الذي يفترض به ان يحدد مصير الحل السياسي وفرص نجاحه وإمكان التوافق بين هذه الأطراف، التي باتت مقتنعة بوجوب تجنيب سورية الحسم العسكري وتداعياته الكارثية على النسيج الوطني ومكوناته، وعلى وحدة البلاد وتحويلها ساحة للأصوليات المختلفة.

والسؤال هنا: هل يمكن هذا الزخم الدولي والإقليمي أن يستنبط تفاهماً يرضي الجميع؟ زوار موسكو في الأيام الأخيرة شعروا بأنها ليست متمسكة بالرئيس الأسد، وباتت مقتنعة بأن لا حل مع بقائه، ولا مجال لصيغة «لا غالب ولا مغلوب»، وهي توحي بأنها ربما تكون مستعدة للتعاون من أجل قيام حكومة انتقالية من شخصيات وطنية وتكنوقراط تعد لدستور جديد وانتخابات نيابية، وتكون لها كل الصلاحيات التنفيذية، وهذا ما نص عليه اتفاق جنيف، وبعدها قد تكون مستعدة لممارسة ما يلزم من ضغوط لدفع الأسد إلى التنحي وليس الانتظار حتى انتهاء ولايته في العام 2014. لكن هذا يعنـي أنها ليـست مستعدة للقبول بالحكومة الموقتة التي يبحث الائتلاف الوطني للمعارضة تشكيلها لإدارة المناطق المحررة والإشراف على تلقي المساعدات وتوزيعها.

كان المطلوب من مجموعة جنيف أولاً، في ظل السباق مع التطورات الميدانية ودينامياتها، أن تلتقي على تعريف مشترك وواضح للمرحلة الانتقالية وعناصرها ومدتها. والمطلوب ثانياً التوافق على خطة طريق للوصول إلى هذه المرحلة. ولن يكون ذلك كافياً للبدء بالتنفيذ، ومن هنا، كان لا بد ثالثاً من تعهد الأطراف ممارسة الضغوط على طرفي الصراع لفرض هذه الخطة فرضاً. هل يستطيع لقاء جنيف تعويض ما فات في الوقت الضائع طوال عشرين شهراً، أم أن حظوظ الحل السياسي باتت من سابع المستحيلات بعد كل هذا القتل والدمار والضغائن؟ ومن يضمن تجاوب المتصارعين مع حملات الضغط؟ هل يمكن موسكو أن تقدم مخرجاً من هذا المأزق؟ أو أن تقدم تصوراً مقنعاً، ليس لشركائها في جنيف فحسب بل للمعارضة أيضاً، ينطلق من توقعات بوغدانوف أن هذه المعارضة ستنتصر… فتساهم جدياً هذه المرة في رسم طريق لرحيل أهل النظام سريعاً؟

الحياة

لا نهاية لأزمة سوريا إلا بصفقة أميركية ـ روسية!

هدى الحسيني

ما يجري في سوريا منذ نحو السنتين تقريبا، ينفي مقولة إن «الربيع العربي» جلب الاضطرابات إليها. فاللعبة «جيوسياسية»، والقوى الغربية لا تزال تبحث عن الجناح العسكري الموحد للمعارضة السورية، وتنوي لقاءه هذا الأسبوع في تركيا، والثوار السوريون لا يخفون أنهم يتلقون التدريب والدعم الاستخباراتي والعسكري والمالي، كما لا يخفون انضمام مئات من المتطوعين الجهاديين الأجانب إليهم، جزء كبير منهم ينضوي تحت لواء «القاعدة» عبر «جبهة النصرة»، وفي الوقت نفسه صار مئات الألوف من السوريين بلا مأوى ولاجئين، ويتعرضون في المخيمات لابتزاز عصابات سورية متحاربة تريد السيطرة على مصير المخيم وسرقة ما حمله معهم اللاجئون (صحيفة «التايمز» يوم الاثنين الماضي).

من ناحيته، يكرر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن بلاده لن تسمح بتكرار تجربة ليبيا. المعروف أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استعاد سلطاته في السابق عندما أعاد غزو الشيشان، ومنذ ذلك الوقت، فهو إما رئيس للجمهورية، أو رئيس للوزراء. لكن بوتين ورئيس وزرائه ديمتري ميدفيديف، وعلى الرغم من أنهما عززا روسيا اقتصاديا وعسكريا، من حيث توفير الطاقة لأوروبا، وبيع المعادن للصين، إلا أنهما معا فقدا عراق صدام حسين، وليبيا معمر القذافي، لذلك أخذا عهدا على نفسيهما بأن بشار الأسد الذي حافظ على علاقات بين سوريا وروسيا يعود عهدها إلى الحقبة السوفياتية، لن يسقط ولن يكون حجر «دومينو» في سياسة الغرب لتغيير الأنظمة تحت ذريعة التدخل الإنساني.

وللتغطية على دمار غروزني العاصمة، أسرعت موسكو إلى إعادة بنائها، لكن النتيجة كانت أن ارتفع التمدد الإسلامي بشكل أوسع، وبدأ العمل على إقامة «إمارة القوقاز» بقيادة قائد إسلامي طموح جدا يدعى «أمير دوكو عمروف»، أي أن الكرملين قضى على حلم دولة الشيشان المستقلة، فأدى ذلك إلى ميلاد حلم إقامة دولة إسلامية تمتد من بحر قزوين تقريبا إلى شواطئ البحر الأسود. وهذا ما تتخوف منه روسيا، وهي تراقب ما يجري في سوريا.

بدأت الثورة بمطالبة الشعب تحرير البلاد من نظام حزب البعث، وتطورت بسعي مجموعات مقاتلة إلى إقامة دولة سنية متشددة في سوريا المعروفة تقليديا بتعدديتها.

وهكذا فإن روسيا بعد عقود من محاربة إسلاميين لديهم تمويل جيد، في أفغانستان والشيشان، تعتقد بأن صناع القرار في الغرب ساذجون حول ديناميكية «السياسة – الدينية» التي يدفع إليها المتطرفون، وأن روسيا ودول الغرب سيواجهون ردود فعل سلبية جهادية سلفية غير متوقعة، لاحقا.

قد يكون لافروف على حق بقوله إن بلاده لن تسمح بتكرار تجربة ليبيا في سوريا، لأنه من غير المرجح أن يتدخل الغرب وينقذ سوريا من نظام بشار الأسد ومن إرهاب الأصوليين. ثم إن التدخل لن يكون شبيها بالتدخل الغربي في ليبيا، بل يمكن أن يكون على نمط ما جرى في أفغانستان عام 2001، فبعد أن أسقط التحالف الشمالي الأفغاني نظام طالبان، وُضعت الخطط ودخلت القوات الغربية إلى أفغانستان.

الخطاب الروسي مستمر في موقفه، لافروف انتقد تأييد واشنطن للائتلاف الوطني ممثلا شرعيا للشعب السوري، لكن رئيس الأمن الروسي نيكولا باتروشيف نفى أن يكون لسوريا نية في استعمال السلاح الكيماوي، وإن كان الكسندر بوغدانوف نائب وزير الخارجية الروسي أشار إلى احتمال أن تقع هذه الأسلحة في أيدي المجموعات الراديكالية في المعارضة، ومن بينها «القاعدة».

السبيل الوحيد لموسكو للخروج من مأزقها السوري يكون في عقد صفقة مع واشنطن. وما يصب في مصلحة روسيا أن الولايات المتحدة تتصارع مع الوضع السوري المعقد.

الوقت الذي يستغرقه التوصل إلى صفقة بين البلدين قد تستغله الجماعات المتطرفة بين المقاتلين السوريين. وهذا الاحتمال يقلق واشنطن، ثم إن موسكو تحمل «ورقة رابحة»، ذلك أن شبح مخازن الأسلحة الكيماوية يطارد الدول الغربية إذا ما سقط النظام السوري فجأة. ومن البديهي أن الاستخبارات الروسية لديها معرفة بأماكن هذه الأسلحة.

هذه «المعرفة» يمكن أن تتحول سلعة للتبادل بين واشنطن وموسكو إذا ما تطور الوضع بسرعة. وكان بوغدانوف قال، إن الجميع بمن فيهم شركاؤنا الأميركيون يتخوفون من سيطرة الثوار على ترسانة الأسلحة السورية، «لقد وقع هذا في حلب عند استيلائهم على مصنع للمواد الكيماوية التي يمكن استخدامها لأغراض إرهابية».

من وجهة النظر الأميركية، إن أفضل مخرج يكون باستيلاء الجيش على السلطة في سوريا، وهذا يترك مؤسسات الدولة سليمة، كما حدث في مصر، وبعد ذلك يسهم النفوذ الأميركي بتوجيه البلاد نحو الديمقراطية. ولروسيا نفوذ كبير على الجيش. وهنا يكمن أساس التفاؤل الروسي.

روسيا تريد التأكد من احتفاظها بالقاعدة البحرية في طرطوس، وجودها الوحيد خارج البحر الأسود. لكن العلاقات الأميركية – الروسية بوضعها الحالي تحول دون حدوث ذلك، وكانت هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية قالت قبل فترة، إن ما يجري حاليا في أوروبا وآسيا هو «إعادة سفيتة» (نسبة إلى الاتحاد السوفياتي)، وتستعد أميركا لإحباطها. وكانت تشير إلى مشاريع روسيا في الاتحاد الجمركي والاتحاد الأوروبي – الآسيوي.

استدعى هذا رد فعل عنيف من الرئيس بوتين، واعتبره «هراء»، يضاف إلى هذا قرار واشنطن فرض «قيود مذلة» على الزيارات التي يقوم بها مسؤولون روس تتهمهم واشنطن بتورطهم في انتهاكات حقوق الإنسان.

يُشتم من كل هذا، احتمال أن تنهي واشنطن وجود الأسطول الروسي في طرطوس في المرحلة التي تلي سقوط الأسد، وربما تفكر في إبعاد روسيا تماما عن شرق البحر الأبيض المتوسط. هي منعت بالفعل محاولة روسيا التعاون مع إسرائيل في تطوير غاز آبار «لافياثان» البحرية، كما أنها أجبرت العراق على إلغاء صفقة أسلحة روسية بمليارات الدولارات. ثم إن تركيا بدورها تريد أن تخرج روسيا من شرق البحر الأبيض المتوسط. وهكذا فإن سقوط النظام السوري قبل التوصل إلى صفقة مضمونة مع واشنطن سيكون نكسة خطيرة للاستراتيجية الروسية، وقد تفقد موسكو القدرة على التأثير في التحول الجذري الذي يجري في الشرق الأوسط. ثم إذا سقط حليفها السوري تعرف، أن حليفها الإيراني قد يسقط هو الآخر، أو ينجح في التفاوض والجنوح إلى الطرف الغربي، بعدما ينال ما يرضيه كاعتراف أميركي بأن إيران هي القوة الأساسية في منطقة الخليج العربي.

إذا شعرت روسيا بأنها وصلت إلى باب مسدود، وقد يحتاج هذا إلى فترة زمنية غير قصيرة، عندها ستتوقف هي والصين عن التظاهر بأنهما تدعمان نظاما تسلطيا خوفا من فقدان المصالح الاقتصادية، وستفكران بالشيشان والتيبت. وهكذا سيصبح الحفاظ على الوضع الراهن في سوريا «الخط الأحمر» الجديد بالنسبة إليهما، ولا يهم كم عدد الضحايا السوريين الذين سيسقطون أو الدمار الذي سيلحق بسوريا، ثم إن الوضع الراهن سينهك المعارضة الديمقراطية وسيكون من مصلحة الجهاديين. وتماما كما تسلّح الجهاديون في التسعينات وبداية الألفية، بالمال والمقاتلين لمواجهة «الكفار» الروس في القوقاز، فإنهم يفعلون الشيء نفسه في سوريا الآن، الفارق الأساسي أنهم في سوريا تدعمهم أجهزة ووكالات استخبارات عربية وغربية في السر والعلن.

إذا لم تتوصل واشنطن وموسكو إلى «صفقة» توقف الحرب في سوريا بأسرع ما يمكن الآن، فإن تصاعد العنف الطائفي في شمال لبنان والبقاع، وسقوط القذائف السورية على المناطق التركية الجنوبية الضعيفة، والارتفاع الحاد في نشاط حزب العمال الكردستاني في المنطقة، قد يكون استمرارا لسيناريو مخيف يجري تطبيقه على حساب شعوب المنطقة وحدود دولها.

الشرق الأوسط

السياسة الروسية في الأزمة السورية

د.خالد الحروب

هناك لغز سياسي راهن جوهره السؤال التالي: كيف يفكر الروس، ولماذا يعملون ضد مصالحهم في المنطقة؟ ولماذا وقفوا هذا الموقف المحير إزاء «الربيع العربي»، ثم أيدوا النظام الأسدي بكل طاقتهم وحتى لحظة سقوطه الأخيرة القادمة؟

هذا الطور دخلته السياسة الروسية الشرق أوسطية بدءاً من النُذر الأولى لـ«الربيع العربي» في تونس ثم مصر. في هذين البلدين قامت ثورتان شعبيتان ضد نظامي حكم مواليين للولايات المتحدة، البلد الذي تخوض روسيا ضده حرباً باردة جديدة، وتحاول كبح جماح نفوذه في مناطق العالم، والاصطدام معه في سياسات متنافسة هنا، أو الوصول معه إلى سياسات مقايضة هناك. في سياق كهذا كان من المتوقع أن تقفز السياسة الروسية مباشرة لتأييد الثورتين التونسية والمصرية، وتكون النصير الأول لهما على أمل أن تؤسس لموقع نفوذ جديد على حساب الولايات المتحدة التي تخسر حليفين مهمين في آن معاً، بدل أن تقوم بذلك، وفقاً لألف باء سياسات التنافس الدولي والإقليمي، تجمد الدب الروسي، واكتفى بدور المراقب، في ما الولايات المتحدة تسارع في تبديل سياستها التحالفية مع نظامي بن علي ومبارك مائة وثمانين درجة وتتخلى عنهما في ظرف أسابيع قليلة. استطاعت واشنطن عبر سياستها المرنة أن تنتقل من مربع القول بأن النظامين المذكورين يتمتعان بالاستقرار والسيطرة على الأمور إلى القول بأن عليهما أن يرحلا . كل ذلك، مرة أخرى، في ظرف قياسي من الزمن. في تلك الأثناء، لم يسمع أحد عن شيء اسمه روسيا! كانت «تراقب الوضع» عن كثب. نجحت الثورتان التونسية والمصرية ثم الليبية بعدهما ونتجت أوضاع ما بعد الثورات مع قوى سياسية كانت حتى الأمس القريب من ألد أعداء الولايات المتحدة. لكن واشنطن بدلت نظرتها حتى للإسلاميين وقبلت بهم في الحكم وتعاملت معهم. وروسيا «تراقب عن كثب».

وعندما قررت موسكو أخيراً أن تنشط في «الربيع العربي» دعمت الطرف الخطأ، وراهنت على الحصان الخاسر منذ اللحظة الأولى، واصطفت على جانب أكثر الأنظمة ديكتاتورية، وكراهة ألا وهو نظام الأسد. ورغم كل المؤشرات التي دلت ولا تزال تدل على الشعب السوري قد دخل معركة حياة أو موت ضد النظام المُستبد بما يعني أن نهاية النظام آتية لا محالة، وموسكو تعتبر أن المعركة معركتها، هي وليست معركة النظام. اضطّرت موسكو مناصرتها لنظام الأسد في سياق صراع القوة العالمي الذي تخوضه مع واشنطن، ولإثبات أن لها قولًا وسطوة في الأجندة العالمية، وليكن الشعب السوري هو من يتحمل، وليسقط عشرات الألوف منه. لكن بالتوازي مع هذه العنجهية فإن هذا المنطق ظل يولد جوانب مثيرة. فالموقف الروسي المؤيد للنظام ضد «التدخل الخارجي» قدم ذريعة للغرب والولايات المتحدة التي لم تفكر أصلاً بالتدخل العسكري ولا هي أيدته. بمعنى آخر، اتصف الموقف الغربي والأميركي بخذلان الثورة السورية والتفرج على بطش النظام المتصاعد بسبب حساباته المعقدة (من سيخلف الأسد، وانعكاسات ذلك على أمن إسرائيل، وسوى ذلك)، لكن الموقف الروسي قدم الغطاء الجوي لذلك الموقف، حيث أصبحت موسكو هي العقبة الظاهرية التي تمنع الغرب من تأييد الثورة السورية والتدخل الفعلي لنصرتها.

هذه الأيام تتواتر الأخبار عن المواقف الروسية الجديدة التي تقول إن النظام في سوريا يتداعى بما يشير إلى تخلي موسكو عن حليفها المُخيب للآمال، وهي مواقف لا تزال مترددة، يصرح بها بعض أركان السياسة الروسية، في ما ينكرها البعض الآخر. لا نعرف مغزى إطلاق التصريح ثم نفيه ولا نعرف إن كان لدى موسكو الوقت الكافي لمثل هذا التلاعب والمهاترة. لكننا نعرف الآن، وبشكل مدهش، أن السياسة الروسية دخلت طوراً طويلاً من الحماقة صار يعز عليها أن تخرج منه، وذلك منذ أن أسرفت في تسطير سياسة مؤيدة لنظام الأسد، وقد كانت سياسة معروفة النهاية ومعروفة الخسائر منذ البداية. ونعرف الآن أن الدعم الروسي-الإيراني المتواصل للنظام لم يؤد إلا إلى تواصل الثورة السورية وتصميمها على الخلاص من النظام، واعتبارها ذلك الخيار الوحيد الذي أمامها. كيف استبد العناد في القرار الروسي رغم وضوح عناصر الصراع ومستقبلاته، ولماذا يقبل الروس خسران الشعب السوري كله والرهان على عصابة مصيرها السقوط، ويقبلون بالتوازي تأكيد وتعميق تلك الخسائر الاستراتيجية الروسية المستقبلية؟

هناك بالطبع سلسلة طويلة من الإجابات تبدأ بقصة «الخداع» الذي اكتشفته روسيا في السياسة الغربية عندما تحالفت معها ضد القذافي، ولا تنتهي بالتقديرات الاستراتيجية التي تتسع لتشمل الضغط على واشنطن في مسائل إقامة شبكات الدرع الصاروخية في الجوار الروسي، إلى محاولة المحافظة على سوريا كمحطة تمر فيها أنابيب الغاز والنفط الروسي (عبر إيران والعراق) وبالتالي تقصير المسافات الطويلة عبر المضايق البحرية الأخرى. عناصر الإجابات تلك صحيحة بالتأكيد لكن جمعها إلى بعضها البعض لا يقود إلى بناء استراتيجية وسياسة مقنعة تقف إلى جانب النظام المكروه من شعبه. كل التحليلات التي تفسر موقف موسكو انطلاقاً من المصالح الروسية الحيوية في سوريا لا تقدم لنا سوى نصف الصورة. سبب ذلك واضح وهو أن أبجديات السياسة البراجماتية والمصلحية والتي لا تحتاج إلى عبقرية تحليلية تقول إن المحافظة على تلك المصالح الحيوية تستدعي المراهنة على «الحصان الرابح».

في سياق تاريخي اعرض ما سوف يرصد مؤرخو السياسة الروسية موقفها من «الربيع العربي» ومن الثورة السورية على وجه التحديد إلى جانب سجل عريض من السياسات والمواقف التاريخية التي كانت تأتي بعكس ما تستهدفه، حيث الوقوف في الجانب الخطأ من التاريخ. روسيا القيصرية (في عهد بوتين) الحائرة والقلقة والمتوترة، وهي خصائص تنتج سياسات خاطئة، تعيد إنتاج الحيرة والتوتر السوفييتي في أكثر من مرحلة وحقبة تاريخية. في عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي وعندما كانت حركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا تخوض حروباً طاحنة ضد الاستعمار الأوروبي، البريطاني والفرنسي والإيطالي والبرتغالي والبلجيكي، وقفت موسكو تتفرج! كانت حركات التحرر الوطني في أمس الحاجة إلى حليف دولي يقف إلى جانبها، لكن موسكو كانت ترى أن المعركة الحقيقية ضد الإمبريالية يجب أن يتم خوضها في داخل المتروبول الأوروبي وتقودها الطبقة العاملة ضد الرأسمالية المحلية التي إنْ انهارت فإن الإمبريالية والاستعمار الخارجي سوف ينهاران. كانت نتيجة ذلك الموقف، الذي تبدل ببطء لاحقاً، إن حركات تحرر كثيرة اضطرت إلى الوصول إلى صفقات مع المستعمر لا تلبي كل الطموحات الوطنية.

الاتحاد

اختلاف موسكو وطهران في سورية

وليد شقير

صحيح الموقف الروسي الذي صدر الأسبوع الماضي والقائل إن موقف موسكو «لم ولن يتغير» حيال الأزمة السورية، والذي جاء تعقيباً على ما أعلنه نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف الذي بدا أنه يحمل جديداً، حين قال إن المعارضة تسيطر على الأرض أكثر فأكثر ولم يستبعد سقوطاً قريباً للنظام. فجلّ ما فعله بوغدانوف هو توصيف التطورات الميدانية وتوقع ما يمكن أن تنتجه في الأسابيع المقبلة. وهو توصيف لم يدلِ به إلا بالتنسيق مع وزير خارجيته سيرغي لافروف.

إلا أن هذا لا يلغي تسجيل «الجديد» في موقف موسكو، كالآتي:

1 – هي حجزت لنفسها مقعداً في البحث عن التسوية الممكنة حول سورية مع دول الغرب التي اختلفت معها في الرؤية في شأن أزمة سورية، حين قالت منذ أكثر من سنة إنها لا تتمسك بشخص الأسد وإن ما يهمها مصير سورية. وهو ما كرره أمس الرئيس فلاديمير بوتين. وعدم التمسك بالأسد كان المقولة التي تتيح لموسكو الاستناد إليها في اللغة الديبلوماسية الدولية، من أجل أن تلج المفاوضات الهادفة الى رسم المعادلة الجديدة في سورية بعد سقوط النظام. الجديد هنا التطورات الميدانية التي تشير الى دنو سقوط النظام (وهو قد لا يحتسب بالأيام أو الأسابيع)، بحيث بات التدرج في موقف روسيا يسمح لبوتين بأن ينفي قلقه على مصير الأسد، ويؤكد قلقه على سورية، كما فعل بالأمس، مستخدماً القاموس الذي وضعته الديبلوماسية الروسية والذي يمكن أن تغرف منه العبارة التي تناسب المرحلة. غابت عن لغة بوتين عبارات من نوع «الإرهابيين» و «تسليح دول الجوار والغرب المعارضة الذي يزيد من تعقيد الأزمة» و «رفض التدخل الخارجي»… الخ.

2 – الجديد أيضاً هو مسودة الحل التي عرضتها القيادة التركية على بوتين حين زار أنقرة في 3 الجاري واجتماع وزير الخارجية لافروف مع نظيرته الأميركية هيلاري كلينتون في دبلن في 6 الجاري ولقاء نائبها وليام بيرنز مع نظيره الروسي بوغدانوف في جنيف في حضور الممثل الخاص الدولي العربي الأخضر الإبراهيمي في 9 الجاري. وهي محطات وضعت فيها مسودتان متقاربتان لرسم التحضيرات لمرحلة ما بعد الأسد، وتتقاطعان حول تشكيل حكومة وحدة وطنية تقضي الأولى منهما بأن تضم شخصيات وطنية وتكنوقراط مرضياً عنها من الموالين للنظام ومن المعارضة ويسلم الأسد لها صلاحياته خلال الأشهر الثلاثة الأولى من السنة الجديدة، تمهيداً لإجراء انتخابات عامة لاحقاً، وإذ اعتبرت موسكو هذه الصيغة مبتكرة في إشارة الى موقفها الإيجابي منها، فإن الصيغة الثانية اقتضت أن تكون حكومة وحدة وطنية لها كامل الصلاحيات، وصفها الروس بأنها تكون «أعلى سلطة»، بما يعني أن لا سلطة للأسد، في حال بقائه رئيساً، على أن تنظم هذه الحكومة انتخابات نيابية ورئاسية خلال أشهر قليلة بحيث يترك السلطة قبل نهاية ولايته عام 2014، وكُلّف الإبراهيمي استمزاج الأسد بالفكرة الثانية، لكن ما زال الأخير يمتنع عن تحديد موعد له، فيما رفضت المعارضة وبعض الدول العربية المعنية حلاً يبقي على الأسد في السلطة لأشهر أخرى، لثقتهم بأن التطورات الميدانية التي تتسابق مع محاولات استلحاق الحل السياسي هي التي ستحسم سقوط النظام.

3 – بينما اصطدمت محاولات تسويق المسودة التركية برفض كامل من الأسد لاعتقاده المستمر بأنه قادر على سحق الانتفاضة الشعبية والمسلحة، جاء الجديد الثالث بالموقف الإيراني الذي رد على تغييبه عن بحث مرحلة ما بعد الأسد، باعتبار أن أي مسودة يُتفق عليها ستقود الى تأييد موسكو لقرار في مجلس الأمن، يشمل إرسال قوات حفظ سلام من دول عربية وإسلامية. وهو ما دفع طهران الى إيفاد نائب وزير خارجيتها الى موسكو أمير حسين عبد اللهيان الاثنين الماضي حاملاً النقاط الست التي تقوم على حوار بين النظام والمعارضة لإنشاء لجنة مصالحة تتشكل بعدها الحكومة الانتقالية، وهو ما يخالف مسودة بيرنز – بوغدانوف حيث الحكومة العتيدة «أعلى سلطة بالدولة». أنباء موسكو تفيد بأنها اعتبرت أن التطورات الميدانية تخطت هذه النقاط، وهذا ما يفسر تلويح المسؤول الإيراني بأن ردة فعل «حزب الله» ستكون «مؤثرة وفاعلة». سبق ذلك تصنيف اقتراح نائب الرئيس السوري فاروق الشرع قيام حكومة وحدة بأنه اعتراض إيراني للمداولات الدولية.

بدأ التمايز الروسي – الإيراني يتحول الى خلاف، فأي تسوية دولية حول سورية تحرم طهران من استخدام الأزمة السورية مدخلاً لتفاوض الغرب معها حول الملفات العالقة بينها وبينه على الصعيد الإقليمي وفي ما يخص ملفها النووي… وهذا فصل جديد من الأزمة.

الحياة

الأسد وروسيا..الواقع والتمنيات

خيرالله خيرالله

أخذت روسيا علماً بسقوط النظام السوري واعلنت ذلك بحياء وحذر عن طريق نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف. يبدو أن العالم كلّه يدرك ان النظام في حكم المنتهي باستثناء بشّار الاسد الذي يعيش في عالمه الخاص، الذي لا علاقة له بما يدور حقيقة في العالم وداخل سوريا نفسها.

سيعتبر الاسد الابن النفي الصادر عن وزارة الخارجية لكلام بوغدانوف دليلاً على تراجع موسكو، في حين أن الكلام والنفي اقرب الى تحذير آخر موجه الى الرئيس السوري. فحوى التحذير أنه لم يعد مستبعدا دخول الكرملين يوماً في مفاوضات تتناول الوضع السوري في مرحلة ما بعد سقوط النظام. والواقع أن هذه المفاوضات بدأت بالفعل بين الروس من جهة وكلّ من الاميركيين والاتراك من جهة اخرى…

قبل صدور النفي، رجّح نائب وزير الخارجية الروسي انتصار المعارضة السورية ممثّلة بـ”الجيش الحرّ” مشيراً الى ان النظام يفقد السيطرة اكثر فاكثر على الارض. كان كلامه منطقياً، خصوصا بعدما اقترب الثوار من مطار دمشق وباتوا يهددون العاصمة نفسها، بما في ذلك الاحياء الراقية التي يقيم فيها اهل النظام…

لم تمض ساعات على توزيع كلام بوغدانوف، حتّى صدر نفي له عن وزارة الخارجية الروسية. أكّد النفي أن موقف موسكو من النظام السوري “لم يتغيّر ولن يتغيّر”.

لماذا هذا الامعان الروسي في تضليل الاسد الابن. اليس في موسكو عاقل يدرك ان مثل هذا النفي سيجعل بشّار الاسد يتمسّك اكثر فاكثر بالحل العسكري من منطلق أنّه لم يستطع يوماً التمييز بين الواقع والتمنيات؟

يتمثّل الواقع في ما ورد على لسان بوغدانوف، في حين أن التمنيات تتمثل في أن موقف موسكو “لم يتغيّر ولن يتغيّر” على الرغم من التطورات التي تشهدها الارض السورية. وهذا يعني في طبيعة الحال أنّ لا تراجع روسيا عن الموقف المتذبذب الذي يدفع بشّار الاسد الى مزيد من العنف، في المواجهة مع الشعب السوري، من منطلق أن لديه غطاءً روسياً ودعماً ايرانياً لا حدود له…

كيف يمكن لموسكو التمسّك بموقفها من النظام السوري على الرغم من أن الوضع يتغيّر على الارض باعتراف نائب وزير الخارجية؟ لا جواب واضحاً عن هذا السؤال. كلّ ما يمكن قوله إن الموقف الروسي محيّر الى حدّ كبير ولا يمكن ادراجه الاّ في سياق المواقف المتخذة منذ قيام دولة اسرائيل في العام 1948. كان الاتحاد السوفياتي من بين اوائل الذين اعترفوا بتلك الدولة. جاء اعترافه بها قبل الولايات المتحدة. هذه حقيقة. بعد ذلك، لم يتردد الاتحاد السوفياتي في بيع العرب الاوهام. لم يصدر عنه يوماً اي موقف حازم من ارتكابات الانظمة العربية، بما في ذلك تلك التي طاولت الشيوعيين العرب الذين كانوا من ضحايا السياسة السوفياتية في المنطقة.

ابان الحرب الباردة، كان العداء للولايات المتحدة يتحكّم بالسياسة السوفياتية. بقي جمال عبدالناصر “بطلاً قومياً” و”مناضلاً” يقف في وجه الامبريالية على الرغم من ذبحه الشيوعيين العرب من الوريد الى الوريد…او تذويبهم بالاسيد، كما حصل مع القائد الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو. اوقف الحلو في سوريا في فترة الوحدة المصرية السورية التي استمرّت بين 1958 و1961. الى الان لم يظهر له اثر من ايّ نوع كان.

لم يصدر عن الاتحاد السوفياتي اي موقف له قيمة تذكر، في ما يتعلّق بالشرق الاوسط والعرب، في اي يوم من الايام. كلّ ما صدر هو شعارت لا قيمة لها على ارض الواقع وكأنّ بيع السلاح الى مصر وسوريا والعراق وليبيا والسودان والجزائر واليمن اهمّ بكثير من دمّ الشيوعيين العرب وحقوق الانسان والحرية والعدالة والشعارات الاخرى التي كان يتشدّق بها الرفاق في موسكو.

انهار الاتحاد السوفياتي وقامت روسيا الاتحادية. لم يتغيّر شيء في موسكو. لم يصدر يوماً موقف من نظام ديكتاتوري ما بسبب حقوق الانسان او الديموقراطية، حتى عندما كان الامر يتعلّق بمناضل يساري او حزب صدّق في يوم من الايّام أن هناك مبادئ مشتركة تؤمن بها موسكو.

ما يفعله العرب حالياً هو عين الصواب. اتخذوا في اجتماع مراكش موقفاً مؤيداً للشعب السوري وداعماً له. انّهم يدركون أن لا امل بروسيا، مثلما أنه لم يكن هناك أي امل بالاتحاد السوفياتي الذي شارك، عن طريق النظام السوري، في توريط العرب، على رأسهم مصر والاردن، في حرب 1967 من دون أن يرفّ له جفن. لو اتكل انور السادات على نصائح ولم يطرد الخبراء السوفيات من مصر في العام 1972، لما كانت حرب تشرين 1973 ولكانت سيناء لا تزال الى الان محتلة، كما حال الجولان!

لا قيمة للموقف الروسي الاّ أذا اخذنا في الاعتبار ما يتعرّض له الشعب السوري على يد نظام امتهن الارهاب والابتزاز داخل سوريا وخارجها. كلّ ما يمكن أن يؤدي اليه الموقف الروسي هو اطالة عذابات سوريا والسوريين والمساهمة في تفكيك هذا البلد العربي المهمّ. ففي كلّ يوم يمرّ نرى مجموعات متطرفة، خصوصا في منطقة حلب، تلعب دوراً اكبر في السيطرة على مناطق سورية معيّنة تنفيذاً لاجندة لا تصبّ بالضرورة في مصلحة سوريا والسوريين والدولة المركزية.

هل تفكيك سوريا هدف روسي او هدف روسي- ايراني؟ مثل هذا السؤال مشروع في ضوء اصرار موسكو وطهران على اطالة عمر النظام السوري مع ما ينطوي عليه ذلك من اخطار مرتبطة بتقوية التيارات الدينية المتطرفة التي لا هدف لها سوى اخذ المجتمع السوري وسوريا الى مكان آخر لا علاقة له لا بالمؤسسات الديموقراطية ولا بحقوق الانسان….او بما هو حضاري في هذا العالم.

المستقبل

الأسد لا يملك خيار الرحيل والحرب مستمرة

فيودر لوكيانوف *

لا ينقطع سيل الأخبار السيئة الآتية من سورية، فالحرب الأهليّة مستمرة، وعدد الضحايا إلى ازدياد، والخطوط الديبلوماسيّة أصابها الشلل. لكن التقارير الإعلاميّة الحادة اللهجة تُظهر أنّ ثمة جهة وراءها، وبرزت تقارير عن نيّة الأسد استخدام السلاح الكيماوي، وعلى رغم أن مصدر الخبر غامض، تفشى وانتشر. وتحدثت تقارير أخرى عن أن أيام النظام السوري باتت معدودة، وأنه يرسل مبعوثيه إلى الخارج ليبحثوا عن بلد يستقبله في المنفى، وأنّ روسيا بدّلت موقفها المتشدد إزاء الأزمة. وجلي أن الوضع في سورية يتجه إلى الأسوأ، ولكن ليس أكيداً أن الرئيس الأسد يريد أن يلقى مصير الرئيس اليمني، أي أن يقبل الحصول على الحصانة مقابل التخلي عن السلطة.

والحقّ أن الوضع في سورية لا يشبه نظيره اليمني ولا النموذج التونسي، ففي اليمن ارتضى الرئيس ترك الرئاسة، وفي تونس سارع الرئيس الى الهرب في الوقت المناسب. التغيير السريع في سورية لم يحصل لسببين: أولهما «طبيعة» النظام، فهو استبدادي يتوسل جهازاً قمعياً فعّالاً، وثانيهما «تركيبة» المجتمع المعقّدة البنية والمتنوعة، وهي حالت دون انهياره. ولا يمكن إرساء الاستقرار في سورية في مثل هذه الظروف المعقدة إلا من طريق نظام مركزي استبدادي قمعي أو نظام سياسي معقّد يحفظ التوازنات المذهبيّة والإثنيّة، على مثال النظام اللبناني أو البوسني الأقل نجاعة.

والخيار الأول لم يعد ممكناً لأسباب جلية، فالوضع الخارجي تغيّر، والنظام نفسه تآكل وأصابه الضعف. ولا أحد يعلم ما هي الطريق المثلى لانتهاج الخيار الثاني (النموذج اللبناني أو البوسني). ويسع النظام الديموقراطيّ أن يرسي توازناً بين الجماعات، لكنه نظام هش، مشرَّع حتى في أكثر الدول المتطورة على انتكاسات خطيرة، فكيف به في المجتمعات الخارجة تواً من الصراعات الأهليّة. والديموقراطيّة في سورية هي صنو حكم الغالبية. ومثل هذا الحكم دقيق و «حساس»، فالحكم العلوي يدين في صموده إلى حسبان الأقليّات الأخرى أنه خير الشرور قياساً إلى حكم الغالبيّة السنيّة. والديموقراطية المولودة على يد «الجيش السوري الحرّ» لا تطمئن غالبية السوريين، وعليه يتوقع أن تتواصل النزاعات بعد سقوط نظام بشّار الأسد، فجيشه البالغ عديده 300 ألف رجل، سيشكل مجموعات وعصابات مسلحة للدفاع عن النفس.

المأساة السورية طال أمدها، فوصلت الأحوال إلى طريق مسدود، فمن جهة، العودة إلى الوضع السابق ليست معقولة ولا ممكنة، ومن جهة أخرى، ومع تواصل فصول الحرب، بدأت الثقة بالمعارضة التي تنحو أكثر نحو التطرّف، تتبدد. كثيرون ممن يتطلعون إلى بقاء نظام الأسد يرون أنه سد أمام الهجمة الإسلاميّة.

هل يملك بشّار الأسد الخيار لو أراد التنحي عن الحكم؟ لقد أَفَلَت المرحلة التي كان من الممكن فيها التفاوض على تسليمه دفة الحكم، والحلّ اليوم وثيق الصلة بحصول حوادث تغيّر التوازنات الميدانية، على غرار انطلاق شرارة أزمة أخرى في المنطقة تحوّل الأنظار والضغوط عن الأزمة السوريّة. ولن تسمح حاشية الأسد له بالرحيل بعد اليوم، فرحيله هو صنو «نهايتها» وخسارتها خسارة كبيرة. وقد يحصل الأسد، ولأسباب سياسيّة، على بعض الضمانات من الثوار، لكن حاشيته لا يمكن أن تعتمد على رحمتهم في ضوء هذه الحرب المذهبيّة.

لقد أسقطت المعارضة خيار المفاوضات، فهي على يقين من أن النصر حليفها، لذا يبدو أن الصمود الى النهاية هو الحلّ الوحيد المنطقي المتبقي للأسد. والأنظار شاخصة إلى روسيا التي يحسِب بعضهم أنها تملك حلاًّ سحرياً لرحيل الأسد. ولكن، مع الأسف، جعبة موسكو خاوية، والخيار الوحيد أمام الأسد هو مواصلة الحرب.

* محلّل سياسي، رئيس لجنة مستشاري مجلسي السياسة الخارجية والدفاعيّة الروسيّة، عن صحيفة «روسيسكايا غازيتا» الروسيّة 12/12/2012، اعداد علي شرف الدين

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى