صفحات الثقافة

من أين جاء الماء؟/ أمجد ناصر

 

 

تأمُّلُ الإنسان في دَوْرِ الماء في حياته، ومحيطه، قديم. لا بدَّ من أن هذا ترافق مع تأمله في مسائل الحياة والموت وأصل الوجود على الأرض والعناصر التي لولاها ما كانت حياة. فبعد أن تكفَّ المسلَّمات عن أن تكون مسلَّمات، يأتي التساؤل. والدهشة، بحسب أرسطو، أول الفكر والتفلسف، وهي التي تقود إلى التساؤل، الذي يدفع إلى البحث عن جواب. هناك نصوص سومرية وبابلية تتحدث عن الماء وعلاقته بنشأة العالم، قد تكون أوضحها ملحمة التكوين البابلية “انيو ما إيلش” التي يقول مطلعها، بحسب ترجمة فراس سواح: “عندما في الأعالي لم يكن هناك سماء، 
وفي الأسفل لم يكن هناك أرض، 
لم يكن (من الآلهة) سوى آبسو أبوهم 
وممو، وتعامة، التي حملت بهم جميعاً، يمزجون مياههم معاً، قبل أن تظهر المراعي وتتشكل سبخات القصب، 
قبل أن يظهر للوجود الآلهة الآخرون
، قبل أن تُمنح لهم أسماؤهم وترسم أقدارهم (…)”.

في البدء، إذن، كان الماء بأنواعه الحلوة والمالحة، التي كان يمزجها الآلهة لتكون هناك أرض وفيها ماء حلو وماء مالح وخصب وقصب. هذا ما فكَّرت فيه حضارات ما بين النهرين، ثم ظهرت مفصلية الماء في خلق الحياة، في الأديان التوحيدية الثلاثة، التي جعلت عرش الله على المياه. فلا حياة ولا خلق من دون ماء، بحسب ما تنصُّ عليه الآية “وجعلنا من الماء كل شيء حي”. وقبل الأديان التوحيدية فكَّر الفلاسفة اليونان في أصل الحياة على الأرض وعلاقتها بالمياه. هذا ما يتوقف عنده طاليس، الذي قد يكون أول فيلسوف يوناني، وأول من فكَّر في الطبيعة، من دون ربطها بأسطورة، ميتافيزيق، بحسب ما يقول الفيلسوف الألماني، فريدرك نيتشه، في كتابه “الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي”. في هذا الكتاب يناقش نيتشه أفكار خمسة من الفلاسفة الإغريق، أبرزهم طاليس (635 -545 قبل الميلاد) الذي سكَّ هذه المقولة: الماء أصل الحياة. ليس أصل الحياة فقط بل إنه يتخلل، وبالتالي يوحّد، الموجودات الأخرى، فهو لم ير إمكانية لوجودٍ في العالم من دون ماء.

الماء والشعر

عددتُ مرة ما يقارب عشرين مجموعة شعرية عربية في عناوينها ماء. أدهشني حضور الماء في عناوين، واشتغالات، تلك المجموعات الشعرية لشعراء مرموقين في الحياة الأدبية العربية بدءاً من “أنشودة المطر” (ماء) لبدر شاكر السياب، وصولاً إلى ديوان “مرثية الماء” للشاعرة السعودية، فوزية أبو خالد، مروراً بديوان الشاعر العراقي، علي جعفر العلاق، “وطن لطيور الماء”، والأردنية، زليخة أبو ريشة، “غجر الماء” إلخ.. كأن ذلك امتداد، غير واع، لملاحم التكوين الأولى التي كتبت شعراً، وعلاقة الشعر بالمقدس معروفة. لاحظت، كذلك، أن هذا الحضور الوفير للماء في عناوين الدواوين أو القصائد، يتناسب عكساً مع حضوره في بيئاتنا الصحرواية أو التي تتصحَّر، الآن، بما في ذلك بلد النهرين: العراق. ويمكننا أن نرى تناسب حضوره طردياً مع الظمأ العربي الرمزي للحب والحرية والوطن (خصوصا للمغتربين، أو المنفييين). هناك بلدان في العالم لا تمتدح الماء في آدابها. فهو من الوفرة بحيث أن حضوره، إن ورد، قد يكون سلبياً. أمطار الغرب المتواصلة قد تبدو لعنة، بل إن بعضها مهدد بالغرق بالماء مثل هولندا.

من باب التذكير نقول إن الكرة الأرضية تكاد أن تكون مكوَّنة من الماء. فهو يغطي أكثر من 70 بالمائة منها، كما أنه يشكل النسبة ذاتها من جسم الإنسان. هذا يعني أن الأرض والإنسان (ومملكة الحيوان كذلك) هما ماء في ماء.

كويكبات قزمة وبيضاء

من أين جاء الماء، إكسير الحياة، الذي لا يثير تساؤلاً إلا في غيابه؟ هناك نظريات حول وجود الماء على الأرض لم تتأكد علمياً. هناك مِنَ العلماء مَنْ يرى أن الماء جزء لا يتجزأ من تكوين الأرض ووجودها، وهو كان موجوداً مذ وجدت الأرض قبل نحو 14 مليار سنة. لكن هناك مَنْ يرى أن الماء لم يكن في بداية تشكل الأرض وإلا لكان تبخَّر، حيث كانت الأرض حينها كرة ملتهبة بعد حدوث الانفجار العظيم (بيغ بانغ). الماء لم يكن إذن موجوداً من بدايات تشكُّل الأرض. ليس مباشرة بعد “البيغ بانغ”. لا بدَّ أنه جاء لاحقاً عندما بردت قشرة الأرض على الأقل. وفي هذا الاطار قرأت، قبل أيام، تقريراً ملخصا من دراسة علمية حول وجود الماء على الأرض، وضعها علماء بريطانيون وألمان، أكدوا أن وجود الماء في أنجم أخرى من خلال التصادم شائع خارج منظومتنا الشمسية، وقد خلصوا الى هذه النتيجة من خلال قياس التركيب الكيميائي للغلاف الجوي لنجم قزم أبيض، يطلق عليه اسم SDSS J1242.

والنجوم الأقزام البيضاء هي، حسب التقرير، جثث لنجوم سابقة. فمعظم الشموس المتوسطة، والصغيرة، تتحول إلى أقزام بيضاء في نهاية حياتها. قوة جاذبية سطح هذه النجوم تتسبب في تقاطر عناصر ثقيلة مثل الكربون والأوكسجين إلى المركز تاركة فضاء بسيطاً من الهيدروجين والهيليوم. في التقرير شروحات دقيقة حول نسبة الأوكسجين في كتلة الأقزام البيضاء، التي تتجاوز 40 بالمائة مما يعني أنها تتوافر على ماء، قد يكون في هيئة جليد. وتقترح الدراسة آلية مماثلة للمحيطات، فقبل أربعة مليارات سنة تعرضت الأرض، وبعض الكواكب الصخرية الأخرى، إلى قصف من المذنبات والكويكبات جلب معه الماء، وربما الجزئيات العضوية المركَّبة التي انبنت عليها الحياة. وقد اكتشف العلماء نجماً قزماً أبيض ذا مناخ ملوث يمكن أن يلقي الضوء على سؤال من أين جاء الماء إلى الأرض، وكم هناك ماء خارج نظامنا الشمسي. وكانت وكالة الفضاء الأميركية، “ناسا”، قد اكتشفت وجود كويكب في نظامنا الشمسي سمته “سيرس” تعتقد أنه يحتوي مياها أكثر مما هو موجود على الأرض، إضافة الى غلاف جوي، وقد أرسلت “ناسا” مركبة لاكتشاف هذا النجم القزم.. وعليها يتوقف الخبر اليقين.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى