بشير البكرصفحات الرأي

مفكر مثير للاشمئزاز/ بشير البكر

في الكتاب الجديد الذي صدر له بعنوان: “الهوية الشقية”، الذي شغل به ولا يزال معظم الجرائد والمجلات الفرنسية، يكشف المفكر الفرنسي آلان فينكلكروت عن نزوع فاشيّ، ورفض لكل التحولات التي يعيشها المجتمع الفرنسي. إنه يرى فرنسا التي في أعماقه تتوارى، مفسحة المجال لفرنسا أخرى تحاول ما أمكن التأقلم مع معطيات جديدة، من بينها العولمة وأُفُول الإمبراطورية والتأثير وأيضا صعود مجتمع متعدد الثقافات والديانات. لا يريد فنكلكروت مكانا للفرنسي من أصول عربية وإسلامية، ولا من أصول أخرى غير الأصول اليهودية المسيحية…

يتحدث أصدقاؤه، أو من تبقى منهم، ومن بينهم باسكال بروكنير، الذي شاركه في تأليف كتابين، عن رجل لا تنقصه السخرية وله ميل إلى الاستهزاء من ذاته ولكنه لا يُقدِّر حساباً للهوّات السحيقة التي يجر نفسه إليها. إضافة إلى أنه يخفي شخصية لا تني تظهر قلقا من جفاف الكتابة وغياب الأفكار ساهَم في تأجيجها فقده البصر في عينه اليمنى. وهذا ما جعله يمتلك نظرة تشاؤمية عن فرنسا وثقافتها ومصيرها قلّما وُجِدَتْ في المشهد الثقافي والفكري الفرنسي. صحيح أن فيليب سوليرس كرّس للمسألة مقالته الصاخبة “فرنسا المتعفنة” في جريدة لوموند يوم 28 يناير 1999 والتي كانت بالفعل حدثا مدويا شاركت فيه جرائد ومجلات وإذاعات، وكان الرد الأعنف عليها، حينها، من قبل المفكر ريجيس دوبراي، وقد تلقف فينكلكروت المناسبة فدعا فيليب سوليرس والمفكر والمؤرخ ماكس غالو إلى برنامج “Repliques”، الذي يقدمه ويخرجه في إذاعة فرانس كولتور، ولكن سوليرس سرعان ما يعود إلى مَرَحِه الفرنسي فيتغنى بأسلوب العبقري فرديناند سيلين، الذي لا يزال فينكلكروت وأصحابه يعتبرونه من المحرّمات، تاركا التشاؤم المذهبي لفينكلكروت.

هذه النظرة التشاؤمية دفعته إلى أن يرى في فرنسا غيتو واسعاً، و في المدرسة الفرنسية حقلَ خرابٍ ويرى في الثقافةِ مقبرةً من النصوص الميتة. وهو ما دفع الكثير من أصدقائه المقربين إلى التخلي عنه، ولعل من بينهم ستيفان هيسيل صاحب كتاب “اغضبوا”  ومارا غويي، الأستاذة والكاتبة، التي تعترف أنها كانت تأمل أن يزورها المفكر فنكلكروت “حتى يستنتج بنفسه كيف أن رؤيته السريعة والمصطنعة لا تنظر إلى تعقد الأشياء، بعين الاعتبار، على الرغم من أن واقع الأمر يتطلب التزام القلق.”

وقد ساهمت نظرته المتشائمة وقلقه الدائم في تشييد أسوار بينه وبين كل محاوريه، وفي جعله مكتفٍ بمعلوماته واجتهاداته، ويستخدم هذا المفتون بالميديا في كل أشكالها، عدا الأنترنت، كُلَّ وقائع وأحداث الساعة ويُزيّنها بإشارات ومقالات أو عناوين طرية إضافة إلى استشهادات يغرفها من ثقافته التوراتية (أي لحم الواقع). وهو ما يعفيه (في نظره) من الانتقال إلى أرض الحدث، ليس عن نقص في الشجاعة، بل لأنه لا يرى حاجة لذلك.

يتقن فينكلكروت لعب دور الضحية. وقد بدأ في أداء هذا الدور من فترات طفولته، ودفعه إلى هذا تقمص دور المُعارِض والمُناقِض للجميع، ليس فقط بين غير اليهود، بل حتى في الوسط اليهودي ذاته. إذ هو يعتقد جازما أن الحق يُلازمه على الدوام. وهو ما يعلنه ويظهره، أثناء النقاشات وخصوصا في التلفزيون. لا يستمع ولا ينصت لأحد، هو مُكتفٍ وراض بنفسه، وبالتالي يستمع فقط لنفسه، ويعرف، بعين الواثق المطمئن، مسبقا ما يُريدُ قولَهُ.

وهو يعشق الإثارة والجدل والسجالات، ولعلّ  هذا ما تبقّى في شخصيته من أيام النضال اليساري والماويّ مع صديقه بيني ليفي وآخرين. ولهذا لا يخلو أي تصريح له أو كتاب جديد من معارك وصخب، يعود عليه، طبعا، بالنفع، ويُروِّج للكتاب، إذْ حتى الفضائح تساهم في رواج الكتب والأفكار.

وليس من الصعب البحث عن الأمثلة لهذا النوع من السجالات التي أصبحت رائجة ومبتذلة، ففي حوار معه للصحيفة الإسرائيلية هآرتس(19 نوفمبر 2005) في ما يخص الأحداث التي هزت الضواحي الفرنسية، لا يتورع فينكلكروت، من دون مداورة عن تحميل السود والعرب والإسلام المسؤولية. ويضيف بسخرية حادة قد تثير حنق الكثيرين بأن المنتخب الوطني الفرنسي لكرة القدم، الحائز كأس العالم، والذي يُطلِق عليه ساخرا «أسود-أسود-أسود» (إشارة إلى العديد من الفرنسيين من ذوي السحنات السوداء) ما هو إلا «أضحوكة أوروبا». وقد أثار هذا الحوار وما ورد فيه حفيظة مجلة «لونوفيل أوبسرفاتور» (التي يديرها صحافي يهودي هو جان دانييل) وكتبت بأن «ما تفوّه به فينكلكروت جديرٌ بزعيم من اليمين المتطرف، لا أن يَصْدُرَ عن زعيم سابق لليسار الفرنسي». وتعترف صحيفة هآرتس الإسرائيلية بأن الكاتب الفرنسي أكد لها أنه «من المستحيل بل من الخطر التصريح بمثل هذه المواقف في فرنسا». وهو ما ينسجم مع ما كان شارون قد صرح به من عدم شعور اليهود بالأمان في فرنسا، واعتُبِرَ حينها تشجيعا صريحا وغير لَبق لِحثِّ اليهود على الهجرة من فرنسا.

هذا الرجل المنحدر من عائلة يهودية، ومن أبوين يتيمين، فرض على نفسه أن يندمج ويتماهى مع المجتمع الفرنسي (وهو نوع من التماهي يسمح له أن يتبنى مواقف دولة أخرى، هي إسرائيل)، وهو يَنظُرُ بعين الغضب إلى توافد موجات حديثة من المهاجرين، في معظمهم من المغرب العربي، ويطالبون بتعديلات للميثاق الجمهوري. ومن هنا نفوره من كل محاولة لتعديل قانون 1905 المتعلق بالفصل بين الدين والدولة. على الرغم من أن الكثير من القانونيين يرون ضرورة أخذه بعين الاعتبار ظهور الإسلام كثاني ديانة في فرنسا.

قد يُسمَحُ لأي كان أن يرتكب سقطة ما ويعود عنها، ولكن تكرارها عن سابق تصميم وإصرار يبعث على الغثيان. وهنا يعتبر ألان فينكلكروت من المفكرين الذين أصبحوا في الآونة الأخيرة يثيرون الكثير من النفور والاشمئزاز بسبب غرابة مواقفه، وبسبب الهالة التي أصبغها على نفسه والتي لا يريد أن يغيرها، لا يمكن لأحد أن يتعاطف معه.ولعل هذا المفكر الوحيدَ الذي أحزنه تأهل الفريق الفرنسي لكرة القدم، مؤخرا، لنهائيات كأس العالَم! ومن يتتبع تصريحاته ومعاركه الثقافية والفكرية يكاد يجزم أنه لو لم يكن يهوديا لَكَان في حزب لوبين اليميني العنصري! إذ يتقاسَمُ مع اليمين الفرنسي العنصري فاشيته ونُفورَه من الأجانب عموما ومن العرب والمسلمين خصوصا.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى