صفحات المستقبل

شهادات من داريّا.. في الذكرى الأولى لاستشهاد غياث مطر


محمد دحنون

يعمل» أبو إسلام، ابن بلدة داريّا، كمصوّر في المظاهرات. يرفع مقاطع الفيديو على مواقع التواصل الاجتماعي. أبو إسلام «يكره منظر الدماء ولا يستطيع رؤيتها أبداً!». هو أحد أبناء البلدة التي غدت أيقونة الكفاح اللاعنفي في سوريا الثوّرة. لهذا السبب، ولغيره، تردّد قبل الموافقة على طلب صديقه بتصوير ضحايا إحدى المجازر التي ارتكبت في بلدته ابتداء من أوّل أيّام عيد الفطر.

جاء تردّده قبل أن يسمع من صديقه «تفاصيل المهمّة»: «ثمة تسعة عشر شهيداً غُسِلوا وكُفّنوا. تمّ قصف مكان تجمّع جثامينهم، في المقبرة، بقذيفة هاون. احترقت الجثث. أريد منك أن تصوّر المشهد ثمّ تحمّله على يوتيوب!». يقول أبو إسلام: «شعرت بالخجل من صديقي. وبقيت أسير معه باتجاه المقبرة. ثمّ فجأة قلت له: لا أستطيع أن أصوّر هذا المشهد!».

نزل الصديق عند رغبة أبو إسلام. غير أنّ الأخير، وبعد أن وصل إلى مكان وجود الجثث المحترقة، تراجع عن رغبته بعدم التصوير. يقول: «طلّعت هيك: طار عقلي!». يتابع: «كان مشهداً رهيباً. حزنت بشدة على الضحايا. قتلوا مرّتين ثمّ حُرقوا بعد أن قُتلوا. حملت الكاميرا وقمت بتصوير المشهد، وأنا أقول لنفسي: هذا عملي وهذا ما عليّ أن أقوم به!».

كانت البلدة قد تعرّضت للقصف بدءاً من أوّل أيام عيد الفطر، واحتشدت قوّات النظام على جميع المحاور المؤديّة إليها، هذا عدا عن الحواجز العسكريّة والأمنيّة الثابتة المحيطة بالبلدة: من جهة مدينة المعضمية وحاجز «كازية شميط». كما تجمّع حشد هائل من عناصر الأمن من ناحية صحنايا. وقُطعت الكهرباء والانترنت عن البلدة.

«داريّا» معزولة إذا عن العالم. «داريّا» تنتظر المجزرة!

كان على أبو إسلام أن يخرج لأداء صلاة الظهر. قبل ذلك توّجه مع رفاقه إلى الكنيسة، «حيث مستودع تجهيز الأطعمة للنازحين». شعر أبو إسلام في تلك اللحظات «بخوف شديد». عجز، كما يقول، عن المشاركة في تحضير الطعام وجلس جانباً، ثمّ طلب من أحد الأصدقاء إعادته إلى المنزل. لم يتمكن من ذلك بسبب اشتداد القصف. جاء وقت صلاة الظهر. يقول أبو إسلام: «خرجنا من الكنيسة واتجهنا باتجاه الجامع. صافحت أحد الأصدقاء وأنا أرتجف. تحدّثت لصديقي عن مخاوفي من دخول قوات النظام للجامع حيث نصلّي واحتمال قيامهم بذبحنا. ثمّ قلت له: الله يحسن ختامنا!». بعد ذلك التقى أبو إسلام بأحد أصدقائه المقرّبين. «شعرت بالأمان وارتحت كثيراً..». بعد بضعة أيام، يفقد أبو إسلام مصدر أمانه وارتياحه: رضوان ن. «الصديق»: استشهد!

كان اقتحام الجيش والأمن للمدينة يتم على مراحل. أو بحسب وصف أبو إسلام: «كر وفر». لهذا كانت تخلو المدينة، أحياناً، من الجنود والشبيحة. لكنّ هذا لا يعني أبداً عودة الأمان إليّها، إذ ثمّة قناصين. عرف أبو إسلام مكان اثنين منهما: «الأوّل كان بالقرب من مركز غاز حمودة، وسط البلد. والثاني يتمركز بالقرب من جامع أبو سليمان الديراني». يبدي أبو إسلام كرهاً واحتقاراً شديدين للقناص الثاني بصوّرة خاصة، يقول: «أفضل وصف وجدته لعمل هذا القناص هو: يحرم عليه تمرق دبّانة وما يقنصها!». ويتابع: «في طريق عودتنا إلى المنزل كانت حياتنا مرهونة تماماً بمهارة القناصين وانتباههم. كنا نعيش، في تلك اللحظات، تحت رحمتهم. كنت أشد حقيبتي إلى ظهري في كل مرّة أقطع فيها أحد الشوارع وأركض بأقصى سرعتي: كنت أنفد. غير أنّ كثيرين غيري سقطوا: استشهد العشرات بنيران القناصة وهم يحاولون النزوح خارج البلدة. وهنالك آخرون استشهدوا بقذائف الدبابات وهم يحاولون الهرب من المجازر».

بالطبع، ثمّة أساليب أخرى للقتل. وأسباب أخرى له؛ ليست محاولات الهرب أو النزوح أحدها!

يروي معتز، ابن المدينة، قصّة استشهاد كل من محمود م. البالغ من العمر (28 عاما) وابن خالته. بحسب معتز، كان وجود سوار مزين بألوان علم الاستقلال سبباً كافيّاً لقتلهما. يقول: «دخلت عناصر من الفرقة الرابعة بيت محمود، وكان معه ابن خالته، أخذوا الهويّة الشخصيّة لكلّ منهما، ثمّ اتهموا محمود بأنه يقاتل في صفوف الجيش الحر. وأثناء تفتيش المنزل وجدوا إسوارة مصنوعة من الصوف بألوان علم الاستقلال. أخذوا ابن الخالة إلى غرفة أخرى وقاموا بضربه بعنف شديد، وصل معه الشاب إلى الموت. لكنه لم يمت. أمّا محمود فقد تم اقتياده إلى قبو أحد الأبنيّة المجاورة حيث قاموا بإفراغ مخزن كامل من الرصاص في رأسه.. وبدم بارد!».

في إحدى قصص الإعدام الميداني الأخرى لا يغفل معتز تفصيلاً مدهشاً ومثيراً يتعلّق بمحاولة عنصرين من قوّات النظام إعادة نقود مسروقة لزوجة الشهيد. يقول: «حاصرت قوى الأمن والشبيحة منزل الشهيد محمد خ. كان في المنزل زوجة الشهيد وأطفاله الأربعة. نادوا عليه بمكبرات الصوت كي يُسلّم نفسه، ثم دخلوا المنزل وأوّل ما فعلوه كان سرقة النقود الموجودة فيه، ثم قاموا بتوزيعها بينهم: ألفي ليرة لكل عنصر!». يتابع معتز «تمّ اقتياد محمد مع أشخاص آخرين إلى مكان قريب. في هذه الأثناء، حاول عنصران من قوّات النظام إعادة النقود التي بحوزتهما إلى زوجة محمد.خ، فقالت لهم: لا أريد النقود. أريد زوجي!». غير أنّ الزوج لم يعد، فقد تم تعذيبه بعنف شديد قبل إعدامه ميدانيّاً!

مساء يوم الخامس والعشرين من شهر آب كان عدد شهداء مجازر داريا قد وصل إلى ثلاثمئة وثلاثين شهيداً من دون أن يتوّقف العدّاد. مع كل ساعة تمر، كان السوريون على موعد مع عشرات الشهداء الجدد: الموّثقين بالاسم والمجهولين. اليوم، وبعد ما يزيد عن الأسبوعين من بدء المجازر في بلدة داريّا ارتفع عدد الشهداء إلى ما يزيد عن ستمئة شهيد.

حدث هذا وسوريا الثوّرة تتطّلع إلى الذكرى السنويّة الأولى لاستشهاد أحد أيقونات الثوّرة، ابن بلدة داريّا، الشاب الذي وزّع وروداً وعبوات مياه على رجال الأمن والشبيحة قبل عام تقريباً: غياث مطر!

اعتقل الناشط اللاعنفي غيّاث مطر في السادس من أيلول، وأعيد إلى داريّا جثة هامدة، تنقصها حنجرة، في التاسع منه!

(دمشق)

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى