صفحات الرأي

المرأة في الخطاب الإسلامي المعاصر، جسد الآخر: نحو ذاتية بعد ـ إسلامية/ رشيد بوطيب

 

 

كيف تنظر الإسلامية المعاصرة إلى المرأة؟ ولماذا لا تختلف تلك النظرة عن نظرة علمانية مكتفية بذاتها، متمركزة حول هويتها وانتماءها؟ هذا ما يناقشه الباحث رشيد بوطيب في محاضرته التي ألقاها في دار الأدب ـ برلين، بدعوة من مؤسسة ابن رشد للفكر الحر، مؤكدا في المحاضرة نفسها بأن إيتيقا الهجرة يجب أن تقوم على نقد مزدوج للثقافة الأصلية ولانحرافات الحداثة وخطاب الجمهورية.

قد يوحي عنوان هذا النص للحظة الأولى، بأنني سأقدم هنا على نقد للإسلام كدين. لكني أنفي ذلك منذ البدء ولسبب بسيط، وهو أني لا أعرف إلا الشيء القليل عن إسلام بالمطلق، بل لا أعرف إن كان مثل هذا الإسلام قد تحقق يوما في التاريخ. لربما هو مجرد شبح يراود عقول الثقافويين والأصوليين. لكني أعرف، لا ريب، أشياء كثيرة عن الإسلامية الحديثة. إنني، وفي ظل هذا اللغط الكبير حول الإسلام والمسلمين في الغرب، اقتنعت بأن من يتحدث عن إسلام بالمطلق، سواء منقصا أم مبجلاً، لا يطلب غير فرض سلطته، بامتداداتها المفاهيمية وأسلوبيتها المغلقة، على الآخرين. أفضًل إذن الحديث عن إسلام “صغير”، عن هذا الإسلام كما نعيشه في الآن ـ هنا، على أطراف النظام الرأسمالي، سواء كمهاجرين داخل المدن الأوربية أم خارجها. إذن علينا أن نغادر منذ البداية بكائية الثقافويين، الذين ما برحوا يلصقون لاعقلانيات الأطراف المرتبطة عضويا بالحداثة وعنفها، بالإسلام أو بإسلام مطلق.

إن “الإسلام” دين وثقافة وتاريخ. وإنه في كل ذلك مساهمة حضارية كبرى. ومن ينكر ذلك، سواء عن غلً أو أحكام مسبقة أو جهل، يؤسس لخطاب عنصري، يتنافى مع أبسط القيم الديمقراطية. يتعلق الأمر في الغالب الأعم بشطط ثقافوي، يعجز في نهاية المطاف عن إدارة حوار بناء ومتضامن ومتحرر من الأحكام المسبقة. فأن تحاور يعني أن تعيد النظر بأحكامك المسبقة. وإذا ما أعلنت رفضي للأورثدكسية السنية، وحتى في هذا السياق من الصعب الحديث عن أورثدكسية واحدة بالمطلق، فإني لا أقوم بذلك إلا لسبب شخصي. إن الأمر يتعلق بنوع من العلاج الذاتي. أجل لقد عشت وعايشت هذه الأورثدكسية، التي أعتبرها نتاجا لسياق التخلف وانعكاسا له، كآلة قمع، ولا أبالغ إذا قلت بأني لم أكتشف جسدي إلا في المدينة الأوروبية. نعم، لقد كنت أحتاج لتلك المسافة، لما يسميه فيلسوف كبير من القرن العشرين، هو إمانويل ليفيناس: “خروج من الذات”.

نقد الأورثودكسية

لكن ما الذي أعنيه بجسد الآخر، أو بالأحرى كيف نفهم، نحس، ونتأمل هذا الجسد؟ هل هذا بالأمر الممكن؟ ألا أعمل عبر فعل الفهم على موضوعة غيريته؟ ألا يتضمن ذلك عنفا؟ ألا أنزع عنه، عبر فعل التكوين، ترنسندنتاليته؟

لا غرو أنه لا يمكنني أن أطرح السؤال عن جسد الآخر، دون أن أنصرف أولا إلى التفكير في الجسد، هذا الآخر الكبير. إن الأمر لا يتعلق بخطوة منهجية، بل بنقد مزدوج، أفهمه كإيتيقا للهجرة. فنحن المهاجرين، الذين نعيش، عن طيب خاطر أو مرغمين بين ظهراني الآخر، نحن الذين لا ينتظرهم أحد ولا يريدهم، نعيش مكرهين في المابين، ممزقين بين سرديتين على الأقل، أو زمنين، زمن الحداثة، والزمن الآخر، الضائع للإسلام. ولا يمكننا أن نواجه هذا القلق في الزمن، إلا إذا تحلينا بالوعي النقدي للحداثة، من أجل شحذه ضدها وضد أمراضها وضد أمراض الثقافة الأصلية. إن هذا الفعل المزدوج للنقد، ليس مجرد منهجية أو وسيلة تأويل، إننا، وحتى أستعمل تعبيرا لدريدا، أمام “أخلاق للأخلاق”.

ليست الهجرة هرباً إلى الأمام، بل هي تجربة وجودية وروحية وجسدية. إنها تتضمن تلك المسافة الغريبة والقلقة، مسافة المجثت. حقيقتها، في مفردة سيلانية، “بعاد”. وطن مستحيل. إنها نوع من المقاومة الأخلاقية. والأخلاق هنا، أفهمها كنقد لما هو قائم. إنها وفق رؤية تفكيكية، تخل عن الموقف الراديكالي Radikalitaetsverzicht، الذي هو دائما موقف الحقيقة.

إن الجسد هو آخر الثقافة الإسلامية بامتياز. فبعيدا عن الخطابات التبجيلية التي احتفت بموقف السردية الدينية بالجسد، يؤكد الخطاب النقدي داخل الثقافة العربية أن “الجسد الإسلامي”، ظل مسكونا باللاهوت، كما أوضح عبد الكبير الخطيبي في قراءته  لـ “الروض العاطر”. وليس عبثا القول بأن الإختلافات بين العالم الإسلامي والغرب اليوم تتمحور بالضرورة حول الإيروس وليس حول الديموس. إنني أتحدث هنا عن الجسد كبيت للذاتية، كاكتشاف للحداثة أو عن لحم الحداثة الذي تحرر من اللاهوت.

إن الحقد الذي ينصب على الحداثة من جهات نعرفها، هو حقد على الجسد وحريته، وفي لغة أخرى هو حقد على المرأة.  إن الأمر يتعلق في لغة التحليل النفسي بنرجسية قضيبية لا ترى المرأة إلا كموضوع لها. لقد تحدث فيلهلم رايش في كتابه “تحليل الشخصية” عن تلك الشخصيات النرجسيةـ القضيبية العاجزة عن الحب، وكتب يقول بأن “علاقاتها بالمرأة تنوء تحت حمل احتقارها لها”.

لكن هل يمكننا أن نطلق صفة النرجسية ـ القضيبية على ثقافة بأكملها؟ إن النكات الشعبية في المجتمعات العربية تتحدث عن الحاكم دائما كقضيب منتصب يفعل فعله في الجماعة. إن نظام الحكم في العالم العربي ـ الإسلامي هو استبداد نرجسي ـ قضيبي، يشرعن حكمه عبر العودة إلى الدين والتحايل عليه وعلينا. لكن لماذا يسمح الدين للآخرين بالتحايل عليه واستغلاله لمصلحتهم؟ إن أحد الأجوبة الممكنة على هذا السؤال  هو أن النظرة النقدية إلى الدين ظلت دائما أمراً محرماً. لكن هل يمكننا فهم الدين دون نقده؟ إن العلاقة مع الدين في السياق العربي تشبه العلاقة مع المستبد. نعيش هذه العلاقة كسلطة وليس كإيمان، ونتماهي في عماء معها، ونبلع ألسنتنا وأسئلتنا، نصمت ونصغي، أو في عبارة، أكثر من معبرة، لنيتشه :”نصغي حتى حين نتكلم”!.

إن من مهام كل تفكيك للإسلام، وأعني هنا الإسلام كما نعيشه في الآن هنا: (1) تفكيك السردية الدينية السائدة وعلاقتها بالنص القرآني، (2) تفكيك علاقتها بالنظام السياسي (3) علاقتها، عبر تاريخها الحافل بالمذابح ونزعات التكفير، بالمدارس الدينية الأخرى، كالمعتزلة مثلا. وسأكتفي في هذا السياق بضرب مثل ينتمي إلى المستوى الأول، وأعني المفهوم القرآني للخليفة، الذي أسال أنهارا من الحبر. لا أبالغ إذا قلت بأن مفهوم الخليفة في القرآن الكريم، وبعيدا عن كل خطاب تبجيلي، يؤسس للفردية والحرية والمسؤولية. إن القرآن يسمي الإنسان، أيا كان، خليفة. فكل إنسان منا يتحمل مسؤولية الحياة على هذه الأرض. لكن الذي عشناه في ظل الأورثدوكسيات الدينية المتحالفة مع الاستبداد، تزييفا كبيرا لهذا المفهوم وعبره لكل الدين. لقد اعتبرت تلك الأورثدوكسيات أن الخليفة هو من خلف الرسول محمد (ص) في حكم المسلمين، واختزلت هذا المفهوم في بعده السياسي، ضاربة بعرض الحائط الحرية والمسؤولية الإنسانيين. إنها سياسة تطلب الطاعة وتؤسس لأخلاق العبيد وهي عبر ذلك تسجن الجسد الإنساني في سردية مغلقة، ترهقه بالواجبات والطاعات وتربطه بنموذج محدد، هو الجسد النبوي. لكن القرآن لم يمنح النبي ولا جسده أي قداسة. فالأنبياء، وهذا ما يميز الإسلام عن الأديان التوحيدية الأخرى، بشر، وتحويل جسد النبي إلى شريعة أو سلطة أو نموذج لا يقوم الدين إلا بالإقتداء به وإعادة إنتاجه، يتنافي ومفهوم الخليفة القرآني ومضمون الرسالة المحمدية. وعلاوة على ذلك اعتقد المسلمون الأوائل أو بعضهم على الأقل، بأنهم إذا تلقوا شيئا من جسد الرسول، كيفما كان هذا الشيء، بصاقه مثلا، فإن ذلك يمنحهم بركة، وهو ما ظل الرسول العربي ينتقده بشدة.

إذن، فقط لما نعيد إلى نبي الإسلام جسده البشري، وحين ننظر إلى كلامه ولحمه ككلام ولحم إنسانيين، حين نحجم عن فعل السلطة بإسمه وبإسم جسد لم يمنحه القرآن أي قداسة غير تلك التي منحها لكل جسد بشري، حينها فقط، يمكن للثقافة الإسلامية أن تكتشف جسدها الذي سلبته صناديق الفقه المظلمة حريته وجسديته.

جسد الآخر

يظل الغريب في المونوديمقراطيات الغربية، ومن زوايا مختلفة، اللامرئي بامتياز. لا ترمقه العين، بل  تحاكمه وتحكم عليه. لا يتعلق الأمر بلامرئية فيزيقية، ولكن بلامرئية اجتماعية، لا تختلف كثيرا عن لامرئية الرجل الأسود في أمريكا ما بعد الحرب، والتي تحدث عنها الروائي الأمريكي رالف إليسون في رائعته :”الرجل غير المرئي”. إنه يكتب في بداية روايته: “أنا لا مرئي (…) أنا انسان حقيقي من لحم وعظم، من أعصاب وسوائل ـ بل ويمكن لربما الزعم بأني أمتلك عقلا. (…)   إن اللامرئية التي أعنيها، هي نتيجة لخلقة غريبة في عيون أولئك الذين ألتقيهم، تكوين أعينهم الداخلية، تلك التي بها، وعبر أعينهم الواقعية، ينظرون إلى الواقع”. إن الأمر يتعلق، إذا أردنا استعمال لغة آكسيل هونيث :”باللاوجود في المعنى الإجتماعي للكلمة”. لكن فيما يتعلق بالمسلمين في أوروبا، فإن الأمر لا يتوقف عند لامرئية اجتماعية، بل يتجاوزها إلى ما يمكن أن أسميه باللامرئية التاريخية، لأن “العقل الغربي” السائد، درج على ربط دينهم بالإرهاب، وتجريده من كل دور حضاري.

يتجاوز “العقل الغربي” في هذيانه الديماغوجي، شعوريا أو لا شعوريا، حقيقة أنه ليس الإسلام، ليس هذا الإختراع الجديد للحداثة الذي نسميه الإسلام بالمطلق، ولكن المسلمين من يطمحون إلى أن يصبحوا جزءا من المغامرة الأوروبية. غير أنه لا يمكننا أن نعترض البتة، إذا ما عمد الأوروبي إلى رفض هذه الأدلوجة المنافية لحرية الإنسان وحقوقه، التي نسميها الإسلاموية. فما الذي تطلب هذه الأدلوجة تحقيقه في أوروبا وخارجها؟ أولا، ولا يجب أن يساورنا شك في ذلك،  إنها تريد أن تضع المرأة وجسدها تحت المراقبة. ثانيا، تسعى هذه الأدلوجة إلى فصل المسلمين عن غير المسلمين، فالغيتو ليس نتيجة حتمية لسياسة الهجرة فقط، ولكنه أيضا طريقة حياة ذهنية متدينة ومتكلسة، غير مستعدة للحياة في العالم وفي المدينة، مع الآخرين. إن الأمر يتعلق بخوف مرضي من المدينة الغربية المنفتحة على العالم ومن قيمها الفردية. وثالثا، ترسخ هذه الأدلوجة فكر الوطن Heimatsdenken، وأعني بذلك كل تلك التصورات التي يعيد المهاجر اجترارها وإنتاجها في حياته اليومية عن وطنه الأصل إلخ.. إن الأمر يتعلق في النهاية بإنسان لا يعيش في العالم،  بل ممزقا بين عالمين، يجهلهما في غالب الأحيان، داخل سردية مغلقة، مصممة على الاحتفاظ بوهم هوية ثابتة ونهائية.

إن فقدان الإستعداد لدى المدينة المعاصرة أو عدم قدرتها على اعتبار المهاجرين كمواطنين وليس كأجساد غريبة تعكر صفو انسجامها، والذين ينظر إليهم الأووربي  بأعين يسكنها الإحتقار، يدعم لا ريب هذا الملجأ الهوياتي، أو هذا الحجاب الإجتماعي. إن المدينة الحديثة غير مضيافة. وليس في هذا الأمر جديدا. لكنها أزاء المسلمين هي أيضا غير عادلة، وفي غالب الأحيان عنصرية، مسكونة بحقد مرضي. إن للأمر علاقة بالضعف الذي ينتاب المشروع الديمقراطي اليوم أمام الهيمنة الرأسمالية، ولكن للأمر علاقة أيضا بالسياسة الثقافية الأوروبية، التي تصمت على الدور التاريخي والحضاري للإسلام، إن لم تعمد إلى تزييفه، كما تفعل وسائل الإعلام الألمانية. نحتاج في هذا السياق، وأمام هذه الحرب غير المعلنة ضد الإسلام، إلى علمنة تتجاوز أشكال التمييز، إلى علمنة للعلمنة، تحررها من كل شكل من أشكال الإنتماء، أو في لغة إتيان باليبار إلى “دمقرطة للديمقراطية”.  وحتى إذا لم تكن المدينة الأوروبية مستعدة للاعتراف بالحقوق نفسها للإسلام التي تتمتع بها الديانتان المسيحية واليهودية في ألمانيا مثلا، فإنه بالإمكان المحاولة على الأقل وضع حد لهذه الحرب الأيديولوجية الخبيثة ضد الإسلام وعبرها ضد حقوق المهاجرين، والتي تدور رحاها اليوم في وسائل الإعلام وخارجها.

إن نجاح الإسلام في أوروبا، وأعني بذلك أوربته، يمكنه أن يقدم نموذجا يحتذى للدول الإسلامية. فوحدها أوروبا بثقافتها النقدية، وإن اختفت تلك النقدية البناءة في علاقتها بالإسلام، ومؤسساتها الديمقراطية ومثقفيها إلخ.. قادرة على كتابة “تاريخ آخر للإسلام”، تاريخ حداثي وليس تحديثيا.

لكن، ما الذي أعنيه بجسد الآخر؟  من يحمل هذا الجسد أو بالأحرى من يحمله هذا الجسد؟ من يمثل هذا الآخر الراديكالي بالنسبة للمواطن الفرنسي أو الألماني؟ كيف يتمظهر في المدينة؟ لن أبالغ، وبعد كل هذه السنوات التي قضيتها مترحلا بين المدن الأووربية من أن أقرر بأن هذا الآخر الراديكالي بالنسبة للأوروبيين تمثله لا غرو المرأة المحجبة. كيف ينظر مواطن ألماني إلى تلك المرأة في مترو الأنفاق، في الشارع، في المحل التجاري أو داخل قاعة المحاضرات إلخ..؟ ما الذي تقوله عينه؟ تلك العين  الداخلية التي تحدث عنها رالف إليسون؟ تلك العين التي ولدت وشبت بين الأحكام المسبقة للحداثة عن الإسلام وعن الخلافة العثمانية؟.

يقول بورخيس بأن “كل أدب هو أوتوبيوغرافي”، وقد نقول كل كتابة.  لهذا اسمحوا لي أن أعود بين الحين والآخر إلى تجربتي الذاتية. لقد تواجدت يوما في قلعة عربية في مدينة مالغا، ووقعت أنظاري على طفل لا يتجاوز العاشرة، يحاول تسلق جدار السطح المطل على المدينة. دقيقة بعد ذلك تحضر أمه مسرعة وتصرخ به :”احذر فمن هناك كان “المورو” يلقون بأجدادك!”. أنا متأكد، بأن طفلا يسمع مثل هذه الأراء من أمه باستمرار، لا يمكنه البتة أن يدرك الدور الحضاري للإسلام في الأندلس يوما. “أحب العدالة، لكني أحب أيضا أمي”. صرح ألبير كامو في سياق حرب التحرير الجزائرية. وفي حالة كامو كما في حالة طفل القلعة، يمكننا أن ندرك ما الذي يمكن أن تهمس به الأم من أحكام مسبقة في أذن طفلها!. يتوجب إذن على كل من يريد أن يدرس صورة الإسلام في الشعور الجمعي الغربي، أن يعود إلى كتب التاريخ الإستعماري، إلى كتب التاريخ المدرسية مثلا، التي مازالت “حقائقها” تشكل العين الداخلية للرأي العام الغربي، عين الأحكام المسبقة.

إن جسد الآخر ـ أو آخر الجسد ـ في المدينة الأوروبية هو جسد المرأة المحجبة. إنه جسد يعيش في سجن مزدوج. سجن الإسلامية الحديثة، كما تشكلت في سياق التخلف والاستبداد السياسي والفكري وسجن الحداثة ومركزيتها الثقافية. إن محاولة نزع حجاب هذا الجسد، افتضاض “غيريته”، كما تطمح إلى ذلك السياسة الإمبريالية للحداثة، كما هو الحال في فرنسا مثلا، لا يمثل البتة فعل تحرير بل لا ريب أنه استمرار للعنف الاستعماري بوسائل أخرى. لقد فضحت المؤرخة الأمريكية جوان ولاش سكوت العلاقة الصميمة بين العنصرية والجمهورية وحظر ارتداء الحجاب، جمهورية تفهم نفسها ككل منسجم، ومرتبط بقيم فوق التاريخ. ففي تاريخ فرنسا، وخصوصا في تاريخ الاستعمار الفرنسي، لعب الحجاب دورا مركزيا، تمثل في رسم الحدود بين فرنسا المتحضرة والمسلمين البرابرة. وفي هذا السياق لا يمثل الحجاب رمزا دينيا فحسب، بل تعبيرا عن إثنية وثقافة. وللسبب عينه يتوجب علينا، كما تنافح عن ذلك المؤرخة الأمريكية سكوت، فهم النقاش المحتدم حول الحجاب في فرنسا، في سياق تاريخ العنصرية الفرنسية. إن الأمر يتعلق، كما أوضحت ذلك في بداية كتابها الآنف الذكر بتصور أسطوري، ينظر إلى الإسلام والجمهورية كمكونات فوق تاريخية، تتواجد في صراع مستمر. والمدهش أن مثل هذه التصورات تسود في بلد، ما برح المفكر الكبير محمد أركون يردد في أروقة جامعاته وكتبه عقودا من الزمن، بأنه لا يمكننا البتة الحديث عن إسلام بالمطلق، بل عن إسلامات.

يتوجب علينا أيضا أن نفكك فكرة الجمهورية كما ينافح عنها الفكر الرسمي الفرنسي، هذه الفكرة المستعصية على الترجمة، الأسطورية والتي تريد لنفسها أن تكون فوق التاريخ. فلا يمكن البتة اختزال الديمقراطية في علمانية معادية للأجانب. ولماذا يتوجب على نظام ديمقراطي أن يفرض على مواطنيه طريقة لباسهم؟ ما الذي سيجعله يختلف عن الأنظمة الثيوقراطية إن هو قام بذلك؟ لكن، وفي الآن نفسه، يتوجب رفض اختزال الديني في أورتوبراكسي Orthopraxie معادية للجسد وحريته. لقد كتب الفيلسوف اليهودي هرمان كوهين في بداية القرن، بأن على الدين أن يكون أخلاقا وإلا فإنه لن يكون. وبلغة أخرى، إن علينا أن نعيش الدين بشكل حداثي، داخليا وليس خارجيا، ولربما هذا بالضبط ما يتوجب على الإسلامية المعاصرت أن تتعلمه من المسيحية الأوروبية.

إننا نعتقد كمسلمين بصوت مرتفع. إن علينا الاعتراف بذلك. إن صوتنا يزعج الجيران ويزعجنا أيضا.

إن الصمت يقول الصلاة أيضا!

موقع قنطرة ينشر المقال بالتعاون مع “مؤسسة ابن رشد للفكر الحر”

رشيد بوطيب كاتب وباحث مغربي من مواليد المغرب عام ١٩٧٣، درس الأدب العربي والعلوم الإسلامية في جامعة محمد الخامس في الرباط، وحصل على الإجازة، لينتقل بعدها إلى ألمانيا، ويدرس الفلسفة وعلم الاجتماع والعلوم السياسية في جامعة “ماربورغ”. بوطيب حصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة فرانكفورت بإشراف الفيلسوف الألماني إكسيل هونيث بعد تقديمه أطروحة حول “نقد الحرية” عند الفيسلوف الفرنسي إيمانويل ليفيناس.

حقوق النشر محفوظة للكاتب 2015

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى