صفحات الثقافة

مكابــدات الفــن الروائــي


نبيل سليمان

ثمة رواية إيرانية ظهرت بالعربية منذ سنة، هي (زوال الكولونيل). وصاحبها معارض مقيم في ألمانيا هو محمود دولت آبادي. وتتعلق هذه الرواية بفجر الثورة الخمينية، فتهتك ذلك الفجر أيمّا هتك، بحساسية جارحة، وبلا صخب، منذ البداية، حين يحضر شابان من الجهاز الأمني ليصطحبا الكولونيل إلى حيث جثة ابنته الثورية الفتية بروانة التي أعدمت، وعلى أبيها أن يدفنها بصمت. والأب، كالابن الشاب أمير، سجين البيت، مثلما كانا سجينين سياسيين، فضلاً عن أن الأب كان سجيناً جنائياً، فهو قاتل زوجته، كما هو الضابط المتمرد في جيش الشاه الذي رفض الأمر بالمضيّ إلى ظُفار. وأمير أيضاً متمرد على النظام، وكان قد سبقه أخ له فأخ، قد قضيا في الثورة.

حين بلغ أمير نبأ إعدام شقيقته هجس يخاطبها: أنا يا أختي أريد أن أكون صدى وطني، أحب وطني، أنا أحب وطني يا أختي. لست كالآخرين صدى حزبي، لذلك أنا غريب، غريب في بيتي، وكل تاريخ وطني حكاية مفجعة لها نفس المعنى. أنا منفي عن هويتي يا أختي، لذلك أنا ضائع.

لا يريد أمير أن يصير «مهرج الميدان». وبالمرارة يذكّر بما أُنشئ عليه الشباب، إذ لُقنوا أن في ثياب واحدهم حية، فهيّا: «أمسكوها، أمسكوا أولادكم، أمسكوا كل نسلكم، أمسكوا الحياة». وبعد زوال الكولونيل، وفي ظلمة زقاق، سرى صدى قيثارة قديمة، وتردد بين الناس أنهم رأوا رجلاً في يده فانوس، وهو يتجول وينشد: «حين ترى رأساً مقطوعة في الطريق، وهي تتدحرج باتجاه ميداننا / فلْتسلْها الحديث عن حالنا، فلْتسلْها / لتسمع منها وتعرف مخفيّ أسرارنا».

على هذا النحو من التشكّيل المعقّد والبديع الذي تنزف فيه روح الفرد وروح الأمة، تتبدى علاقة السياسة بالرواية في (زوال الكولونيل). وعلى نحو بديع أيضاً، لكن قد يكون أكبر تعقيداً وغواية، تتبدى تلك العلاقة في رواية (ثلج) للنوبلي التركي أورهان باموق، الذي يحضر شخصياً في الرواية كراوٍ يجنّس روايته بالكتاب، ويحدّث عن صديقه الصحافي والشاعر التركي (كا) المنفي السياسي سابقاً إلى ألمانيا، والعائد إلى قارص ليغطي الانتخابات البلدية وظاهرة انتحار الفتيات فيها. وستتلامع في فضاء الرواية العناصر السياسية لتقيم الحوارات بين شخصياتها، ولتملأ المتن السردي، فإذا بالعالم الروائي التركي يصطخب في أمسه القريب بحزب الرفاه، وحزب مساواة الشعوب، وحزب الله التركي، وحزب الشعب، والآذريين العلويين، والأكراد، والإسلام السياسي الذي بدا الشاغل السياسي الروائي الأكبر، من خلال شخصية (كحلي) المقاتل الإسلامي المتخفي، ومن خلال شخصية مختار مرشح حزب الله لرئاسة البلدية، ومن خلال الاحتكاكات بين الإسلاميين الأكراد والقوميين الماركسيين الأكراد في المحافظات التركية الشرقية. ويتعزز حضور السياسة في الرواية بأصداء الصراع السياسي عندما كان (كا) شاباً يغضبه من يراه من السياسيين بورجوازياً، وعندما صار كل طرف من الشبان يَصِمُ عدوه السياسي بأنه مخبر للشرطة، ما أخاف (كا) وجعله ينأى بنفسه عن السياسة.

من بناء الشخصيات إلى الحضور الإيقاعي والتعبيري للطبيعة (الثلج) يتحقق لرواية باموق ألقها، وبات لمن يشاء أن يصنفها كرواية سياسية، لكن ليس تعويلاً على (موضوعها) البتّة، كما فعل بعض من ما زالوا يرددون أصداء عقود خلت، لينالوا من الرواية، بدعوى (الموضوع)، ما حرمهم من معانقة جماليات الرواية، في الوقت الذي يجأرون فيه بهذه الجماليات، خوفاً من أن تخدشها السياسة.

روايات سياسية

قبل الألق الفني لروايتي أورهان باموق ومحمود دولت آبادي، ازدهى تاريخ الرواية بالألق الفني لروائع باسترناك وشولوخوف وهمنغواي ومالرو وكاتب ياسين ومحمد ديب وإميل حبيبي وجورج آمادو وغونتر غراس ونجيب محفوظ وكثيرين وكثيرات، حيث لم تحضر السياسة ويغيب الفن، ولم تغب السياسة ويحضر الفن، بل حضرت السياسة وحضر الفن في تفاعل خصيب يتجاوز عورات هذا التفاعل لدى آخرين، حسبي أن أضرب مثلاً من بين رواياتهم بـ (المرصد) لحنا مينة أو بـ (الشمعة والدهليز) للطاهر وطار، وبكل الطفح الروائي الذي دلقته الحرب العراقية الإيرانية. ولأن الحديث هنا لا يطول فقط، بل تضطرم أشجانه، فسأكتفي منه بهذه الإشارة، لأنتقل إلى ما جدَّ من جديد في العلاقة بين الإبداع الروائي العربي والسياسة، وبخاصة على ايدي الأصوات الجديدة التي تميزت في العقدين الأخيرين.

فمن تونس هذا أبو بكر العيادي في روايته (الرجل العاري) يشرع للسياسة الباب العريض في مثال اللبنانية هويدا التي حذقت المتاجرة بـ (القضايا)، والتي تعدّ من نعم الله أننا أمة مشتتة، بحيث يمكن لك أن تستجير بقطر لنشر غسيل عدوه في قطر آخر. ومثل هويدا التي يوجهها حدسها فتقف مع العراق الصدامي إلى حين، شأن من تسلقهم الرواية من الشعراء والمثقفين، مثلها مثل فاروق العامري الذي التحق بالمقاومة اللبنانية في صيف اجتياح اسرائيل إلى لبنان، ثم عاد إلى تونس كافراً بالعروبة. ويتصل ببرقع السياسة في الرواية ما بين الرجل العاري لقمان الموالدي والرقابة، وكذلك هو سوط الذات والزهو بالأجداد وتسفيل الغرب. ولئن جاءت مغامرة الرواية بكل ذلك كنص متحرر من قيود الجنس الأدبي، فقد اضطربت المغامرة بما سكّتْ من الفصول الشعرية.

ومن اليمن هوذا علي المقري يرسم في رواية (طعم أسود.. رائحة سوداء) شخصية ربّاش الذي جُرّم بخيانة الوطن بسبب عضويته في الحزب، عندما كان اليمن على شفا الوحدة، ما يسّر إعادة المحاكمة لرباش وأمثاله من المحكومين سياسياً، وإنْ بتهمٍ جنائية، ليتم الإفراج عنهم. ومثل رباش هو سرور الذي ثقّفه السجن برفقة السياسيين، فقرأ الكتب الماركسية والبعثية والناصرية والإخوانية والفكرية. وكذلك هي بهجة المرسلة من قبل سالمين ـ من يذكر سالم ربيع فيما كان اليمن الجنوبي؟ ـ إلى الأخدام لتنظيمهم. وقد حق لرواية المقري أن تتشاوف بما يسمى جمالية القبح في عالمها الغريب العجيب، حيث الصراع الدموي والحمى الجنسية.

من الجزائر تذهب الإشارة إلى رواية الحبيب السائح (مذنبون: لون دمهم في كفي) التي تصخب بالنيل من الساسة، وبما يضارع النيل من الإرهاب. وعبر مشهديات حاذقة وحكايات / قصص لا تفتأ تتوالد، تقدم الرواية الضابط (لَخْضَرْ) والطالب (يزيد)، لترتسم مع الثاني صورة التعاون مع الأمن، وتتبع آثار الطلبة الذين مضوا إلى قندهار وبيشاور، وكذلك آثار «قطاع الطرق الجدد من الساسة والمتنفذين». وإذا كان تصريف الأطروحات قد أثقل على الرواية ـ مثل اجترار الأحداث التي ضاقت بها في الجزائر خلال العقدين الماضيين ـ فقد هوّن من ذلك ثراء أغلب الشخصيات، حتى ما كان منها نكرة أو عابراً. وعلى أي حال، ربما يمكن للمرء أن يذهب إلى أن الرواية في الجزائر أضافت جديدها البديع إلى ما بين الرواية والسياسة، فيما كتب الحبيب السائح وواسيني الأعرج وأمين الزاوي وابراهيم السعدي وبشير مفتي وعمارة لخوص، بينما رجّعت روايات أخرى عورات عقود مضت، وتمّ تجاوزها، في علاقة الرواية بالسياسة، كروايات سعيد مقدم وزهرة ديك.

روايات عربية سياسية

لعل ما أنجزت الأصوات الجديدة من العلاقة بين الإبداع الروائي والسياسة قد بلغ شأواً جديداً وبعيداً في سوريا. ويصح ذلك على روايات روزا ياسين حسن جميعاً، لذلك أكتفي بالإشارة إلى آخرها (بروفا) التي تتمثل لعبتها الكبرى في الراوي الشاب الذي يؤدي الخدمة الإلزامية في فرع للمخابرات العسكرية، حيث يرابط أمام جهاز التنصّت ـ المراقبة، وهو الأداة الزاخرة بالاحتمالات السردية، حيث تصير الشخصيات الروائية شهرزادات الراوي، وإن شكا الراوي من افتضاح تقنّع الكاتبة به. وإذا كانت الكاتبة قد نحّتْ السياسة جانباً في رواية (بروفا) بخلاف سابقتيها، ففيما تبقى من السياسة ما هو بليغ وكاف، مثل طرد أيهم الصارم الطالب في المعهد العالي للموسيقى لأنه لا ينتمي للحزب (البعث)، ومثل الانتماء الطائفي للراوي (علوي) الذي يلتفت عن نقاشات والده حول مستقبل الطائفة. وبينما تركز الرواية همها في الإنساني والنفسي والإيروتيكي، نجد سواها يركز همه في السياسة، لكن باللعب الفني الجديد، مثل ماجد رشيد العويد في روايته (الغلس)، التي التفتت عن الفضاء الروائي الغالب عادةً (العاصمة) إلى الهامش (الرقة) التي صارت مدينة تضيق بالسجون، وبمراكز العقيدة النقية، كما تعبر الرواية عن العقائدية البعثية. وقد تنضدت الرواية بزمن سبات (العم حمود)، وعبره لعبت لعبة أسطرة الحاكم الذي بات كالتعويذة أو التميمة، حيث تتبارى أخيولات الديكتاتورية، فإذا بالعم حمود (المسبوت) يحكم من سريره وفي غيبوبته، بينما نشطت السخرية الروائية الجارحة، وبخاصة حين تتوجه إلى (العقائدية) الشهيرة وما تفرع عنها من الجيش العقائدي والحزب العقائدي منذ الستينيات السورية والعراقية.

إلى هامش آخر هو قرية عين الغار الساحلية، تمضي رواية منذر بدر حلوم (سقط الأزرق من السماء)، حيث نهض دفتر مذكرات درويش باستعادة الماضي، وحيث تشتبك السيرية بالسرد الروائي، كما تجلو الرواية من عسف الماضي والحاضر ما يجعلها رواية رعب بامتياز، تضيق بأسماء من اختفوا أو اعتقلوا أو قتلوا. وتتعزز الفجائعية في الرواية بقوة حين تقارب وقائع الصراع المسلح الدامي الذي شهدته سوريا منذ ثلاثة عقود ونيف. ومن المهم هنا، سواء بالنسبة لهذه الرواية أو لمثيلاتها، التوكيد على ألاّ تتحدد قيمتها بمناوشتها للمحرم السياسي، سواء ما خصت به أجهزة القمع، أم أحداث حماة 1982، مثلاً. فإذا كان من هذه الروايات ما وقع في أفخاخ الهجاء أو الثأرية، فمنها ما يُدِلّ بمنجزه الإبداعي الذي ساهم بكتابة السيرة السورية الفنية السياسية العارية، روحياً واجتماعياً وفردياً. ولعل من الضروري هنا أن يشار أيضاً إلى مساهمة الأصوات الروائية السورية، الأسبق في الإنجاز الجديد للعلاقة بين الرواية والسياسة. ولا يتعلق الأمر فقط بما يشترك به الجميع من كسر حاجز الرقابة والخوف، بل بالمواجهة الجمالية للمحرمات (كالمؤسسة العسكرية والأمنية) وبالمساهمة الكبرى في المدونة الروائية العربية للديكتاتور والديكتاتورية، والتي باتت تضاهي المدونة الأميركية اللاتينية. وتذهب الإشارة هنا إلى روايات منهل السراج وسمر يزبك ونهاد سيريس وفواز حداد وخالد خليفة، ومن قبل هاني الراهب وحيدر حيدر، وربما كاتب هذه السطور.

لقد جعلت الرواية المعاصرة بعامة من السياسة (كمواقف أو أفكار) هماً أساسياً لها. ويتصل الأمر هنا عربياً برواية الحرب، وبالرواية الفلسطينية، وبرواية الحرب اللبنانية، وما أكثر النظائر. ولعل مرحلة جديدة قد ابتدأت منذ سنة، حين أهلّ الربيع العربي، يتجدد معها سؤال التخمّر، وهو السؤال الذي سبق لغادة السمان أن أجابت عنه بصدد روايتها (كوابيس بيروت) التي كتبتها في لجّة الحرب اللبنانية، حيث نفت أن يكون الاختمار شرطاً للنضج، أو أن تكون الكتابة في معمعان المعركة غير مختمرة بالضرورة. فالفيصل حقاً هو ما يتحقق من جمالية الرواية وهي تكابد العلاقة مع السياسة.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى