مراجعات كتب

“الصحافة السورية بين خلافتين” لعبدالله أمين الحلّاق حكم البعث جمال باشا الصحافة وجلجلتها/ فاطمة عبدالله

 

 

يوجز الكاتب والصحافي السوري عبدالله أمين الحلّاق مسار الصحافة السورية المكتوبة منذ الفترة العثمانية حتى اليوم بتسلسل مكثّف. دراسته “الصحافة السورية بين خلافتين”، الصادرة لدى مؤسسة “فريدريش إيبرت” الألمانية، استعادة تاريخية للعمل الصحافي منذ الحقبة العثمانية المظلمة، وصولاً إلى الحكم الأسدي المتوحّش، فالثورة بسلميتها وجحيم الدماء فيها.

لا يدّعي الحلّاق الإحاطة بكلّ الجوانب المتعلّقة بوضع الصحافة منذ عهد السلطان عبد الحميد الثاني إلى عهد “سيادة الرئيس”. الكتاب/ الدراسة شريطٌ سلس، يقدّم ما تنبغي معرفته من دون الإفراط في الأمثلة والإكثار في استحضار النماذج. يترك الحلّاق للقارئ أن يستنتج عمق العلاقة بين النظام الحاكم وحال الصحافة في ظلّه، مقدّماً النموذجين العثماني والأسدي كدليل إلى استحالة بناء نشاط صحافي حرّ وسط الاستبداد. لا تحتاج الدراسة إلى نَفَس ذاتيّ يبيّن موقف الكاتب من القمع الناجم عن الديكتاتوريات. الوقائع من تلقائها تنطق بالاستنكار. برفض الحال. بالحاجة إلى هواء حرّ. وإلى قلم لا يكسره خوفٌ ولا تنال منه ظلمة.

حرية الصحافة/ كذبة الحريات الفكرية

نحن في رحلة، محطّتها الأولى بداية الصحافة السورية ونشأتها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فترة النهضة العربية، حيث تميّز حكم السلطان إبرهيم باشا بانتشار المدارس والجامعات وتأسيس المطابع ودور النشر وبروز المفكّرين كعبد الرحمن الكواكبي والعديد من الكتّاب والأدباء والشعراء. تشرح الدراسة تغيُّر حال الصحافة بدءاً من فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني الذي حدَّ الحرية وعطَّل نظام المطبوعات للضغط على الصحف المناوئة لسياسات العثمانيين، واتّبع أساليب الإلغاء والإغلاق والمنع والتضييق على المثقفين السوريين، مبقياً صحفاً رسمية لم تكن تملك من الأهداف سوى مدح السلطة.

تقدّم الدراسة فهماً واضحاً لتقلبات الصحافة كتيمة تتعلّق بالحرية والعقل، مع التوقّف عند صلة الأنظمة بأحوال الأوطان والمؤسسات. ما يحتاج المرء معرفته عن ماضي الصحافة السورية وحاضرها، خطوةً خطوة، من دون إملاء أو تلقين. “نُدَبْدِب” كقرّاء في اتجاه المعلومة المقدَّمة في إطارها التاريخي. نتلقّفها بوضوح وبساطة، لترسم في الأذهان صور كلّ مرحلة. إلى اعتبار حرية الصحافة تيمةً كبرى تُبنى عليها الدراسة، تُثبت الأحوال التاريخية حضور تيمات الأمر الواقع، ككذبة الحريات الفكرية.

“لمّ الشمل العربي” و”التغنّي بالملك وأمجاده”

تقفل الحقبة العثمانية السوداء على تردّي حال الصحافة، لتتيح فترة الحكم الفرنسي ازدهاراً فكرياً طال انتظاره. فبُعيد دخول القوات العربية إلى دمشق في العام 1918، عرفت الصحف السورية حرية في الكتابة والتعبير، وتركّزت اهتمامات الملك فيصل على الصحافة الوطنية الداعية آنذاك إلى لمّ الشمل والالتفاف حول الجيش العربي والحضّ على التطوّع في صفوفه، فهبّت معظمها، بعد المؤتمر الوطني السوري، تتغنّى بالاستقلال وبالملك فيصل وأمجاد تاريخ أسرته النضالي، وسط غياب تام لأيّ صحيفة معارِضة. تحلّ فترة الانتداب الفرنسي (1920- 1946)، فيعمد الجنرال غورو إلى تقييد الحريات الفكرية وفرض قيود مشدّدة على الصحافة ليعيد الصحف السورية إلى مرحلة القمع العثماني، إلى أن تندلع الحرب العالمية الثانية (1939) ويُعاد تشديد الرقابة على الصحف بذريعة “مصلحة الدولة العليا”، وتهاجم افتتاحيات أغلب الصحف حكومة فرنسا وتطالب بالاستقلال، رافضة محاولة الفرنسيين تعويض خسارتهم أمام الألمان بتحقيق نصر في سوريا. مع العودة إلى الجمهورية البرلمانية، تقدّم حكومة صبري العسلي في العام 1954 مشروع قانون يهدف إلى تنظيم عمل الصحافة واستقلالها وصون كرامة المهنة، لكنه لا يرى النور بسبب قيام الوحدة بين مصر وسوريا. آنذاك، يصدر رئيس الجمهورية جمال عبد الناصر القانون رقم 195 لتنظيم الصحافة في الإقليم السوري، الذي بموجبه تتمّ غربلة الصحافة السورية عبر تنازل أصحاب الصحف عن امتيازات صحفهم أو إلغاء الامتياز أو التوقّف قبل صدور القرار.

من الدوران في فلك الحزب إلى تقديس الفرد

تأخذ الدراسة المُشاهد في رحلة سرد مسار الصحافة كحدث نضالي سوري. نصل إلى 8 آذار من العام 1963 يوم وصول حزب البعث إلى السلطة في سوريا بانقلاب عسكريّ، وصدور البيان رقم 4 وفيه: “اعتباراً من 8/3/1963، وحتى إشعار آخر، يتوقّف إصدار الصحف في كلّ البلاد عدا الصحف الآتية: “الوحدة العربية”، “بردى”، “البعث”، على أن تصدر باقي الصحف بإذن مسبق من المرجع المختصّ في وزارة الإعلام، وتتوقّف المطابع عن طبع أيّ نشرة إلا بإذن من المرجع نفسه”. هكذا بدأ العهد البعثي باحتكار الصحافة السياسية وغير السياسية بيد الحزب الحاكم، وبقيت هيمنة الحزب والدولة على وسائل الإعلام عنواناً عاماً في سوريا حتى اليوم. ومع وصول حافظ الأسد إلى رئاسة الجمهورية في العام 1971، تحوّل النظام السياسي والأمني إلى سلطة الفرد، فإذا بالصحف السورية الثلاث، “البعث” و”الثورة” و”تشرين”، تقدّم الفرد- الحاكم- الإله إلى الجمهور السوري كما يقدّم هذا الحاكم نفسه لهم.

يصف الكتاب كيف لاح بشار الأسد مع تسلمه رئاسة الجمهورية أملاً بإصلاح سياسي يشمل الحريات، وفق الوعود التي جاء بها، وإنما ربيع دمشق انتهى مع اعتقال كتّابه وصحافييه ورموزه الثقافية والسياسية، ومحاكمتهم أمام محكمة أمن الدولة بتهم أقلّها “التسبُّب بوهن نفسية الأمة وإضعاف الشعور القومي”. نصل إلى العام 2006 حين ازداد منع المطبوعات من الدخول إلى سوريا، ومُنعت أخرى كلياً كـ”النهار” و”المحرّر العربي” اللبنانيتَيْن، و”الشرق الأوسط” اللندنية التي كانت تكتب في إحدى زواياها الدائمة وزيرة المغتربين السورية آنئدٍ بثينة شعبان!

التعتيم الكبير والمؤامرة الكونية

تُظهر الدراسة اعتماد النظام السوري أسلوباً عكسياً في التعامل مع الصحافة الالكترونية ودخول الانترنت إلى سوريا في أواخر التسعينات، عبر تطوير آليات مراقبة المواقع الالكترونية الإخبارية وغير الإخبارية. وإذ انطلقت شرارة الاحتجاجات المطلبية، مارَسَ الإعلام السوري التعتيم الكبير على حراك السوريين ونقل صورة مغايرة كلياً عن تظاهراتهم، وبدأ فوراً بالحديث عن مؤامرة تستهدف البلاد. مع توسّع الاحتجاجات، وثّقت مقاطع فيديو منشورة عبر “يوتيوب” (التُقِطت في الغالب بكاميرا الهاتف الخليوي) يوميات القتل، فبرز “فايسبوك” في اعتباره منبراً إعلامياً للتنسيقيات التي ازدهرت.

الكتاب عرضٌ ثمين لمسار الصحافة السورية ودَفْعها الأثمان من أجل الكفّ عن التبعية. لم يتساهل النظام منذ بداية الثورة مع أيّ صوت يغرّد خارج منظومته الإعلامية- الأمنية، مُذكِّراً بعهد جمال باشا في التنكيل بالمثقفين ونفيهم. تؤكّد الدراسة منع النظام معظم مراسلي التلفزيون ووكالات الأنباء العالمية من توثيق الانتهاكات على الأرض السورية، لتُفرَّغ سوريا من صحافييها ومثقفيها الذين توزّعوا تحديداً بين لبنان وتركيا، إلى أن وقع الحدث المُستنكَر: اختطاف أعضاء مركز توثيق الانتهاكات رزان زيتونة وسميرة الخليل (زوجة الكاتب ياسين الحاج صالح) ووائل وناظم الحمادي، كدليل إلى تفاقم الحال سوءاً وصعود التكفير والرجوع المرعب إلى الكهف.

لا يحتاج الواقع الصحافي السوري اليوم الى دراسة توثّق الجلجلة التي يسير عليها. رغم أنّ إعلاماً ثورياً بديلاً يحمل أصداء معارِضة قد تشكّل، إلا أنّ درب المقتلة لا تزال طويلة. شيءٌ لا يعوّض النزف ولا يبلسم جروح المقهورين بالمأساة إلى الأبد.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى