صفحات الثقافة

قصيدة واحدة لا تكفي/ أمجد ناصر

 

 

تذكرُ نازك الملائكة، في سيرتها، أنَّها، عندما فرغت من كتابة قصيدة “الكوليرا”، يوم الجمعة 27/10/1947، قالت لأهلها الذين لم تعجبهم قصيدتها الجديدة: هذه القصيدة ستغيّر خارطة الشعر العربي!

كم كان عمرها يومذاك؟

نحو أربع وعشرين سنة.

أصدّق أن يقول شاب، أو شابة، في الرابعة والعشرين من العمر كلاماً متهوّراً كذاك. تلك هي السنُّ التي يقول فيها الشبّانُ إنهم يريدون تغيير الشعر، تغيير العالم، تفجير المبنى والمعنى!

ذلك هو نَزَق الشباب الرائع، الذي لا يعجبه العجب، ويريد أن يصنع عالماً خاصاً به، لأنَّ عالم الآباء ضيّق، قديم، مستنفد، متهالك! كل الانقلابات والتغيّرات والموجات الجديدة صنعها شباب. الشباب هم، أصلاً، الذين يغامرون. الكبار لا يفعلون ذلك. يمنعهم “منجزهم” من المقامرة بما هو مألوف لصالح ما هو عكسه.

لولا بيكاسو، ذو السبعة والعشرين عاماً، ما بدأت “التكعيبية”، لولا “إشراقات” رامبو، والذي هجر الشعر في الثامنة عشرة من عمره، ما كُتب لقصيدة النثر التي بدأها بودلير أن تصبح فنّاً شعرياً، لولا محمد الماغوط وأنسي الحاج (كانا في العشرينات من العمر) ما بدأت قصيدة النثر العربية.. وبالتأكيد، لولا الملائكة والسياب والبياتي (كانوا أيضاً في العشرينات) ما بدأت موجة قصيدة “التفعيلة”.

كل هذا صحيح.

ولكن الصحيح، أيضاً، أنَّ التغيّرات في الابداع لا تحدث على شكل طفرات، كما هو الحال في الطبيعة. لا تصنع قصيدة واحدة، مهما أُوتيت من الجدّة، انعطافاً كاملاً في الحركة الشعرية، ولا تصنع لوحة، أياً كانت عبقرية شكلها وموضوعها، انقلاباً في الحركة التشكيلية. يمكن أن تكون هذه القصيدة، أو اللوحة، بمثابة عود الثقاب الذي يأتي على الهشيم. ولكن، ينبغي أن يكون الهشيم موجوداً. لا يشعل عود الثقاب سهلاً أخضر. قوة الحياة في الأخضر تحول دون ذلك، إنه لا يفعل فعله إلا في ما غادرته الحياة، أو تكاد، في ما أصبح قابلاً للاحتراق.

هكذا لا ينبغي اعتبار قصيدة “الكوليرا” للملائكة، أو “هل كان حبّاً” للسياب انقلاباً، ثورةً، طفرةً في الشعرية العربية. ما هو صحيح أن الشعرية العربية كانت تنتظر عود الثقاب. فقد كان هناك تململ، عمره نحو نصف قرن، حيال محاولات استعادة الموروث الشعري الذهبي، وشحنه ببعض الإحالات والمعاني المعاصرة، وكان هناك شعور بالضيق أن القصيدة المُستعادة من بطون الكتب، بعد فجوة زمنية كبيرة جاوزت خمسة قرون، لا تشبه حياتنا اليوم.

كل ما فعله المهجريون، جماعة الديوان، “أبولو”، والتجمعات الشعرية العربية الأقل أهمية، فضلاً عن شعراء أفراد خارج التجمعات والتيارات، هو محاولة رفع جسر فوق تلك الهوّة الكبيرة للعبور إلى الجهة الأخرى.

لم يكن الأمر مجرد “اكتشاف” للتفعيلة فقط، فلو كان كذلك، لبدأت حركة “الشعر الحر” مع ترجمات علي أحمد باكثير بعض مسرحيات شكسبير بالتفعيلة، أو مع قصيدة تفعيلة، أو أكثر، كتبها الأردني عرار، وغيره من الشعراء، في ثلاثينيات القرن الماضي.

تلك محاولات “تجديد” غير واعية، ربما، لكنها كانت تعبّر عن ضيقٍ بهذا الإهاب الشعري الموروث، والذي لم تطرأ عليه تطورات يُعتدُّ بها، في الشكل والموضوع ورؤية العالم والإحساس باللحظة، منذ انقطع تطوّر الشعر العربي بعد العصر العباسي.

كان ينبغي أن نصل إلى منتصف القرن العشرين، حتى يبلغ ذلك التململ، والإحساس بالضيق، والاحتشاد المتصاعد داخل القصيدة العربية، إلى حد قبول التغيير.

هكذا، لا يمكن أن تُنسب عملية التغيير إلى شخص، أو إلى قصيدة واحدة، بل إلى شعور جماعي غير مكتنهٍ، كان يفعل فعله تحت السطح.

كان الفضاء مُشبعاً بأثيرٍ قابلٍ للاحتراق، وكان ينتظر عود الثقاب ليبدأ الحريق، الذي لم يتوقف عند حدود “التفعيلة”.

ما يصدُق على الشعر، الأدب، يصدُق على المجتمعات، فصفحة “فيسبوك” لا تصنع ثورة.. لا بدَّ من أن يكون هناك استعداد في قلب المجتمعات، لتبدأ مسيرة التغيير الطويلة، المؤلمة، ولكن الحتمية.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى