صفحات الرأيطلال المَيْهَني

في التباس المقدّس والسياسة/ طلال الميهني

 

 

تاريخياً عمدت المجتمعات البشرية على اختلافها إلى توظيف الدين للحصول على مكاسب سياسية. إذ عادةً ما يتم رفع الفعل السياسي إلى مرتبة المقدس، ليتشكل ما يسمى بـ «السياسة المقدسة»، تلك التي تستعير عناصر غيبية وتستغلها لأغراض سلطوية؛ سواء عبر الحشد وبث الحميّة وتعزيز الانتماء في مواجهة «الآخر»، أو عبر إسباغ الشرعية على العمل السلطوي السياسي والعسكري. ونتيجةً لذلك فقد تكونت علاقةٌ تاريخيةٌ لصيقةٌ ومتداخلة (يصعب تفكيكها أحياناً) بين الحاكم والكاهن والإله، وسيطرت فكرة «الحق الإلهي» للملوك والسلاطين على الفكر السياسي في العصور الوسطى، كوسيلة لتثبيت الحكم الاستبدادي، وشرعنة الطغيان والقهر واستعباد الناس.

خضعت «السياسة المقدسة» عالمياً إلى مراجعاتٍ جذريةٍ وخاصة في الغرب الأوروبي مع صعود التنوير والحداثة، وصار «الحق الإلهي» حكايةً من التاريخ. لكن لم تكن الصورة ناصعةً بطبيعة الحال، إذ كثيراً ما حصلت انتكاساتٌ غيّرت من طبيعة المقدس السماوي إلى مقدسٍ أرضي، كما حصل مع الحزب النازي أو الشيوعي وغيرهما من الأيديولوجيات الضيقة التي تدّعي قداسةً تمنع نقدها. لكن تبقى تلك الانتكاسات، على اختلاف درجاتها، مرحلةً متقدمةً تتجاوز «السياسة المقدسة» التي كانت منتشرةً في العصور الوسطى، والتي لا تزال بكل أسف محافظةً على حضورٍ واسعٍ في الشرق الأوسط.

بالتوازي مع استفحال ظاهرة «السياسة المقدسة» في منطقتنا فإنه من الملحوظ صعود ظاهرةٍ ثانيةٍ ومناظرة: تتمثّل باستغلال السياسة للوصول إلى مكاسب دينية (أو للدقة لتحقيق قراءةٍ مؤدلجةٍ معينةٍ للدين)، وكأن الدين لا تكتمل أركانه إلا بالاستيلاء على السلطة. وفق هذا التوجه يتم إنزال المقدس من علياء السماء إلى الأرض، ليتشكل «المقدس السياسي» الذي يجعل الانتماء الديني مرتبطاً ومتماهياً مع الانتماء إلى حيّزٍ سياسي معين، ومع «مبايعة» سلطةٍ تسيطر على ذاك الحيز السياسي.

نحن إذاً أمام ظاهرتين تسيران جنباً إلى جنب على رغم الاختلاف بينهما. فالأولى قديمةٌ وشائعةٌ تسعى للوصول إلى السلطة عبر استخدام الدين كمجرد أداة (السياسة المقدسة)، أما الظاهرة الثانية فجديدةٌ نسبياً وأقل انتشاراً ترى أن الوصول إلى «الدين الحق» يتم فقط عبر الاستيلاء على السلطة (المقدس السياسي). الظاهرة الأولى انتهازيةٌ وشعبويةٌ ومدفوعةٌ أساساً بشهوة السلطة والسيطرة، أما الثانية فإقصائيةٌ ومتعصبةٌ ومدفوعةٌ أساساً بقراءةٍ مؤدلجةٍ معينةٍ للدين.

لكن رغم التعاكس الظاهري بين هاتين الظاهرتين، إلا أن عناصر مشتركة تجمع بينهما في العمق. ففي كلتا الظاهرتين نجد حضوراً فاقعاً للعنف، حيث يتم تمجيده سياسياً بحجة خدمة الدين، أو شرعنة العنف دينياً خدمةً للسياسة. كما يتم إخضاع كلتا الظاهرتين إلى حالةٍ من الثبات والجمود الزمني وفق حبكة جاهزة، حتى لو استدعى ذلك السير عكس التاريخ؛ فالدين مطلق، والسياسة مطلقة، ولا مجال للمرونة والتفكير الواقعي.

ومن الملحوظ أن هاتين الظاهرتين قد أصبحتا من أساسات الفكر والممارسة في الحركات الإسلاموية المتطرفة المعاصرة، تلك التي غدتْ أكثر أدلجةً وتشدداً وأقل براغماتيةً بالمقارنة بمثيلاتها منذ عقود، أو حتى بالمقارنة مع الأصل الذي تسعى إلى إعادة إحيائه.

إذ لا يبدو أن لدى الحركات المتشددة المعاصرة هامشاً يسمح لها بالتصالح مع من هو خارج انتمائها الضيق، فقد باتت العَدَمِيّة ركناً محورياً من ممارسات هذه الحركات التي تستهدف الإنسان والحضارة والأفكار والقيم المختلفة. وأكبر مثال هو الغياب شبه الكامل للتنوع السكاني والثقافي في المناطق التي وقعت تحت سيطرة «داعش»، فضلاً عن انتشار السردية الطائفية التي يتم شحنها من قبل دعاة التطرف، والتي تخلق حالةً من التماهي الساذج بين الانتماء المذهبي والموقف من النظام السوري، سواء كان ذاك الموقف محسوباً على المعارضة أو الموالاة.

بالعودة إلى المشهد القائم حالياً، تترك ظاهرتا «المقدس السياسي» و «السياسة المقدسة» آثاراً مدمرة على قدرة المنطقة على خلق «وعي سياسي» يدرك السياسة ويتعامل معها بواقعية بعيداً عن قاموس العصور الوسطى. إذ يخلق غياب الحدود بين السياسي والمقدس حالةً من الالتباس، ولهذا فغالباً ما يتحوّل النقاش السياسي في منطقتنا إلى جدلٍ في الحلال والحرام، أو في الأخلاقيات والتعفف، أو في الغيبيات التي قد لا يؤمن بها أو يتشارك بها الجميع، وعادة ما تتم محاكمة الأحداث والقضايا والشخصيات العامة من منظورٍ أخلاقيٍّ ديني، أو في إطار سردياتٍ محسوبةٍ على الإرث الديني. وبطبيعة الحال، وعلى الطرف المقابل، يتم ربط النقاش الديني بأبعاد سياسية. ويزيد كلُّ هذا من تشويه الممارسة السياسية في المنطقة – وهي ممارسةٌ لا يمكن لها أن ترتقي في أحسن الأحوال إلى الصراعات التقليدية على السلطة.

يطرح ما سبق إشكاليةً كبرى أشار إليها الراحل محمد أركون، حين طرح ضرورة تدشين «فلسفة سياسية» جديدة وحداثية كبديلٍ عن «اللاهوت السياسي» القائم والمستحكم في المنطقة. فدمج السياسي بالمقدس، ودمج المقدس بالسياسي، علامةٌ على أزمةٍ عميقةٍ تعاني منها العقلية القائمة التي ترفض رسم الحدود بين المشهد السياسي المعاش بكل تفاصيله الدنيوية، وبين المشهد المقدس الموروث بكل أبعاده الغيبية. وللأسف، وفي مواجهة كل هذا، لا تغيب فقط المحاولات الجادة للتغيير، بل تتكاثر الدعوات إلى مزيدٍ من الدمج والالتباس بين المقدس/ السياسي، وفي شكلٍ يضع أي مخارج محتملة في موقع المؤجَّل إلى حينٍ قد يطول.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى