حمّود حمّودصفحات الرأي

صراع الأصوليين على الأصوليّة: أيّ صراع؟/ حمّود حمّود

 

كما أنه ليس صحيحاً، نقدياً وتاريخياً، مساواة أصوليّ الجبال الوعرة في أفغانستان بأصوليّ العراق أو سورية أو إيران…الخ، فإنه ليس صحيحاً كذلك القول، ثيولوجياً، إنهم لا ينتمون في النهاية إلى عائلة أصولية كبرى تحدث عنها نقاد وباحثون تحت مظلة مفهوم « Family Resemblances» (وهو مفهوم أُدخل في درس الأصولية؛ ويعود الفضل بالإفادة به لـ لويدغ فجنشتاين). حيث لم تشمل هذه العائلة ذوي المشرب الثيولوجي الواحد، فحسب، أيّاً كان الاسم الذي تتظلل الأصولية به (وغالباً ما يكون لأسماء وألقاب الأصولية دورٌ «اسميٌّ» فقط لا «فعلي»)، بل امتدت لتشمل كلَّ من يشترك في الآليات التفكيرية، فضلاً عن الثيولوجية، من اليهود والمسيحين والمسلمين، بل حتى لمن يقع خارج ما يُسمى الإطار «الإبراهيمي»؛ هذا مع الأخذ في الاعتبار الشرط التاريخي لكل أصولية. إنها عائلة أصولية كبرى، في الواقع. بيد أنّ الاندراج تحت مظلة «العائلة العقائدية»، لا يعني بالضرورة تنميط أفراد العائلة وفق مسار الوحدة، وبخاصة أنّ الذي يجمع بيهم عقائدُ أصوليةٌ سائلة، وقابلة في كلّ لحظة لأنْ تُنتج منشقين ومنشقين عن المنشقين وهكذا دواليك: إنّ المرتكزات التي تجمع، هي نفسها التي تنتج «صراع الأشقاء».

أحد المعاني المستبطنة للأصولية أنها بلا معنى، غير قابلة لأنْ تركن في أرض أيديولوجية محددة. ولأنها تلهث وراء العناوين الإسمية الكبرى، فإنها تعيش فوق ركام من العدم. وهذا يعود أساساً إلى أنه من الصعب ضبط ما تعنيه هذه العناوين، ليس فقط بالنسبة إلى من يقع خارج الدائرة الأصولية، بل حتى إلى من يسكن داخلها. الأصولية، وبكلمة، فضاء مفتوح على «اللامعنى». هكذا، فحينما يصرخ الإخوان المسلمون اليوم بـ «مرجعية إسلامية»، فإنهم بالمعنى الدقيق للكلمة لا يحددون ما هي الطبيعة التاريخية لهذه المرجعية، سوى ما يوضحونه وفقاً لما هو مستقر في أذهانهم المخيالية. إنها مرجعية قد أعيد الصراخ بها لا وفقاً لحرفية نص كتابيّ، بل وفقاً للمخيالية المدفوعة تأزمياً جراء ضغط الشرط الذي يعيشون به. إنها مرجعية مفتوحة، حقيقةً، على معنى إطلاقيّ عدميّ لا يمكن ضبطه بنظيمة محددة. الأمر نفسه ينطبق على أشقائهم المعسكرين بالسلاح من المجاهدين، والذين ينادون بتطبيق مملكة السماء على الأرض. وفوق ذلك، إنها مرجعية يتبدل فيها «المعنى الأصوليّ» وذلك وفقاً لشرطهم اللحظيّ الذي يعيشون به. إنهم قبل غيرهم يعلمون أنه لا يمكن تطبيق أيّة مرجعية بحرفيتها النصية، كقطع اليد، لكنهم، بنفس الوقت، يلتزمون بها كإطار أنتولوجي مخيالي يجدون ذاتهم من خلاله. تلك هي «السلطة الخفية» التي يتسترون وراءها لدوام السيطرة على مخيال الشعوب: حيث دائماً الإصرار للهاث وراء «أسماء»، هم من اخترعها، لكنها أسماء لا تحمل أيّ معنى تاريخي.

ولأنها «اللامعنى»، ولأنها العدم، فليس غريباً استمرارُ الأصولية، بهذا العدم، في توليد بل تدفق وإعادة تدفق Flux and Reflux (إذا ما استعرنا كلمات إرنست غيلنر) أصوليات هائلة متعاكسة (لكن فقط على المستوى السطحي)؛ حيث تبحث كل من هذه الأصوليات عن معنى لها وسط تكديسات الأسطورة، وإنْ اقتضى البحث استخدام وسائل الدم. لا نصدق بيوم من الأيام أنّ الخميني حينما أنتج مخلوقاً غريباً سماه «الجمهورية الإسلامية» كان يحقن بذلك الأصوليةَ بمعنى نهائي وحاسم لما تعنيه «الدولة الإسلامية». ذلك أنه حتى في هذه الجمهورية، هناك المتغيرات التاريخية الحقيقية والمصالح السياسية، وهذه المتغيرات هي التي تتحكم بما يجب أن تكون عليه الجمهورية، لا فكرة إسلامية الجمهورية نفسها الخالية من المعنى، هذا فضلاً عن الجمهوريات الإسلامية الأخرى «المضادة»، وفضلاً كذلك عن كونها فكرة تقوم على تركيب هجين (من كل واد عصى). الكلام نفسه ينطبق على أمراء الأصولية قبل الخميني وبعده (المودودي، سيد قطب، بن لادن، واليوم الظواهري…الخ)، الذين وإنْ جمعتهم «سلة أصولية» عدمية واحدة، ثيولوجياً، يتحكم بها بارادايم النكوص وراءً والقفز إلى مستقبل مجهول، إلا أنهم يفترقون «سطحياً» في أو عن أيّ معنى يبحثون.

من هنا الدلالة المهمة أنّ كلَّ أصولية تنشأ أو تنشق عن شقيقاتها وتدعي أنها صاحبة «المعنى الأصيل»، فهذا يعني الصراع مع الأشقاء: حروب على العدم وفي العدم. وهذا هو معنى التدفق وإعادة التدفق من داخل «البنية الكبرى»؛ لكنْ مع استدراك نقدي أنّ هذا الكلام يأتي من دون الانجرار إلى مقولات «حتمية» هذه البنية ثقافوياً، من جهة، وبأنّ كلَّ تدفق لأصولية ما، لها ما يتحكم بها شرطياً وتاريخياً، لكن هذا لا يلغي أنهم أبناء بنية صلبة، من جهة أخرى.

ربما يشكّل هذا أحدَ الأسباب الفكرية في صراع الأصوليات اليوم، وهي تتصارع على العدم. إنّ الصراع على العدم اليوم ليس سوى نتيجة من نتائج الركام الثقافي الطويل، أو «الانهيار المديد»، إذا ما استعرنا تعبير حازم صاغيّة. الموضوع، لا شك لا يقتصر على الأصوليات الدينية، بالمعنى التقليدي للاصطلاح؛ إننا نتذكر ناطحات السحب القومية العربية والتي كانت في طليعة من يحارب الأصوليات الدينية. لكن على ماذا؟ على أصوليات دينية تقبع في رأسها هي، تقول إنها «المعاني الحق»، والإسلام ليس كذا، بل هو كذا؛ لا بل كانت في كثير من الأحيان أشرس من الأصوليين الدينيين أنفسهم في الإصرار على رجوع العرب وراءً، وأسلمة كل مسيحيي المشرق («عفلق البعث» من الأمثلة المهمة في الإصرار على الرجوع إلى «أصالة» الإسلام، وعلى دعوة المسيحيين إلى الإسلام. و«إسلامية» عبد الناصر، وهو الرئيس القومي المؤمن، أيضاً لا يمكن أن تغيب عن السياق). إنّ ناطحات السحب القومية هذه لم يكن لها دور في صراعها مع الأصوليين في إنتاج معانٍ أصولية أخرى فحسب، بل كان لها دور حاسم، أيضاً، في عسكرة الأصوليات التقليدية نفسها التي بدأ فيضانها الكبير في سبعينات وثمانينات القرن الماضي؛ واليوم فاضت جداً وجداً.

بوتقة الأصولية أنها لا يمكن لها الانبثاق من غير صراع أو خراب. والعدو بالنسبة إليها واجبُ الوجودِ وجودَ «اللامعنى» العدمي الذي تركض وراءه. لهذا، لا تقتصر معاني الجهاد الأصولي بغية إحياء أصول مخيالية فحسب، بل كذلك الأمر، الجهاد على «أصول» الأشقاء. إنها حروب العدم المديدة والصلبة التي تلتصق، بنيوياً، بأصوليّة أصوليّ المشرق.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى