صفحات الرأي

خليط خطابة يمزج السياسة بالطبابة النبوية والهداية والعرفان: تراث «طبائع الاستبداد» النهضوي والمتنور واللفظي/ ضاح شرارة

 

 

حين انعقدت بعض ثمار الحركات «الربيعية» المبكرة، وانهارت رئاسات وزعامات ودول بدت، الى أمس قريب، راسخة رسوخ الدهر والطود، وأرهصت أخرى بالانهيار الوشيك، التجأ بعض أهل الكتابة والصحافة والرأي الى مقالات يستعينون بها على قول الحوادث المفاجئة والداهمة المفرحة، وعلى عقل سلكها في خيط مبين يرتبها على مراتبها ويجلو معانيها. وقادت الترددات اللفظية والتداعيات الاشتقاقية، من وجه أول، والمناسبات المعنوية والدلالية والفكرية، من وجه آخر، بعض الكتاب والصحافيين وأهل الرأي الى إحياء أو تذكر مقالات عبد الرحمن الكواكبي (حلب 1846- القاهرة 1902) في الاستبداد وطبائعه الآيلة الى مصارعه المرجوة وأفوله. والحق أنه مهما كان من أمر هذا التذكر، الظرفي والخاطف، واقتصاره على عجالات وتعليقات سريعة لم تفضِ الى عمل متماسك يضطلع ببعض التمحيص، فهو قرينة من قرائن كثيرة على مسالك الرد الى تراث مفترض، والعود عليه، وفهمه وإعماله في جلاء معاني الحاضر وحوادثه ووقائعه.

ويعلن الرد الى تراث مفترض، أو تعلن إرادته عن صفة الأصالة، على النحو الذي تفهم عليه ثقافة ضامرة ومتعثرةٌ الأصالةَ، أي صدورها عن تواتر سابقات تنتهي الى أول لا زمن له، ويقوم تخففه (المزعوم) من الزمن قرينة على حقيقته وقوة إيجابه ودوامها. وهذا في معرض استجابة دواعي حاضر «ثوري» و»قطيعة» تدير ظهرها لقيود مواضٍ ثقيلة الوطأة على الاجساد والرغبات والعقول والارادات. وفي الأمر ما فيه من الخُلْف والمفارقة. وكأن معارضة بعض الماضي، وما يحسب ماضياً محافظاً وثقيلاً، وهو «الاستبداد»، بماض معاصر قام عليه، وأراد نقضه ومخالفته، وهو ماضي «طبائع» الكواكبي، يسبغ على الوقت المعاصر والمخالف هذا قوةً يحتسبها الحاضر نصراً له ومورداً. وهذا منطقُ السنن المحافظ والمنكفئ، وطريقة التقليد واحتجاجه بالسابقة المنقضية على الجديد المنقطع والضعيف.

والحق أن التوسل بـ»طبائع الاستبداد» و»خطابته»، على قول الكواكبي نفسه في مطلع فصل «الاستبداد والدين»، الى نقد الانظمة العربية المعاصرة و»تأصيل» القيام عليها وتسويغه، قلما تعدى الايحاءات الخطابية الى فحص «الطبائع»، والسؤال عن منطق تناوله موضوعه، وبنائه هذا الموضوع، والصورة التي جلاه عليها وحدود هذه الصورة. ويشبه هذا، أي ترك التصفح والسؤال، شبهاً قوياً نهج عبد الرحمن الكواكبي نفسه. فهو سبق الى الكتابة في الاستبداد، والكلام عليه، من طريق الكناية الخطابية وإعمال مقالات سابقة في موضوع ماثل وحاضر. فينوب الاستقواء بالسابقة، وإقامتها مقام السنة والمثال، مناب إنشاءِ الموضوع الحاضر، وهو يومها الاستبداد العثماني الحميدي (نسبة الى السلطان عبد الحميد الثاني 1876-1909)، ووصفِ صورة أحواله وأطواره، وتعليل سبله، وربما تعقب القوى التي تعترض هذه السبل وتحول بين الاستبداد وبين بلوغه غاياته. وهذه ليست مقترحات متأخرة على رجل قضى مسموماً بيد أحد عملاء عبدالحميد، قبل قرن وعقد من الزمن. وهي ليست درساً في طريقة الكتابة الاجتماعية والسياسية يلقيه متأخر على متقدم. فمسوغ الملاحظات، ما تقدم منها وما هو آت، هو «امتحان» معاصرتنا حاضرنا، والتحري عن صور تعثرها، اليوم قبل البارحة، على رغم رسم تعاقب الاوقات المفترض.

خليط النبوة والسياسة

ودعت مقالات الكواكبي قراءها الى قراءتها أو تناولها على وجه «نبوي»، إذا جازت الصفة أو النسبة، يستوفي التبليغ غرضها ودلالتها. فصاحبها أو «محررها»، «الرحالة كـ…»، وهو توقيع العمل الاول، يحملها على «كلمة حق وصيحة في واد/ إن ذهبت اليوم مع الريح، لقد تذهب غداً بالأوتاد». ولا يقتصر الوجه النبوي على التوقع والاستباق الزمنيين واليقينين، ولا على البيان الطبيعي وصوره (الوادي والريح والعاصفة وتقويض البيت والعمران العائلي). فهو يوقت مصائر المقالات أو التبليغ على دورين أو مرحلتين: دور المحنة والهباء ودور الواقعة. ويشبِّه الدور الاول الضعف وقلة الحيلة، ويوهم صاحب السلطان بمناعته الثابتة، وضآلة شأن الخارجين عليه. وهذا مثابة دعوته الى التمادي، وحفر قبره بيده، والتمهيد لمصيره. فإذا استجاب الدعوة، ولا مناص له من الاستجابة فهي في «طبع» السلطان الطاغية، عصفت الريح، الصرصر، بأركان البناء، وأطاحته وهدمته. فالاستعارة الكواكبية تبطن أو تجهر مبنى أو مركباً زمنياً يعاقب بين الخروج الى الدعوة، أو البعث عليها، وبين صمم «الناس» عنها والتنكيل بحاملها، الى أن تجتمع شروط التبليغ والسمع، ويأذن «فسق الملوك» وظلمهم بهلاك «القرية»، وسقوط رأس الفسق والطغيان.

وجدل هذه الرواية بعيد من جدل «الوعي» و»الثورة» العامية أو قيام «الشعب» على الطاغية وهدم ملكه، وإقامة نظام الحرية محل ملك الواحد والقلة الاوليغارشية. ففي منزلة القلب من الرواية الكواكبية التقليدية والملكية (أو النبوية، على ما مر) يستوي داعية الحرية، وحليفه السلطان العادل. ويتصدر الاثنان، على معنى الصدارة الحرفي، «الكتاب». وبعد الحمدلة والصلاة والسلام، يكتب المنفي الطوعي الحلبي: «فأقول، وأنا المضطر للاكتتام حسب الزمان». وهذا فصل الابتلاء والتخفي والغيبة. ثم يؤرخ لمجيئه مصر: «على عهد عزيزها ومعزها حضرة سمي عم النبي العباس الثاني، الناشر لواء الحرية على أكتاف ملكه»، وهو الخديوي عباس حلمي. واقترحه الكاتب من بعد ناشراً لواء الخلافة على أكتاف أمة المسلمين، محل السلطان العثماني الظالم الذي أحرج الشريف الطالبي الحلبي فأخرجه من مدينته الى كرسي عباس حلمي بالقاهرة.

وأما الرسالة التي يدعو اليها المكتتم اضطراراً فهي، في لغة الرسل والمبلغين، «تنبيه الغافلين لمورد الداء الدفين عسى يعرف الشرقيون أنهم هم المتسببون لما هم فيه، فلا يعتبون على الاغيار، ولا على الأقدار، وعسى الذين فيهم بقية رمق من الحياة يستدركون قبل الممات». وتمزج لغة الرسل والمبلغين التي يتوسل بها الكواكبي أنحاءَ مختلفة من القول لا يجمعها مصدر أو معين واحد، ولا يوحدها سلك مشترك. فالغفلة والداء الدفين، ومعهما أو نظيرهما التنبيه وبقية الرمق والاستدراك قبل الممات، تصدر عن المثال النبوي المعروف، وهو يحمل الغفلةَ والكفرَ والضلال على مرض واعتلال، والمنبِّه والمذكِّر والمبلِّغ على طبيب يزيل الغشاوة عن عيني الاعمى الضرير، ويهديه سواء الطريق والقصد. وعلى جهة القول الاخرى، يسعى المنبه المذكر في معرفة الشرقيين ما غابت عنهم معرفته، وهو من باب غير باب الشاغل والهم الدينيين والباعثين على الهداية قبل الوفاة، وخشية الغيب الذي يليها. وصنف المعرفة هذا وهو ينبغي أن يقود العارف الى القيام في محل صاحب التبعة عن أحواله ومصائره، على خلاف المعرفة الدينية أو العرفان- لا يقود الى التسليم ولا إلى الايمان، خوفاً من الهلاك ومن تضييع الآخرة بعد الاولى، ولا إلى ذوبان النفس وتوحيدها في «نفس» الذات.

وتميل المعرفة، وهي معرفة من طريق السبب والواسطة والفعل ومفاعيله، ويميل الاستدراك، من طريق التوقع والاستباق والاستشراف الى تخصيص الفاعل المرجو. فيهدي الكاتب المهاجر كتابه «هدية منـ (ه) للناشئة العربية المباركة الأبية المعقودة آمال الامة بيُمن نواصيهم». وأما الداعي الى إهداء «كلمة الحق والصيحة في واد»، وهي وديعة علم ومعرفة واستدراك وإحياء الى الشباب («الناشئة»)، فلا شأن له بمكانتهم من أحوال «الامة». فهو، الإهداء، يترتب على منطق التوارد وتوزيع العلامات والأمارات. فعلى زعم الرحالة المتكتم:» لا شباب (للأمة) إلا بالشباب (عمراً وسناً)». ويحقق تواردُ فتوةِ الامة، وتجدد الحياة في عروقها- وذلك بانتفاضها على الاستبداد والاستعباد وفتوةِ «الناشئة» القائمين بالانتفاضة والثورة، والمدعوين الى الاضطلاع بهما، (يحقق) وصفَ الاستبداد بـ»الداء الدفين»، وحمله على طبيعة من الطبائع المنحرفة التي تعود طبابتها أو معالجتها الى عالم عارف و»مهدي» (من الهدية، وهي حرفياً مرادف «الكاريزما»، اللفظة اليونانية التي تعني الهبة أو اللطف الالهي، واشتق منها ماكس فيبر وصف القيادة الكاريزمية والنظام السياسي الذي تنشئه).

وعليه، «يورث» أحدُ أعلام النهضة الفكرية والسياسية العربية الاجيال العربية «الجديدة»، على ما سماها ميشيل عفلق الدمشقي غداة نحو 4 عقود، خليطاً فكرياً وخطابياً يمزج الاصلاح السياسي بالطبابة النبوية، والحركة السياسية بالتبليغ والهداية، والمعرفة العامة بالعرفان الخاص، وتجديد العمران والاجتماع بتوارد الطبائع. ولا شك في ان تحقيق «التوريث» وإثباته يقتضيان تقصياً دقيقاً ومفصلاً، وهذا ما لا قِبَل لعجالة به. إلا أن تواتر الابواب والموضوعات وموافقاتها، منذ جمال الدين الافغاني على أقرب تقدير الى اليوم، قد يصح حمله قرينةً على تناقل غير منقطع. ولا أزعم أن مثال التناقل «جرثومي» أو جِبِلّي. ولا يستوفي مثال تناقل الاخبار والآثار والاحاديث والسنن، وهو عَلَم تراثي وتقليدي مطبوع وجوهري، المقصود بالتناقل في معرضنا. وهو لا يستوفي تعليلُه الاقامةَ عليه. فعلى نحو ما ان «نقل» عبد الرحمن الكواكبي عن رسالة فيتوريو ألفييري (1749-1803) الايطالي في «الطغيان» (1778-1786؟) ليس تعليلاً، لا وافياً ولا غير وافٍ، لخليطه وترجحه بين أبواب متنافرة وملتوية من المقاصد والمعاني (على ما نرى من بعد)، ليس النقل عن صاحب «طبائع الاستبداد» تعليلَ تواتر الموضوعات والافكار والمعاني والصور المختلطة في الخطابة السياسية اللاحقة، وملابستها المواقف والافعال والمؤسسات، معاً. فالموضوعات والافكار والمعاني والصور الكواكبية، واختلاف ترجحها، إنما تُعْمِل في الوقائع المعاصرة، المجتمعة من الحوادث والاحوال والناس والمقالات، مقاصد يحيط الكواكبي بها بعض الاحاطة، ويستجيب دواعيها (وصوارفها، على قول المتكلمين) بعض الاستجابة. وهو شأن «الوارثين» المفترضين جميعاً.

خطابة التبليغ

وكان المنفي الحلبي نوَّه في خطبه «الطبائع»، قبل المقدمة، الى كتمانه، أو اكتتامه، ولجوئه الى مصر وملكها و»حريته» (حرية الملك)، ووصف «ابحاثه» بـ»العلمية السياسية»، ونبه الى مصدريها: «ما درسه»، أي ما استقاه من اختباراته، و»ما اقتبسه»، أي ما أخذه أو رواه عن رسالة الكاتب الايطالي المنقولة الى الفرنسية في وقت مبكر. ويستبق مذاهب القراء المحتملة في التأويل، وحملهم ما يقرأون على وقائع عثمانية ماثلة لأنظار بعض العثمانيين من أمثاله. وربما يحتاط الكاتب لانطباق ما يكتب ويذيع على سياسة المضيف المصري. فيزعم أنه لا يقصد بمقالته «ظالماً بعينه ولا حكومة مخصصة». وينبغي ان يكون هذا الزعم مصدقاً للصفة العلمية السياسية، أي النسبة الى «علم السياسة»، والى مطلبه الواحد والجامع، والمجرد من الإِّنيات والاعيان العثمانية والمصرية. ويبحر صاحب «الطبائع (…) والمصارع» بين هذه الثغور، وهي «مواضع المخافة من بلدان العدو»، العصية على المداراة والتجنب.

فتقيِّتُه لا تعدم التنبيه الى إسراره غير ما يعلن حين يقول أنه «غير قاصد… ظالماً بعينه»، فتدعو القارئ الى الإيقان بأنه يقصد حقيقةً عبد الحميد الثاني الذي خلَّف الشريف الحلبي «غاشيته» (الجواهري) وراءه حين قدم مصر، وحل ضيفاً على «عزيزها». واللقب القرآني الاسلامي يلمع ربما الى فرعون الذي قرَّب يوسف ابن يعقوب، واتخذه «وزيراً» ومشيراً ومدبراً، فحمى مفسر الرؤيا «النبوي» (ورؤى المنامات «جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، على «قياس وتقدير حديث «صحيح»!) مصر وأهلها من المجاعة. ومن طريق التورية هذه، إذا صدق ان ثمة تورية، ومن غير تنطح علني وصريح الى الاضطلاع بالمكانة العظيمة، يسوق المندد بالإدارة العثمانية الظالمة بلاغه و»رسالته» سوقاً راعوياً، على قول كنسي وكاثوليكي ذائع. فإذا عزت مكانة النبوة وامتنعت، فلعل الوزارة والمشورة والتأويل أقرب وأيسر (متناولاً ومنالاً). ويؤيد هذا صفة التبليغ التي بدت سمة بارزة من سمات الخطابة والكتابة الكواكبيتين، وربما النهضويتين من بعد. فالمبلِّغ، المصلح والنهضوي والمتنوِّر والداعية العربي (والاسلامي؟)، يصدر عن «وحي» يوحيه اليه «علم» الأولين، المسلمين «العرب» (لغة وثقافة) أو القدماء الاوروبيين، أو الآخرين، الاوروبيين المعاصرين، أو الهوية الاصلية والثاوية في الامة في انتظار الانبعاث والإحياء. ومن هذا شأنه «ما عليه إلا البلاغ»: حمل «العلم» الناجز الى السادرين في الجاهلية والظلامية، والتنصيص أو تقريره عليه، وتذييله بالشروح والحواشي التي تمرن الأذهان المسترسلة في سبات ثقيل. فإذا قام «عرب» على أنظمة مستبدة وبوليسية ومحتكرة أسرع المبلغون، وهم في مصطلحهم ورطانتهم «مثقفون عضويون» أو «نقديون» أو «ثوريون»، الى تلاوة عبد الرحمن الكواكبي أو ويكيبيديا (على ما صنع «الاستاذ» محمد حسنين هيكل في محاورة قريبة)، واستشهاد محمود درويش أو انسي الحاج أو إدوار سعيد، الى مديري صفحات في الصحف «السيارة».

وما يصنعه بعضهم من المعاصرين بالكاتب الحلبي المغدور، وبمن يُحملون على نهضة وتنوير مفترضين، صنعه هو، في ظرف عصيب وخاص، بمن بلَّغ عنهم، وحمل علمهم وقرَّره على قرائه، وعلى نفسه. فهو يتناول «الاستبداد» (وليس «الظلم» على ما يقضي اصطلاح اسلامي)، أي اللفظة والكلمة، ابتداء من باب «العلم»، «علم السياسة» العام. وإذا أضفتُ أو زدت: وليس من باب الاعيان والاختبار، أو من باب نشأة الموضوع وخروجه الى المداولة والمناقشة والمطارحة العمومية في مجتمع من المجتمعات المعاصرة التي يتشارك الكاتب السياسي مع قرائه المفترضين «علماً» بها، أي معاناة و»تحككاً»، على قوله في المقدمة، وملابسة، على ما يقصد ربما إذا قلتُ ذلك فلست أريد أنه كان على الكواكبي دخول الموضوع أو طرقه من باب أوثره على بابه هو. وإنما أريد التنبيه الى تماسك معالجته المسألة، وإضماره مقدمات أو وصلات ووسائط لم يُحْوَج الى اعلانها وتسويغها، وتسري في معالجته وإنشائه موضوعه ومسألته، وتترتب عليها نتائج لا يسعنا إغفالها. واستهلال المقالة في السياسة بأنها «علم» و»علم واسع جداً» و»قلما يوجد انسان يحيط (به)»، ثم انتقاله الى تأريخ خاطف ومبتسر «للعلم» المفترض، يُسْلم المقالةَ الى التعليم أو التبليغ، وينصب المصادر أو المراجع مثالاً للاستعادة والإعمال، وهي على حالها من المصدرية أو المرجعية، وهو (المصلح الحلبي العثماني) على حاله من التوسط والنقل.

وسرعان ما يبدو التنويه بمراجع الأقدمين والوسيطين حاشية نافلة أو ترصيعاً يزين المقالة من غير العمل فيها. فلا يقع القارئ على أثر تالٍ «للرومان الجمهوريين»، أو لـ»كليلة ودمنة» و»رسائل» غريغوريوس اليوناني، و»نهج البلاغة»… وتسوي زينة الترصيع، شأنها عموماً، أنحاء تناول وأغراضاً ومسالك وعصوراً لا تشترك فيما بينها في شيء. ويتقلص الغموض والإجمال مع «المتأخرين»، على تفرقهم: المتأخرون من أهل أوروبا، والمتأخرون من الشرقيين (من الترك)، ومن العرب. وهؤلاء كلهم ممن يوحي الكاتب أنه درس عليهم وتتلمذ، وهو يقتبس «علمهم». وأما من يخاطبهم ويدعوهم الى مشاطرته سعيه ونهجه فهم معاصروه من «المحررين السياسيين من العرب». وهؤلاء «قد كثروا، بدليل ما يظهر من منشوراتهم في الجرائد والمجلات في مواضيع كثيرة». وأوحت الكثرة الى زميلهم بأن «(يذكر) حضراتهم على لسان الجرائد العربية بموضوع هو من أهم المباحث الأساسية (…) (فيدعوهم) الى ميدان المسابقة في خير خدمة ينيرون بها أفكار إخوانهم الشرقيين. وينبهونهم، لا سيما العرب منهم، لما هم عنه غافلون. فيفيدونهم بالبحث والتعليل وضرب الأمثال والتحليل ما هو حقيقة داء الشرق ودواؤه».

المرادفات والمقابلات

ولا يحمل تعيينُ المخاطبين وجمهورهم مخاطِبَهم، وهو الكاتب، على وصف الموضوع، المفترض مشتركاً ومتقاسماً وجامعاً، أي «داء الشرق». فالتسمية المجردة تفي بالغرض. والاشتراك في الموضوع، على فرض جواز التحقق منه عينياً، وهذا ما يلمح إليه صاحب «الطبائع» حين يدل الى كثرة «المحررين السياسيين من العرب» و»ما يظهر من منشوراتهم في الجرائد والمجلات»، يترتب عليه حتماً إجماع جمهور المخاطبين على تشخيص «الداء» و»الدواء»، وعلى نهج العلاج وهو «تنوير» الافكار و»التنبيه»، ثانياً. ولا يؤيد استنتاج الاجماع وتوقعه إلا حمل الاستبداد، وتشخيصه ومعالجته، على بدائه «علمية» وذهنية، أو عقلية، مشتركة وفطرية. فما أن يُدل إليها ويشار، وتسمى، على ان يختار الدال والمشير الجمهور المناسب، حتى ينعقد إجماع أهل «العلم» وجمهورهم على «البحث والتعليل وضرب الأمثال والتحليل»، على خطابة الموظف العثماني السابق. فيبدو «علم السياسة»، في مرآة الخطابة الكواكبية، صورة عن العلوم الطبيعية الحياتية على ما كانت عليه في العصر «الكلاسيكي»، وقيامها من الطبابة العملية مقام المقدمة المنطقية وتوليدها، بواسطة حلقة وصل صغرى، النتائج المتوقعة. ويبدو «عمل» السياسة صورة عن مزاولة صنعة من الصنائع البسيطة التي تعم مبادؤها ومعاييرها الصنعة، فلا يختلف مزاولوها فيها أو عليها، ولا يرون ضرورة أو حاجة الى تفصيل القول فيها من جديد.

وعلى هذا، يباشر الكاتب مقالته بتعريف «مبنى علم السياسة» فيقول، أو ينقل القول اليوناني «الجامع» والذائع، انه «ادارة الشؤون المشتركة بمقتضى الحكمة». وينقلب الى الضد، اللفظي والاصطلاحي و»الطبعي» (يكون بالطبع أول مباحث السياسة…»الاستبداد»)، فيذهب الى ان الاستبداد هو «التصرف في الشؤون المشتركة بمقتضى الهوى». وتتفرع على ضدية الحكمة والهوى، بعد الاقتصار عليها وعلى إطلاقها، «مسائل» من طينتها تضاداً وتقابلاً ولفظية وإطلاقاً. فإذا سأل (وهي مسائل على هذا الاشتقاق وحده): «لماذا يكون المستبد شديد الخوف؟»، أردف:» لماذا يستولي الجبن على رعية المستبد؟». وإذا تحرى عمن «هم أعوان المستبد؟»، أتبعه بالتحري، نظير الأعوان وعصبية المستبد وشركائه في استبداده، عن طاقة الرعية على التحمل. ويمضي على تقليب وجوه «تعبير» المتكلمين في المسائل، بحسب «اختلاف مشارف (الباحثين) وأنظار(هم)». وهو يقصد بهذا تبويب أصحاب المقالات على أبواب ومذاهب: المادي، والسياسي، والحكيم، والحقوقي… فيُجري على لسان المادي: «الداء: القوة، الدواء: المقاومة». ويحصي، على هذا المنوال، الأدواء وفي مقابلتها أدويتها. فإذا زعم السياسي أن الداء هو «استعباد البرية»، وصف «استرداد الحرية» دواء شافياً ووافياً. ويقسم أصحاب المقالات قسمين: «أهل النظر» و»أهل العزائم». وأهل العزائم هم الأبيّ والشهم والمتين والمفادي. وتعريفاتهم، شأن طبابتهم، هي مرآة معاني أسمائهم المتعسفة في معجم جُرَّدت شروحه من وجوه الاستعمال، ومن الملابسات التي تخصص المعاني، وتسلكها في سياقات وعلاقات واحتمالات عصية على الاستباق والاستيفاء- هذا التجريدُ يُخرج لغة «الطبائع» من التواريخ والأزمنة والحوادث، وينفيها من البلدان والجماعات ورسوم هذه وتلك، ويعلقها في أثير فقير وأعجف.

والحق أن عبد الرحمن الكواكبي ليس غافلاً عن «أسلوبه» أو طريقته اللفظية. فيقول إنه «أسلوب ذكر المرادفات والمقابلات». ويعارضه بالتعريف «بالوصف». ويباشر وصف الاستبداد فيقول «(انه) صفة للحكومة المطلقة العنان التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء، بلا خشية حساب ولا عقاب محقَّقَيْن». وهو «ينشأ» عن «كون الحكومة غير مكلفة بتطبيق تصرفها على شريعة، أو على أمثلة، أو على إرادة الامة». ويوسع «الوصف» الاقتصارَ على «المرادفات والمقابلات» الى الإلمام بأنواع من الحكومات أو الأنظمة، وأصناف من القيود والضوابط، مثل الشريعة الدينية والتقاليد والانتخاب العامي. ويجمع الوصف «القيود» في باب واحد على رغم تباين أدوارها ومترتباتها ومواقعها من المحكومين. فالقيد الديني يصدر عن فوق وخارج يوجبان على الحاكم و»الرعية» الانقياد لهما، والتزام حدودهما. وهما (فوق وخارج) يبطلان الارادة والامة معاً، ولا يوجبانهما إلا على شرط انصياعهما لقانون أو حدّ يتصور نافذاً من تلقاء نفسه، وقائماً في نفسه، وما على الحاكم والمحكوم إلا الدخول في سلطانه والاتحاد به. والتقليد يستقوي كذلك باستوائه خارج «الامة، وقبلها أو في ابتدائها. وهو علة تماسكها وما هي عليه، أو هويتها. فلا تملك التصرف به، ولا تدبيره، إلا خفية وتورية وتأويلاً وعلى شرط إنكار التصرف.

«أمة» الحساب

ولكن «المحرر السياسي» الشرقي، على ما يصف الكواكبي نفسه ويصف أقرانه ومخاطبيه والكتاب والمتعلمين، يسوي قيدَ إرادة الامة الداخلي والتحتي، بقيدي الشريعة الدينية والاستنان على التقليد و»شيوخه»، الخارجين والفوقيين. و»هذه كلها حكومات مطلقة». ولا يمر صاحبنا بالمسألة عابراً، بل يبدي فيها ويعيد. فيكرر أن «أكثر الحكومات التي تسمي نفسها مقيدة» تملك نفوذاً يبطل «قوة القيد بما تهوى». ويُعمّ «حكومة الحاكم الفرد المطلق الذي تولى الحكم بالغلبة أو الوراثة»، وهو الحاكم الفرد «المقيد الوارث أو المنتخب» و»حكومة الجمع ولو منتخباً» و»الحكومة الدستورية المُفَرَّقة فيها قوة التشريع عن قوة التنفيذ»، بصفة المستبدة و»أشكالها (الـ) كثيرة». ويسوغ العمومية أو التعميم والكواكبي وفهمه منصرفان في هذا الموضع إلى احوال السلطنة العثمانية وإصلاحاتها القريبة من الدستور الذي انقلب عليه عبد الحميد الثاني بعد أن سنَّه الى الانتخابات المجلسية والنيابية الاولى في العقد الثامن من القرن التاسع عشر، فـ»مجلس المبعوثان» في 1902، وجمعيات الضباط السرية والقومية المعاصرة- إما الافتقار الى المحاسبة، أو إجماع الرأي المشترك على الاستبداد فيكون «أحكم وأضر من استبداد الفرد»، أو إلغاء مرجعية الامة الاخيرة والمقرِّرة فلا يسأل «المشرعون» المنفذين» ولا «تتقاضى (الامة) الحساب» من المشرعين المنتخبين.

وحين تتردد أصداء الحوادث العثمانية الماثلة في معالجة «المحرر»، وتنبهه هذه (الحوادث) الى قصور الافكار أو الاحكام الكلية والتعريفات عن تشخيص المعاني الدقيقة، وإيجاب معايير الرأي فيها) والعمل على هديها، يتنصل الكاتب من الملابسات العثمانية ومن مناقشتها. فيلجأ تارة أولى الى المبادئ العامة والمجردة: «وخلاصة ما تقدم أن الحكومة، من أي نوع كانت، لا تخرج عن وصف الاستبداد ما لم تكن تحت المراقبة الشديدة والمحاسبة التي لا تسامح فيها»؛ وتارة ثانية الى «مثال» بعض حوادث الاسلام التي يؤولها تأويلاً يُخرجها من «الفتنة الكبرى» الى المحاسبة: «(على ما جرى) في صدر الاسلام فيما نُقم على عثمان بن عفان رضي الله عنه»؛ ويلجأ تارة ثالثة الى أمثلة غربية معاصرة أفشت فساد بعض الحكومات وتواطؤها على الخداع والظلم، «(على ما جرى) في عهد هذه الجمهورية الحاضرة في فرنسا في مسائل النياشين وباناما ودريفوس»، واضطلعت فيها الصحافة والانقسامات الفكرية والاجتماعية المعلنة بدور راجح.

فترتسم في ثنايا التناول المتعرج والخابط المضطرب ملامح عامل جديد غفلت عنه «المرادفات والقمابلات»، وسقط من شباكها العريضة، هو (عامل) أهل المحاسبة والمراقبة والمؤاخذة ومتقاضو الحساب، أي «الأمة». وكان هؤلاء حضروا دائرة الالفاظ والعلامات في صورة أخرى وسالبة، على الطرف الآخر من علاقة الحاكم بمحكوميه، هي الرعية. وليس لهؤلاء (أهل المحاسبة … أو الامة على معناها الجديد)، وهم على صورة رعية، كيان موجب وفاعل، لا في تعريف الاستبداد المقتصر على المستبد ولا في التصدي له، وإخراج استبداده من حد ماهية الطبع والطبيعة الى حد الفعل والعلاقة المتنازعة والسيرورة. وعلى هذا، فما من «حكومة عادلة» في نفسها ومن تلقائها، أو تدين بعدلها الى طبعها أو طبع حاكمها وغريزته أو نحيزته، على قول بعض اللغويين في مَلَكة اللغة. وتخالف هذه المقالة مذهباً ساد مقالات «النهضويين»، وتتردد معانيه في برامج الإحياء والانبعاث والثورة، أوكل الى مستبد عادل، أو ديكتاتور قومي أو إسلامي، الاضطلاع بتبعات النهوض والتنبيه والمقاومة.

فالاستبداد، في التعليل المركب والمتنازع، ينشأ عن التحكم والانفراد والهوى والتأله المركوزة في موقع «الحكومة» (السلطان) بإزاء رعية صاغرة ومنقادة. ولا تأمن «حكومة» لا تقتصر على فرد وتتولاها جماعة كثيرة، ويقود خطواتها دستور يفصل سلطتها التنفيذية عن سلطتها التشريعية، وتنتخبها رعية- وهي حال السلطان العثماني الحميدي في عهديه (لا تأمن) غاشية الاستبداد والاستعباد. فمصدر الغاشية الخانقة، هذه المرة، ليس طبع السلطان أو طبع طائفته وطبقته وحرسه وحسب، بل هو «غفلة الامة أو إغفالها (المؤاخذة)»، و»جهالتها». والقوة المسلحة، أو «الجنود المنظمة»، حين تأتمر بأمر الحاكم وحده، هي حرس الحكومة المستبدة من المراقبة والمحاسبة والمؤاخذة، أي من «الامة». وهذه، الامة، لا تستوي على حال سياسية وفاعلة إذا لم تخرج من «غفلتها» و»جهالتها» و»رعيها» الى حال «الشدة» («المراقبة الشديدة») و»النقمة« (على خليفة راشد رضي الله عنه) والخلاف (على فساد وتزوير). والحكومة «المدنية»، ويريد الكواكبي نظام حكم غير ديني، لا تدوم فوق «نصف قرن الى غاية قرن ونصف»، شأن «الحكومة الحاضرة في انكلترا»، إلا إذا سهرت على دوامها «يقظة» المحكومين، وحالت بينها وبين تسلم «زمام الجيش»، وتولي امرته منفردة. فكيف تحصل مثل هذه الحال؟

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى