حازم سليمانصفحات سورية

الله يخليلنا المخابرات

 


حازم سليمان

تطلب مذيعة سورية من عجوز أن توجه كلمة للشعب الفلسطيني في غزة فتجيبها العجوز: (الله يخليلنا الرئيس، الله يخليلنا المخابرات).

هذا المقطع الطريف الذي تم تداوله في الأيام الأخيرة على منتديات وصفحات ‘الفيس بوك’ يمكن أن يكون تشخيصاً لسوء الفهم، وعدم قدرة النظام السوري حتى اللحظة على فهم وجع الناس أو على الأقل البدء بخطوات عملية وليس للاستعراض الإعلامي والسياسي من خلال قراءة الشعارات التي يرفعونها في احتجاجاتهم. هناك مطالب معيشية كبيرة تدفع الناس إلى الشارع لكن الشعار الذي تكرر ولا يزال فهو كلمة (حرية). وما دمنا لسنا في عهد الانتداب الفرنسي فإن الحرية تبدو مطلبا مؤلما وجارحا.

يبدو أن الخوف صار زوادة السوري اليومية. الحديث اليوم مع أي سوري لا بد أن ينتهي بالخوف. لا شيء أقسى من ألا تعرف ما الذي ينتظرك على بعد أمتار من بيتك او عملك. السوري الذي لم يكن في يوم من الأيام شريكاً في صناعة قراره أو مصيره الوطني يدفع ثمنا باهظاً ومخيفاً على أشياء لا علاقة له بها. يدفع ثمن غياب المؤسسة الوطنية القادرة على استقطاب الجميع تحت سقف وطني جامع، وثمن غياب مرجعيات سياسية أو ثقافية يمكنها خلق التفاف شعبي. يدفع ثمن إعلام لا يزال حتى الساعة يعيش حالة من النكران العجيبة، والاشتغال على تفنيد فكرة المؤامرة بطرق بدائية مكشوفة تربك الناس وتزيدهم خوفاً وحيرة. الإعلام الذي يحارب بسيف النظام وليس الوطن يأخذ الناس إلى المزيد من الطرق المسدودة والمظلمة في الوقت الذي يزيد الإعلام الخارجي الطين بلة. محاولاته لاختراق الداخل السوري الممنوع عليه جعل تحركه مليئا بالأفخاخ التي زادت من رعب الناس وأزمتهم.

على الرغم من أن السوريين صار لديهم إجماع على ضرورة التغيير وحتميته لكن وقع الأحداث وتحولاتها خلقت فرقة واضحة حول آليات هذا التغيير وهذا الأمر يضاعف من صعوبة الأزمة. إن غياب البوصلة في هذا التيه خلق الكثير من الارتباك. الأقليات تنظر إلى مستقبل غامض ينتظرها وسط دعوات جهادية تخرج من هنا وهناك، ويتم تعميمها ربما بغية مضاعفة هذا الإرباك وخلق انقسامات في الشارع وهذا مفيد جدا لبعض الجهات. المثقفون والنخب السورية بصورة عامة بدت صورتهم باهتة وبلا مشروع. فلا هم مع النظام ولا هم ضده. يراهنون على التغير لكنهم لا يملكون خطة عمل موحدة وليست لهم مرجعية وآذان تسمع في الشارع. يرفض اليسار احتجاجات تخرج من الجوامع، ولم يقم على مدى الأيام السابقة بأي حراك من مكتبة عامة أو جامعة أو مسرح. وفي المقابل سنجد المواقع التي تحمل شعار الثورة السورية لا تزال ملثمة وغامضة ولا أحد يعرف من هم ولا أي أجندة يحملون.

هذا الغموض المخيف في الازمة السورية في ظل غياب اي رواية رسمية مثبتة للأحداث يجعل الناس تختلف حتى على هؤلاء الأبرياء والأبطال من الضحايا الذين تخطف أعمارهم ويتم قتلهم بطرق وحشية ومرعبة. وها هو السوري الحالم بوطن حقيقي مدني وحر يجد نفسه عالقاً بين يسار خائب ومفلس، ويمين مخيف ومربك.

الأزمة التي تمر فيها البلاد أكدت معلومة بديهية للكثيرين وهي أن المؤسسات المدنية في سورية من حكومة وبرلمان وغيرها من المؤسسات ليست إلا جهات تصريف أعمال لا أكثر ولا أقل، ولذلك نجد أن الشارع ليست لديه ثقة بما تقول وأي وعود منها في الإصلاح والتغيير.

الحرية من تغول السلطة الأمنية على رقاب الناس ليست مطلبا عاديا بل هو مطلب يصب في صلب المشكلة وهو مفتاح لحل كل المشاكل العالقة. الناس اليوم وحتى من يعتبرون (حثالة) – كما باتوا يوصفون من فنانين وأساتذة جامعات يتحدثون باسم الدولة، أو كما فعل عدد من المحسوبين على النخب حين تندروا على مطالب الناس البسطاء – حتى هؤلاء بفطرتهم يعرفون أن بنية الدولة الأمنية قادرة على قتل أي قرار إصلاحي. وهناك قوى كثيرة ستحارب الإصلاح لأن ذلك يعني نهاية حتمية لها. سيحاربون دولة القانون لأن ملايين الدعوى سوف ترفع أمام المحاكم في وجههم. . أكبر عقبة تقف في مواجهة التطور الطبيعي للمجتمع السوري وأمنه هي الدولة الأمنية التي تم تأسيسها في مواجهة الدولة المدنية. هذه الدولة الأمنية يمكن استنشاق رائحتها في الجيش، وتعيين الوزراء، واختيار أعضاء مجلس الشعب، والمسؤولين عن الإعلام، والحركة الاقتصادية، ويمكن تعقب هذه الرائحة في مفاصل الدولة وصولاً إلى حفلات الزواج، ورخصة فتح بقالية لبيع (القضامة) أو بسطة لبيع الذرة المسلوقة على الكورنيش. هل ستقبل هذه الدولة الأمنية محاربة الفساد؟. من المؤكد أنها ستفعل ما بوسعها لمنع ذلك، لأن أي محاولة لذلك تعني كشف الغطاء عن مستورها البشع. هل بعد انقضاء هذه الغمة ستكون هناك محاكمات بالجملة للعبقرية الأمنية التي سمحت لمؤامرة بهذا الحجم أن تنتشر في سورية كلها، وأن تكون هناك مخازن أسلحة، وخطط، ومراسلات، وأجندات، وقوارب تهريب. إن الفساد المرعب والضمائر الضعيفة عند عدد كبير من حماة هذا الوطن هي التي جعلت سورية ملعبا لملثمين وقناصة ومخربين يظهرون ويختفون وكأنهم يهبطون من الفضاء.

القيادة السورية متمثلة بالرئيس بشار الأسد أعلنت مرارا وتكرارا عن خطط للإصلاح وآخرها الكلمة التي ألقاها أمام الوزارة الجديدة. آمال هذه الكلمة في أن تستعيد سورية عافيتها الداخلية سيظل ضعيفا لأن غول الفساد المحمي جيدا من الدولة الأمنية سيعطلها تماما. هل يستطيع وزير يرتعد خوفا من ضابط مخابرات أن يصلح البلد؟ هل بمقدور رئيس تحرير صحيفة تمكن إقالته بلحظة غضب من ضابط أمني أن يصنع صحيفة يمكن تصديقها؟. الحرية المأمولة، هي دولة القانون، القضاء العادل، وقف الاعتداء والاعتقال السهل جداً للناس والصحافيين والكتاب والمعارضين الوطنيين. لا بد من تحرير سورية من العقلية العسكرية وإتاحة المجال أمام بلد قدم المدنية للعام أن يعود من جديد. ولا بد من التوقف عن ديباجة الثوابت القومية والوطنية التي عطلت الحياة، وكأن بلدا مدنيا حديثا ليست لديه القدرة أن يكون نصيرا للقضية الفلسطينية ودعم المقاومة. لم نخسر فلسطين إلا بسبب الفساد والتخلف وانهيار حيوية الإنسان العربي وكرامته.

السوريون رفعوا صوتهم عاليا. لكن ثمة من يعمل على شل قدرة الشارع بمخاوف كثيرة. لكن الجميع متفقون على ان الحل الوحيد لخروج سورية من هذا المأزق هو أن يتسم النظام بحالة من إنكار الذات ويبدأ وبقوة بإطلاق الحريات المدنية، والقانون، والقضاء العادل، وقف الاعتداء والاعتقال السهل جداً للناس والصحافيين والكتاب والمعارضين الوطنيين.

الملف الإعلامي المحكوم من الأمن تخبط بما يكفي خلال الفترة الماضية، ولم يجد أمامه إلا أن يكون صوتا للإيعازات الأمنية في لعبة مرهقة من التجييش وحشد الولاءات الشعبية بطرق استعراضية كتائبية مخيفة. ساعات من التنظيرات من محللين سياسيين ومقدمي برامج خونوا الناس، وشككوا في مصداقية الشعب، وجيشوا الناس في مواجهة بعضهم البعض وصارت سورية وفق منظورهم التحريري الأمني ساحة لجواسيس، ملثمين، قتلة، قناصة، مندسين، موتورين، مغرر بهم، خبراء ثورات من دول عربية. في هذه العتمة التي تغيب فيها الحقيقة ثمة اشتغال ملموس على تمييع اللحظة عبر خطاب واحد لسان حاله يقول : أيها السوريون. العالم يكرهكم ويريد زعزعة مواقفكم القومية الراسخة فانتبهوا. لا تطالعوا الفضائيات الخبيثة، ولا تقرأوا الصحف المغرضة، ولا تشاركوا المخربين في حوارات على الفيس بوك، فقط اتصلوا بالقنوات المحلية واصرخوا بأعلى صوتكم: لا نريد الإصلاح دعونا نستعيد الأمن الذي كان. أو رددوا خلف المرأة العجوز (الله يخليلنا المخابرات).

كاتب من سورية

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى